رؤى: حق المصريين في تداول المعلومات، ظهور بعد يناير واختفاء بعد يونيو
لا يعد من قبيل الصدفة أن يكون أول ظهور لـ “الحق في تداول المعلومات” في مصر، في دستور عام 2012، أي في أول دستور وُضع واُقر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، كما ليس من الصدفة أيضًا، أن يختفى هذا الحق الدستوري فلا يظهر له أثر، في دستور عام 2014، أول دستور وُضع وأُقر بعد الثلاثين من يونيو عام 2013، أو في نسخته المعدلة في عام 2019. فإذا ما كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، قد جاءت بحق المصريين الدستوري في تداول المعلومات، فلماذا اختفى هذا الحق الدستوري بعد الثلاثين من يونيو عام 2013، إذا ما كانت هي الأخرى، ثورة؟. بينما في الوقت نفسه تحصل الأجهزة الأمنية “بشكل قانوني” على كل المعلومات الممكنة عن المواطن، بعد إقرار قانون “النقل البرى باستخدام تكنولوجيا المعلومات”، أي أنه بعد الثلاثين من يونيو عام 2013، فقد المواطن حقه في تداول المعلومات، وتحول إلى “حق” الأجهزة الأمنية في الحصول على كل المعلومات عن هذا المواطن.
ظهر “الحق في تداول المعلومات” دستوريًا، لأول مرة في مصر، في المادة السابعة والأربعين من دستور عام 2012[1]، أي في أول دستور وُضع واُقر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، ثم اختفى هذا الحق الدستوري من بعدها. حيث تجاهل دستور عام 2014،[2] ونسخته المعدلة دستور عام 2019[3] أي ذكر لذلك الحق. وهو ما يطرح تساؤلًا هامًا، فإذا كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 قد جاءت بحق المصريين الدستوري في تداول المعلومات، فلماذا اختفى هذا الحق بعد الثلاثين من يونيو عام 2013، إذا ما كانت هي الأخرى، ثورة؟
من اللافت للنظر تعمد دستوريّ 2014، 2019 تجاهل حق المواطن المصري في البحث والتنقيب عن الأخبار والمعلومات، بالإضافة إلى حقه في تلقى هذه المعلومات والأخبار من الغير، فضلًا عن إذاعتها بكل الوسائل وفى كل الأماكن، داخل مصر وخارجها. وهي الحقوق الواردة في العديد من المواثيق الدولية والإقليمية، والموقع عليها من الحكومة المصرية منذ عشرات السنين.
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان[4] –في مادته التاسعة عشر– نص على “..حق كل شخص في استقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية”. وهو الحق نفسه الذي نص عليه الميثاق العربي لحقوق الإنسان[5] في مادته الثانية والثلاثين، و”العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية”[6] للأمم المتحدة[7] في مادته التاسعة عشر، والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب[8] في مادته التاسعة[9].
التأكيد في المادة المذكورة أعلاه، على عدم “التقيد بالحدود الجغرافية” وذكر لفظ “شخص” وليس “مواطن” يوضح أن هذا الحق مخول لكل إنسان وليس للمواطن ابن البلد فقط، سواء كان هذا الشخص داخل وطنه أو خارجه.
بينما ذكر دستور مصر 2012 أن “الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق، والإفصاح عنها، وتداولها، حق تكفله الدولة لكل مواطن….”، فإن دستوري 2014، 2019 قد اكتفيا –في مادتيهما الثامنة والستين– بأن “المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية وفقًا للقانون”. أي أن كلا الدستورين قد تجاهل عن عمد كل تلك الحقوق الواردة في المواثيق الدولية التي وقعت عليها مصر، واكتفيا بمجرد “الحق في الإفصاح” عن البيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية، وتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية وفقًا للقانون، دونما الحق في البحث والتنقيب عن الأخبار والمعلومات. وأيضًا، دونما الحق في تلقى هذه المعلومات والأخبار من الغير، فضلًا عن حق إذاعتها بكل الوسائل داخل مصر وخارجها.
وكفارق دستوري أخر بين دستور 2012 من جهة، ودستوري 2014، 2019 من جهة أخرى، فإن ضوابط تداول المعلومات وسريتها قد جاءت كنص دستوري في المادة السابعة والأربعين من دستور عام 2012. بينما في دستوري 2014، 2019 فقد تم نقل الشروط المقيدة لحق الحصول على المعلومات –المساس بالحريات الخاصة، وحقوق الآخرين، والتعارض مع الأمن القومي– إلى القانون في نص المادة الثامنة والستين من نسختي الدستور. وهو ما يعني بالتبعية تخفيض المرتبة التشريعية والقانونية والقضائية –للشروط المقيدة لحق “الحصول على المعلومات”– من مرتبة أعلى كحق دستوري، إلى مرتبة أدنى كحق قانوني فقط، وبالتالي خفض المكانة القانونية والتشريعية والقضائية، لهذا الأمر شديد الحساسية، المتعلق بضوابط الحق في تداول المعلومات ومدى ومشروعية سريتها. وكذا، خفض كافة الضمانات القانونية والتشريعية والقضائية، التي يتمتع بها النص الدستوري، إلى مثيلاتها من الضمانات الأدنى في النص القانوني.
نزع الأكسجين عن الديمقراطية
على الرغم من مرور أكثر من خمسة أعوام على إقرار المادة الثامنة والستين في دستور عام 2014، وهى المادة التي نقلت بنصها حرفيًا، إلى دستور عام 2019، إلا أن تلك الحقوق الدستورية –المنقوصة والمقيدة– المنصوص عليها في هذه المادة، لم تتحقق بعد؛ ويرجع ذلك لعدم صدور القانون المنظم لها، وفقًا لنص الدستور نفسه.
إن الغياب الطويل لصدور قانون حرية تداول المعلومات، “أوكسجين الديمقراطية”[10]، والذى بغيابه، لم ولن تتم أية ممارسة لأى حقوق، سواء تلك الحقوق المذكورة في الدستور، أو بالطبع، تلك الحقوق التي تم تجاهلها في الدستور عن عمد، وهو ما يعد بمثابة “خنق” للديمقراطية الموعود بها في الدستور المصري نفسه؛ بنزع الأكسجين عنها.
وبينما تم إعداد وتقديم العديد من مشروعات القوانين لحرية تداول المعلومات، إلا أنه لم يصدر –حتى وقت كتابة هذه الورقة– قانون “حرية تداول المعلومات”. فمنذ عام 2012، قامت بعض منظمات المجتمع المدني والأكاديميون والشخصيات العامة بصياغة “مشروع قانون لحرية تداول المعلومات”، هذا بالإضافة لعدة مشروعات للقانون أعلنت الجهات الحكومية، عن الانتهاء منها؛ استعدادًا لرفعها لرئيس الجمهورية. فقد أعدت كل من وزارة الاتصالات مشروع قانون لحرية تداول البيانات والمعلومات[11]، ووزارة العدل، ووزارة التخطيط والإصلاح الإداري،[12] والمجلس القومي لحقوق الإنسان،[13] واللجنة العليا للإصلاح التشريعي.[14]
وبرغم النقص والتقييد الذي شاب المادة في الدستور، فقد أضاف مشروع القانون “الحكومي” المزيد من القيود على الحريات العامة والخاصة، من خلال التوسع في التنصت على المواطنين، بالإضافة لوجود مادة تقترح عقوبة الحبس لمن ينشر الشائعات عبر مواقع التواصل الاجتماعي،[15] وهو ما قوبل بالعديد من الانتقادات، والتي قد تكون أبطأت عملية إصداره.
الإنترنت يحطم سلطة النشر
من المهم أنك تستطيع الكتابة، ولكن الأهم أن تستطيع نشر ما كتبت. حطم الإنترنت سلطة النشر؛ انكشف التلفزيون الديكتاتوري، أمام الإنترنت الديمقراطي. دائمًا ما كانت المعضلة الرئيسية التي تواجه حرية الصحافة والإعلام –بأنواعه المكتوب، المسموع، المرئي– هي حرية النشر، وليست فقط حرية التحرير؛ فممثل سلطة النشر في أي مؤسسة هو من يمتلك الحق “المطلق” في نشر أو عدم نشر أي مادة تحريرية مهما بلغت قيمتها. ليس المهم ماذا تكتب، وإنما المهم أن يجد ما تكتبه طريقه للنشر، وإلا فقد قيمته الحالية، وتحول إلى قيمة تحريرية مؤجلة، قد تجد يومًا طريقها للنشر، أو أنها في الأغلب، لن ترى النور أبدًا. بدون نشر، تعد المادة التحريرية غير موجودة من الأساس، بغض النظر عن أهميتها أو مقدار الجهد المبذول للحصول عليها.
بعد أن كان التلفزيون ذو الاتجاه الواحد هو المسيطر، جاء الإنترنت ذو الاتجاهين. وبعد أن كان التلفزيون المسيطِر والمسيطَر عليه “رقابيًا”، هو فقط من يرسل وعلى الجميع الاستقبال فقط، أصبح للجميع، مع الإنترنت، الحق في الإرسال والاستقبال و”بدون رقابة”، لذا كان الإنترنت منذ البداية “اختراع” بغيض لدى كل ديكتاتور، فرد كان أو نظام، اعتاد على أنه وحده الذى “يرسل” ولا يحق للآخرين سوى “الاستقبال” فقط. لقد حطم الإنترنت سلطة النشر، ومعها حطم السُلطة “المعنوية” للديكتاتورية.
أدت التغييرات التكنولوجية الهائلة خلال العقدين الماضيين، خاصةً في وسائل الاتصال، إلى إيجاد فرص جديدة لحريتي التعبير وتداول المعلومات، ولاكتساح وسائل التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت، وظهور ما يمكن أن يطلق عليه “المواطن الناشر”، وهو دور جديد للمواطن أخطر وأكثر تأثيرًا بما لا يقارن بالدور السابق “المواطن الصحفي”، باعتبار أن حرية النشر وليس حرية التحرير، هي مربط الفرس في إشكالية حرية التعبير، لتأخذ “سلطة المواطن” منحًا تاريخيًا جديدًا، يتجاوز كل أشكال التمثيل النيابي السابقة؛ حيث أصبح المواطن أكثر قدرة على تمثيل نفسه بشكل مباشر أكثر، لقد أصبح ناشرًا.
يأتي موقف السلطة المصرية المعادي للإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، في سياق معادى للحريات عمومًا. يبدو ذلك جليًا من خلال استعراض عدد من القوانين المكبلة للحريات، وأبرزها قانون التظاهر، الذي يجور على حرية الرأي والتعبير، وقانون مكافحة الإرهاب، المقيد للحريات العامة والخاصة. كانت محاولة الدولة المصرية فرض الرقابة على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر قد بدأت عندما قررت وزارة الداخلية فرض “قبضة إلكترونية” على شبكات التواصل الاجتماعي، وطلبت في عام 2014من شركات عالمية نظامًا إلكترونيًا لرصد “المخاطر الأمنية لشبكات التواصل الاجتماعي” وقال مسئول في وزارة الداخلية لرويترز أن “المراقبة العادية لمواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من المواقع، لم تعد كافية مع الزيادة الكبيرة في استخدامها خلال السنوات الماضية”.[16]
تشهد مصر خلال الفترة الأخيرة –خاصةً بعد يوليو 2013– هجمات أشد شراسة مما سبق، على المساحات التي سبق وأن حررها الإنترنت في مجالي الحريات الخاصة أو العامة، بهدف خفض مستوى ممارسة الحريات، من مستوى الإنترنت إلى مستوى التلفزيون النظامي. وللأسف، فإن الشركات العالمية العاملة في مجال تكنولوجيا المعلومات –في سياق سعيها الدائم لتعظيم أرباحها– تلعب دورًا أساسيًا من خلال توفيرها لأدوات فعالة في الرصد والتحليل والتعقب. ما ينعكس على الساحة “الافتراضية” المصرية في صورة صراع بين قوى الرقابة والحجب والتحليل، مستعينةً بأحدث إنجازات تكنولوجيا المعلومات العالمية، وبين قوى الإباحة مستعينةً بمبادرات شبابية خلاقة، مبعثها إيمانها العميق بقيم الشفافية والحرية؛ ولا تزال المعركة مستمرة.
الفاشية المعلوماتية، أعلى مراحل الفاشية
إن نظام الدولة المعلوماتية الجديد، يمثل الفاشية الجديدة، الفاشية الأحدث، حيث تمثل الفاشية المعلوماتية، أعلى مراحل الفاشية، في نظام دولة يستولى على كل معلومات المواطن، حيث أصبحت كل الحدود التي تعبرها، كل عملية شراء تقوم بها، كل اتصال تجريه، كل برج اتصالات تمر به، كل صديق تتواصل معه، كل مقال تكتبه، موقع تزوره، سطر تطبعه، طرد ترسله، كل ذلك أصبح في قبضة نظام لا محدودية له، كل معلوماتك أصبحت لدى أخطبوط كونى تجاهل كل معنى للخصوصية وللحرية والديمقراطية.
يمكن التجسس على المواطنين من خلال الدخول على الخوادم الرئيسية لشركات الإنترنت، من بينها مايكروسوفت، جوجل، ياهو، فيسبوك، سكايب، يوتيوب، وأبل. أو من خلال بصمات اليد والعين والصور الفوتوغرافية وصور الفيديو لكاميرات المراقبة، وفيديوهات البث الحى لمتابعات الطائرات بدون طيار، والتليفون الأرضي الذى يستخدم الإنترنت، حتى والسماعة مغلقة. حتى على أبسط الأفعال اليومية، فعن طريق ربط بطاقة اشتراك المترو ببطاقتك البنكية، يمكن للنظام معرفة أين تذهب؛ لذا عندما يريدون استهدافك فهم يستطيعون رسم كل خطواتك ببطاقة المترو وبطاقة البنك فقط، وبربطهم بأناس آخرين قاموا بالرحلة نفسها، يتاح لهم اكتشاف مع من كنت تتحدث، وفيما تحدثت. أيضًا عن طريق بيانات هاتفك الخلوي –الذى يمكنه تحديد موقعك في أي وقت. كل ما سبق هو ما يحدث مع المواطن الأمريكي، وهو ما لا يمكن مقارنته –بأي حال من الأحوال– بما يحدث مع مواطني العالم النامي.
الدولة الديمقراطية الحديثة تبنى أكبر سلاح قمعي في تاريخ البشرية
توحشت الدولة المعلوماتية، الدولة التي أصبحت جزءً من مجتمع “الشركات” العالمي الجديد؛ حيث أصبحت الدولة تعتمد على شركات خاصة تتعاقد مع أجهزة حكومية بميزانيات ضخمة –تناهز مليارات الدولارات– من أموال دافعي الضرائب، لتتجسس على دافعي الضرائب أنفسهم. يتم ذلك التجسس من خلال إنشاء العديد من نقاط الاعتراض في أماكن متفرقة منتشرة حول العالم، ليصبح العالم –بشكل عملي– بمثابة شبكة كاملة التغطية. في العلن تشكو الدول من القدرة الحكومية المحدودة، وأن الأمور أصبحت أصعب، لكن الواقع يؤكد أن قدرات الاعتراض، الاقتناص، والاحتفاظ قد تطورت بشكل هائل.
بينما تعمل وكالات الأمن القومي الأمريكية “بدون رقابة”، فإن الحكومة الأمريكية من خلال “اعتراض الاتصالات” تمارس الرقابة –بالمشاركة مع شركات وحكومات– على كل شعوب الأرض؛ وهو ما يعني أن هناك أشياء يجب أن تلتزم بها هذه الحكومات، لم تعد تلتزم بها. إن انتهاك خصوصية المواطن وانتهاك خصوصية الدول، هي بالأساس طرق لاقتناص المعلومات. كل الديكتاتوريات عبر التاريخ فعلت ذلك، إنهم يريدون معرفة معلومات عن الشعوب، حتى يسهل حكمهم والسيطرة عليهم واستغلالهم، وهذا تحديدًا ما تفعله برامج نظام “الإشارات الاستخباراتية” الحديث، إنه أكبر تهديد للديمقراطية حول العالم. إنه السلاح الأخطر عبر تاريخ البشرية.
بسبب تلك الأنظمة والبرمجيات؛ اختل ميزان القوى بين قوة الدولة من ناحية، وبين قوة الشعب على المعارضة الجدية لتلك القوة من ناحية أخرى. فبينما كانت العلاقة بين ناخبين ومرشحين، ناخبين يمكنهم عقاب المرشح بحرمانه من أصواتهم، أصبحت بين محكومين وحاكم، حاكم يسلب المحكومين –دون جرم– حرياتهم وخصوصياتهم.
إن القول بأن الحكومة لا تنتهك محتوى الاتصالات وأنها تحصل فقط على “البيانات الوصفية”، هو قول مزيف. فالحصول على المحتوى الفعلي لبريدك الإلكتروني، وما تقوله عبر الهاتف، الكلمات التي تكتبها في محرك بحث جوجل، مواقع الإنترنت التي تزورها، المستندات التي ترسلها، لا يعد “بيانات وصفية”؛ فالنظام قادر على أن يقتفى أثر كل ما تفعله على شبكة الإنترنت. فإن كنت صحفيًا تعمل على تحقيق عن الحكومة، أو إن كنت تعمل مع شركة منافسة لشركة تابعة للحكومة، أو كنت تعمل على قضية حقوق إنسان تتعلق بالحكومة، أو أي مجال آخر، فالدولة يمكنها –بكل بساطة– اعتراض اتصالاتك.
الخصوصية هي الحرية. انتهاك خصوصيتك يعنى انتهاك حرياتك، حريتك في الفكر والعقيدة، حريتك في الرأي والتعبير، حقوقك المدنية، حرياتك التي تتعلق بالمشاركة في المظاهرات أو تنظيمات المجتمع المدني، انتهاك حريتك في المشاركة بأي شكل من أشكال معارضة النظام وبما يتفق مع الدستور. إن فقدنا الحق في خصوصيتنا، كيف ستكون لنا حرية في خوض حوار مفتوح؟ ما هي فائدة حق حرية التعبير إن لم تتم حمايته؟ إنه شعور بالخزي الذي تشعر به من فكرة أنك لا تستطيع إدارة حوار خاص مع شخص آخر حول أمر تختلفون عليه، إنه شعور بالخزي الذى تشعر به الدول التي لا تملك حق الخصوصية. إن انتهاك خصوصية المواطن هو ببساطة مصادرة لحرية المواطن، وانتهاك خصوصية الدول هو ببساطة إلغاء لحقها في الاستقلال. إن لم ندافع عن خصوصيتنا، فما معنى الحرية وما معنى الاستقلال.[17]
تفعيل أزمة متعددة الأطراف، تجعل خرق خصوصية المواطن أسهل
في مصر، هل هناك علاقة بين ترك الحكومة المصرية شركتي “أوبر” و”كريم” تعملان بالمخالفة لقانون المرور المصري، لأكثر من عامين، وبين تمرير المادتين التاسعة والعاشرة من قانون “النقل البري باستخدام تكنولوجيا المعلومات”، المنتهكتان للحق الدستوري بـ”صون الحياة الخاصة للمواطن”. تمريرهما تحت ضغط الـ”خرق” المتعمد من الحكومة للقانون، من أجل اختلاق أزمة مفتعلة متعددة الأطراف، عبر الـ”خرق” المتعمد للقانون، ما سمح بتمرير هاتين المادتين.
تفعيل الأزمة يسمح بقبول ما لا يمكن قبوله. تعاني مصر من أزمة مرور مزمنة في وسائل الانتقال منذ سنوات، خاصةً في العاصمة والمدن الكبرى، ومع التقدم في إنجاز باقي الشروط “العنيفة” لصندوق النقد الدولي، والمتواكبة مع الولاية الثانية للرئيس السيسي، ومع اتضاح الرؤيا لدى أجهزة جمع المعلومات الرسمية والخاصة، في الداخل والخارج، والتي تشير إلى تفاقم حالة الغضب المكتوم من قسوة المعيشة لدى قطاعات واسعة من الشعب، والتي تزداد اتساعًا، خاصةً مع تنفيذ المرحلة الأخيرة من شروط الصندوق، وهو ما يستدعى الاستعداد للـ”معركة” الوشيكة، والتي يأتي في مقدمة أسلحتها –بلا منازع– سلاح المعلومات.
وكما لا يوجد طريقة لطيفة ورقيقة لاحتلال الشعوب رغم إراداتها، فما من طريقة رقيقة سلمية لسلب ملايين المواطنين لكرامتهم، حريتهم، خصوصيتهم. إلا أنه أمام الاحتمالات المقلقة عن مستقبل حالة الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مصر، يأتي سلاح المعلومات على رأس أسلحة مواجهة القلاقل والاضطرابات “المحتملة” قبل حتى أن تبدأ. في هذا السياق يأتي اختراق خصوصية المواطنين، بخلاف كونه خرق لحق دستوري أصيل “بصون الحياة الخاصة”، فهو إهدار لكرامة المواطنين. تم ذلك من خلال تمرير المادتين التاسعة والعاشرة، من قانون “النقل البري باستخدام تكنولوجيا المعلومات”، والخاصتين بربط البيانات الخاصة بالمواطنين بالجهات المختصة “الأمنية”، (أربعة ملايين مستخدم و150 ألف سائق، دون اشتراط توافر أمر قضائي مسبب)، وأن تكون خوادم البيانات داخل مصر، (خوادم شركات تكنولوجيا المعلومات، “بيانات الإنترنت”، تكون عادةً في كل مكان في العالم فيما يسمى بالخوادم السحابية وليست في مكان بعينه).
تنص المادة التاسعة على أن “تلتزم الشركات المرخص لها بأداء الخدمة بإجراء الربط الإلكتروني لقواعد البيانات والمعلومات الخاصة بها مع الجهات المختصة، وذلك على النحو الذي يحدده قرار الوزير المختص بالتنسيق مع الجهات المعنية”.
بينما تنص المادة العاشرة على أن “تلتزم الشركات المرخص لها بأداء الخدمة بحماية قواعد البيانات والمعلومات، طبقًا للتعليمات والضوابط التي يصدر بها قرار من الوزير المختص بالاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، ووفقًا لمقتضيات الأمن القومي، كما تلتزم هذه الشركات بأن تكون الخوادم الخاصة بقواعد البيانات والمعلومات داخل حدود جمهورية مصر العربية”.
لقد صدر القانون، وصدق عليه رئيس الجمهورية، على الرغم من الملاحظات التي سجلها مجلس الدولة –الجهة القضائية التي تبت في القضايا المتعلقة بقوانين الدولة– على مشروع القانون، واعتراضه على بعض المواد التي اعتبرها “تنتهك حرمة الحياة الخاصة للمواطنين التي يكفلها الدستور”.
مما يثير الريبة، أن مجلس الوزراء كان قد وافق في جلسته المنعقدة في نوفمبر 2017، على استصدار مشروع قانون تنظيم خدمات النقل البري للركاب لتقنين أوضاع “أوبر” و”كريم” وما على شاكلتها، إلا أن الحكومة لم تُحل القانون لمجلس النواب للمناقشة إلا عقب صدور حكم من محكمة القضاء الإداري، بعد احتجاجات التاكسي الأبيض –السيارة الأجرة التي يمتلكها ويديرها أفراد. إن هذا الترتيب الزمنى للأحداث لا يعنى سوى شيئًا واحدًا، ما أن تُفعّل الأزمة، حتى يصبح المرفوض مقبولًا.
الطعن المقام من “الحكومة” وشركتي “أوبر” و”كريم”، على حكم الإدارية، جاء فيه، أن امتناع الجهات الإدارية عن إصدار القرارات اللازمة لتوفيق أوضاع الشركتين حفاظًا على حقوق العاملين بهما يشكل قرارًا سلبيًا بالامتناع، مخالف لصحيح حكم القانون والدستور، أي أن الحكومة تعترف في الطعن بأنها السبب في عدم تقنين وضع الشركتين؛ مؤكدًا أن استمرار ذلك الامتناع سيؤدى إلى زيادة نسبة البطالة في ظل الظروف التي تمر بها البلاد. وأكد الطعن أن التطبيق الخاص بالشركتين مرخص من قبل وزارة الاستثمار، أي أنه قانوني، وفى السابع عشر من نوفمبر عام2017 أخذت الشركتان موافقة من الدولة للعمل، وانتظرتا إصدار قانون رسمي من قبل مجلس النواب ينظم عملهما، إلا أن انتظارهما دام لعامين، وتعترف الحكومة هنا بأن البرلمان ووزير شئونه القانونية هما السبب وراء عدم إصدار القانون.
لقد تم تمرير هذا القانون بهاتين المادتين، من خلال الـ”تكتيك” المعتمد عالميًا، بتفعيل أزمة متعددة الأطراف، يمكن في ظلها تمرير ما لا يمكن تمريره في الأوقات الطبيعية. فكان “توظيف” معاناة سائقي ومالكي التاكسي الأبيض وأسرهم من جراء “خرق” السلطات للقانون والدستور، بتركها للشركات “متعددة الجنسيات” ويمثلها هنا شركتي “أوبر” و”كريم”، تعمل لأكثر من عامين دون قانون منظم؛ ما أثر بالسلب بدوره على دخل سائقي ومالكي التاكسي الأبيض –يقدر عددهم بـثلاثمائة وسبعين ألف سائق ومالك للتاكسي الأبيض. ومن ثم جاء “توظيف” الحراك الاحتجاجي لسائقي التاكسي ضد هذا الوضع المجحف والمستمر لأكثر من عامين، لتهيئة مسرح العمليات للقانون المطلوب. يؤكد ذلك التصور سماح الدولة لسائقي وملاك التاكسي الأبيض بالتظاهر لأكثر من مرة في أماكن حساسة من العاصمة[18]، في ظل قانون “منع التظاهر” دون اعتقال سائق واحد منهم.
بعد لجوء سائقي التاكسي الأبيض للقضاء، واستمرارًا في “تفعيل” الأزمة؛ لقبول ما لا يمكن قبوله، ضاعفت الدولة قلق مائة وخمسين ألف سائق يعملون مع شركتي “أوبر” و”كريم”، فضلًا عن ملاك السيارات –في ظل تحمل غالبيتهم لأقساط سياراتهم التي اشتروها خصيصًا للعمل في هذا المشروع. ضاعفت الدولة ذلك القلق للذروة من خلال إصدار حكم من محكمة القضاء الإداري بوقف نشاط الشركتين، ثم إلغائه بعد ساعات من صدوره، بناءً على طلب من هيئة قضايا الدولة “الحكومة”، أي التلويح بالوقف، دون تفعيله. مع استمرار عمل الشركتين.
كما تم “توظيف” مخاوف شرائح متعددة من المجتمع المصري ممن يستفيدون بخدمات “أوبر” و”كريم”، خاصةً من الطبقة الوسطى (أربعة ملايين مستخدم)، من احتمالات وقف هذه الخدمة بعدما كانت هذه الشرائح قد وجدت من خلال هذه الخدمة، حلًا لكثير من معاناتها اليومية المزمنة في الانتقال، خاصةً في القاهرة والإسكندرية. تلك المخاوف التي تحولت إلى كابوس بعد صدور حكم القضاء الإداري بوقف عمل الشركتين، ولم يكن لحكم الأمور المستعجلة بوقف حكم الإدارية أن يزيل هذه المخاوف، فالمخاوف قد وقعت بالفعل، كما أن القضية لا تزال منظورة أمام القضاء. مرة أخرى، التلويح بإمكانية الوقف مع استمرار الوضع. ولا يمكن بالطبع اعتبار أن ترك السلطات المصرية الشركتين تعملان لأكثر من عامين دون قانون من قبيل السهو؛ بل إنه من بغية تحقيق هدف استراتيجي.
هكذا تحولت تكنولوجيا المعلومات من سلاح ضد الاستبداد، إلى سلاح في يده، داعمًا له. إذا ما أردت الاستفادة من خدمة النقل البري المطور باستخدام تكنولوجيا المعلومات، عليك أن توافق “قانونًا” على حقنا في اختراق “حقك الدستوري” في حرمة حياتك الخاصة.
إن “قصة” هذا “التكتيك العالمي” الذى استخدمته السلطات المصرية بدهاء، “قصة” تفعيل أزمة لقبول ما لا يمكن قبوله، على طريقة “مصائب قوم عند قوم فوائد”، ما هي سوى “قصة” واحدة من “قصص” كثيرة سابقة –وأكثر منها قادمة. “قصص” لا تهدد فقط الملايين من أبناء الصناعات والحرف المصرية وأسرهم في أرزاقهم، لصالح شركات عملاقة عابرة للجنسيات، بل إنها تهدد بالأساس جوهر وجودهم، خصوصيتهم، حريتهم وكرامتهم الإنسانية، المطلب الرابع لثورة الخامس والعشرين من يناير.
خاتمة
ليس هناك استنتاج من كل ما سبق، سوى أن الحق الدستوري للمواطن في تداول المعلومات، وكذا الحق في صون حياته الخاصة –مثلها مثل باقي حقوق المواطَنة– مرهونة بميزان القوى الحادث بين فاعلية وإيجابية المجتمع المدني من ناحية، والسلطة الحاكمة من الناحية الأخرى، فهما على علاقة طردية، عندما يكون المجتمع المدني نشط، يحصل على حقوقه، أو بعضها على الأقل، وعندما يكون بطش السلطة أقوى، والمجتمع المدني في حالة كمون، ولو مؤقت، تُـنتهك كل حقوق المواطن.
[1] دستور جمهورية مصر العربية (2012). https://www.constituteproject.org/constitution/Egypt_2012.pdf?lang=ar
[2] دستور جمهورية مصر العربية (2014). https://www.constituteproject.org/constitution/Egypt_2014.pdf?lang=ar
[3] دستور جمهورية مصر العربية (2019). https://bitlylink.com/9MwJ0
[4] الجمعية العامة للأمم المتحدة (1948). الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. باريس. http://www.un.org/ar/documents/udhr/
[5] القمة العربية السادسة عشر (2004). الميثاق العربي لحقوق الإنسان. تونس. http://hrlibrary.umn.edu/arab/a003-2.html
[6] وقعت عليه مصر بتاريخ الرابع من أغسطس عام 1967، وصدقت عليه في الرابع عشر من يناير عام 1982
[7] الجمعية العامة للأمم المتحدة (1966). العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية نيويورك.
https://www.unicef.org/arabic/why/files/ccpr_arabic.pdf
[8] صدّقت عليه مصر في العشرين من مارس عام 1984
[9]مجلس الرؤساء الأفارقة (1981). الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب. كينيا. نيروبي.
http://hrlibrary.umn.edu/arab/a005.html
[10]بهاء الدين، زياد (2014). قانون حرية تداول المعلومات. صدى البلد، 28 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 13 يوليو 2019
http://www.el-balad.com/1169816
[11] حزب الدستور (2013). “التحرير” تنشر أبرز نصوص قانون حرية تداول المعلومات. مصر: أمانة المحلة الكبرى. “الفيسبوك”.
https://www.facebook.com/dostorparty.elmahalla/posts/699317926747827/
[12] الشريف، عمر (2014). جارى الانتهاء من مشروع قانون “حرية تداول المعلومات”: تصريح لمساعد وزير العدل. اليوم السابع، 10 مارس، تاريخ الاطلاع 13 يوليو 2019، https://bitlylink.com/T5zK9
[13] المجلس القومي لحقوق الإنسان (2015). الانتهاء من إعداد قانون تداول المعلومات. مصر. القاهرة: المصري اليوم.
https://www.almasryalyoum.com/news/details/831413
[14] اللجنة العليا للإصلاح التشريعي (2015). مشروع قانون حرية تداول المعلومات. مصر. القاهرة: المصري اليوم.
https://www.almasryalyoum.com/news/details/789662
[15] فرج، عبد الفتاح (2017). قانون «حرية تداول المعلومات» في مصر… مسودة غير شاملة وانتقادات. جريدة الشرق الأوسط. نوفمبر، تاريخ الاطلاع 14 يوليو 2019، https://bitlylink.com/xVvFy
[16] عبد اللاه، محمد (2014). مصر تطلب نظاما إلكترونيا لرصد “المخاطر الأمنية لشبكات التواصل الاجتماعي”. رويترز، 5 يونيو، تاريخ الاطلاع 14 يوليو 2019، https://ara.reuters.com/article/internetNews/idARAKBN0ED17J20140602
[17] عن الفيلم الوثائقي “المواطن الرابع” عن العميل السابق في الاستخبارات الأمريكية “إدوارد سنودن” Edward Snowden وعملية كشف التنصت العالمي، حصل الفيلم على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي لعام 2014 https://www.youtube.com/watch?v=p-YiGOjwWQ8
[18] ميدان مصطفى محمود بالمهندسين، وأمام مجلس الدولة بشارع مراد بالجيزة