مراجعة كتاب: «نضالات حقوق الإنسان في فرنسا خلال القرن العشرين» لماكس ليكين

الإشارة المرجعية: الرمضاني، مسعود. 2025. «مراجعة كتاب: «نضالات حقوق الإنسان في فرنسا خلال القرن العشرين» لماكس ليكين». رواق عربي 30 (2): 24-27. https://doi.org10.53833/YJNR7130.
العنوان: نضالات حقوق الإنسان في فرنسا خلال القرن العشرين: رابطة حقوق الإنسان والقضايا الشهيرة
المؤلف: ماكس ليكان
الناشر: بالغريف ماكميلان شام
الطبعة: الأولى
سنة النشر: 2022
الرقم الدولي المعياري للكتاب الإلكتروني (ISBN): 9783031051982
يحق لفرنسا الاعتزاز بثورتها لعام 1789، وبإرثها العريق في بلورة المفهوم الحديث لحقوق الإنسان؛ إذ شكّل «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» وثيقة رائدة، تجاوزت مبادئها العالمية الحدود الفرنسية، وألهمت الفكر السياسي وجهود الإصلاح في جميع أنحاء أوروبا وخارجها. وقد أشادت إليانور روزفلت، الناشطة الأمريكية ذائعة الصيت وإحدى أبرز من تولوا صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، بفرنسا باعتبارها حاضنة للمثل الإنسانية الثورية، مُقِرَّةً بـ «تاريخها الطويل والمجيد نظرًا للتأثير العالمي للثورة الفرنسية».[1]
بيد أن نطاق حقوق الإنسان لم يتطور تدريجيًا ليتضمن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والعمل الإنساني، والعدالة الجنائية الدولية، إلا على مدار القرن العشرين. وفي هذا الصدد، مارست إحدى المنظمات دورًا محوريًا في هذا التطور، وهي: الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان. والتي واجهت، منذ نشأتها في خضم أحداث «قضية دريفوس»، تحديات شديدة الوطأة تمثلت في: معاداة السامية، وحربين عالميتين مدمرتين، والأيديولوجيات المتطرفة من أقصى اليمين وأقصى اليسار المعادية للديمقراطية الليبرالية وحقوق الإنسان.
من خلال اتخاذ الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان محورًا سرديًا؛ يقدم ماكس ليكين، المحاضر في التاريخ في مشروع الحرية التعليمي في بوجيه ساوند، في كتابه «حقوق الإنسان في فرنسا خلال القرن العشرين»، تحليلًا مقنعًا لتطور وتناقضات خطاب حقوق الإنسان. وفيما يتناول بحثه تتبع الدور المحوري للرابطة في تعزيز حقوق الإنسان داخل فرنسا وخارجها؛ فإنه يناقش، بشكل نقدي، التوترات والإنجازات وأوجه القصور في الحركة. ويجادل ليكين بأن التقدم في مجال حقوق الإنسان لا يمكن أن يُعزى فقط للجهات الفاعلة المؤسسية مثل الرابطة؛ وإنما يتشكّل بالقدر نفسه من خلال مبادرات النشطاء المستقلين والشخصيات الفكرية المؤثرة الذين تحدوا المعايير المقبولة على نطاق واسع، ووسعوا نطاق المشاركة الإنسانية في القرن العشرين.
الأمر كله بدأ بقضية دريفوس، وهي أزمة متعلقة بالعدالة الجنائية تكشفت أثناء محاكمة الضابط اليهودي ألفريد دريفوس، بتهمة تسريب أسرار عسكرية للألمان. وقد استغرقت المحاكمة اثني عشر عامًا، من 1894 إلى 1906، لتنتهي بتحقيق العدالة لدريفوس وتبرئة ساحته. وأدى إميل زولا، الكاتب الفرنسي الشهير، دورًا رئيسيًا حينما سطر رسالته الشهيرة إلى الرئيس بعنوان «إني أتهم « (J’accuse)والتي كشف من خلالها عن المزاج السائد المعادي للسامية في المجتمع الفرنسي. في السياق نفسه، تجدر الإشارة إلى أن فرنسا الثورة كانت أول دولة أوروبية تمنح الجنسية لليهود في عام 1789.
لقد أثارت قضية دريفوس إشكالية محورية تتمثل في أن حقوق الإنسان ليست امتيازًا مكفولًا للأبد بمجرد اكتسابه، وبالتالي فهي بحاجة للدفاع عنها بشكل دائم. فحينما فرّ زولا إلى لندن هربًا من حكم بالسجن، اضطلع مجموعة من «المفكرين المثقفين»، بقيادة لودوفيك تراريو، وزير العدل الفرنسي السابق، بصياغة النظام الأساسي للرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان. وقد أرست اللجنة المركزية الأولى، التي انتُخبت في يونيو 1898، سابقة جديرة بالملاحظة، إذ كانت تضم أعضاء من الجنسين. وانطلاقًا من تبعات قضية دريفوس سيئة الصيت، والتي زعزعت استقرار فرنسا؛ حددت الرابطة لنفسها أولوية تمثلت في المطالبة بـ «عدالة منقطعة النظير، والتصدي الحازم للمحاكم الخاصة والمحاكم العسكرية والممارسات الشرطية».[2]
الحرب العالمية الثانية شكلت نقطة تحول حاسمة في تاريخ حقوق الإنسان؛ إذ أن فداحة الفظائع التي ارتكبت خلال الصراع سلط الضوء على الحاجة الملحة لوضع معايير عالمية تصون كرامة الإنسان وتَحُول دون ارتكاب كوارث عالمية في المستقبل. واستلهامًا من المبادئ المكرسة في «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» لعام 1789؛ أكد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على الحقوق المتساوية وغير القابلة للتصرف لكافة البشر، بغض النظر عن العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو المعتقد السياسي أو الديني أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو أي اعتبار آخر.
وقد ساهمت فرنسا في هذه الوثيقة التأسيسية من خلال المشاركة الفعّالة لأستاذ القانون الفرنسي وعضو الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان، رينيه كاسان، والذي كان عضوًا في لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وشارك في رئاسة لجنة صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وقد أدى عمله الاستثنائي إلى فوزه بجائزة نوبل للسلام عام 1968.
ولكن لا يمكن لدولة مواصلة اعتزازها بتاريخها في الدفاع عن حقوق الإنسان فيما لا تزال تحتفظ بمستعمراتها؛ فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي تم اعتماده عام 1948، قد روّج لمجموعة عالمية من الحقوق لجميع البشر، وهو ما يتناقض مع النظام الكولونيالي الفرنسي الذي حرم السكان الأصليين من حقهم في تقرير المصير. وبينما صاغت حركات التحرر في مدغشقر أو الهند الصينية أو الجزائر نضالاتها باعتبارها كفاحًا من أجل الحرية وحقوق الإنسان كما يتصورها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ أظهرت الحكومة الفرنسية أن الديمقراطية الليبرالية يمكن أن تلجأ إلى العنف السياسي والتعذيب حينما تواجه المطالب الملحة لمستعمراتها بالاستقلال.
وفي هذا الصدد، تعد «الحرب القذرة» في الجزائر مثالًا جليًا على ذلك؛ فقد كشفت تقارير وشهادات دامغة أن حتى الأطفال الجزائريين لم يسلموا من التعذيب. وكان اعتقال واغتصاب جميلة بوباشا (المعروفة باسم جميلة بوحيرد)، وهي شخصية أيقونية في المقاومة الجزائرية وضابطة اتصال في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، بمثابة فضيحة مدوية لطخت نظام شارل ديغول. وقد ندد مثقفون من خلفيات فنية وسياسية مختلفة بفظائع القوات العسكرية الفرنسية.
رغم ذلك، فإن «كبار المثقفين» مثل جان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار، وريمون آرون، وألبير كامو لم يكونوا على وفاق بشأن استقلال المستعمرات؛ إذ اختلفوا بشكل ملحوظ حول أصول الصراع وجرائمه ونتائجه.[3] ورغم إدانتهم للتعذيب والفظائع التي ارتكبها الجيش الفرنسي في الجزائر؛ إلا أنهم «واجهوا صعوبة في تحدي مزاعم تفوق الثقافة الفرنسية».[4]
وبتكليف من الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان، انخرط محامون شبان في المعركة المحتدمة للدفاع عن ضحايا الاعتقالات العشوائية من الجزائريين الفرنسيين في فرنسا المتروبوليتانية. ووفقًا لتقرير حكومي سري، تجاوزت حالات اعتقال «المسلمين الفرنسيين» بين عامي 1956 و1959 خمسة وعشرين ألفًا.[5] ولا يمكن مقارنة هذا الرقم بما كان يحدث في الجزائر، حيثما «تطورت آليات الترويع على نطاق وحشي»؛ إذ تم تهجير ما لا يقل عن ربع السكان الجزائريين قسرًا، وتكدس قرابة المليون شخص في مخيمات في ظروف كارثية، ما أسفر عن ارتفاع معدل وفيات الأطفال.[6] وفي الوقت نفسه، تم اعتقال أعداد غير معروفة من السجناء بشكل سري، الأمر الذي مكّن تعذيبهم وإخفاءهم.[7] وقائمة «الحوادث» تطول.
بعد استقلال الجزائر، كان على فرنسا مواجهة «ثورة داخلية» ضد النظام السياسي المحافظ السائد لشارل ديغول، الذي استمر في السلطة عقد كامل. وقد تصاعد هذا التمرد، الذي أشعله الطلاب ضد القمع الحكومي، ليتحول إلى إضرابات عامة شارك فيها ملايين العمال. ودعت حركة مايو 68، بقيادة نشطاء راديكاليين، إلى إلغاء عقوبة الإعدام وإنهاء قمع الشرطة، خاصة بحق المهاجرين، كما نددت بالتمييز في أماكن العمل. وكانت أحداث مايو 68 أيضًا فرصة للنساء الفرنسيات للمطالبة بحقوقهن: المساواة في الأجور، والحصول على وسائل منع الحمل، و«التحكم الكامل في أجسادهن».[8] في الواقع، اعتبرت النسويات الإجهاض «قضية أساسية من قضايا تقرير المصير».
ومع مستهل ثمانينيات القرن الماضي، واجه النشاط في مجال حقوق الإنسان تحديين رئيسيين: الفجوة الاجتماعية (fracture sociale) والاضطرابات ما بعد الكولونيالية (ruptures postcoloniale). ورغم أن انتخاب فرانسوا ميتران كان بمثابة بصيص أمل للعدالة الاجتماعية؛ بدا أن الليبرالية الدولية كانت أقوى تأثيرًا. ولذا واصلت البطالة الارتفاع، وأفسح نظام الرفاه الاجتماعي مجالًا لـ «إحياء الأعمال الخيرية التقليدية». ولطالما شكَّل انعدام الأمن الاجتماعي هذا أرضية مواتية لكراهية الأجانب والعنصرية؛ فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن «العنصرية تؤثر على الطبقة العاملة الفرنسية التي تجد أن هناك أعدادًا كبيرة للغاية من اليهود، وكذا السود والبرتغاليين والجزائريين في فرنسا».[9]
ورغم أن الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان كافحت لمقاومة المد الصاعد للنيوليبرالية و«الأصولية السوقية»؛ إلا أنها وجدت صعوبة متزايدة في التمسك برؤيتها للمواطنة الاجتماعية. علاوة على ذلك، وعلى مدار العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، هيمن الدفاع عن حقوق المهاجرين على نشاط الرابطة، مما طغى في كثير من الأحيان على قضايا العدالة الاجتماعية الأخرى. ومع ذلك، فإن أبرز إنجاز لحركة حقوق الإنسان في فرنسا كان تعزيز مبدأ المناصفة النسوية «parité féministe»، ففي يوليو 1998، تمكنت العضوات النسويات في الرابطة من توظيف التشريعات الموازية في جميع أنحاء أوروبا لإقناع مجلس الشيوخ بتبني قانون «المساواة بين النساء والرجال في تقلّد المناصب والمهام الانتخابية».[10]
مع نهاية القرن العشرين، وضعت حركة حقوق الإنسان في فرنسا ثلاثة أهداف: مواصلة النضال من أجل الحقوق المتساوية داخل البلاد، والانخراط في العمل الإنساني الدولي لإنقاذ الأرواح في المناطق المحرومة من تطبيق القانون، وملاحقة الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت أثناء فترة الاحتلال عبر الآليات الدولية. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، فرضت فرنسا بقيادة ديغول والشيوعيون السردية الملحمية للمقاومة، بينما تناسوا الجرائم المروعة التي ارتكبها المتعاونون. لذا كان من الضروري اتخاذ التدابير اللازمة ليحظى الضحايا بالعدالة المفقودة. ولم تدخر الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان أي قدرة في سبيل تنسيق الجهود مع مجموعات المقاومة وأقارب الضحايا من أجل عقد محاكمات لأعوان النازيين مثل كلاوس باربي، موريس بابون، وبول توفييه.
في الوقت ذاته، أكدت الإبادات الجماعية والفظائع واسعة النطاق في أنحاء مختلفة من العالم –لا سيما في رواندا ويوغوسلافيا سابقًا– على الحاجة الملحة لوجود آلية دولية لحقوق الإنسان لإنهاء الإفلات من العقاب وضمان المحاسبة. وفي 7 يوليو 1998، أنشأ مؤتمر الأمم المتحدة المحكمة الجنائية الدولية الدائمة في روما؛ لمحاكمة الجناة في أربع جرائم كبرى: الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان. وفي هذه العملية، مارست الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان، جنبًا إلى جنب مع منظمات حقوق الإنسان الأخرى، دورًا بالغ الأهمية.
خلاصة القول: يُقدم الكتاب دراسة شاملة لتطور حقوق الإنسان في فرنسا، بدءً من قضية دريفوس في مطلع القرن العشرين. ويسلط الضوء على الدور الرائد للرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان سواء داخل فرنسا أو على الساحة الدولية. وقد امتد نشاط الرابطة ليتضمن مكافحة معاداة السامية، وعدم المساواة بين الجنسين، وكراهية الأجانب، بالإضافة إلى معالجة القضايا المتعلقة بالهجرة. علاوة على ذلك، مارست المنظمة دورًا مهمًا في صياغة الصكوك الدولية الرئيسية مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي دعم إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، مما أسهم في المكافحة العالمية للإفلات من العقاب. ورغم أن الكتاب مثير للاهتمام من الناحية التاريخية، إلا أن هناك قضايا معينة لم يتناولها الكاتب بالتفصيل، مثل الموقف الملتبس للرابطة بشأن حق المستعمرات في الاستقلال.
في واقع الأمر، «لم تأخذ الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان في الحسبان الحق الجماعي لشعب في تقرير مصيره»،[11] لاسيما خلال ثلاثينيات القرن العشرين. وبدلًا من ذلك، روَّجت لشكل من أشكال «الكولونيالية الديمقراطية» التي اعترفت فقط بالحقوق الفردية للسكان الأصليين.[12]
بيان الاستعانة بالذكاء الاصطناعي
استخدمت أداة الذكاء الاصطناعي ChatGPT في ترجمة بعض العبارات من الفرنسية إلى الإنجليزية.
هذا المقال كتب في الأصل باللغة الانجليزية لرواق عربي.
[1] ماكس ليكين، نضالات حقوق الإنسان في فرنسا خلال القرن العشرين: رابطة حقوق الإنسان وقضايا ذائعة الصيت (Human Rights Struggles in Twentieth-Century France: The League of the Rights of Man and Causes Célèbres )، تشام: منشورات بالغريف ماكميلان، 2022، 2، https://doi.org/10.1007/978-3-031-05198-2.
[2] المرجع السابق، ص 15.
[3] المرجع السابق، ص 140.
[4] المرجع السابق.
[5] المرجع السابق، ص 144.
[6] المرجع السابق، ص 145.
[7] المرجع السابق، ص 146.
[8] المرجع السابق، ص 168.
[9] المرجع السابق، ص 185.
[10] المرجع السابق، ص 195.
[11] الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان، «التاريخ الكولونيالي وما بعد الكولونيالي، حقوق الشعوب أو «الكولونيالية الديمقراطية»: الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان والمشكلة الكولونيالية» ([Histoire coloniale et postcoloniale, droits des peuples ou « colonisation démocratique] Ligue des droits de l’Homme)، 29 أغسطس 2004. https://www.ldh-france.org/histoire-coloniale-et-postcoloniale-droits-des-peoples-ou-colonisation-democratique-la-ldh-et-le-probleme-colonial.
[12] المرجع السابق.
Read this post in: English