مراجعة كتاب: «تصويب الأخطاء» لكينيث روث

الإشارة المرجعية: هيكس، نيل. 2025. «مراجعة كتاب: «تصويب الأخطاء» لكينيث روث». رواق عربي 30 (2): 20-23. https://doi.org/10.53833/RALC9640.
العنوان: تصحيح الأخطاء: ثلاثة عقود على الخطوط الأمامية في مواجهة الحكومات المسيئة
المؤلف: كينيث روث
الناشر: ألفريد أ. كنوف (نيويورك)
الطبعة: الأولى
سنة النشر: 2025
الرقم الدولي المعياري للكتاب الإلكتروني (ISBN): 9780593801338
يبدو كتاب «تصويب الأخطاء» استثنائيًا بالنظر إلى الأشياء التي يحاول الجمع بينها؛ فهو يروي أولًا قصة كينيث روث، المدير التنفيذي لمنظمة هيومن رايتس ووتش، وتأسيسه بين 1993 و2022 لثاني أكبر منظمةٍ لحقوق الإنسان في العالم، وهو يقدّم ثانيًا سردًا تاريخًا موسَّعًا –وإن كان موجزًا– لأبرز الأزمات الحقوقية على مدار الأعوام الثلاثين الماضية. وإلى جانب كونه سيرة ذاتية، فإن الكتاب أيضًا هو بيان سياسي يدافع عن تصوُّر محدَّد لتعزيز حقوق الإنسان، وهو التصوُّر الذي يبذل روث جهدًا كبيرة للدفاع عنه. ورغم أن المؤلف يقول في المقدمة إن الكتاب بمثابة «دليل عمل»، إلا أنه بالنسبة لمعظم قرائه ليس كذلك؛ اللهم إلا من كان منهم من بين الرواد الدائمين لمؤتمر دافوس، ممن يتواصلون بأريحية مع الزعماء ورؤساء الوزراء والأمناء العامين للأمم المتحدة، أولئك القادرين على إقناع أصحاب المليارات اللطفاء بمنحهم 100 مليون دولار لتمويل مشروعهم.
في لحظة نادرة من السخرية من النفس، يُقرّ روث بأنه «وُلد في الوقت المناسب» لبناء مسيرة مهنية مرموقة في عالم حقوق الإنسان. وبينما لم يحضر روث لحظة التأسيس؛ إلا أنه حضر في اللحظة التي أحرزت فيها قضية حقوق الإنسان تقدمًا كبيرًا بوصفها عاملًا مؤثّرًا من عوامل السياسة الدولية. فقد صرّح جيمي كارتر، الرئيس الأميركي بين 1977 و1981، بأنه سيضع حقوق الإنسان في صميم السياسة الخارجية الأميركية. وقد بقي هذا الالتزام الشفهي ثابتًا في السياسة الخارجية الأميركية على مدى العقود الأربعة الماضية، إلى أن أقدمت الإدارة الثانية لترامب على تفكيكها في الآونة الأخيرة سعيًا وراء أهداف مغايرة تمامًا. قد تفتقر هيومن رايتس ووتش إلى النطاق العالمي الذي تتمتع به منظمة العفو الدولية، والتي تمتلك فروعًا قطرية تضم آلاف الأعضاء في عشرات الدول، لكن الأولى تبقى المنظمة الحقوقية الأكثر نفوذًا، والأكثر حضورًا في الإعلام، لا سيما في الولايات المتحدة. كانت واشنطن تهمّ ببناء منظومة دولية مستندة إلى قواعد واضحة، وكانت الديمقراطية الليبرالية، أي النظام السياسي القائم على سيادة القانون وحقوق الإنسان، أحد المبادئ المقدَّسة لهذه المنظومة، رغم أن الولايات المتحدة نفسها لم تتردد في انتهاك هذا المبدأ والتخلّي عنه من وقت لآخر. كانت حقوق الإنسان شعارًا رفعته واشنطن لحشد أنصارها طوال الحرب الباردة، ثم بعد هزيمة الاتحاد السوفييتي أضحت المبدأ الضابط للمنظومة الدولية التي تقودها، الأمر الذي تزامن تقريبًا مع المسيرة المهنية لروث ضمن هيومن رايتس ووتش.
انضم روث إلى هيومن رايتس ووتش نائبًا لمديرها على أعتاب لحظة الهيمنة الأحادية القطبية للولايات المتحدة عقب انهيار الاتحاد السوفييتي. كانت المعارضات السياسية والمنظمات الحقوقية والحركات الشعبية التي تستلهم مُثُل الحرية والديمقراطية، خاصةً في دول حلف وارسو وسط وشرق أوروبا، تقدّم مثالًا ساطعًا على قدرة حقوق الإنسان على مغالبة القمع حتى في مواجهة قوى عظمى. ولا شك أن منظمة هلسنكي ووتش، ومنظمة هيومن رايتس ووتش بعد اندماج لجان الرصد الإقليمية عام 1988، قد مارستا دورًا محوريًا في تغطية الصراعات وكتابة التقارير التي تفكك القبضة الأمنية الحديدية وتحشد الدعم الدولي ضدها. ولم يكن مستغربًا أن يحرص روث وزملاؤه على الاستفادة من زخم تلك اللحظة.
يعزو روث النمو السريع لمنظمة هيومن رايتس ووتش، وحركة حقوق الإنسان العالمية، إلى تكنولوجيا الاتصالات الحديثة. ورغم المساهمة الأكيدة لهذه التكنولوجيا، إلا أن اختزال الأمر بهذه الطريقة يقفز فوق التوافق العميق بين أسلوب هيومن رايتس ووتش ومقاربتها في تعزيز حقوق الإنسان من جهة، وبين غلبة الأيديولوجيا الليبرالية التي اعتمدتها القوة العالمية المهيمنة في العقد الأخير من القرن العشرين من جهة أخرى.
إن تجاهل روث للامتيازات التي حصلت عليها هيومن رايتس ووتش بفضل وجودها في المكان المناسب في الوقت المناسب يمثل إشارة بليغة على الجمود الشديد لمقاربته الحقوقية. لقد تعلّم روث أن التقصي الموضوعي، والعرض البارع، والعمل الإعلامي المتطوّر، سيضع مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان تحت دائرة الضوء والتشهير العلني، الأمر الذي يمكن ترجمته إلى ضغط سياسي يدفع نحو التغيير. لا ريب أن هذه الأساليب نجحت في الماضي، ويمكن القول إنها بلغت ذروة النجاح خلال العقد الأول من قيادة روث لهيومن رايتس ووتش. يستحق روث تقديرًا كبيرًا لعزيمته ومثابرته وقدرته على استقطاب الكفاءات والاحتفاظ بها، وكذلك لجعله هيومن رايتس ووتش قوة عالمية نافذة ومسموعة. في الوقت نفسه، لا يمكن إنكار التعطُّل، وحتى التردّي، الذي أصاب الحركة الحقوقية في أماكن عديدة، لا سيما في روسيا، أو التقلُّص المتواصل لفائدة الأساليب التقليدية التي كانت هيومن رايتس ووتش تستخدمها ببراعة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. بل إن هذه الأساليب أصبحت تأتي بنتائج عكسية في بعض الحالات. وإلى حد كبير، يتجاهل روث هذه الاتجاهات السلبية.
لا يبدو روث مهتمًا بمناقشة الانتقادات اللاذعة التي طالت منهجية التسمية والتشهير، أو التي طالت مقاربة الاعتماد على الضغط السياسي الذي تفرضه الحكومات المتحالفة مع الولايات المتحدة. صحيح أن بعض هذه الانتقادات تحرّكها غايات خفية تتجاوز ما يعتبره روث اهتمامات المنظمات الحقوقية؛ لكن آخرين، مثل جاك سنايدر أو مارك مالوك براون، يعدون مدافعون صلبون عن حقوق الإنسان؛ ورغم ذلك فإن روث يمرّ على انتقاداتهم مرور الكرام.
يعتقد روث أن بإمكانه دحض هذه الانتقادات من خلال سرد إنجازاته وإنجازات منظمته في تقديم أدلة دامغة على انتهاكات خطيرة تلفت انتباه القادة النافذين عبر العالم وتُقنعهم باستعمال نفوذهم لوقفها، أو الحد منها على أقل تقدير. إلا أن سرد المآثر بهذه الطريقة لم يعد مقنعًا؛ فمن الصعب أن تنسب الحركة الحقوقية لنفسها أي إنجاز في مسار الأحداث في سوريا بين 2012 و2025. ومع ذلك، يختار روث أن يستهل كتابه بالقول إن جهود هيومن رايتس ووتش أسهمت في «التخفيف من انتهاكات حقوق الإنسان» في إدلب. وهو يبدو في تناوله الحالة الشائكة لبشار الأسد قادرًا على البرهنة على أن «الحكومات المسيئة تخشى من التشهير»، إلا أن الأدلة على ذلك محدودة بشكل متزايد.
لا يُبدي فلاديمير بوتين أي خجل من الاعتراضات الغربية على هجماته المستمرة على المدنيين الأوكرانيين، بل إن الزعيم الروسي قادر على تبرير هذه الانتقادات بالقول إنه ضحية الانتقادات المنافقة لقوى غربية حاقدة مصمّمة على عرقلة الأفعال المشروعة لروسيا، والتي يعتبرها أفعال دفاع عن النفس. والأمر نفسه ينطبق على القادة السلطويين في أنحاء كثيرة من العالم؛ فالرئيس الصيني يستعيد عظمة بلاده في مواجهة الغرب العدواني، فيما يقود السيسي طلائع الحرب على الإرهاب لحماية شعبه، وهو في ذلك يخدم قوى غربية لا تقدر جهوده كما ينبغي.
وفيما يزعم روث أن التشهير، حتى وإن لم يكن كافيًا دومًا لوقف الانتهاكات الجسيمة، يرفع التكلفة على المنتهكين وبالتالي يخفّف من وطأة انتهاكاتهم؛ إلا أنه يتجاهل أن التشهير سلاح ذو حدين، إذ أن الحكومات السلطوية تعلّمت كيفية استغلال الانتقادات الغربية لتدعيم جبهتها الداخلية وتقوية تحالفاتها عبر العالم. ثم إن فعالية التشهير الذي تمارسه منظمات مثل هيومن رايتس ووتش تتكئ غالبًا على مصداقية الحكومات الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، وعلى دور هذه الحكومات في الدفاع عن النظام الدولي المستند إلى قواعد واضحة. وهذه المصداقية قُوّضت إلى حد كبير منذ عقود، فيما تآكلت السمعة العالمية التي يتمتع بها الغرب بسبب الكثير من الكوارث الحقوقية، مثل الحرب العالمية على الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة، والمغامرات العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق، والعداء الغربي المتزايد للاجئين والمهاجرين وسط أزمة هجرة عالمية متفاقمة، ناهيك عن ازدواجية المعايير والتواطؤ مع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل.
يتوقع المرء من كتاب يُولي اهتمامًا كبيرًا لمنهجية التشهير أن يتفحّص تناقضاته بعمق أكبر، لكن روث لا يفعل ذلك. وتتضح هذه اللامبالاة في تجاهل روث للتوترات الجوهرية بين العمل الحقوقي ومناصرة السياسات. يتحدّث روث مرارًا عن لقاءاته مع قادة العالم، ويتفاخر بقدرة هيومن رايتس ووتش على التحدث مع صانعي السياسات بوصفها ندًا لهم، أو حتى بوصفها جهة تتمتع بخبرة أكبر منهم. قد يكون هذا صحيحًا: روث نفسه والكثير من زملائه في هيومن رايتس ووتش خبراء حقيقيون وبارزون في مجالات تخصصهم. لكن لا يبدو أن روث يعاني من أي شكوك في قدرته هو أو هيومن رايتس ووتش على الالتزام بمقاربة موضوعية بحتة تستند إلى الحقائق مع العمل في عالم السياسات، وما يعنيه بالضرورة من صراعات سياسية تتميّز بكثافة الحسابات والاحتمالات. لقد أصبح الكثير من قادة الغرب، الذين سبق أن قدموا أنفسهم باعتبارهم مدافعين عن حقوق الإنسان، يتحدثون بطريقة غامضة حول «البراجماتية المبدئية» أو «الواقعية التقدمية» كلما أربكتهم وقائع السياسة وضرورات التعامل مع فاعلين غير مثاليين، بعضهم أكثر قوة أو أكثر نفعًا من التوجُّه إليه بإساءة صريحة.
من الصعب التقليل من إنجازات روث في جمع التبرعات، إذ ساهم في زيادة ميزانية هيومن رايتس ووتش السنوية من 7 ملايين دولار عام 1993 إلى أكثر من 100 مليون دولار عام 2023. يحدّثنا روث عن نجاح هيومن رايتس ووتش في تطوير لجان دعم من المانحين الأثرياء في ثلاث وعشرين مدينة حول العالم، مشيرًا إلى امتنانه للعمل مع هؤلاء الأفراد ذوي الثروات الطائلة لدعم أنشطة هيومن رايتس ووتش المتوسّعة كمًّا ونوعًا. يطرح روث السؤال التالي: «هل جعلتنا شبكة مانحينا محافظين أكثر من اللازم؟» ورغم إجابته بالنفي، لا يناقش الأمر بجدية؛ إذ يبدو أنه يدرك التنافر الذي يعيشه بين عوالم الثروة والامتيازات، وهي العوالم المألوفة للعاملين في منظمات حقوق الإنسان الدولية الكبرى التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًا لها، وبين عوالم القمع وانتهاكات حقوق الإنسان. ومع ذلك، هو لا يستقصي السلبيات المحتملة لتماهيه وتلقيه الدعم من نخب حاكمة ثرية لم تتوقف الانتقادات بحقها.
ثمة تاريخ طويل من التلاقي والتداخل بين كبار موظفي هيومن رايتس ووتش وأصحاب المناصب العليا في الحكومة الأميركية. الشيء نفسه نراه في العديد من منظمات حقوق الإنسان الأميركية. لكن روث يتجنّب التعليق على الفكرة العفوية، والتي لا تخلو من وجاهة إلا عند سكان فقاعة واشنطن، وهي الفكرة القائلة بأن المنظمات الحقوقية الأميركية الكبرى مقرَّبة، أو هي حتى جزء فاعل، مما كان يسميه الرئيس أوباما «التكتُّل»، أي المؤسسة المزمنة للسياسات الخارجية الأميركية العابرة للحزبين الجمهوري والديمقراطي والتي تتداول الأفكار المُسلَّم بها وتحتفظ بمناصبها النافذة في الإدارات الأميركية المتعاقبة. ربما لا بأس أن تكون المنظمات الحقوقية مقرَّبة من التكتُّل لو كانت السياسة الخارجية لواشنطن سلسلة من النجاحات، على الأقل في حالة روث في مجال حقوق الإنسان، ولكن للأسف العكس هو الصحيح على مدار الخمسة وعشرين عامًا الماضية. ومما لا شك فيه أن هذه الإخفاقات المتراكمة قد عزّزت موقف ترامب وأتباعه، بل ومكّنتهم من اتخاذ خطوات خطيرة لتفكيك النظام الدولي المستند إلى قواعد واضحة وإلى مبدأ التعاون المتعدد الأطراف في مجال حقوق الإنسان ومجالات أخرى. وقد جاء هذا التفكيك مدعومًا، أو على الأقل مقبولًا، من جانب كتلة حرجة من الشعب الأميركي، كما لقي استحسانًا حارًا من الحكام السلطويين عبر العالم ممن يعتبرهم ترامب أصدقاءه المقرَّبين. ومن المفارقات القاسية أن ينشر روث قصته عن بناء منظمة حقوق إنسان قوية في الوقت الذي تنهمك فيه إدارة ترامب في هدم كل ما دافعت عنه هيومن رايتس ووتش وحققته.
يبدو كتاب «تصويب الأخطاء» تاريخًا رومنسيًا عن حقوق الإنسان في عصرها الذهبي، ومن هنا يمكن اعتباره كتاب مذكّرات عن زمن جميل مضى ولم يعد. ونظرًا لعدم رغبة روث في تناول انتكاسات وإخفاقات حقوق الإنسان في العقود الأخيرة، أو في مواجهة التحديات الكثيرة الحالية التي تواجه منظومة حقوق الإنسان المتعددة الأطراف، فإن الكتاب أقل نفعًا كدليل عمل مستقبلي مما كان يمكن أن يكونه.
هذا المقال كتب في الأصل باللغة الانجليزية لرواق عربي.
Read this post in: English