مراجعة كتاب: الثورات والمؤسسة العسكرية في الربيع العربي
يسلط التاريخ الضوء على العلاقة الملتبسة والمزدوجة بين المؤسسة العسكرية والحكومة المدنية. إن نظرة سريعة على أحداث القرن العشرين كفيلة بتأكيد مقولة زولتان باراني بأن: «[…] المؤسسة العسكرية من أهم وأبرز الفاعلين المؤسسين في مراحل انتقال ما بعد السلطوية […]».[1] لم يختلف الأمر في عام 2011، عندما أثرت المؤسسات العسكرية –بحسم– على نتاج انتفاضات الربيع العربي. إلا أن نتائج ومراحل ما بعد المظاهرات تباينت بشدة في مختلف أنحاء المنطقة، إذ تراوحت بين الانتقال الديمقراطي الناجح نسبيًا في تونس، إلى عودة فرض السلطوية، وانتهاءً بالقمع والحرب الأهلية في مناطق أخرى.
على الرغم مما تقدم، فإن الأدبيات حول السلوك السياسي للقوات المسلحة في حركات 2011 الاحتجاجية لا تزال قليلة للغاية. مع كتاب «الثورات والجيوش في الربيع العربي»، الذي نشرته دار «أي. بي. تاوريس» في 2018، يقدم «سين بيرنز» إسهامًا أكاديميًا مهمًا؛ بصفته أستاذًا مساعدًا زائرًا في كلية ويليام آند ماري في فرجينيا، درّس العلوم السياسية في قطر لمدة خمسة أعوام، فإن بيرنز على درجة كافية من العلم بالموضوع، كما ينقل المؤلف معرفته بشكل مستفيض ومتوازن ومنظم.
في الفصل الأول من الكتاب، يقدم المؤلف إطارًا نظريًا، يتسم بالصلابة رغم بساطته، ليبني عليه حججه. مع تقديم صورة بانورامية عن الأدبيات وتصميم البحث –وقوامه منهجية تراعي تقديم الاتفاق والاختلاف– يشرح الفصل سبع سمات أساسية للمهنية العسكرية، لا غنى في تشكيل السلوك السياسي للمؤسسات العسكرية. فالجيش الاحترافي يجب أن يكون: ممثلًا بدرجة كبيرة للسكان في الدولة؛ ويتمتع بهيكل داخلي متماسك؛ ومتمايز عن مؤسسات الحكومة الأخرى؛ وله هيكل بيروقراطي يتسم بهيراركية قائمة على قواعد؛ ويخضع للحكومة؛ ولديه خبرة كبيرة ويركز على الجبهة الخارجية، وعلى الدفاع الوطني، دون الانخراط في أعمال القمع الداخلي أو غير ذلك من المهام غير العسكرية.
هذه السمات السبع، على حد قول بيرنز، ضرورية لفهم العلاقة بين الجيش والحكومة. أي أن هذه السمات تشكل قرارات القوات المسلحة، سواء اتصلت بالدفاع أو بإنهاء حكم النظام القديم، وفي الحالة الأخيرة قد يكون القرار هو تولي السلطة أو نقلها لمؤسسات ديمقراطية. يقدم المؤلف تحليلات مستفيضة في الفصول الست التالية، في كل منها دراسة حالة، لكل من تونس ومصر والبحرين وليبيا وسوريا واليمن.
ومثل الكتاب ككل، فإن كل من هذه الفصول له هيكل واضح ومنظم. أولًا، يبدأ بيرنز كل فصل بوضع إطار عام دقيق بالتاريخ الحديث لكل من الدول، ويشمل هذا استعراض تاريخ عدة قرون. هذه الاستعراضات التاريخية ليست هامشية، إذ أن التطورات التاريخية تساعد في فهم الهيكل العسكري الحالي. ثانيًا، يحلل المؤلف الهياكل العسكرية، مع استعراض تفاصيلها بناءً على السمات السبع المذكورة. ثالثًا، يركز بيرنز على انتفاضات 2011 وردود فعل القوات المسلحة في كل منها. وفي كل حالة، يوضح –بشكل مُقنع– سبب تعامل المؤسسة العسكرية مع حركات 2011 بالشكل الذي انتهجته. وأخيرًا، يصف كل فصل مراحل ما بعد الانتفاضات الوطنية، كتبعات منطقية للاختيارات التي اعتمدتها المؤسسات العسكرية في كل حالة.
تقدم كل من هذه الفصول رؤى طازجة وجديدة حول العلاقة بين القوات المسلحة والنظم السلطوية، وكيف أثر هذا على أحداث 2011. على سبيل المثال –طبقًا للمؤلف– لم يكن من المدهش أن تونس هي الدولة الوحيدة التي أسفر فيها الربيع العربي عن انفراجة ديمقراطية؛ فمن بين جميع المؤسسات العسكرية الخاضعة للدراسة في الكتاب، كان الجيش التونسي هو الأكثر احترافية من حيث السمات المذكورة. حيث لم يمتلك الجيش التونسي الحوافز الكافية لحماية النظام، ما دفعه إلى خلع الرئيس بن علي، بعدما خرج الشعب التونسي إلى الشوارع. ومع اقتصار مصالحه الداخلية على الحماية، سلّم السلطة إلى حكومة انتقالية.
هناك نقطة قوة أخرى في الكتاب، تكمن في المقارنات المدققة والصارمة التي يعقدها. كما ورد في حالة تونس، كانت القوات المسلحة المصرية تغيب عنها الأسباب القوية للانحياز إلى النظام المستبد للرئيس مبارك. لكن على النقيض من حالة تونس، فإن الجيش المصري يمتلك مصالح اقتصادية داخلية يحميها. يوضح المؤلف كيف أن الافتقار للاحترافية هنا أدى بالجيش المصري إلى التعامل انطلاقًا من المصلحة، فانتزع السلطة من الرئيس مرسي المنتخب ديمقراطيًا، وقمع المعارضة السياسية. بالمثل، يوضح بيرنز كيف انحازت، على النقيض من حالتي تونس ومصر، القوات المسلحة البحرينية إلى النظام منذ اللحظة الأولى. هذا الجيش الذي يعمل به بالأساس عناصر أجنبية سُنية، لم تكن بينه وبين الأغلبية الشيعية بالبحرين مشتركات تُذكر. مع الخضوع للسلطة التي ترعاه، تبين أن مصالح الجيش البحريني تكمن في الحفاظ على الوضع القائم.
على النهج نفسه، يوضح بيرنز كيف كان من المقدر للجيش في كل من ليبيا وسوريا واليمن الانقسام في وجه الثورة. فمعمر القذافي وحافظ الأسد، وقد وصلا إلى السلطة عبر انقلاب عسكري، تعمدا الاحتفاظ بالمؤسسة العسكرية متشظية، بحيث يتجنبا المصير نفسه. وفي الوقت ذاته، كان للحلفاء المقربين أعلى الرتب في القوات المسلحة. من ثم دافعت القوات المخلصة والموالية عن النظام، في حين انشقت المجموعات الأبعد عن السلطة وانتقلت إلى صف المعارضة. الجيش اليمني، الذي أوضحت الدراسة أنه الأقل احترافية، كان تقليديًا يعاني من التقسيم والتحزّب بسبب الدولة الضعيفة وقوة الثقافة القبلية السائدة. في النهاية، يتناول بيرنز بشكل سليم كيف ولماذا تدخل المتغير الخارجي الخاص بالتدخل الأجنبي ولعب دوره في كل من هذه الدول الثلاث التي لا تزال تعاني من النزاع الأهلي.
في حين تمت كتابة دراسات الحالة هذه بشكل جيد للغاية، فلعل أكبر إسهام للكتاب يكمن في فصله الأخير، الذي يتناول الثورة الإيرانية عام 1979، ويقارنها بنتائج الربيع العربي. في 2011، لعبت الجيوش دورًا هامًا في تغيير أو الدفاع عن النظام. وفي عام 1979، أدت سياسات الشاه –ذات المردود السلبي– إلى انهيار المؤسسة العسكرية الإيرانية بالكامل. في النهاية، شغل الخميني فجوة السلطة التالية على الثورة، وأسس الدولة الإسلامية الإيرانية. من المدهش هنا أن بيرنز أوضح كيف أن نظام آية الله هو الذي أنشأ الهيكل العسكري القائم، وهو مقسم إلى جيش نظامي وحرس الثورة، وكيف أنه ورغم اقتصار الاحترافية، نجح الجيش الإيراني في قمع الحركة الخضراء لعام 2009.
على الرغم من وضوح حجج وافتراضات بيرنز وكونها مقنعة، فإن بعض مقولاته تبدو غير مكتملة. أولًا، يقتصر القسم الخاص بانتقال تونس الديمقراطي على وصف تطورات ما بعد 2011 السياسية، دون إيلاء عناية كافية لدور الجيش بعد عودته إلى الثكنات. يقول بيرنز –وهو محق في قوله– أن الدعم العسكري كان ضروريًا لنجاح ثورة الياسمين. لكن «لا يعني هذا أن دعم الجيش يكفي لإنجاح الثورة […]»[2] لا يمكن أن يكون دور الجيش هو التفسير الوحيد لكون تونس البلد العربي الوحيد المستمر في طريقه إلى الديمقراطية.
ثانيًا، يبدو أن المؤلف يبني حجة في كتابه لصالح التدخلات الإنسانية، قائلًا بأنه «قد تكون من السياسات الصائبة إعاقة الجيوش بالدول العسكرية التي تنحدر إلى مستوى الحرب الأهلية الكاملة».[3] وهو هنا يستند إلى مقارنة بين كثافة النزاعين في سوريا وليبيا، ما أدى به إلى القول بأن ارتفاع أعداد الوفيات في الحرب الأهلية السورية يرجع بالأساس لقوات النظام الجوية والتفوق في التسليح، في حين أن تدخل الناتو في ليبيا شلّ القوة العسكرية للقذافي. لكنه لا يتناول تداعيات التدخل العسكري المحتملة، متجاهلًا الوضع القائم في ليبيا الذي ترجع بعض أسبابه على الأقل إلى غياب استراتيجية طويلة الأجل لدى الناتو. أو كما يعترف بيرنز نفسه: «هذا اقتراح متطرف ويتطلب قدرًا كبيرًا من المجادلة».[4]
لكن وبشكل عام، فإن كتاب «الثورات والمؤسسات العسكرية في الربيع العربي» يعد عملًا مهمًا لأي شخص مهتم بالربيع العربي أو بالمؤسسات العسكرية والسياسة عمومًا. الحق أن منهجه التحليلي السليم ولغته الواضحة وتفسيراته المتماسكة تجعله عملًا مناسبًا لقطاع واسع من القراء. ومناط تميز الكتاب يكمن في الرؤى التي يقدمها. كما أشار بيرنز، فإن دراسته تسمح بقدر معقول من التنبؤ حول ردود فعل المؤسسات العسكرية إزاء الانتفاضات المحتملة في أنحاء المنطقة الأخرى. فالجيوش في الأردن ولبنان والعراق والمغرب والسعودية تمتلك السمات الاحترافية المذكورة في دراسات الحالة التي يقدمها الكتاب.
ومن حسن الطالع أن هذا التحليل لا يعني أن الأمور مآلها سيئ كما قد يبدو من الوهلة الأولى. ففي أبريل 2019، أزاح الجيش السوداني الرئيس البشير بعد شهور من الاعتصامات. في البداية، كان السودان في خطر التعرض لسيناريو شبيه بالسيناريو المصري، مع حرص الجيش على البقاء في السلطة، واستمرار المنظومة الأمنية للنظام القديم في ارتكاب الفظائع ضد المتظاهرين. إلا أن تضامن وتضافر جهود المجتمع المدني أدت إلى نتائج تفاوض مكنت السودان من بدء عملية انتقالية هشة نحو الديمقراطية. وختامًا، لقد قدم سين بيرنز في «الثورات والمؤسسات العسكرية في الربيع العربي» أداة مهمة لفهم الفرص التاريخية للتحول للديمقراطية.
[1] باراني، زولتان (1997)، «التمكن الديمقراطي والمؤسسة العسكرية: تجربة شرق أوروبا»، (Democratic Consolidation and the Military: The East European Experience) دورية Comparative Politics، مجلد 30 (1)، ص 21-43.
[2] باراني، زولتان (2011)، «مقارنة الثورات العربية: دور الجيش» ، (Comparing the Arab Revolts: The Role of the Military’) دورية Democracy مجلد 22 (4)، ص ص 28-39.
[3] بيرنز، سين (2018) «الثورات والمؤسسات العسكرية في الربيع العربي: الانتفاضات الشعبية وسياسات القمع» (Revolts and the Military in the Arab Spring: Popular Uprisings and the Politics of Repression) (لندن: أي. بي تاوريس) موقع 5860.
[4] المرجع السابق.
Read this post in: English