رؤى

رؤى: إعادة تقييم نقدية للعلاقات العربية الغربية في عالم متعدد الأقطاب

حمل هذا المقال كبي دي إف

الإشارة المرجعية: العلوي، هشام (2025). «رؤى: إعادة تقييم نقدية للعلاقات العربية الغربية في عالم متعدد الأقطاب.» رواق عربي. 30 (1): 48 -57. https://doi.org/10.53833/VZDY3998.

تحتل المجتمعات العربية في الولايات المتحدة، وفي الغرب عمومًا، موقعًا فريدًا؛ فهي تخضع لتأثير إرث الاستشراق، الذي يحمل في طياته دعوة متمركزة حول الذات، تطالب الغرب إما بتمدين شعوب الشرق الأوسط «المتخلّفة»، أو إقصائها. في سياق هذا الإطار، يُنظر إلى العرب باعتبارهم يمثلون العدو الأبدي، و«الآخر» الذي يُشكّل تهديدًا وجوديًّا لـ «الذات» الغربية. ويتفاقم هذا الشعور بالتهديد حينما يتعلق الأمر بالجاليات العربية في الغرب، إذ نادرًا ما تحظى بمساحات تُعبّر فيها عن مصالحها.

كما تتعرض الشعوب العربية أيضًا لتيارات أيديولوجية دينية وقومية، تنطلق من الشرق الأوسط وتمتدّ إلى الشتات العربي. تنظر هذه التيارات إلى الغرب باعتباره خصمًا إمبرياليًا «قاتمًا»، يتعين على العرب في كل مكان مقاومته ومجابهته من أجل تحرّرهم. ومن ثم، يقف الذين يعرّفون أنفسهم كعرب حاليًا في نقطة مفصلية وهشة، متأثرين بتقاطع قوتين متضادتين تُخلفان آثارًا عميقة ومُحبطة. وفي ضوء الأحداث الصادمة التي لا تقتصر على أجزاء من العالم العربي فحسب، وإنما تمتد لتتضمن دولًا غربية لطالما اعتُبرت «قلاعًا للديمقراطية»؛ فلعلنا نستنتج أننا نعيش في عصر يسوده اليأس.

رغم ذلك، يمكن لبارقة أمل أن تنبثق من اليأس. وكما يقول المثل الصيني: «الأزمة فرصة تمتطي رياحٌ عاتية»، يمكن للمجتمعات العربية تتعامل مع هذه الأزمة بجرأة من منظور مختلف تمامًا، وأن تعتبرها فرصة للأمل. وهو ما يثير تساؤلًا محوريًا: كيف يمكن تضييق الفجوة بين الشرق والغرب؟

السياسة الأمريكية وتآكل السلطة الأخلاقية

فيما نتأمل في التاريخ الطويل والمثير للجدل للعلاقات العربية/الغربية؛ لا بد من التذكير بأن العالم العربي يمثل فسيفساء واسعة النطاق وشديدة التنوع والثراء، لا تقتصر على أغلبية عربية فحسب، وإنما تتضمن أيضًا أقليات غير عربية مثل الأمازيغ، والأكراد، والآشوريين، وغيرهم. ولا ينبغي تجاهل أصوات تلك الجماعات، وإن كان المراقبون الغربيون كثيرًا ما يخلطون بينهم وبين العرب. ومثلما نشأت في الغرب تقاليد استشراقية شوّهت صورة العرب والمسلمين وأضفت عليهم طابعًا غرائبيًا، فقد نشأت في المقابل تقاليد أدبية ومعرفية عربية سعت منذ زمن بعيد إلى استيعاب وتأويل الحضارة الغربية. هذا التقليد العربي صوّر الغرب بوصفه نسيجًا معقدًا من الصور تُمثل «تجليات غربية»[1] متعددة، وليس غربًا واحدًا. وعلى امتداد القرون، أسهمت التبادلات الثقافية، والمواجهات السياسية، والصراعات الاستعمارية عبر القرون، في تشكيل رؤى متباينة. وقد نظرت المجتمعات العربية إلى الغرب، على امتداد الزمان والمكان، بمزيج متفاوت من الإعجاب، والفضول، والنفور، والتنافس، والانتهازية.

وينقلنا ذلك إلى الحقبة المعاصرة، إذ تُعد الولايات المتحدة النموذج الأبرز للغرب، سواء للأفضل أم للأسوأ، بحكم نفوذها الثقافي والاقتصادي والجيوسياسي الهائل. إلا أنه بعد الحرب العالمية الثانية، أضاعت الولايات المتحدة فرصة نفيسة؛ إذ أضحت القوة الغربية الأهم في الشرق الأوسط في ظل تراجع الإمبراطوريات الأوروبية. كما أنها لم تكن مثقلة بالإرث الإمبريالي الذي خلّفته القوى الأوروبية التقليدية مثل بريطانيا وفرنسا؛ إذ إنها لم تستعمر أراضٍ عربية قط. و بطبيعة الحال، لم يكن الأمر كذلك في مناطق أخرى مثل أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، حيثما تمتد علاقتها بتلك المناطق في تاريخ أطول وأكثر تشابكًا.

غير أنه بعد صعودها كدولة عظمى فاعلة ورائدة، اختارت الولايات المتحدة أن تفرض هيمنتها على المنطقة العربية، باسم احتواء الشيوعية السوفييتية والدفاع عن «العالم الحر». ففي العديد من الدول العربية، دبّرت الحكومة الأمريكية انقلابات مناهضة للديمقراطية، ودعمت حلفاء سلطويين، وقوّضت التيار القومي العربي؛[2]  سعيًا لتأمين تدفّق منتظم للنفط العربي إلى الغرب، ولرعاية دولة إسرائيل الناشئة. رغم ذلك، وبما أن هذه الأهداف ارتبطت بالسياق الأوسع للجغرافيا السياسية في زمن الحرب الباردة؛ فإن الهيمنة الأمريكية لم تتغلغل في الحياة اليومية لغالبية الشعوب العربية مثلما فعل الاستعمار الأوروبي.

ومع ذلك، لم تُهدر الولايات المتحدة مكاسبها بشكل جوهري إلا بعد انتهاء الحرب الباردة. ففي تسعينيات القرن الماضي، كان بإمكانها، ولا يزال في ذلك شيء من المصداقية، الادعاء أنها قوة مهيمنة خيّرة. في نهاية المطاف، خرجت الولايات المتحدة منتصرة من الحرب الباردة، ومثّلت في أعين الكثيرين نموذجًا مُلهمًا، وديمقراطية براقّة قادرة على نشر القيم الليبرالية. وكما كتب عالم السياسة فرانسيس فوكوياما وقتها، ربّما بلغ العالم حينها «نهاية التاريخ».[3]

سرعان ما تلاشت هذه الصورة المثالية بفعل أزمات متتالية؛ فالحرب العالمية على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم تدشّن حملة قانونية ضد الإرهاب الإسلامي المتطرّف، وإنما كانت حملة سياسية استهدفت في جوهرها الإحياء الإسلامي نفسه. وقد شهدت تلك المرحلة أيضًا توطيد الولايات المتحدة لعلاقاتها مع الأنظمة الاستبدادية في مختلف أنحاء المنطقة؛ فقد تعاونت الحكومة الأمريكية مع هذه الأنظمة في توسيع نطاق عمليات التسليم غير القانونية، وهي العمليات التي تعرّض خلالها العديد من الأشخاص للتعذيب في سجون سرية خارج إطار القانون. [4]  كما أسهمت هذه العلاقات في ترسيخ أكثر العناصر السياسية رجعية في العالم العربي، مثل الأجهزة الأمنية التي عززت من سطوتها بذريعة محاربة الإرهاب، وفي ظل مباركة أمريكية.

وقد أثارت حرب العراق في عام 2003 استنكارًا عالميًا. إذ مثّلت تجسيدًا لأيديولوجيا المحافظين الجدد في إدارة بوش، وأسهمت في تشويه صورة الولايات المتحدة لدى قطاعات واسعة من الشعوب العربية، التي اعتبرت الغزو عملية غير شرعية تخدم المصالح الأمريكية، وأسفرت في النهاية عن فرض احتلال قاس بحق الشعب العراقي.

فلسطين وأزمة الليبرالية الغربية

كذا أسهم الدور الأمريكي في الأزمة الإسرائيلية الفلسطينية في تلطيخ صورة الغرب. فمنذ اتفاقيتي أوسلو عامي 1993 و1995، أسفرت سياسات الولايات المتحدة ومعظم حلفائها الأوروبيين، في كل مرحلة تقريبًا من مراحل صنع القرار، عن خيبة أمل لدى العديد من الفلسطينيين؛ نتيجة التقاعس عن ممارسة ضغط فعلي لإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة. ومن الجدير بالذكر أن المواقف المناهضة لإسرائيل في المجتمعات العربية اليوم –حسبما أظهرت أبحاث ميدانية موسّعة أجراها علماء سياسة مثل مارك تيسلر– تنبع بالأساس من معارضة سياسات الحكومة الإسرائيلية تجاه فلسطين، وليس بناءً على مشاعر معاداة لليهود أو كراهية دينية عميقة.[5] ومن الضروري أيضًا التذكير بأن الموقف العربي الأساسي إزاء فلسطين، قبل اتفاقيتي أوسلو، والذي كانت ترعاه السعودية، كان منسجمًا مع موقف الأمم المتحدة بعد حرب عام 1967، وكان ذلك الموقف يستند إلى مبدأ «الأرض مقابل السلام». لو أن الحكومة الإسرائيلية أنهت احتلالها للأراضي الفلسطينية؛ لأصبح من الممكن تحقيق اعتراف دبلوماسي كامل بإسرائيل. وبحلول ثمانينيات القرن الماضي، أي قبل اتفاقيتي أوسلو بسنوات، كانت الجهات الفاعلة الفلسطينية الرئيسية مثل منظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك معظم الدول العربية، قد تخلّت بشكل واضح عن العنف السياسي.

أسفر ذلك الأمر عن ضرر بالغ؛ إذ تحتل فلسطين مكانة خاصة في المخيلة العربية. كما شكّل دعم النضال من أجل إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة مبدأً موحَّدًا طالما جمع المجتمعات العربية. وتنبع هذه المكانة من الأهمية المقدسة للأرض والشعور بالانتماء، ومن المغزى الديني للقدس، ومن روح المقاومة ضد الاستعمار. أما حرب عام 1948، أو «النكبة» مثلما يسميها كثير من العرب، فهي تحمل دلالة تاريخية عميقة بوصفها أول موجة تهجير جماعي للفلسطينيين. ولهذه الأسباب وغيرها، تُمثّل فلسطين رمزية وجدانية وثقافية لا يمكن محوها.

قبل اندلاع الحرب الحالية على غزة، شهدت الولايات المتحدة تدهورًا متزايدًا في مستوى التأييد الشعبي العربي لها بسبب دعمها القوي لإسرائيل. كما أفرزت السياسات الإسرائيلية ما وصفه بعض الباحثين بـ«واقع الدولة الواحدة»، وهو واقع حرم الفلسطينيين من الكرامة وحقوق الإنسان. [6]  أما اتفاقات أبراهام لعام 2020 –وهي اتفاقات تطبيع بين إسرائيل وكل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين، تمّت برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومستشاره وصهره جاريد كوشنر– فقد انحرفت عن جوهر القضية؛ إذ أسست سلامًا مزعومًا بين إسرائيل وحكومات عربية لم تخض معها أي صراع مباشر منذ عام 1973، وفاقمت من تهميش القضية الفلسطينية.

وبينما استغلت هذه الاتفاقات البُعد الديني عبر الترويج لحوار بين الأديان يجمع بين «أبناء إبراهيم»؛ إلا أن واقع الأمر يكشف أن العديد من المسلمين والعرب لا يحملون عداءً لليهود أو لليهودية كدين، بل إن انتقاداتهم موجهة تحديدًا نحو ممارسات الحكومة الإسرائيلية. وفيما قضت سياسة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية على حلّ الدولتين؛ فإن الحرب الجارية على غزة كشفت عن زواله الكامل والمبرم. وقد خلّف هذا الصراع أعدادًا هائلة من الضحايا ودمارًا واسع النطاق. في الوقت نفسه، ينبغي التأكيد على أن هجمات حماس العشوائية في أكتوبر 2023، التي أودت بحياة نحو 1200 شخص داخل إسرائيل، تُعد انتهاكًا غير قانوني ومدان أخلاقيًا. لكن في الوقت نفسه، فإن قتل أكثر من خمسين ألف فلسطيني على يد الجيش الإسرائيلي منذ ذلك الحين، فضلًا عن آلاف غيرهم قُتلوا قبل أكتوبر 2023، ينبغي النظر إليه أيضًا باعتباره مدان أخلاقيًا. ويبرز هنا سؤال لا مفر منه: إذا كانت «العدالة» قد أُنجزت بحق قادة حماس نيابةً عمن قُتلوا داخل إسرائيل، فمن يفترض به تحقيق العدالة لإنصاف العدد الأكبر من الفلسطينيين الذين قُتلوا خلال هذه الحرب؟

في غزة، دُمّرت معظم المنازل، وكذلك أغلب المدارس والمستشفيات والجامعات والمؤسسات الثقافية والدينية. وتُقدّر الأمم المتحدة أن تكلفة إعادة الإعمار ستتجاوز 53 مليار دولار.[7] في الوقت نفسه، أثارت خطة الرئيس ترامب للسيطرة على غزة وتهجير سكانها استياءً عارمًا في العالم العربي. ومن خلال دعمها غير المشروط لإسرائيل طوال هذا الصراع المروّع، أدت سياسات الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون إلى نفور المجتمعات العربية في الداخل وفي الشتات على حدّ سواء. كما أن مواصلة دعمهم المالي والعسكري لإسرائيل، رغم تزايد الأدلة على ارتكابها جرائم حرب –من بينها التطهير العرقي والتجويع القسري؛ يفضي إلى مأساة إنسانية شاملة.

لقد عزّزت حرب غزة التحوّل العالمي في موقع القضية الفلسطينية. فما كان يُنظر إليه سابقًا بوصفه رمزًا للوحدة العربية، أصبح اليوم وصمة عار عالمية لحقوق الإنسان. فقد تولت مؤسسات متعددة الأطراف، مثل المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، التحقيق في اتهامات جسيمة موجّهة إلى الدولة الإسرائيلية، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق قيادات من إسرائيل وحركة حماس على حد سواء. فيما أكد قرار محكمة العدل الدولية، الصادر في يناير 2024، أن حجم الدمار الناجم عن العمليات الإسرائيلية في غزة يفرض على إسرائيل «اتخاذ جميع التدابير اللازمة في إطار سلطتها لمنع ومعاقبة التحريض العلني والمباشر على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية».[8] هذه التطورات أسهمت في تعقيد العلاقات بين المجتمعات الغربية من جهة، والجاليات العربية في الشتات والرأي العام في المنطقة من جهة أخرى. ومع ذلك، فإن عولمة القضية الفلسطينية يعني أن الهواجس التي تعبّر عنها الحكومات والشعوب العربية باتت قضايا ذات صدى عالمي. فالمعاناة التي يعيشها الفلسطينيون، ومطلبهم في العدالة، يثيران سخطًا دوليًا متصاعدًا، لما ينطوي عليه هذا الوضع من تناقض جوهري مع أبسط الحقوق الأساسية في الكرامة والحياة الكريمة.

تُظهر بيانات استطلاع للرأي أن الولايات المتحدة تتحمل العبء الأخلاقي لنفور العالم العربي. وتشير أحدث استطلاعات الرأي العام لسنة 2024، الصادرة عن مشروع الباروميتر العربي، إلى أن خمسة وستين في المئة من المشاركين في ثماني دول عربية (العراق، الأردن، الكويت، لبنان، موريتانيا، المغرب، فلسطين، تونس) يحملون نظرة سلبية إزاء الولايات المتحدة.[9] وعلى النقيض من ذلك، فإن أكثر من ثلاثة وستين في المئة من المشاركين العرب باتت لديهم نظرة إيجابية تجاه الصين. ومن ثم، يمكن القول إن ما خسرته الولايات المتحدة قد ربحته الصين.[10] ويُحتمل أن كثيرين في العالم العربي باتوا لا يرون في الولايات المتحدة أو أوروبا النموذج الذي يُحتذى به في التنمية السياسية والاقتصادية الناجحة، بل في الصين السلطوية والمزدهرة. وهكذا، يعيد التاريخ دورته: قبل سبعين عامًا، دخلت الولايات المتحدة العالم العربي من دون إرث استعماري؛ أما اليوم، فقد باتت –في نظر كثيرين في المجتمعات العربية– تمثّل التجسيد الفعلي لغطرسة الغرب ونزعته للهيمنة.

ومع ذلك، لم تفقد الولايات المتحدة كل شيء بعد. إذ تُظهر بيانات استطلاع الباروميتر العربي نتيجة بالغة الدلالة. فرغم استياء قطاعات واسعة من الرأي العام العربي من الولايات المتحدة بسبب الحرب العالمية على الإرهاب، وحرب العراق، والصراع في فلسطين؛ إلا أنها لا تزال تحتفظ برصيد من القبول، هشّ لكنه كبير نسبيًا. وتشير الجولة الأحدث من استطلاعات الباروميتر العربي، إلى أن أكثر من ستة وأربعين في المئة من المشاركين في الدول العربية لا يزالون يرغبون في علاقات أقوى مع الولايات المتحدة،[11] وهو أمر له دلالته. ولا ينبغي أن يكون ذلك مفاجئًا؛ فرغم الأخطاء الجيوسياسية للحكومة الأمريكية وسياساتها التدميرية، فإن جوهر الثقافة الأمريكية لطالما شكل عنصر جذب للآخرين في الخارج. وهذا الجوهر يتمحور حول الناس لا الحكومة. فرغم الجدل الذي غالبًا ما يدور بشأنها؛ فإن الفكرة الرمزية لـ «الحلم الأمريكي» لا تسعى إلى خلق مجتمع موحّد النموذج، بل إلى إتاحة الحراك والتعليم والفرصة أمام الجميع.[12] وفي أفضل حالاته، يغذّي هذا الحلم روحًا شاملة تعود في جذورها إلى ما قبل تأسيس الولايات المتحدة نفسها. في هذا السياق، يمكن إجراء مقارنة مثيرة للاهتمام مع أوروبا؛ فالمغاربة أو الجزائريون في فرنسا، وإن كانوا يتحدثون الفرنسية ويلتحقون بالجامعات الفرنسية، فإن كثيرين منهم لن يُنظر إليهم أبدًا من قبل أبناء مجتمعهم الجديد باعتبارهم فرنسيين حقيقيين. والأمر نفسه ينطبق على الأتراك في ألمانيا.

المنفى الفكري

بوصفي باحثًا مغربيًا قضى معظم مسيرته المهنية في الغرب، أدرك تمامًا أن موقعي الذاتي –أي الكيفية التي تُشكل بها خلفية المرء الأسئلة والأفكار المطروحة في النقاش العام–[13] لا ينفصل بحال عن هذه الحجج. فوجهة النظر المعروضة هنا بشأن كيفية سد الفجوة بين العالمين العربي والغربي بقدر ما تستند إلى تحليلات تاريخية وسياسية، فإنها تعكس تجربتي الشخصية وخلفيتي الثقافية. لقد كان الوعد الأمريكي بالتعددية أحد الأسباب التي دفعتني للانتقال إليها. قبل سنوات، حين قررت مغادرة المغرب إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراستي الجامعية، رأى كثير من زملائي المغاربة في ذلك قرارًا مباغتًا، وغير مألوف. مع ذلك، فإنه لم يكن القرار الصحيح فحسب، بل كان أحد أفضل القرارات التي اتخذتها في حياتي؛ إذ وجدت في الحياة الجامعية الأمريكية صرامة فكرية حقيقية، ومساحة للتعبير، وفرصة للتطور من خلال العلوم الإنسانية، وتكوين عقل نقدي، ولم أكن لأجد مثل ذلك في أوروبا. ولهذا السبب، قررت وزوجتي تنشئة بناتنا في الولايات المتحدة، وأن يدرسن بفخر في جامعاتها. اليوم، أفراد أسرتي مواطنون أمريكيون يعتزّون بذلك. أما أنا، فكنت سأعتز أيضًا بالحصول على الجنسية الأمريكية، لكن ذلك كان سيتطلب مني التخلي عن الولاء لـ «أمير أجنبي» –أي العاهل المغربي. وهو أمر لم يكن بوسعي تنفيذه، لأنه كان سيجبرني على الحنث بالقسم الذي أديته، والتخلي عن ارتباطي العميق بعائلتي. وفي هذا السياق، لو تم ترحيلي غدًا بسبب أفكاري الفلسفية وقناعاتي السياسية، فلن أتراجع عن موقفي. كما أن التدهور المستمر في المشهد السياسي الأمريكي لن يثقل كاهلي، فالفترات الصعبة دائمًا ما تزول.

حينما اضطررت إلى مغادرة المغرب في عام 2002، استقبلني أصدقائي ومجتمعي في الولايات المتحدة بترحاب بالغ. كنت قد تعرّضت في المغرب لمضايقات سياسية متواصلة برعاية الدولة، تضمنت اتهامات باطلة بالتآمر، وحملات تشهير تتسم بالخسة، ومحاولات للتضييق علي ماليًا، وتهميشًا داخل مجتمعي، وضغوطًا هدفت إلى تفكيك أسرتي. في المقابل، وفّرت لي الولايات المتحدة ملاذًا تمكنت فيه من تحقيق ذاتي ورعاية أسرتي في أمان. أدرك أنني كنت من بين القلّة المحظوظة ممن تمكنوا من الإفلات من تلك الضغوط، والنجاة بأنفسهم، والنجاح في الخارج.

في إطار هذه الخلفية، أرى أن اللحظة الراهنة تحمل طابعًا ملحًّا ومفصليًا. إذ تمتلك الجاليات العربية فرصة حاسمة للتعاطي مع الولايات المتحدة، ومع الغرب عمومًا، والعمل على تضييق الفجوة بين الشرق والغرب.

فاعلية الشتات وحدود التعبئة

في مطلع عام 2025، ووفقًا للتحليل الموضوعي لعالمي السياسة ستيفن ليفيتسكي ولوكَان واي،[14] شهدت الولايات المتحدة تراجعًا ديمقراطيًا غير مسبوق، مدفوعًا بسوء استغلال السلطة التنفيذية من جانب إدارة ترامب الثانية، والانهيار الحاد في الحريات المدنية. وحتى الآن، لم تُسهم هذه الفوضى السياسية في تحسين أداء الاقتصاد. وبصورة مماثلة، لا يزال الغموض يكتنف مدى قدرتها على إبقاء المعارضة في حالة من الارتباك وشل قدرتها على التجمع وإعادة تنظيم صفوفها، فذلك أيضًا أمر سنكتشفه قريبًا. لكن الأمر المؤكد أن التراجع الديمقراطي، في نهاية المطاف، يُكلّف الجميع أثمانًا باهظة.

استهدفت الحكومة الأمريكية أفرادًا لمجرد ممارستهم حقهم في التعبير عن الرأي فيما يتعلّق بفلسطين. وبدأت الجامعات، بما في ذلك مؤسسات مرموقة مثل جامعتي كولومبيا وهارفارد، ترضخ للضغوط السياسية؛ إذ جرّمت جامعة كولومبيا من حيث المبدأ، شرعية الاحتجاج. كما طالت هذه الحملة السياسية عددًا كبيرًا من المهاجرين، من بينهم من يحملون إقامة قانونية دائمة في الولايات المتحدة. ولم يعد بوسع الطلاب والباحثين الوثوق بأن الجامعات ستوفّر لهم حماية من هذه الضغوط. واستنادًا إلى العديد من البيانات المتوفرة، يمكن قياس رد فعل الجالية العربية الكبيرة والمتنامية في الولايات المتحدة إزاء هذه التطورات الأخيرة. فبحسب المعهد العربي الأمريكي، يوجد في الولايات المتحدة 3.7 مليون عربي، خمسة وثمانون في المئة منهم يحملون الجنسية الأمريكية.[15] وفي انتخابات نوفمبر 2024، تخلّت قطاعات واسعة من هذه الجالية عن الحزب الديمقراطي، الذي طالما دعمته، بسبب سياسات بايدن في غزة. ففي مدن يقطنها عدد كبير من العرب، مثل ديربورن في ولاية ميشيغان، صوّت عدد أكبر من الناخبين العرب لصالح ترامب مقارنة بهاريس.[16]  وهو ما يُظهر قدرة الجالية العربية على التأثير في لحظات الأزمات. لكن ماذا عن الانخراط السياسي خلال فترات الاستقرار النسبي؟ على سبيل المثال، لا يزال الأتراك في ألمانيا يواجهون أسئلة متواصلة بشأن هويتهم الوطنية، ورغم ذلك، فقد أنشأوا جمعيات سياسية، وغرفًا اقتصادية، وشبكات للتضامن الاجتماعي مكّنتهم من تحقيق قدر من النجاح.[17] الأمر ذاته ينطبق على بعض جاليات الشرق الأوسط الأخرى في الولايات المتحدة، مثل الإيرانيين في كاليفورنيا.

رغم ذلك، لا يزال الحشد السياسي في أوساط العرب الأمريكيين ضعيفًا نسبيًا. ويُعزى ذلك بشكل جزئي إلى انتشار الجالية العربية جغرافيًا في الولايات المتحدة، خارج ولاية ميشيغان والمدن الساحلية الكبرى. كما تتسم هذه الجالية أيضًا بالانقسام؛ إذ لا يُعرّف كثير من العرب أنفسهم باعتبارهم جزءً من جالية عربية متعددة الأصول، وإنما وفقًا لانتماءاتهم القومية. وحتى داخل الجاليات القومية ذاتها، مثل المصريين الأمريكيين أو اللبنانيين الأمريكيين، كثيرًا ما تعيد الانقسامات الدينية والطائفية إنتاج نفسها. وبدورها، تسهم القضايا الاقتصادية والاجتماعية والجندرية في تقويض إمكانات وحدتهم. على جانب أخر، تواجه الجالية الآسيوية الأمريكية في الولايات المتحدة المشكلة نفسها، فرغم أنها أصبحت قوة اجتماعية متنامية التأثير؛ إلا أنها تفتقر إلى التماسك الداخلي والتضامن. فالجاليات الصينية الأمريكية والهندية الأمريكية والكورية الأمريكية تميل كل منها إلى متابعة مصالحها الخاصة عند الانخراط في العمل السياسي، بدلًا من النظر إلى نفسها بوصفها جزءً من ائتلاف آسيوي أمريكي واسع ومتعدد الأطياف.[18]

ومع ذلك، فإن هذا التنوّع يخلق فرصة محتملة؛ إذ لا يزال بإمكان كثيرين في العالم العربي، وكذلك من العرب الأمريكيين في الولايات المتحدة، مواصلة التعبئة، لا سيّما أن العديد منهم لا يزالون على مسافة من الحكومات العربية في الشرق الأوسط، والتي قمعت حرية التعبير في معظم أرجاء المنطقة. ومن ثم، فإن مجتمعات الشتات العربي في العديد من الدول الغربية تمتلك فرصة فريدة لرفع الوعي بطرق واضحة ومفهومة ليس فقط لمجتمعات الشرق الأوسط، بل أيضًا لمجتمعات الغرب. إن دورية «رواق عربي»، التي أضحت منبرًا رائدًا للتحليل السياسي المستقل حول مصر والعالم العربي، تُمثّل أحد الأمثلة على هذه الفرصة الفريدة. فبفضل الدعم السخي من الجهات المانحة ومنظمات مجتمع مدني، يكتسب مقر المجلة في بروكسل أهمية رمزية كونه يعكس بشكل أساسي القيود المفروضة على حرية البحث الأكاديمي في العديد من الدول العربية.

في ظل تزايد المبادرات العربية المماثلة في الغرب، تتجلى حقيقة جوهرية: ينبغي للعرب في الغرب ألا يستسلموا لعقلية الضحية –التي تشعر بالاغتراب إزاء الأنظمة العربية، وأيضًا إزاء «النظرة» الغربية. فالمناصرة الاستباقية والانخراط الدؤوب لا يحدثان بين عشية وضحاها، بل ترتكزان إلى ميزة جوهرية: معرفة نقدية متأصلة في الخبرة التاريخية، تسترشد بظروفنا السياسية، وموجّهة نحو بناء مستقبل أفضل. تُسلط لحظة تاريخية مفصلية الضوء على جوهر هذه الفكرة: إذ لم يتبلور الدعم الأمريكي الكامل لإسرائيل إلا بعد ستينيات القرن الماضي. ففي عام 1956، أرغمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي إسرائيل، إلى جانب كل من بريطانيا وفرنسا، على الانسحاب من منطقة قناة السويس خلال حربها ضد مصر. وفي أعقاب ذلك، بذلت الولايات المتحدة كل ما في وسعها لمنع إسرائيل من بناء مفاعلها النووي في ديمونة.[19] إلا أن الانتصار الإسرائيلي الخاطف والمفاجئ في عام 1967 هو ما غيّر الموقف الأمريكي نحو رعاية غير مشروطة لإسرائيل. وفي وقت لاحق، جاءت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 لترسّخ هذا النهج الموالي لإسرائيل بوصفه ركيزة أساسية للسياسة الخارجية الأمريكية.

سيتطلّب الأمر تفكيرًا مرنًا ونقديًا لإعادة تخيُّل إطار يُقرّب بين الشعوب العربية والغربية، ويتجاوز أعباء الماضي. إذ يزداد الماضي تعقيدًا بخضوعه للمراجعة والتدقيق. من ناحية أخرى، فإن الانغماس في نظريات المؤامرة التي لا تنتهي، وما ينجم عنه من إحساس بالعجز أمام قدر محتوم، لا يُفضي إلى تفكير بنّاء.

المشهد الإقليمي

إن سد الفجوة بين الشرق والغرب من خلال التفاعل البناء بدلًا من الانزواء يكتسب أهمية متزايدة؛ خاصة مع الأخذ في الاعتبار الأوضاع الإقليمية في العالم العربي نفسه، والتي لا يمكن أن تتحسن إلا بجهود جماعية تتجاوز الحدود الوطنية. من السهل الوقوع في براثن اليأس؛ إذ لا تتوافر اليوم أسباب كثيرة للتفاؤل في ظل الأزمات البنيوية المستمرة في العديد من البلدان العربية، بما في ذلك ارتفاع معدلات البطالة، ونظم التعليم البالية، وتفاقم اللامساواة الجندرية، والاستقطاب الإيديولوجي، والسياسات السلطوية. فضلًا عن التشظي الذي تعرضت له بعض الدول العربية، وباتت تعاني من تنازع الميليشيات والفصائل سياسية المتحاربة، كما هو الحال في ليبيا والسودان واليمن، إذ لم تسهم التدخلات الدولية سوى في تأجيج الانقسامات الطائفية وعرقلة السبل المؤدية إلى الاستقرار الوطني. أما الديمقراطية المتعثرة في العراق، فلا تزال غارقة في الفساد وسوء الإدارة، بينما يبقى المشهد السياسي في لبنان رهينةً لمزيج سام من النزاعات الطائفية، والنخبوية السياسية، والتدخلات الإقليمية.

في الوقت نفسه، تعرضت التجارب الديمقراطية الأحدث عهدًا للتعثر. فرغم أن تونس كانت الدولة الوحيدة التي خرجت من موجة الربيع العربي بديمقراطية انتخابية فاعلة؛ إلا أنها سرعان ما شهدت تراجعًا تحت الحكم الشعبوي للرئيس قيس سعيّد. وعلى المنوال نفسه، ورغم أن انتفاضة الجزائر عام 2019 أسفرت عن بعض التغيير السياسي وتولّدت عنها آمال بتحوّل ديمقراطي، إلا أن الجيش والنخبة الخاضعة له رفضوا دعم أي تغيير للنظام، وأجهضوا المطالب الشعبية بالديمقراطية. وفي السياق نفسه، تكافح دولًا أخرى، مثل المغرب ومصر والأردن، للحفاظ على الاستقرار الوطني من خلال الحكم السلطوي، في وقت تواجه فيه أنظمتها تحديات اقتصادية وسياسية هائلة. وتبقى مجتمعات هذه الدول متعطشة لفرصة التمتع بالحرية؛ وهي مطالب لا يمكن لتلك الحكومات تلبيتها في ظل المثالب المتأصلة في الوضع الراهن. وفي غضون ذلك، ورغم سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، فإن المرحلة الانتقالية الراهنة في سوريا لا تزال تواجه قضايا شائكة. من بينها مدى التزام الحكومة الحالية بترسيخ التعددية كقاعدة أساسية في سوريا الجديدة، وقدرتها على توفير الحد الأدنى من الأمان وتكريس سيادة القانون.

لقد تغيّر ميزان القوى الإقليمي العام كذلك. فقد أدّت حرب غزة إلى انحدار سريع لـ «محور المقاومة» الذي تقوده إيران.[20]  إذ بات كلا من حزب الله في لبنان وجماعة الحوثيين في اليمن في موقع دفاعي، بينما سقط نظام الأسد في سوريا في ديسمبر 2025، وهو ما مثّل نهاية آخر «رئيس مدى الحياة» في العالم العربي. في المقابل، باتت إسرائيل أكثر عسكرة؛ فمنذ هجمات حماس في الداخل الإسرائيلي في أكتوبر 2023، غزا الجيش الإسرائيلي ثلاث دول عربية: فلسطين ولبنان وسوريا. وعلى نطاق أوسع، فإن تراجع الديمقراطية الأمريكية قد قوّض ما تبقّى من قوتها المعيارية. فمنذ عقدين من الزمن، ادّعت الولايات المتحدة أن غزوها للعراق قد يجلب الحرية للعالم العربي، استنادًا إلى كونها ديمقراطية ليبرالية قوية. لكن حين تتعثر الديمقراطية الأمريكية، فلا يعود هناك تفوّق أخلاقي يمكن توظيفه. كما لم يعد بوسع الولايات المتحدة ادعاء الترويج للديمقراطية، في ظل ما أقدمت عليه إدارة ترامب الثانية من تفكيك لوكالة التنمية الأمريكية (USAID) وغيرها من برامج دعم الديمقراطية ضمن سياساتها الخارجية. وقد أوقفت الإدارة مساعداتها الخارجية لأكثر الدول احتياجًا لها، وبات على هذه الدول البحث عن مصادر دعم بديلة. ومن ثم، فقدت الحكومة الأمريكية أحد أبرز مصادر قوتها الناعمة، التي لطالما منحتها تفوقًا في علاقاتها الدولية.

في الوقت نفسه، فإن الولايات المتحدة، في ظل إدارة الرئيس ترامب، تُعيد صياغة علاقاتها مع الدول العربية. كما أن الخطة التي اقترحتها الإدارة للسيطرة على قطاع غزة قد ألهمت الأصوات الصهيونية اليمينية داخل الحكومة الإسرائيلية، الذين يرون اليوم أن الضفة الغربية بأكملها، وليس غزة فحسب، قد أصبحت أرضًا جاهزة للضم. وقد فسّرت دولًا عربية، مثل السعودية، هذه الخطة على أنها محاولة للقضاء نهائيًا على إمكانية قيام دولة فلسطينية ذات سيادة، وتهيئة المجال لموجة جديدة من اللاجئين الفلسطينيين. [21]

وأخيرًا، فإن استبدال النظام القائم على القواعد بمنطق قائم على الصفقات ينبغي أن يدفع حتى الدول العربية السلطوية الريعية النفطية، التي قادت الثورة المضادة ضد الربيع العربي، إلى التفكير مليًا في مستقبلها. نحن فقط بحاجة إلى النظر في بعض التحركات المبكرة في السياسة الخارجية للرئيس ترامب خلال ولايته الثانية، مثل تقليص الدعم لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، أو إعلان رغبته في ضم إقليم جرينلاند التابع للدنمارك، للاستدلال على هذا التوجه. إن الاعتقاد بأن حقول النفط في شرق الجزيرة العربية، أو صحراء الجزائر الغنية بالغاز الطبيعي، ستكون في مأمن من سياسات مماثلة في المستقبل، هو أمر يفتقر للحكمة. في الواقع، إن الاتحاد الأوروبي والصين، في ظل مقاومتهما للسياسات التجارية العدوانية التي تنتهجها الحكومة الأمريكية، قد ينظران إلى هذه المناطق بوصفها أهدافًا سهلة يمكن استغلالها لخدمة مصالحهما.

نحو إطار جديد للتفاعل

في ضوء التحديات التي تواجه المنطقة، فإن المضي قدمًا يتطلّب حلولًا مبتكرة. وفي جوهر هذا المسار رغبة مشتركة تجمع بين المجتمعات الغربية والمجتمعات العربية: السلام، والازدهار، والكرامة. فهذه التطلعات الأساسية تتجاوز الحدود الثقافية، كما يتضح من الدعوات واسعة النطاق لحُكم يستجيب لتطلعات الناس، ولتمثيل سياسي، وللفرص الاقتصادية. فهذه المطالب لا تنتمي إلى ثقافة بعينها، وإنما هي تعبير عن اهتمامات عالمية مشتركة. وتتجلى هذه الحقيقة بوضوح في شبكات التضامن العابرة للحدود التي برزت على مدار العقد المنصرم. فعلى سبيل المثال، أدّى الطابع العابر للحدود للقضية الفلسطينية إلى تحوّل هذه القضية إلى مصدر قلق لا يثقل كاهل الرأي العام العربي فحسب، بل تمنح الزخم كذلك لحركات شعبية جديدة ومجموعات مناصرة في الغرب. [22]  وهذه الروابط ذات طبيعة تبادلية. فحركة «حياة السود مهمة» في الولايات المتحدة، التي دافعت عن العدالة الاجتماعية، ألهمت مسيرات تضامنية وحملات تعبئة في العديد من الدول العربية. وبالمثل، ألهم الربيع العربي بين عامي 2011 و2012 حركة «احتلوا» في أمريكا الشمالية وأوروبا، وذلك في سعي مماثل للتغيير الاجتماعي. وتمثّل مثل هذه التعبئة الجماعية لحظة محورية تم فيها تضخيم الأصوات العربية على الساحة العالمية، وشددت على الدور الحيوي للتضامن في إعادة تشكيل المشهد السياسي العالمي.

اندلاع الانتفاضات الشعبية في عام 2011 مفاجئًا لكثير من الباحثين الذين طالما جادلوا بأن الأنظمة السلطوية في العالم العربي مستقرة بطبيعتها. فعلى مدى سنوات، صوّر هؤلاء الباحثون الشعوب العربية على أنها سلبية، وتفتقر للفاعلية الكافية لإحداث أي تغيير ملموس في الواقع الراهن. على جانب أخر، فإن مخالفي هذا الرأي، كثيرًا ما وُصموا بالسذاجة أو التفاؤل المفرط. [23]  إلا أن الربيع العربي أعاد تذكير الجميع، وبقوة، بأن الأمل يمكن أن ينبثق على نحو غير متوقع حتى في أكثر الظروف قمعًا. وقد عبّر المتظاهرون عن هذه الإرادة الجماعية للتغيير بوضوح حين سُئلوا عن سبب تحدّيهم للقمع، فأجابوا بشكل مدوّ: «انكسر حاجز الخوف».[24] قد تتمكن الأنظمة السلطوية محل الجدل في المنطقة من كبح جماح قوى المعارضة المتشرذمة، لكنها لن تتمكن من الصمود في مواجهة شعوبها حين تتوحد وتحتشد من أجل الديمقراطية. وبالمنطق نفسه، فإن العمل الجماعي يقدم مسارًا للمضي قدمًا في العمليات السياسية. ليس من الضروري أن يكون الجميع متظاهرين أو نشطاء. لكن التقدّم الفكري يظل حاسمًا، فالمعرفة بحد ذاتها أداة تحرّرية فعّالة. وما يستطيع الطلاب والباحثون والمفكرون العرب في الغرب إنجازه من خلال تطوّرهم المعرفي لا يزال أمرًا بالغ الأهمية. وستظل هناك دائمًا حاجة لدى الجمهور الغربي إلى طلب المزيد من المعرفة بشئون الشرق الأوسط، نظرًا إلى تدخلات الحكومات الغربية وانخراطها في أزمات المنطقة، وامتلاك الجاليات العربية موقعًا مميزًا لتوفير هذه المعرفة. بل إن أفراد هذه الجاليات يمتلكون فرصة لا تقتصر على إنتاج المعرفة، بل تشمل أيضًا إعادة تعريفها بشروطهم الخاصة، سواء داخل المؤسسات السياسية والخطاب العام، أو من خلال البحث العلمي.

بعد مسيرة مهنية طويلة من العمل والنشاط، استقر بي المطاف في المسار الأكاديمي. اليوم، تُمثّل الأجيال الشابة الجهات الفاعلة السياسية الأكثر قدرة على التأثير. وهذا المسعى لا يخلو من التحديات. فهو، كأي نضال سياسي، يتطلّب الصبر والالتزام والاعتدال. ويُعد احترام الآخرين، خصوصًا من يعبّرون عن آراء مغايرة، عنصرًا أساسيًا في التعاطي مع هذا المشهد المعقّد. وفي خضم هذا النقاش، باتت بعض القضايا، كالقضية الفلسطينية، متشابكة مع ما يُعرف بـ «الحرب الثقافية» الدائرة في كثير من المجتمعات الغربية، إذ يُنظَر إلى المدافعين عن حقوق الفلسطينيين على أنهم ينتمون إلى تيارات يسارية أو «تقدمية»، بينما يتم ربط المدافعون عن إسرائيل بالأحزاب والحركات اليمينية المحافظة.[25] ومع ذلك، تظل قضايا أخرى مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية والفساد مفتوحة للنقاش.

وبقدر ما تتطلّب هذه القضايا حوارًا صادقًا ونقدًا جادًا، فإن الواقع الإقليمي بدوره يستدعي تأملًا أعمق. فقد شرعت حقبة الأحادية القطبية الأمريكية، التي عُرفت يومًا بـ «السلام الأمريكي»، في الأفول. وأصبح النظام الدولي اليوم متعدد الأقطاب، بما يفرض تحديات وفرصًا جديدة. وفي ظل الأزمات المتواصلة في الشرق الأوسط، لا يُستبعد أن نشهد موجة جديدة من الانتفاضات الشعبية في المستقبل القريب. فالمطالبة بالحقوق والحريات ستظل قائمة، وينبغي على الجاليات العربية في الغرب أن تكون مستعدة لتقديم أطر بديلة عند نشوء أزمات مستقبلية. لقد أظهرت الولايات المتحدة وحلفاؤها، بالإضافة إلى العديد من الدول العربية، عجزًا أو عدم رغبة في الاستجابة للمطالب الشعبية. وفي هذه اللحظة المفصلية، تقع على عاتق المجتمعات في المنطقة العربية وعلى الجاليات في الشتات مسئولية طرح نماذج جديدة تعزّز التفاهم والتعاون، وفي الوقت نفسه تصون حقوق وكرامة كل الأفراد. هذه المسئولية تتطلّب مقاربة واعية ومستنيرة، تتجاوز منطق الأغراض السياسية المجردة. إذا أخفقت هذه الأصوات في الانخراط بجدية مع القضايا الملحّة في هذه اللحظة، فمن المحتمل أن يستلم زمام المبادرة فاعلون آخرون، يفتقرون إلى الالتزام بالسياسات الشاملة والحلول المُنصفة، وهو ما سيؤدي إلى تداعيات خطيرة للغاية.

ملاحظات

كُتب هذا النص في الأصل ككلمة رئيسية أُلقيت في مؤتمر العرب بجامعة ييل في 11 أبريل 2025، ثم طُوِّر ليصبح مقال رؤى.

هذا المقال كتب في الأصل باللغة الانجليزية لرواق عربي.

[1] جوزيف مسعد، «الاستشراق هو الاستغراب» (Orientalism as Occidentalism)، تاريخ الحاضر 5، العدد 1 (2015): 83-94،  https://doi.org/10.5406/historypresent.5.1.0083.
[2] فواز أ. جرجس، ما الذي حدث خطأً حقًا: الغرب وفشل الديمقراطية في الشرق الأوسط (What Really Went Wrong: The West and the Failure of Democracy in the Middle East)، نيو هيفين: منشورات جامعة ييل، 2024)، https://doi.org/10.1093/ia/iiae252.
[3] فرانسيس فوكوياما، نهاية التاريخ والإنسان الأخير(The End of History and the Last Man) ، (نيويورك: فري برس، 1992).
[4] مبادرة العدالة في المجتمع المفتوح، عولمة التعذيب: الاعتقال السري لدى وكالة الاستخبارات المركزية وعمليات التسليم الاستثنائية (Globalizing Torture: CIA Secret Detention and Extraordinary Rendition)، (نيويورك: مؤسسة المجتمع المفتوح، 2013)، تاريخ الاطلاع 15 مارس 2025،   https://www.justiceinitiative.org/publications/globalizing-torture-cia-secret-detention-and-extraordinary-rendition.
[5] مارك تيسلر، طبيعة المواقف العربية من إسرائيل والعوامل المحدِّدة لها (The Nature and Determinants of Arab Attitudes Towards Israel)، في معاداة السامية المعاصرة: كندا والعالم (Contemporary Antisemitism: Canada and the World)، تحرير ديريك ج. بينسلر، مايكل ر. ماروس، وجانيس غروس ستاين (تورنتو: منشورات جامعة تورنتو، 2004)، 96–120.
[6] مايكل بارنيت، ناثان ج. براون، مارك لينش، وشيبلي تلحمي، واقع الدولة الواحدة في إسرائيل (Israel’s One-State Reality)، فورين أفيرز، المجلد 102، العدد 3 (2023)، 120–135، تاريخ الاطلاع 15 مارس 2025، , https://www.foreignaffairs.com/middle-east/israel-palestine-one-state-solution.
[7] «الأمم المتحدة تُقدر أن إعادة إعمار غزة تتطلّب ما لا يقل عن 53 مليار دولار»، فرانس 24، 11 فبراير 2025، تاريخ الاطلاع 16 مارس 2025، https://www.france24.com/en/live-news/20250211-at-least-53-billion-needed-to-rebuild-gaza-un-estimates.
[8] محكمة العدل الدولية، الأمر الصادر في 26 يناير 2024، بشأن القضية رقم 192 – تطبيق اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في قطاع غزة (جنوب أفريقيا ضد إسرائيل) (Application of the Convention on the Prevention and Punishment of the Crime of Genocide in the Gaza Strip (South Africa v. Israel))، 26 يناير 2024، تاريخ الاطلاع 20 فبراير 2025، https://www.icj-cij.org/node/203447.
[9] الباروميتر العربي، الدورة الثامنة من استطلاعات الباروميتر العربي (Arab Barometer Survey Wave VIII ) (2024)، تاريخ الاطلاع 2 مارس 2025، https://www.arabbarometer.org/.
[10] المرجع السابق.
[11] المرجع السابق.
[12] جيم كولن، الحلم الأمريكي: تاريخ موجز لفكرة شكّلت أمة (The American Dream: A Short History of an Idea that Shaped a Nation)، (أوكسفورد: منشورات جامعة أوكسفورد، 2004)، الطبعة التاسعة.
[13] لمزيد من النقاش حول التموضع في دراسات الشرق الأوسط، انظر: لورين تشارلز، إيلان بابيه، ومونيكا رونكي (محررون)، البحث في الشرق الأوسط: قضايا ثقافية ومفاهيمية ونظرية وتطبيقية (Researching the Middle East: Cultural, Conceptual, Theoretical and Practical Issues)، (إدنبرة: منشورات جامعة إدنبرة، 2021).
[14] ستيفن ليفيتسكي ولوكَان واي، الطريق نحو السلطوية الأمريكية: ما الذي يلي انهيار الديمقراطية (The Path to American Authoritarianism: What Comes After Democratic Breakdown)، فورين أفيرز، 11 فبراير 2025، تاريخ الاطلاع 5 مارس 2025، https://www.foreignaffairs.com/united-states/path-american-authoritarianism-trump.
[15] المعهد العربي الأمريكي، البيانات الديمغرافية الوطنية للعرب الأمريكيين (National Arab American Demographics)، يناير 2025، تاريخ الاطلاع 16 مارس 2025، https://www.aaiusa.org/demographics.
[16] عبد الحليم عبد الرحمن، لماذا دعم العرب الأمريكيون في ميشيغان ترامب بدلًا من هاريس (Why Michigan Arab Americas Backed Trump over Harris)، فورين بوليسي، 13 نوفمبر 2024، تاريخ الاطلاع 15 مارس 2025، https://foreignpolicy.com/2024/11/13/michigan-dearborn-trump-harris-arab-gaza-israel-vote/.
[17] انظر أيضًا: نرمين أبادان-أونات، الأتراك في أوروبا: من العمال الضيوف إلى المواطنين العابرين للحدود (Turks in Europe: From Guest Worker to Transnational Citizen)، (نيويورك: منشورات دار بيرجاهان، 2011)، https://doi.org/10.1177/0268580912452370f.
[18] جانيل وونج وكارثيك راماكريشنان، الآسيويون الأمريكيون وسياسات القرن الحادي والعشرين (Asian Americans and the Politics of the Twenty-First Century)، المراجعة السنوية للعلوم السياسية، المجلد 26 (2023): 305–32، https://doi.org/10.1146/annurev-polisci-070621-032538.
[19] ماتيو جيرليني، في انتظار ديمونة: الولايات المتحدة وتطوير إسرائيل لقدراتها النووية (Waiting for Dimona: The United States and Israel’s Development of Nuclear Capability)، تاريخ الحرب الباردة، المجلد 10، العدد 2 (2010): 143–161، https://doi.org/10.1080/14682740903162300.
[20] ريناد منصور، حيدر الشاكري، وحيد حيد، محور المقاومة المتغيّر (The Shape-Shifting ‘Axis of Resistance)، ورقة بحثية صادرة عن تشاتام هاوس، 6 مارس 2025، تاريخ الاطلاع 6 مارس 2025، https://www.chathamhouse.org/2025/03/shape-shifting-axis-resistance.
[21] المركز العربي، التطبيع والتهجير: السعودية ومقترح ترامب بشأن غزة (Normalization and Displacement: Saudi Arabia and Trump’s Gaza Proposal)، واشنطن العاصمة، 20 فبراير 2025، تاريخ الاطلاع 5 مارس 2025، https://arabcenterdc.org/resource/normalization-and-displacement-saudi-arabia-and-trumps-gaza-proposal/.
[22] سون هاغبول وبيلي فالنتين أولسن، بزوغ فلسطين كقضية عالمية (Emergence of Palestine as a Global Cause)، نقد الشرق الأوسط، المجلد 32، العدد 1 (2023): 129–148، https://doi.org/10.1080/19436149.2023.2168379.
[23] كنتُ أحد تلك الأصوات. انظر، على سبيل المثال: هشام العلوي، «تحديث الأنظمة العربية… السلطوية» (Les régimes arabes modernisent… l’autoritarisme,)، لوموند ديبلوماتيك، (أبريل 2008) ، https://www.monde-diplomatique.fr/2008/04/EL_ALAOUI/15781.
[24] ويندي بيرلمان، العواطف والأسس الدقيقة للانتفاضات العربية (Emotions and the Microfoundations of the Arab Uprisings)، رؤى في السياسة، المجلد 11، العدد 2 (2013): 387–409، https://doi.org/10.1017/S1537592713001072.
[25] أوموت أوزكرملي، غزة ونهاية حرب الثقافة كما نعرفها (Gaza and the End of the Culture War as We Know It)، مجلة نيو لاينز، 12 يونيو 2024، تاريخ الاطلاع 5 مارس 2025، https://newlinesmag.com/argument/gaza-and-the-end-of-the-culture-war-as-we-know-it/.

Read this post in: English

اظهر المزيد

هشام العلوي

محاضر في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، حيث يُدرّس الاقتصاد السياسي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى