رؤى

رؤى: من التحرر الوطني إلى الاستعمار الوطني

حمل هذا المقال كبي دي إف

الإشارة المرجعية: حسن، بهي الدين (2024). رؤى: من التحرر الوطني إلى الاستعمار الوطني. رواق عربي، 29 (2)، 20-33. DOI: 10.53833/ZIRN1036.

يمر العالم العربي بحالة انهيار[1] غير مسبوقة –كإقليم وكدول وكنخب سياسية– منذ بدايات تكون الدولة الحديثة في هذه المنطقة في بدايات القرن الماضي في غمار عملية التحرر من هيمنة الإمبراطورية العثمانية ثم الاستعمار الأوروبي. ففي الوقت الحالي، تحكم نظم تسلطية شرسة أغلبية دول المنطقة، جنبًا إلى جنب مع ميلشيات مسلحة تشكل سلطة الأمر الواقع في عدة دول أخري، بينما يتنافس بضراوة أقوي الجيران الإقليميين (إيران وإسرائيل وتركيا) على تقاسم النفوذ في المنطقة المريضة. من ناحية أخري يعاني النظام الدولي لحقوق الإنسان من ازدواجية معايير وتراجع كبير على المستوى المؤسسي والقانوني والأطر السياسية الداعمة،[2] بينما لا تكترث روسيا والصين ودول «الجنوب العالمي» بمسألة تعزيز هذا النظام، بل أن بعضها يساهم في إضعاف فاعليته،[3] في الوقت ذاته الذي ينذر فيه تصاعد نفوذ التيارات اليمينية المتطرفة والشعبوية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية[4] بإضعاف نوعي أكبر لهذا النظام.

كان «الربيع العربي» المنتكس هو آخر محاولة جادة من شعوب المنطقة لانتشال عدد من دولها من الشلل الذي قوض فرص التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي على أيدي النظم التي أحرزت الاستقلال الوطني لهذه الدول في خمسينيات القرن الماضي. لكن تفاعلات ذلك الانتكاس كشفت أيضًا عن مدي هشاشة النخب السياسية غير الحاكمة، ومدي الهيمنة المرضية لجدول أعمال حقبة التحرر الوطني المنقضية منذ أكثر من نصف قرن على عقول هذه النخب، على حساب مهام الانعتاق الشامل، بما في ذلك النهوض الاقتصادي والتنمية الإنسانية والاندماج القومي والديمقراطية وحقوق الإنسان. ربما لم يتجل مدي الفشل الذي أصاب مشروع الدولة الوطنية في العالم العربي بهذا الوضوح من قبل.

هذه المعطيات في مجملها تضع الحركة الحقوقية في المنطقة في مأزق وجودي؛ الأمر الذي قد يتطلب منها إجراء مراجعة جادة لاستراتيجياتها ومهامها وأولوياتها. من المنطقي أن يستوجب الأمر كذلك إعادة تأمل مسيرتها خلال العقود الماضية.

لا تنطلق هذه المهمة الخاصة بالحركة الحقوقية في المنطقة العربية من التقييم السائد في كثير من التحليلات والدراسات الأكاديمية منذ نهاية القرن الماضي، والتي تجنح لتبني رؤية معممة لأفق حركة الدفاع عن حقوق الإنسان عالميًا، وذلك بناء على تقييمات ذات طبيعة تعميمية. ومن ثم تقترح هذه التحليلات تعديلات في استراتيجيات وأساليب عمل الحركة العالمية، لا صلة لها بنوعية التحديات التي تواجهها الحركة الحقوقية في العالم العربي (وربما مناطق أخري في العالم على الأرجح). رغم أن الكاتب يعتقد في عالمية قيم ومبادئ وحركة حقوق الإنسان؛ لكنه يعتقد أنه من العسف استخلاص أسباب للتراجع أو التقدم تنطلق من التعامل مع الحركة الحقوقية في العالم ككتلة واحدة، وإهمال تأثير التنوع الهائل في التحديات السياسية الثقافية والاجتماعية التي تواجه منظمات حقوق الإنسان –التي تختلف بين مناطق العالم– وانعكاسات هذا التنوع في صياغة تفاعلات مختلفة للمنظمات الحقوقية مع هذه البيئات المختلفة والمتغيرة عبر الزمان والمكان، وفي بلورة استراتيجياتها وأولوياتها وجداول أعمالها. يعتقد الكاتب أن أي تقييم جدي لحركة حقوق الإنسان يجب أن ينطلق من على الأرض في كل منطقة من العالم على حدة. ومن ثم؛ فإن سبل تطوير حركة حقوق الإنسان في مواجهة هذه التحديات –التي قد تكون مختلفة بشكل كلي جغرافيا– قد تتباين أو ربما تختلف كثيرًا من منطقة لأخري. وبالتأكيد فإنها ستختلف عن تلك التحديات التي تواجه المنظمات الحقوقية الدولية –أي تلك التي يشمل نطاق عملها الجغرافي كل مناطق العالم– والتي من الملاحظ أنها تشكل نقطة انطلاق التقييمات التعميمية المتداولة ذات الصلة.

يتبني الكاتب هذه القناعة، رغم تسليمه بوجود تحديات عامة مشتركة بين المنظمات الحقوقية الدولية وبين تلك التي ينحصر نشاطها في دولة واحدة أو إقليم جغرافي بعينه، ورغم استلهام كل هذه المنظمات للقيم والمبادئ العالمية ذاتها، ورغم استخدامها للآليات الدولية نفسها في الدفاع عن حقوق الإنسان، بل ورغم أيضا توقيعها بشكل متواتر على مواقف وبيانات مشتركة بينهم.

استنادًا لهذه الفرضية، فإن مصدر التمايز بين منظمات حقوق الإنسان في العالم –فيما يتصل بمستوي التوفيق في أداء مهماتها– لا يتوقف على مدي توفيقها في الاضطلاع بالمهام المشتركة أو المتشابهة في الدفاع عن حقوق الإنسان؛ بل يتصل في المحل الأول بتقييم مستوي إدراكها لخصوصية التحديات التي تواجهها في منطقتها، وبقدرتها على تطوير استراتيجيات فعالة للتعامل مع تلك التحديات الخاصة، واستخلاص أولويات سليمة لعملها بناء على ذلك. ربما ليس هناك مجال جغرافي أفضل من العالم العربي لاختبار هذه الفرضية؛ أي المنطقة الأكثر استعصاءً في العالم على التحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان.

انتهي مقال سابق للكاتب برواق عربي[5] هذا العام ـإلى أن الجذر الرئيسي لهذا الاستعصاء يكمن في «عمق ونفاد السلطوية العربية الواسع في الفضاء السياسي والثقافي العربي» مقارنة بالنظم السلطوية الأخرى في أفريقيا وأمريكا اللاتينية. وتعهد الكاتب باستكمال تلك المناقشة في مقال تال يخصصه لتحليل دور الفاعل الحقوقي من داخل المنطقة؟ أين أصاب؟ وأين فاقم من الاستعصاء؟ وما العمل؟

لا يخالج الكاتب شكًا في مدى تفاني المنظمات الحقوقية الدولية والعربية (منذ نشأة الأخيرة في منتصف سبعينيات القرن الماضي) في مخاطبة الحكومات العربية وانتقاد انتهاكاتها لحقوق الإنسان بحزم ومهنية، والسعي لتعبئة الرأي العام العربي والعالمي لممارسة الضغط من أجل وقف انتهاك الحقوق، ومخاطبة الآليات الدولية ذات الصلة لاتخاذ مواقف مناسبة، وتوعية شعوب المنطقة بحقوق الإنسان. غير أنه للأسف لم تنعكس تلك الجهود الهائلة والمتفانية إيجابيًا على وضعية حقوق الإنسان في المنطقة، بل إن هذه الوضعية تراجعت كثيرًا في أغلب دول المنطقة في العقد الأخير، رغم ميلاد عشرات المنظمات الحقوقية الجديدة في سياق الربيع العربي، ورغم أن انتهاكات حقوق الإنسان في كثير من الدول العربية صارت بندًا شبه دائم على جدول أعمال لجان الأمم المتحدة المتخصصة ومقرريها الخواص ومجلسها لحقوق الإنسان، فضلًا عن تخصيص لجان تحقيق و/أو خبراء دائمين لعدة سنوات لبعض هذه البلدان. لم يفلح الغزو العسكري الأمريكي للعراق عام 2003 في تحقيق التحسن المزعوم. ولا كذلك الخبراء متنوعي الاختصاصات الذين عينهم الأمين العام للأمم المتحدة أو مجلسها لحقوق الإنسان، وتعاقبوا في تولي مسئوليات حقوقية وسياسية وإنسانية متنوعة منذ أكثر من عقد من الزمان في سوريا وليبيا واليمن والعراق والسودان وفلسطين. بالطبع، بإمكان البعض المجادلة بأن الأمور كانت ستتدهور أكثر في غياب هؤلاء الخبراء.[6]

خلال نحو نصف قرن مضي لم تترك المنظمات الحقوقية العربية بابًا واحدًا لم تطرقه للآليات الدولية للأمم المتحدة (في جنيف ونيويورك)، أو للاتحاد الأوروبي (في بروكسل وعواصم أوروبية أخري واجتماعات الشراكة الأورو متوسطية مع دول جنوب وشرق المتوسط). أو اللجوء للمحاكم الدولية أو الوطنية في أوروبا ذات الاختصاص القضائي العالمي، أو في مخاطبة حكومات وبرلمانات كبري الديمقراطيات الغربية التي تدرج حقوق الإنسان والديمقراطية ضمن أولويات سياستها الخارجية، أو الاجتماع مع سفراءها المعتمدين في العواصم العربية. وكذلك مخاطبة حكومات الدول العربية وجامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي، ومؤسسات إنفاذ القانون والمجالس التشريعية (حيثما وحينما وجدت في دول عربية) بخصوص انتهاكات هذه الحكومات لحقوق مواطنيها. وهو أيضًا ما تمارسه كبري المنظمات الدولية الحقوقية يوميًا إزاء شتي دول العالم، بما في ذلك الدول العربية. فأين المشكلة؟ أخشى أن المشكلة تبدأ من هذه المهمة المشتركة، التي تعتبر منتهية بذاتها بالنسبة للمنظمات الدولية، لكنها تعتبر قاصرة بشكل جسيم بالنسبة لكثير من المنظمات الحقوقية العربية.

فمهمة المنظمات الحقوقية الدولية تقتصر على حث الحكومة المنتهكة على وقف الانتهاك لحقوق الإنسان ومحاسبة المسئولين عنه. ولأجل تعزيز قوة الدفع في هذا الاتجاه فإنها لا تتواني عن مخاطبة آليات ذات صلة في الأمم المتحدة في الوقت الذي تراه مناسبًا، وكذلك حكومات لها كلمة مسموعة لدي الحكومة المتهمة بانتهاك محدد لحقوق الإنسان. ولكن لا أحد يمكنه توقع أن تأخذ المنظمات الحقوقية الدولية على عاتقها أيضا مهام تحريك الرأي العام المحلي في كل دولة تنتهك حقوق مواطنيها من أجل الضغط على حكومتهم لوقف الانتهاك، خاصةً وأن ذلك يتطلب صياغة رسالة تراعي معطيات سياسية وثقافية خاصة تختلف من دولة لأخري (توجد في العالم أكثر من مائتي دولة، بينها 193 دولة عضو بالأمم المتحدة). لذا فإن المنظمات الحقوقية الدولية تعتبر بيانها الموجه للأطراف الدولية هو بمثابة بيان للرأي العام العالمي، وكذلك للرأي العام المحلي في الدولة موضع الانتهاك. في وقت لاحق، (وأحيانًا بشكل آني وفقًا لأهمية الحدث) تتولى وسائل الإعلام العالمية مهمة الترويج واسع الانتشار لمواقف كبري المنظمات الحقوقية الدولية، كالعفو الدولية وهيومان رايتس ووتش، بعد تحريرها من طابعها القانوني والتقني المفرط. ومن المرجح أن ينعكس ذلك تلقائيًا في وسائل إعلام واسعة الانتشار ناطقة بالعربية، مثل الجزيرة وبي بي سي وغيرها.

لا يرجع الخلل في أداء كثير من المنظمات الحقوقية العربية لهامشية نصيبها من اهتمام الإعلام العالمي، بل لهامشية موقع الرأي العام الوطني في أولوياتها واستراتيجياتها، وانعكاس ذلك بالتالي في توزيع الموارد البشرية والمالية المتاحة لهذا الغرض. هذا الاختلال في الأولويات نصادفه في منظمات حقوقية تدير عملها من داخل المنطقة، مثلما ينطبق على منظمات تدير عملها من خارجها. يبدو أن كثير من المنظمات الحقوقية العربية قد انزلقت بدرجات متفاوتة إلى الاستيراد الكسول لنموذج المنظمات الحقوقية الدولية وتكرار ما تمارسه، بما في ذلك إغفال المهمة المنوطة حصريًا بالمنظمات الحقوقية العربية، أي مخاطبة المجتمع في بلادها وتعبئة رأي عام ليشكل كتلة ضاغطة على سلطات بلاده من أجل وقف الانتهاكات.[7] جدير بالملاحظة أن هذا الدور المفتقد أو القاصر في نشاط المنظمات الحقوقية الوطنية هو القيمة النوعية المضافة الوحيدة المؤكدة لما تمارسه بالفعل المنظمات الحقوقية الدولية.

ألا تخاطب المنظمات الحقوقية العربية المجتمع في بلادها؟

الإجابة التقنية: نعم تخاطب هذه المنظمات المجتمع في بلادها. هل يتلقى المجتمع هذه الرسالة؟[8] لا أظن ذلك. بالفعل تعمم منظمات حقوق الإنسان ما يصدر عنها من بيانات للرأي العام في بلادها، لكن واقع الأمر أن أغلبية هذه البيانات يجري بالأساس إعدادها لمخاطبة الآليات الدولية لحقوق الإنسان و/أو الحكومات الأجنبية و/أو الحكومة العربية المتهمة بانتهاك حقوق الإنسان. من ثم فإن بناء ومنطق ولغة أغلبية هذه البيانات يخضع من الألف للياء لتلبية متطلبات مخاطبة هذه الأطراف، خاصة ما يتطلبه ذلك من اعتماد خطاب ذي طبيعة تقنية قانونية متخصصة. تعميم مثل هذا الخطاب للمجتمع لا يفيد، بل قد يضر أحيانًا، لأنه يحمل في طياته رسالة باللامبالاة بالمجتمع المخاطب (باستثناء دائرة محدودة من المشتغلين بالقانون والحقوقيين)، وقد يوحي بازدرائه، بصرف النظر عن نوايا أصحاب البيان. أي أن «الرسالة» في أفضل الأحوال لا تصل، وفي أسوأ الأحوال تصل الرسالة، لكنها قد تستنفر رد فعل سلبي.

هل المشكلة تتعلق بضرورة «تبسيط»[9] البيان/الرسالة لتناسب أغلبية المواطنين؟ المشكلة أن الرسالة غير مستساغة حتى بالنسبة للمواطن الذي يتمتع بحد أدنى أو عميق من الثقافة؛ لأنها مصممة من الألف للياء لمخاطبة أطراف أخرى تمامًا، أطراف تسلم مسبقًا بأن الإطار القانوني لحقوق الإنسان متفق عليه كنقطة انطلاق، بما في ذلك حكومات عربية تمارس افتراس حقوق مواطنيها منذ الساعات الأولي لصباح كل يوم. فمثل هذا البيانات/الرسائل تنطلق من الالتزامات القانونية والدستورية الزائفة المعلنة من هذه الحكومات، بصرف النظر عن لامبالاة أغلبية هذه الحكومات بهذه الالتزامات واستهزائها عمليًا بها.

غير أن ذلك قد لا يخلو أيضًا من آثار عكسية مضادة لصالح مرتكبي جرائم حقوق الإنسان، مثلما يقول فاتسلاف هاڤل[10] (الحقوقي التشيكي، الذي صار أول رئيس لتشيكوسلوفاكيا بعد تحررها من الحكم الشيوعي التوليتاري) الذي حذر من أن ذلك الخطاب القانوني هو نمط من «النفاق» يثير الأوهام لدي المواطنين حول احترام النظم الاستبدادية للقانون والدستور. من ثم –وفقًا لهاڤل– من المحتمل أن يصب في صالح هذه النظم وليس في صالح إحكام الحصار حولها –كما يظن الحقوقيون– بل قد يضيف عقبات أخرى تحول دون تعزيز ضغط الرأي العام على هذه النظم الاستبدادية.

بهذا المعني قد يخشى أن يوصف هذا النمط من الخطاب الحقوقي بأنه «متواطئ»!، فهو يُسقط المجتمع من اعتباره، وعندما يخاطبه فإنه يستخدم نمطًا منفرًا يناسب مخاطبة طائفة مغلقة تستطيع تفكيك الشفرات التقنية والقانونية للخطاب الحقوقي. علاوة على ذلك؛ فقد تكون الرسالة الوحيدة التي يمكن للرأي العام استخلاصها من الخطاب هو أنه –خلافًا لنوايا أصحابه– يبث الأوهام عن استعداد هؤلاء الحكام المستبدين –الذين اقترفوا كل الجرائم التي يعددها ذلك الخطاب– للاحتكام –بمجرد لفت نظرهم– للمواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان وللقانون والدستور. هذا النمط من الخطاب والرسائل غير المقصودة لا يضر فحسب، بل ربما يساهم دون قصد في تعزيز «ستار حديدي» جرى تشييده وتعزيزه ببراعة منذ السنوات الأولي لإحراز الاستقلال الوطني للدول العربية في خمسينيات القرن الماضي، وذلك بهدف تعزيز النظم الاستبدادية الوليدة حينذاك، لكنه لا يزال منتصبًا في مكانه. فهل يدرك الحقوقيون ماذا يدور في ذهن الرأي العام المغيب خلف هذا الستار؟

ستار حديدي عربي

بعد عام واحد على انتصار الثورة البلشفية في روسيا (أكتوبر 1917) بدأ الحديث لأول مرة عن ستار حديدي (غير عسكري). يتولى الستار الحديدي حماية الثورة عبر حجب الأفكار المعارضة وتكثيف الدعاية السياسية المباشرة وفنون الحرب النفسية ونشر ثقافة الخوف وتجذيرها، بالتضافر مع القمع العنيف للمختلفين حتى لو لم ينتموا لجماعات سياسية معارضة. وشيطنة الدول الديمقراطية، وحجب عن العالم وعن الروس أنفسهم الفظائع التي كان يجري ارتكابها –وبشكل أكثر فظاعة بعد تولي جوزيف ستالين الحكم– بما في ذلك ضد بعض أبرز «الرفاق». في هذا السياق تعرض المفكرين والمثقفين والفنانين لعملية تضييق واسعة النطاق لم تنحسر إلا بوفاة ستالين عام 1953.[11] ذاع مصطلح «الستار الحديدي» بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتمدد الدولة السوفيتية لتتحول لمعسكر يضم عددًا من دول شرق ووسط أوروبا –التي سيطر عليها الجيش الروسي بعد هزيمة ألمانيا النازية على أيدي الحلفاء– ويفصلها «ستار حديدي» متمدد عن دول غرب وشمال أوروبا الديمقراطية، وذلك حتى زمن انهيار المعسكر الشيوعي عام 1989. وبينما انهار الستار الحديدي السوفييتي بعد نحو اثنين وسبعين عامًا؛ لم يزل «الستار الحديدي العربي» راسخًا في مكانه.

شراسة القمع لا تكفي وحدها لتفسير استمرار الستار الحديدي السوفيتي أو العربي لنحو سبعين عامًا لكل منهما. توجد عوامل مشتركة وأخري مختلفة. هناك ثلاثة عوامل رئيسية مشتركة ومترابطة أطالت عمر الستارين الحديديين:

  1. تأسيس عقد اجتماعي قائم على مبادلة الخبز بالحرية.
  2. النجاح في تسويق صيغة أيدولوجية ترتكز على صراعات الهوية «نحن وهم».
  3. التمكن من إقناع جيش من صناع الرأي العام (مفكرين وأدباء وأساتذة جامعات وسياسيين وشعراء وفنانين وإعلاميين) بتبني هذه الصيغة الهوياتية وتسويقها للجمهور.

العامل الأخير ينطوي على أخبار غير سارة للحركة الحقوقية في العالم العربي. فهو مؤشر على مدى جسامة التحدي الذي تواجهه في مهمتها المحورية لمخاطبة الرأي العام. فهذه المهمة لا تتمحور حول مخاطبة عامة الناس وتبسيط الخطاب الحقوقي الموجه إليهم، بل حول مخاطبة من يمارسون، يوميًا، دورًا حيويًا في تشكيل (وأحيانًا تزييف) وعي وعقول هؤلاء المواطنين.

في منتصف خمسينيات القرن الماضي بدأ تشييد الستار الحديدي العربي على أيدي النظم التي حققت الاستقلال الوطني وحررت بلادها من الاحتلال الأجنبي، قبل ذلك التاريخ كانت شعوب المنطقة تخوض معارك التحرر من الاحتلال الاستعماري الغربي، والتي كانت في جوهرها معارك من أجل التمكين السياسي للمجتمع في مواجهة غاصب أجنبي –باستثناء الجزائر التي خاضت حرب تحرير دامية – بما يتطلبه ذلك من انتزاع «أسلحة» تنظيمية مستقلة عن إرادة الاحتلال وأعوانه، كالأحزاب السياسية والنقابات المهنية والعمالية وجمعيات أهلية وروابط طلابية وفنية وصحافة. جري ذلك الكفاح التاريخي الهائل بالتوازي مع النهل من منابع التقدم العلمي والثقافي في الغرب، فرديًا وجماعيًا (عبر إيفاد البعثات الدراسية بشكل متواتر)، واطلاع المجتمع المحلي بانتظام على أحدث التطورات الثقافية والفكرية والعلمية في الغرب. كانت حقبة انفتاح سياسي وفكري وثقافي وفني واجتماعي على العالم بشكل منتج رغم الاحتلال الأجنبي، بعد غيبوبة طويلة لعدة قرون في أسر ظلامية الإمبراطورية العثمانية. حينذاك، عرف القادة السياسيون والاجتماعيون كيف يميزون بين متطلبات تشديد الكفاح السياسي المباشر ضد الاحتلال الأوروبي وبين متطلبات التطور السياسي والاجتماعي والثقافي في ظل هذا الكفاح ومن أجله، بل أيضًا من أجل متطلبات مرحلة ما بعد الاستقلال. أنتج هذا التفاعل الخلاق عددًا من أبرز قادة التطور الاجتماعي والسياسي والفكري والعلمي في المنطقة. مازالت بصمات هؤلاء الرواد بارزة في القرن الحادي والعشرين. كانوا يكرهون الاحتلال والاستعمار الغربي، لكنهم لم يسقطوا في شرك كراهية الغرب «غربفوبيا» كحضارة ومصدر للإشعاع الثقافي والعلمي وميلاد النظام الديمقراطي في العالم. بل إن طه حسين –أهم مفكر مصري في القرن العشرين (وربما لقرون قادمة)– كرس أحد أهم مساهماته الفكرية للبرهنة على أن «العقل المصري غير مخالف في جوهره وطبيعته للعقل الأوروبي»، وأن الواجب الوطني الصحيح بعد الاستقلال يتطلب «حين نشرع القوانين وننشئ المدارس وننشر العلم وننظم الاقتصاد ونستعير النظم الديمقراطية من أوروبا إنما نسعى إلى شيء واحد هو تحقيق المساواة التي هي حق طبيعي لأبناء الوطن الواحد جميعًا». يشدد حسين علي أن علاقة مصر بأوروبا يجب أن تتسم بعلاقة الأنداد ببعضهم، لا التبعية، موضحًا «يجب أن نقر في أنفسنا أن نظام المساواة في الحقوق والواجبات، هذا الذي نريد أن نقره في حياتنا الداخلية، هو بعينه النظام الذي يجب أن نقره في حياتنا الخارجية وفيما بيننا وبين أوروبا من الصلات». أي «أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادًا، ونكون لهم شركاء في الحضارة».[12] في ذلك الكتاب «مستقبل الثقافة في مصر» تتجسد بعض ملامح المشروع النهضوي الطموح والندي مع الغرب لمرحلة ما بعد زوال الاحتلال الأجنبي. في عام 2024، بعد ستة وثمانين عامًا من صدور هذا الكتاب، ستوقع حكومتي مصر وتونس اتفاقيات تسول مخجلة مع الاتحاد الأوروبي، تتلقيان بمقتضاها منحًا مالية لمنع مواطنيهما –الذين فشل حكامهم، رغم زوال الاحتلال الأجنبي قبل نصف قرن، في توفير الحد الأدنى من سبل الحياة لهم في بلادهم– من التسلل «لمراكب الموت» والمخاطرة بحياتهم من أجل فرصة محتملة (إذا لم يغرقوا في البحر المتوسط) للانتقال للعيش في مجتمعات قد لا يتفقون مع تقييم طه حسين الإيجابي لها، بل ربما يعتبرونها مجتمعات فاسقة ومعادية لبلادهم وكارهة لإسلامهم. جدير بالذكر أن تراكم الفشل السياسي والاقتصادي في الدولتين أدى لابتلاع الديون للناتج المحلي الإجمالي، إذ بلغت نسبة الديون عام 2023 في مصر أكثر من خمسة وتسعين بالمئة، وفي تونس ثمانين بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.[13]

كان يفترض أن يزدهر توجه طه حسين –الخلاق والندي تجاه الغرب– بصورة أعظم بعد زوال الاحتلال الاستعماري الغربي، لكن النظم السياسية التي أحرزت الاستقلال كانت لها استراتيجيات أخرى مازال العالم العربي يدفع ثمنًا باهظًا لها. المحور المشترك لهذه الاستراتيجيات هو حصر مهمات التحرر الوطني بجلاء المحتل الأجنبي –دون تحرير الشعوب وإطلاق طاقاتها– بل استثمار هذا الإنجاز في استعبادها ومنع تحررها الشامل السياسي والاقتصادي والثقافي، وطمس مهمات التمكين الاقتصادي والمجتمعي من المسألة الوطنية، التي جرى اختزالها في جدول أعمال وحيد ينحصر بطابع خارجي، أدواته الوحيدة المؤهلة هي جيش ومخابرات. الأمر الذي يصب لصالح تمكين النخب الحاكمة «الوطنية» (مدنية و/أو عسكرية) من احتكار الحكم إلى مالا نهاية. لذلك الغرض تحولت ملاحقة من صنفوهم من شتي تيارات اليمين واليسار «بأعوان الاستعمار» إلى مهمة أبدية للنظم التي توارثت الحكم، حتى بعد رحيل الاستعمار، لعدة عقود متواصلة.

ليس هناك مرجع أفضل لإدراك جوهر هذه الاستراتيجية من تحليل توجهات الأب الروحي والسياسي «للتحرر الوطني» القاصر في مصر، ومصدر الإلهام للنظم التي سارت على خطاه في العالم العربي منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين؛ أعني جمال عبد الناصر. يلاحظ الأكاديمي المصري شريف يونس في تحليله المرجعي عن الأيديولوجية الناصرية (750 صفحة)[14] الصلة التي لا تنفصم بين تخليد الزعيم في مقعد الحكم والتمحور حول مواجهات خارجية دائمة. الأمر الذي يساعد على إزاحة المسئولية عن الكوارث السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد عن عاتق الحكام، وبالتالي لا تستدعي المحكومين لمحاسبتهم، بل للاصطفاف الوطني الأبدي معهم في مواجهة أعداء متربصين لا يرحلون أبدًا. لذا تحولت المهمة العملية لملاحقة ما يُسمي بعملاء الاستعمار، والموقوتة برحيله، لركيزة أيديولوجية دائمة. فـ«التمحور حول العداء للخارج كان مبرر تصفية القوي الداخلية، بصفتها أعوان الاستعمار. وكان الحفاظ على هذه التصفية مرتبطًا بالزعامة المتحورة حول المواجهات الخارجية»؛ لذا «كرست الانتصارات الأولي أيديولوجيا الهوية المتحورة حول العداء للغرب»،[15] الأمر الذي ساعد على تيسير الاستئصال المنهجي للسياسة وللفاعلين السياسيين والمدنيين من كافة الاتجاهات السياسية والأيديولوجية (إسلاميين وقوميين وماركسيين وليبراليين)، وحصر جدول أعمال المجتمع بمواجهة الاستعمار و«أعوانه» في الداخل، وبث ثقافة الخوف، وإحكام عزل الشعوب عن النداءات العالمية والمحلية للتحول للديمقراطية (خاصة أنها لا تصدر إلا من دول الغرب)، وتسهيل قمع الأفراد والجماعات التي تنادي بالديمقراطية. لقد تحول الإقصاء العنيف لشركاء الكفاح من أجل التحرر الوطني من اليمين واليسار إلى عنوان دامي لعدة عقود تالية، من مغرب «سنوات الرصاص» إلى قمع الأغلبية الشيعية في البحرين التي كانت تشكل بتنوع رموزها السياسية العمود الفقري لحركة الاستقلال الوطني.

ساعد علي تيسير مهمة هذا التوجه الاستئصالي ضعف التوجه الديمقراطي بين بعض الجماعات المكافحة من أجل التحرر الوطني قبل الاستقلال. فباستثناء التيار الليبرالي الذي اعتنق «الوطنية الدستورية»،[16] وجد التوجه الاستبدادي الصاعد أرضية مشتركة مع جماعات قومية ويسارية ودينية. يقرب بين هذه الأطراف «ميول سلطوية»[17] مختلفة المنابع، يجمع بينها الترويج «لمستبد عادل» ما. قد يكون عمر بن الخطاب في مخيلة بعضها، وجوزيف ستالين أو هتلر[18] في مخيلة جماعات أخرى. جدير بالملاحظة أنه في عدة دول عربية تولت «الجيوش كأقليات مهنية وتآمرية إنفاذ الجانب الاستبدادي من أفكار المثقفين القوميين»[19] وتقديم نموذج حي للمستبد العادل.

إلا أن إدمان الحكام الجدد لمنطق إقصاء واستئصال المعارضين كان يتطلب تجسيم ذلك «العدو» في أذهان الشعوب بصورة دائمة، رغم رحيل الاحتلال الاستعماري (باستثناء فلسطين)، ورغم علاقات التبعية السياسية والأمنية التي نسجها بعضهم مع الدولة المستعمرة السابقة و/أو مع بعض كبريات دول الغرب. لذا جرى التعامل مع الاستعمار بوصفه «خطيئة أصلية» وفقًا للكاتب اللبناني حازم صاغية.[20] والخطيئة الأصلية بطبيعتها لا تنمحي أبدًا، خاصة وأن استمرار هيمنة شبح «الاستعمار» على المشهد السياسي والثقافي والديني في العالم العربي قد يكون العلة الوحيدة[21] لوجود أطراف بعينها في هذا المشهد. هذه الأطراف لا تقتصر على النخب الحاكمة، بل تتضمن أيضًا جماعات مؤثرة ونخبًا سياسية وثقافية ودينية وميلشيات، بينها خلافات حول قضايا أساسية أيدولوجية وسياسية وهوياتية، لكنها تتوافق على أولوية جدول أعمال خارجي، تتواجد «كراهية الغرب» في بؤرته، باعتبارها تجسيد لقبح الاستعمار (الذي رحل) ولامتداده المتواطئ مع الاستعمار الاستيطاني لفلسطين وغزو العراق. ورغم أن خطاب «نحن أو الغرب» قد لعب دورًا حيويًا في تجذير التوجه الأصولي الإسلامي في المجتمعات العربية؛ إلا أننا سنلاحظ في المقابل أن أعمال الاضطهاد الديني والجرائم ضد الإنسانية التي تُرتكب منذ سنوات ضد ملايين المسلمين في الصين وميانمار والهند لا تستوقف الحكام ولا النخب السياسية والدينية في العالم العربي.

صار الخطاب الهجائي للغرب الذي يصدر عن حكام وبعض رموز النخب السياسية بمثابة ترويج لوطنية هوياتية معلقة في الفراغ، بعدما فشلت في التجسيد الاقتصادي  للاستقلال الذي حصلت عليه قبل نصف قرن. «ظل الدليل الأبرز على الاستقلال هجاء الاستعمار الذي انقضي والتهديد بنزعه وهو منزوع»،[22] حتى صار أشبه بطقوس تعويض نفسي جماعي عن الفشل. بل يحذر صاغية من أن «المجتمعات العربية تفقد، ليس قدرتها على تنظيم نفسها فحسب، بل وقدرتها على إنتاج ثقافة ومعرفة وعلى النظر إلى نفسها ونقد نفسها…. فالشوفينية تريح العقل وتجنبه التفكير والنقد».[23]

قبل حرب الإبادة في غزة التي اندلعت في أكتوبر الماضي، كان ارتكاب إسرائيل أعمال قمع وحشي أو جرائم حرب في الضفة وغزة مناسبة لانطلاق أعمال الاحتجاج الشعبي في العالم العربي، «لطالما اعتبرت الأنظمة السلطوية أن الاحتجاجات المؤيّدة لفلسطين في مصلحتها؛ إذ وفّرت لها صمّام أمان فعّال لتوجيه استياء السكّان حيال الأوضاع الاقتصادية الصعبة وانعدام الحرّيات نحو التهديدات الخارجية مثل التدخّل الغربي والإمبريالية والصهيونية، وسمحت لها كذلك بتصوير نفسها على أنّها قومية عربية مناهضة لما أطّرته كهيمنة غربية».[24] لكن الهشاشة المتزايدة للدولة في العالم العربي لم تعد تسمح بتلك الاحتجاجات، خشية أن تنقلب ضدها، ولا تقتصر على إدانة المعايير المزدوجة للغرب.

الملاحظ أن الخطاب التعبوي يتجاوز إدانة التواطؤ ليستهدف الغرب ذاته تحت عناوين أخرى، كمنارة للديمقراطية، الأمر الذي يقود الكاتب التونسي زياد كريشان[25] للتساؤل مستنكرًا؛ هل نلقي الديمقراطية الليبرالية في «مزبلة التاريخ» باعتبارها «إرثًا استعماريًا» لأنها وليدة الحضارة الغربية؟

لا تقتصر بالطبع هذه الرسالة السلبية على الإعلام الرسمي، بل تمتد إلى مجالات التعليم والثقافة والمؤسسات الدينية والمساجد ومنابر لمعارضات سياسية ودينية.

عندما كشفت الشهور الأولى للربيع العربي بشكل ملموس عن انحياز الإدارة الأمريكية وعدة دول غربية أخرى لجانب تلك الانتفاضات، واستعدادها للتضحية بتحالفات مع بعض النظم الحاكمة التسلطية العربية، فإن ذلك لم يؤد للانتقاص من الغربفوبيا السائدة.[26] بينما أدرك على الفور المجلس الأعلى للقوات المسلحة –الذي تولي الحكم في مصر بعد تنحي الرئيس حسني مبارك عقب انتفاضة الخامس والعشرين من يناير 2011– التحول الكبير في الموقف الأمريكي، لذا بادر باقتحام مقار مؤسسات أمريكية معنية بالديمقراطية بقوات عسكرية للمرة الأولي في تاريخ البلاد، وأجرت النيابة تحقيقات مع المسئولين فيها في اتهامات ملفقة في قضية لم تغلق إلا بعد عدة سنوات. لكن ذلك لم يغير من نظرة الرأي العام السلبية لأمريكا، بل أضاف للبعض مبررات سلبية جديدة.

يظن مايكل لينش الأكاديمي المتخصص في شئون العالم العربي أن العداء لأمريكا في أوساط الرأي العام العربي يستند لتحيز ذهني مترسخ، حتى أنه صار من الصعوبة بمكان للبعض أن يروا غير ما يريدوا رؤيته، أي ما يتسق مع تحيزهم الذهني المسبق.[27] بالطبع لا يقصد لينش ومحللين آخرين عرب وغربيين أن الحكومة الأمريكية لم ترتكب جرائم سياسية كبري تدينها (وما تزال)، خاصة مع فلسطين والعراق وعدة دول أخري غير عربية، لكن هناك فارق كبير بين إدانة مواقف بعينها (كان الشعب الأمريكي أقوى من أدانها)، وبين الكراهية، مقابل إدمان التسامح الضمني مع العجز والفشل الشامل المتواصل لعقود ومع المسئولين المباشرين عنه منذ رحيل الاحتلال الأجنبي.

رحل الاستعمار منذ أكثر من نصف قرن، لكنه لم يرحل أبدًا من الذهنية الاعتذارية الجماعية التي سهر على تنميتها الخطاب الأيديولوجي للديكتاتور المؤسس في كل دولة وإعلاميوه، ولم يتراجع موقعه المركزي في الخطاب السياسي والإعلامي والثقافي (الرسمي وغير الرسمي) السائد في العالم العربي. ظل الاستعمار شبحًا فاعلًا يمكن استحضاره كل يوم من خلال مترادفات متنوعة (الاستعمار الجديد، الإمبريالية، الغرب، النيوليبرالية، الرأسمالية المتوحشة، العولمة المتوحشة، التبعية، التطور اللامتكافئ، حروب الجيل الرابع، تخليق الإرهاب، كراهية الإسلام والإسلاموفوبيا، الاستشراق، الإباحية، الشذوذ الجنسي، العنصرية، الرجل الأبيض،[28]…الخ) مما ييسر تواصل التجييش لحماية مجتمعات مما يجري تصويره كاستهداف قيمي وديني من خارجها. الأمر الذي يعفي المجتمع من أعباء محاسبة من «يحموا قيمه ودينه» وييسر انتهاك حقوق الإنسان، ومطاردة المدافعين عنها أفرادًا وجماعات، باعتبارهم خونة وعملاء لهذا «الوحش» الغربي. فـ«النظم التسلطية التي تدعي مناهضة الهيمنة الغربية تعتبر أن الحريات الفردية معاول هدم لمجتمعاتها لاختراقها وتكريس التبعية الثقافية للغرب. هكذا تعتبر هذه النظم أن حرية الضمير والتعبير وحرمة الحياة الخاصة وحق اختيار شريك الحياة والاختيارات الجنسية.. إنما هي استراتيجيات غربية لمواصلة التحكم في المجتمعات المهيمن عليها».[29]

منذ الاستقلال الوطني في خمسينيات القرن الماضي، شكّل التخوين سلاحًا فعالًا معنويًا وأمنيًا وقضائيًا. مازال هذا السلاح الاستئصالي للخصوم السياسيين أداة فعالة في أيدي الحكام المتعاقبين في العالم العربي، مثلما تلاحظ الباحثة التونسية ملاك الأكحل: من الرئيس المحرر الحبيب بورقيبة إلى آخرهم: الرئيس قيس سعيد.[30]

الأسوأ؛ أن هذا الخطاب الكارثي يشكل مرتكزًا لتيار سياسي متعدد الجذور الأيديولوجية، هو أفضل سند للطغاة في العالم العربي. فهو داعم لمجازر بشار الأسد ضد الشعب السوري، باعتباره يواجه مؤامرة استعمارية غربية. علي أكوام من هذا الخطاب المتهافت ومئات آلاف الجثث شيد عدد آخر من زعماء التحرر الوطني مجد عارهم القومي، بصب نيران مدافع جيوشهم الثقيلة وقنابل طائراتهم والغازات الكيمائية السامة على شعوبهم. أبرز هؤلاء الزعماء الرئيس السوري حافظ الأسد (الأب) والرئيس العراقي صدام حسين. الضحايا المستهدفين لم يكونوا إسرائيليين أو غربيين، وإنما سوريين وعراقيين: مسلمين سنة وشيعة وأكراد. لا يقل إيلامًا للنفس والعقل أن تضم قائمة التواطؤ على هذه الجرائم، وتمجيد مرتكبها الأعظم صدام حسين علنًا، عددًا من أبرز المفكرين والشعراء والكتاب والصحفيين –بل وحقوقيين بارزين– في العالم العربي من المحيط للخليج.[31] ما يعد مؤشرًا إضافيًا على مدى جسامة المهمة التي تنتظر الحركة الحقوقية، وأيضًا استحالة اقتصارها علي مخاطبة الحكومات، عربية أم غير عربية.

استعمار «وطني»

رحل الاستعمار ونهض مكانه من المحيط للخليج أنظمة استبدادية، أو ما يسميه الأكاديمي العراقي فالح عبد الجبار «نمط الدولة التوليتاري الطرفي»،[32] «الذي نشأت مقدماته بالتدريج في مصر منذ الستينيات وانتشرت صيغه في معظم الجمهوريات العربية، بصيغ محلية معدلة».[33] يلخص عبد الجبار مسيرة العراق الحزينة في فقرة واحدة مكثفة:

اختار النظام السياسات الاجتماعية والثقافية والسياسية التدميرية: إقصاء كافة الجماعات السياسية اليسارية واليمينية والوسطية، وحرمانها من الحقوق السياسية؛ شخصنة وقبلنة البنى السياسية. الاستيعاب القسري للكرد وسواهم من المجموعات الإثنية غير العربية، اعتداءات غاشمة على أصحاب المقامات الدينية الشيعية، ونفي قطاعات من الشيعة إجمالًا، بحيث بذرت بذور تفكيك الأمة. أخيرًا سقوط النظام التوليتاري سقوطًا مميتا في فخ المغامرات الإقليمية والتوسعية: أولًا إيران (1980 – 1988)، ثم الكويت (1990 – 1991).[34]

لا يختلف المشهد في مصر؛ إذ «لم يأت الضباط معهم بقوة سياسية أو اجتماعية جديدة إلي السلطة، بل أتوا معهم فقط بالمبدأ، بالنداء الذي يطالب بإخلاء الساحة لكي تحل أحلام المجد وتتحقق، بشرط أن يصمت الجميع».[35] فلم يكن لنظام التحرر الوطني في مصر برنامج «سوي الهيمنة علي ميراث الدولة التي أسستها ثورة 1919»،[36] أي تلك الثورة التي أطلقت شرارة التحرر الوطني والديمقراطي في مصر. ويستطرد يونس بكلمات تكاد تتطابق مع وصف عبد الجبار لما جرى في العراق: «لقد أطبق نظام يوليو على هذه الدولة من أعلى، ببرنامج يتلخص في تقييد هذه المؤسسات وإخضاعها»،[37] أي إخضاع تلك المؤسسات التي قادت، لعدة عقود، الكفاح المرير من أجل التحرر الوطني والديمقراطي في مصر وبناء دولة ما قبل الاستقلال.

أدت التطورات التراكمية في العراق إلى «نشوء مجتمع حضري جماهيري مفتت إلى ذرات، ومفرغ من مؤسسات الدفاع عن الذات».[38] بصياغات أخري مشابهة يقول يونس أنه قد جري في مصر إحلال «فكرة الأمة (أي السكان ككيان ثقافي) محل فكرة الشعب (أي الجماعة السياسية) لتصبح هي بذاتها جماعة سياسية افتراضية قائمة على الهوية، تطالب بتوجيه المجال السياسي بمجمله». لذا فإن يونس يبدو محقًا في وصف الوعد الغامض بالتحرر بأنه في حقيقته «… كان بمثابة صك استسلام السكان وتسليم مقدراتهم السياسية لمن كانت لديهم الجرأة، لا القدرة، على الوعد بالإنقاذ».[39] إنها «الدولة السلطانية المحدثة» بتعبير الكاتب السوري ياسين الحاج صالح.[40]

وفي سبيل تحقيق هدف استئصال السياسة ورفاق الكفاح الوطني، اتبعت نظم «التحرر الوطني» أبشع وسائل الاستبداد والقهر ضد كل أشكال التنظيم السياسي والمدني المستقل (التي كان قد جري انتزاعها بثمن باهظ رغم أنف المحتل الأجنبي)، واستبدلتها «بمؤسسات لا معني لوجودها إلا حراسة الفراغ المخصص لهذا الاسم»[41] يقصد الشعب! من ثم جري التنكيل المنظم بحقوق المواطنين كأفراد (محاكمات جائرة وقتل ونفي واختفاء قسري وتطهير عرقي وعمليات إبادة وتعذيب وتشريد ومنع من العمل والسفر وغيرها) فاقت في وحشيتها جرائم الاحتلال الأجنبي (باستثناء الاحتلال الفرنسي في الجزائر). جرى ذلك في بعض الدول العربية بالاستعانة بخبراء من ألمانيا النازية (مصر مثالًا)، و/أو من دولة الاحتلال السابقة (الأردن والبحرين مثالًا). في مصر بدأ قادة الضباط «الأحرار» مشاوراتهم مع سفارة دولة الاحتلال: بريطانيا للاستعانة بخبرتها في مكافحة الشيوعيين في الحادي والثلاثين من يوليو 1952،[42] أي بعد ثمانية أيام فقط من إعلان «ثورة التحرر الوطني»! لم يكن الهدف الرئيسي للقمع الوحشي هو الحصول على معلومات عن خصوم سياسيين، بقدر ما كان إخلاء الساحة تمامًا من أي لاعب سياسي آخر حتى ولو كان حليفًا ضد الاحتلال ومناضلًا ومن أجل التحرر الوطني. يقول سجين شيوعي مصري «لم تكن أمام أجهزة القمع حينذاك مشكلة انتزاع اعترافات من الشيوعيين المصريين، فلم يكن للشيوعيين أسرار يخفونها على حلفائهم في الدولة الناصرية». رغم ذلك كان التعذيب «أشد قسوة وهمجية، كان يهدف إلى تحطيم اللياقة الإنسانية للخصوم السياسيين. إنه ذلك النوع من التعذيب الذي يجري بأعصاب باردة وعلى فترات زمنية طويلة بهدف تحطيم الطاقات الفكرية والروحية للإنسان، عن طريق التحطيم البطيء المحسوب، والضغط الدائم المرهق على الوعاء الجسدي».[43] فالهدف هو استئصال السياسة من المجتمع وتكفير السياسيين بها وإخلاء الساحة تماما «للمحررين الجدد». لاحقًا، سيستخدم كاتب ماركسي سوري تعبيرًا يكاد يكون مطابقًا عندما يحلل مدي وحشية نظام التحرر الوطني في بلده ونزعته الاستئصالية: «التلذذ المجنون بالفظاعة».[44] بينما يذكرنا كاتب عراقي بأحد أبشع مبتكرات نظام صدام حسين؛ بتخصيص موظفين مدربين على اغتصاب النساء. تعرف أحدهم بطاقة عمله الرسمية المصاغة بلغة مفرطة في طابعها الرسمي! «المهنة: مقاتل في الجيش الشعبي. نشاطه: الاعتداء علي شرف النساء».[45] مجرد وسائل متنوعة في بربريتها من إفراز عقليات شيطانية لتحقيق ذات الهدف الاستئصالي: أي إجبار أطراف ذات وزن أدبي في المجتمع العراقي، ثم الكويتي لاحقًا (ينتمي لها هؤلاء النساء)، على الخروج من المجال السياسي. ينقل عن جمال عبد الناصر –الرمز التاريخي لتحرر مصر الوطني– توعده لزعيم وطني تاريخي من زمن ما قبل ثورة الضباط الأحرار: «لقد علمني السياسة، لكني سأجعله يكف عن ممارسة السياسة».[46] قد تصلح هذه العبارة عنوانًا عريضًا لحقبة «التحرر الوطني»، حقبة التحرير الدامي للمنطقة ممن ناضلوا من أجل تحررها الوطني، وتحريرها من المنطق التحرري ذاته. لكن كما تنبهنا عشرات الكتب التي حوت مذكرات الإخوان المسلمين والشيوعيين –مثل سعد زهران وآخرين– فإن عملية إخراج رفاق الكفاح من أجل التحرر الوطني من المجال السياسي لم تنحصر في قسوة التشريد والاعتقال لسنوات عديدة والتعذيب، بل امتدت للقتل في السجون بأبشع الوسائل وأكثرها بربرية، كالخنق في الماء والإذابة في الأحماض. بعد عام واحد على أبشع هزيمة للجيش المصري في التاريخ الحديث، والتدمير الكامل لسلاح الطيران في ثلاث ساعات، وبينما مازال الجيش الإسرائيلي يحتل سيناء، لم يجد جمال عبد الناصر وسيلة لإقناع طلاب الجامعات المصرية المحتجين على الهزيمة في نوفمبر 1968 «بالكف عن ممارسة السياسة» سوى بإطلاق النار عليهم بالرشاشات المثبتة في طائرات هيلوكوبتر، لولا اعتراض قائد القوات الجوية حينذاك.[47]

بعد نحو عقدين من الزمان من التحرر من المحتل الأجنبي، أدي الحصاد المر لهذه الحقبة بالأكاديمي السوري برهان غليون، ثم عدد متزايد من الأكاديميين والكتاب العرب، لاعتبار هذه النظم بمثابة «استعمار داخلي»[48] حل محل الأجنبي. فجوهر الاستعمار (خارجيًا أو داخليًا) هو «فرض البنى الحديثة من أعلى بشكل استبدادي».[49] فيما وصفها آخرون بالدولة الإرهابية «الدولة الغول… تفتك بمحكوميها بوحشية يمتنع تسويغها على أرضية ما تواجهه هذه الدولة من خصوم داخليين. كان في سويات التنكيل بالمجتمعات المحكومة ما يتجاوز تحدي الروابط الإنسانية والوطنية إلى ما يشبه تلذذًا مجنونًا بالفظاعة، وما يتجاوز معاقبة خصوم سياسيين إلى إقامة صناعة إرهابية كاملة وواسعة النطاق، تتفنن في الانتقام وترويع المحكومين كلهم».[50]

يلفت الأكاديمي المصري محمد السيد سعيد النظر إلى أن مقولة الاستعمار الداخلي ليست جديدة، وإنما يتبناها عدد من علماء الاجتماع.[51] مرجعًا نشأتها إلى «شعور عات بامتلاك قوة غاشمة لم تعتد أن تكون مسئولة أو موضع مراجعة دائمة من مؤسسات المجتمع أو الدولة».[52] لكن تحول هذه النزعة التسلطية إلى استعمار داخلي «يبدأ في اليوم الذي تتمكن فيه طبقة تسيطر على أدوات القوة من اجتياح وتهميش وتعجيز سلطة المجتمع».[53] ويشير سعيد إلي أن «عقيدة امتلاك الدولة» شائعة في مصر ضمن «صفوف طبقة العسكريين وضباط البوليس»، وأن هذا الشيوع بحد ذاته «ينفي ويقتلع من الجذور مبدأ المواطنة».

الحقيقة المريرة الساطعة بعد مرور نحو سبعة عقود على جلاء الاحتلال الأجنبي هو فشل مشروع بناء الدولة الوطنية. تُرجع الدراسات الأكاديمية فشل الدول إلى ثلاثة عوامل أساسية،[54] سنلاحظ أنها تنطبق على أغلبية الدول العربية بدرجات متفاوتة (العامل الأول منها لا ينطبق على بعض الدول المصدرة للنفط في منطقة الخليج):

  1. ضعف القدرة أو تلاشيها على تلبية حاجات المواطنين الأساسية والخدمات العامة.
  2. انهيار القانون والنظام، إما بسبب استخدام مؤسسات الدولة لقمع مواطنيها وإرهابهم بشكل مفرط، أو فقدان الدولة لاحتكار شرعية استخدام العنف وعدم قدرتها على حماية مواطنيها.
  3. فقدان المصداقية أمام المجتمع الدولي.

أحد أبرز عوامل فشل مشروع الدولة الوطنية تكمن في عدم تثمين نظم الاستقلال الوطني في العالم العربي للأهمية المركزية لتحقيق الاندماج القومي بين مختلف الأعراق والطوائف الدينية في الدولة، وأن ذلك لا يمكن أن يتحقق بالقسر والقهر، بل يجب أن يجري في سياق عملية حوار مجتمعي استراتيجي بعيد المدي. لكن ذلك لم يكن من خصائص أغلبية الحكام الذين أنجزوا استقلالًا وطنيًا هشًا لا يرتكز على مشروع اقتصادي تنموي مستدام ولا اندماج قومي؛ بل جرى قمع من طالبوا بذلك باعتبارهم أعوانًا للاستعمار وعملاءً للغرب الساعي لتفتيت وحدة المجتمعات في العالم العربي. لا يعني هذا أن التوتر مع الدول الاستعمارية السابقة وممارساتها العدائية قد توقف، لكن ذلك «يكاد يكون نقطة في بحر كارثية الأنظمة العربية».[55]

فتحت رايات شعارات هوجاء غير مدروسة، ولم يجر حولها أي حوار مجتمعي؛ شنت دول مستقلة حديثًا مغامرات عسكرية باهظة التكلفة، بشريًا وماديًا (الجزائر مع المغرب، مصر في اليمن واستفزاز إسرائيل للحرب في مايو 1967، العراق مع إيران وغزو الكويت، تدخل سوريا العسكري في لبنان ضد اللبنانيين والفلسطينيين). وأجرت بعض نظم الاستقلال الوطني أعمال قمع منظم ضد الأمازيغ في المغرب والجزائر، وضد الأقليات الأفريقية في السودان، وضد الأغلبية الشيعية في العراق والبحرين، وضد الأكراد في سوريا والعراق، وضد السنة في سوريا، وضد الشيعة في السعودية. بل اتخذت في بعض الدول أشكال حروب الإبادة (العراق وسوريا والسودان). التفسخ الذي أصاب كيانات عدة دول في سياق الربيع العربي هو أحد تجليات الحصاد المر لفشل الاندماج القومي. حتى أن مصر، إحدى أكثر دول المنطقة تماسكًا عبر التاريخ، لم تعد محصنة وفقًا لروبرت سبرينجبورج.[56]

أتفق مع الأكاديمي المصري عمرو حمزاوي في الدور الحاسم الذي لعبه ما يسميه نمط «القيادة المُدمِّرة» في فشل الدول العربية بشكل خاص،

فرغم أن الخلل البنيوي والتوترات الاجتماعية مهمة لتفسير انهيار الدولة وفشلها، إلا أن هذه الظاهرة هي من صنع الإنسان إلى حدٍّ كبير، ذلك أن أخطاء القيادة تدمّر الدول القابلة للحياة أو تمنعها حتى من الظهور، وغالبًا لأسباب الكسب الشخصي. والحال أن سلسلة القرارات التي يتّخذها الحكام والكادرات الحاكمة هي التي تُفرغ بالتدريج قدرات الدولة من مضمونها، وتفصل الدولة عن المجتمع، وتولّد حركات المعارضة أو تشعل لهيب الحرب الأهلية.[57]

الواقع أن الحالة البائسة التي انتهي إليها العالم العربي بعد سبعة عقود من الاستقلال لم يكن من الممكن حدوثها لولا ابتلاء عدد من دوله «بزعماء مدمرين»، بل مصابين بجنون العظمة، من أمثال جمال عبد الناصر وصدام حسين ومعمر القذافي وغيرهم.

غير أن هذا المسار «الاستعماري الوطني» توغل لأصعدة خيالية لم تخطر ببال رواد التحرر الوطني في النصف الأول من القرن الماضي. ففي سياق قمع ما يُعرف بـ«الربيع العربي» جلب «نظام التحرر الوطني» في سوريا قوات أجنبية روسية وإيرانية وميلشيات لبنانية وعراقية ومرتزقة من باكستان وأفغانستان للمعاونة في قمع تطلعات الشعب السوري للحرية. وأتاح نظام الحكم الطائفي في العراق لإيران ممارسة تأثير مباشر على القرار اليومي السياسي والأمني والعسكري في العراق، بما في ذلك قمع تطلعات الشعب للحرية والتحرر من نفوذ إيران في سياق الموجة الثانية للربيع العربي 2019. كما استعان نظام الحكم الملكي في البحرين بقوات من السعودية والإمارات العربية لقمع الانتفاضة الشعبية 2011.

اليوم التالي

لقد استنفدت حقبة التحرر الوطني في العالم العربي أغراضها منذ عدة عقود. ما تعاني منه المنطقة ليس مجرد فشل شامل مزمن في كل المجالات، بل أيضًا حالة تعفن للنخب السياسية –حكامًا ومحكومين– ونكوص للخلف يتضافر على جذب المجتمعات صوبه حكام وفاعلون متعددي الخلفيات العقائدية والسياسية.

في ضوء العرض السابق، فإن الحركة الحقوقية في العالم العربي بحاجة لأن تعيد تفحص الأرض التي تقف عليها بعناية، وكذا مهامها المستقبلية وأولوياتها واستراتيجياتها، وعلى رأسها كيف «تتمكن من إحداث تغيير جوهري مهم في رؤي ومحاور حركة وممارسات قوي اجتماعية رئيسية»[58] في بلادها، على النحو الذي يحث عليه محمد السيد سعيد، وألا تحاصر نفسها أو تسمح بأن يحاصرها فاعلون آخرون في مربع واعظ تبشيري أو أن تصير مجرد «فضاء أخلاقي».

وما يجعل عملية إعادة التقييم أكثر إلحاحًا التطورات الهامة الجارية في المنطقة –منذ هجمة حركة حماس في 7 أكتوبر الماضي وحرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة في غزة–وانعكاسات ذلك على تفاقم الموقف السلبي لدى الرأي العام في العالم العربي تجاه القانون الدولي، نتيجة ازدواجية معايير الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الغرب. جدير بالتأمل أن الرأي العام العربي ذاته لا يكترث بالمآسي الجارية بالتوازي في الوقت نفسه في السودان، مثلما لم يكترث منذ نحو عقدين من الزمان بالتطهير العرقي في دارفور وجنوب السودان، وكما لم يكترث لعمليات الإبادة في سوريا في سياق الربيع العربي، أو في العراق ضد الشيعة والأكراد في زمن صدام حسين ثم غزوه الكويت واحتلالها، وكذلك بالمأساة الإنسانية المتواصلة في اليمن منذ عدة سنوات. جدير بالملاحظة أيضًا؛ أنه في المآسي السالف الإشارة إليها لم تكن إحدى دول الغرب متهمة بارتكابها أو بحماية مرتكبيها. بل كان الغرب في قفص الاتهام بسبب انتقاد دوله هذه الجرائم، وتبنيه موقف أخلاقي وسياسي صحيح بشكل عام. هذا النمط من الازدواجية يعيد تسليط الأضواء على السؤال الذي انطلق منه هذا المقال، أي المهمة الغائبة للحركة الحقوقية في العالم العربي، بل ومستقبل قضية حقوق الإنسان ذاتها؟

من ناحية أخرى، فإن زيادة عمق الهوة بين الحكومات العربية وبين الشعوب المحبطة من موقف حكوماتها، ومن تقييد حريتها في الاحتجاج علي حرب الإبادة في غزة قد لا يستمر إحباطا معها؛ إذ ليس من المستبعد أن يقود ذلك التراكم في الإحباط الجماعي والشعور بالعجز لتمرد واسع النطاق في دولة أو أكثر.[59] هذا بالطبع قد يحمل معه –إذا حدث– تحديات نوعية جديدة تتعلق بمستقبل المنطقة أو بعض دولها. وبالطبع يحمل أيضًا تحديًا إضافيًا لحركة حقوق الإنسان، وينقل الرد على سؤال «ما العمل» لمستوى نوعي آخر، بصرف النظر عن مدى صواب تنبؤات بعض المحللين لليوم التالي في العالم العربي.

[1] مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان (2024). ما هي خيارات العالم العربي في ظل الاستقطاب الإسرائيلي الإيراني العنيف؟. 9 مايو. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://cihrs.org/iran-and-israel-are-state-breaker-countries-and-clear-enemies-to-the-concept-of-state-and-stability-in-the-arab-region/.
أنظر أيضًا موسى، عمرو (2024). رسالة إلى القمة العربية: بأية حال عُدتِ يا قمة؟. جريدة الشرق الأوسط، 16 مايو. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://t.ly/N3jWk.
[2] نادري، نادر (2024). حقوق الإنسان تحت الحصار (Human Rights under Siege). مركز ويلسون، مايو. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://wilsoncenter.org/publication/human-rights-under-siege.
[3] مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان (2024). أولويات الحركة الحقوقية في منطقة متأزمة وفي ظل نظام دولي متداعي. 2 مايو. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://cihrs.org/conclusions-of-the-27th-regional-forum-of-the-human-rights-movement/.
[4] بروكس، دافيد (2024). السلطويون لديهم الزخم (The Authoritarians Have the Momentum). نيويورك تايمز، 16 مايو. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://www.nytimes.com/2024/05/16/opinion/trump-liberals-authoritarians.html.
أنظر أيضا إدسال، توماس (2024). لقد تم زرع البذور، ترامب لم يفعل ذلك بنفسه (Seeds Had Been Planted. Trump Didn’t Do It Himself.). نيويورك تايمز، 15 مايو. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://www.nytimes.com/2024/05/15/opinion/trump-authoritarianism-democracy.html.
[5] حسن، بهي الدين (2024). رؤى: استعصاء مستدام أم مؤقت؟ التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان في العالم العربي. 8 يناير. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://cihrs-rowaq.org/views-enduring-or-temporary-impasse-democratisation-and-human-rights-in-the-arab-world/.
[6] تعتبر سوريا مثالًا جيدًا نسبيًا فيما يتعلق بكثافة جهود المحاسبة الدولية، مع ذلك فإن المحصلة في النهاية تكاد تكون رمزية. يقول تقرير سوري/أوروبي مشترك «عدالة بالترقيع في سوريا»: «على الرغم من كل النتائج الإيجابية التي حصدتها جهود المحاسبة، فإنَّ أثرها يبقى محدودًا. فلم تؤدِّ الإجراءات جميعها إلى نقلةٍ كبيرةٍ في حالة حقوق الإنسان في سوريا، ولا هي زعزعت قبضة النظام السوري على السلطة. بل إنَّها حتى لم تمنع قادة الدول الأخرى من تطبيع العلاقات مع النظام السوري في بعض الحالات».
أنظر: الشبكة السورية لحقوق الإنسان (2024). عدالة بالترقيع في سوريا. 15 مايو. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://t.ly/Aabvn.
[7] لا يعنى الكاتب بذلك أن هذا الخلل محصور بالمنطقة العربية تحديدًا، لكن الكاتب لم يتح له دراسة الحركة الحقوقية في مناطق أخرى من العالم، بما يستتبع تعميم هذا التشخيص أو حصره فقط بالعالم العربي.
[8] سعيد، محمد السيد (2001). الافتتاحية: هل يستمع أحد؟. رواق عربي، 6 (2)، 6-20. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://cihrs-rowaq.org/wp-content/uploads/2001/03/Said-2001-Ar-Intro-Is-Anyone-Listening-6-2.pdf.
[9] في سياق الكفاح الوطني ضد الاحتلال البريطاني في مصر ومن أجل تعزيز تفاعلات بلورة الشخصية القومية للمصريين؛ برز اتجاه يدعو لاستبدال اللغة العربية الفصحى بلغة «الكلام الفعلي» بين عامة الشعب، من أجل تجسير الفجوة بينه وبين نخبته المثقفة.
للاطلاع على هذا الاتجاه على الصعيد الإقليمي العربي؛ أنظر صفوان، مصطفي (2020). لماذا العرب ليسوا أحرارًا. دار الساقي، لبنان الطبعة الثانية.
لكن إصدار صحف باللغة العامية للمصريين حدث في سبعينيات القرن التاسع عشر، وكان من روادها يعقوب صنوع. أنظر: عوض، لويس (2022).  تاريخ الفكر المصري الحديث. المجلد الثالث. دار المحروسة. القاهرة.
هناك أيضا من يوصي باللجوء للعامية على الصعيد الحقوقي في دول الجنوب: أنظر ماري، سالي إنجل (2006). حقوق الإنسان والعنف القائم على النوع الاجتماعي: ترجمة القانون الدولي إلى عدالة محلية (Human Rights & Gender Violence, Translating International Law into Local Justice). مطبوعات جامعة شيكاغو.
[10] فاتسلاف هافل وآخرون، (بلا تاريخ)، سلطة من لا سلطة لهم، عباس عباس وعلي خليل (مترجمان)، (دمشق: دار اسكندرون).
[11] أرندت، حنة (2016). أسس التوليتارية. دار الساقي، الطبعة الثانية
[12] حسين، طه، (2001). «مستقبل الثقافة في مصر». دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة، تونس.
[13] البنك الدولي (2024). الصراع والديون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 2024. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://openknowledge.worldbank.org/server/api/core/bitstreams/5e52695c-0670-41c0-936d-b16078534b65/content.
[14] يونس، شريف (2012). نداء الشعب تاريخ نقدي للإيديولوجيا الناصرية. دار الشروق، القاهرة.
[15] كلا المقتطفين من شريف يونس، المرجع السابق.
[16] صاغية، حازم (2000). قوميو المشرق العربي. دار رياض الريس.
[17] شريف يونس، مصدر سابق.
[18] حول تأثير الفكر النازي في الجماعات القومية في مصر والمشرق العربي؛ أنظر حازم صاغية، مصدر سابق.
[19] حازم صاغية. قوميو المشرق العربي. مصدر سابق.
[20] صاغية، حازم (2024). عن «الاستعمار» بوصفه «خطيئة أصليّة». جريدة الشرق الأوسط، 8 مايو. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024،  https://aawsat.com/الرأي/5005941-عن-الاستعمار-بوصفه-خطيئة-أصليّة.
[21] حازم صاغية، المصدر السابق.
[22] صاغية، حازم (2024). نحن وأوروبا: أشكال التأثر والتأثير. جريدة الشرق الأوسط، 9 يونيو. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024،
https://aawsat.com/الرأي/5029074-نحن-وأوروبا-أشكال-التأثّر-والتأثير.
[23] الزعبي، ملاذ (2024). غزة والعرب والعالم اليوم: حوار مع حسام عيتاني جذور ومحصّلات ما يجري في منطقتنا وما حولها. موقع الجمهورية، 25 أبريل. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://aljumhuriya.net/ar/2024/04/25/hosam-itani/.
[24] مصباح، محمد (2024). صمت الجامعات العربية (المفاجئ) بشأن فلسطين. مجلس الشرق الأوسط للشئون الدولية، 10 يونيو. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://mecouncil.org/blog_posts/صمت-الجامعات-العربية-المفاجئ-بشأن-فلس/?lang=ar.
[25] كريشان، زياد (2024). لا بديل ديمقراطي عن الديمقراطية الليبرالية: ١- مقدمات ضرورية. جريدة المغرب، 5 يونيو. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://ar.lemaghreb.tn/سياسة/الإفتتاحية/item/109082-لا-بديل-ديمقراطي-عن-الديمقراطية-الليبرالية-i-مقدمات-ضرورية.
[26] لينش، مارك (2013). في الشرق الأوسط: الكارهين سيكرهون (In the Middle East, Haters Gonna Hate). مجلة الشئون الخارجية. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://www.foreignaffairs.com/reviews/review-essay/2013-04-03/persistence-arab-anti-americanism.
[27] المصدر السابق.
[28] صاغية، حازم (2024). عن «الرجل الأبيض». جريدة الشرق الأوسط، 5 مايو. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://aawsat.com/الرأي/5000741-عن-الرجل-الأبيض.
[29] كريشان، زياد (2024). لا بديل ديمقراطي عن الديمقراطية الليبرالية: 4- فرد حر في شعب حر. جريدة المغرب، 10 يونيو. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://ar.lemaghreb.tn/سياسة/الإفتتاحية/item/109196-لا-بديل-ديمقراطي-عن-الديمقراطية-الليبرالية-iv-فرد-حرّ-في-شعب-حرّ.
[30] الأكحل، ملاك (2023). تونس: الوطن وخونته. مبادرة الإصلاح العربي. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024،
https://www.arab-reform.net/ar/publication/تونس-الوطن-وخوَنته/.
يوضح هذا المقال التحليلي مدي فعالية سلاح التخوين في تونس في العزل السياسي للمختلفين سياسيًا منذ الاستقلال في منتصف خمسينيات القرن الماضي.
[31] يمكن الرجوع لتوثيق بالأسماء والشهادات ومقتطفات منشورة في: مكية، كنعان (2005). القسوة والصمت: الحرب والطغيان والانتفاضة في العالم العربي. منشورات الجمل، ألمانيا.
[32] عبد الجبار، فالح (2017). كتاب الدولة – اللوياثان الجديد. منشورات الجمل.
[33] فالح عبد الجبار، المرجع السابق.
[34] فالح عبد الجبار، مرجع سابق.
[35] شريف يونس، مصدر سابق.
[36] شريف يونس، مصدر سابق.
[37] شريف يونس، مصدر سابق.
[38] فالح عبد الجبار، مصدر سابق.
[39] شريف يونس، مصدر سابق.
[40] صالح، ياسين الحاج (2016). الثقافة كسياسة، المثقفون ومسئولياتهم الاجتماعية في زمن الغيلان. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، لبنان
[41] شريف يونس، مصدر سابق.
[42] سيرز، أوين (2010). تاريخ جهاز المخابرات العامة المصري في مائة عام (A History of the Egyptian Intelligence Service). روتلدج.
[43] سعد زهران، الأوردي (2006). مذكرات سجين. مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات، القاهرة.
[44] ياسين الحاج صالح، مصدر سابق.
[45] كنعان مكية، مصدر سابق.
[46] شريف يونس، مصدر سابق.
[47] السلاموني، هشام (2010). الجيل الذي واجه عبد الناصر والسادات. مكتبة جزيرة الورد، القاهرة، الطبعة الثانية.
[48] علي الأرجح كان المفكر السوري برهان غليون هو أول من قال بذلك في كتابه الرائد «بيان من أجل الديمقراطية»، الذي صدرت طبعته الأولي في سبعينيات القرن الماضي. أنظر الطبعة الخامسة من الكتاب عن المركز الثقافي العربي بالمغرب عام 2006. ثم تلاه مفكرون وكتاب آخرون بما في ذلك من مصر.
[49] شريف يونس، مصدر سابق.
[50] ياسين الحاج صالح، مصدر سابق.
[51] سعيد، محمد السيد (2008). الاستعمار الداخلي. جريدة البديل، 26 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://cihrs.org/الاستعمار-الداخلي-2/.
[52] المصدر السابق.
[53] المصدر السابق.
[54] حمزاوي، عمرو (2010). في تشريح أزمة الدولة الوطنية: ملاحظات علي النقاش العالمي. جريدة الحياة، 16 ديسمبر،
https://carnegieendowment.org/research/2010/12/fy-tshryh-azmh-aldwlh-alwtnyh-mlahzat-ala-alnqash-alaalmy?lang=ar&center=middle-east .
[55] صالح، باسل (2024). خطاب محاربة الاستعمار وإحياء هيمنة التسلط. جريدة العربي الجديد، 6 يونيو. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024، https://www.alaraby.co.uk/opinion/خطاب-محاربة-الاستعمار-وإحياء-هيمنة-التسلّط.
[56] سبرنجبورج، روبرت (2018). مصر (Egypt). مطبوعات بوليتي، بريطانيا.
[57] حمزاوي، عمرو، مصدر سابق.
[58] سعيد، محمد السيد (2001). رجال الأعمال – الديمقراطية وحقوق الإنسان. مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
[59]لينش، مارك (2024). رد الفعل العنيف العربي القادم (The Coming Arab Backlash). مجلة الشئون الخارجية، 22 أبريل. تاريخ الاطلاع 10 يونيو 2024،  .https://www.foreignaffairs.com/israel/coming-arab-backlash
أنظر أيضًا: دورسي، جيمس (2024). الشرق الأوسط الكبير قنبلة موقوتة، الأجزاء 1 و2 (The Greater Middle East is a Ticking Time Bomb -Part 1 and 2). https://jamesmdorsey.substack.com/p/the-greater-middle-east-is-a-ticking-9f9; https://www.youtube.com/watch?v=jNpycBHL_dI.

Read this post in: English

اظهر المزيد

بهي الدين حسن

مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى