رؤى: مراجعة التجربة الفاشلة للعدالة الانتقالية في تونس بعينٍ على المشهد السوري

الإشارة المرجعية: القلالي، آمنة. 2025. «رؤى: مراجعة التجربة الفاشلة للعدالة الانتقالية في تونس بعينٍ على المشهد السوري». رواق عربي 30 (1)، 21-30. https://doi.org/10.53833/JQID8384.
سيظل سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 محفورًا في الذاكرة كنهاية لإحدى أشد الديكتاتوريات وحشية في التاريخ الحديث. وقد ساهم هذا السقوط في كشف الأنظمة السلطوية والقمعية، التي شُيدت على التعذيب والإخفاء القسري وأساليب القبضة الحديدية؛ كأنها كيانات هشة يمكن أن تنهار في غضون أيام. عقب الإطاحة بالأسد، بات لدى السوريين فرصة لبداية جديدة، وإعادة بناء مجتمع مزقته عقود من الديكتاتورية والانقسامات الطائفية والتدخلات الأجنبية، ناهيك عن حرب أهلية مدمرة حصدت أرواح مئات الآلاف وهجّرت الملايين، تاركةً البلاد مجزأة تحت سيطرة عشرات الميليشيات المسلحة.[1]
مثلما هو الحال في أي مرحلة انتقالية تأتي في أعقاب سقوط نظام سلطوي؛ يتعيّن على السوريين مواجهة العديد من الأسئلة الملحة المتعلقة بالمستقبل، وفي مقدمتها سؤالٌ محوري: كيف يمكن تأسيس نظام حكم جديد دون نسيان الفظائع التي ارتُكبت في الماضي؟ إذ يتطلب ذلك الكشف عن حقيقة مصير مئات الآلاف من المختفين وضحايا الديكتاتورية التي هيمنت على سوريا لأكثر من نصف قرن. ويُطلق على هذه العملية، بموجب القانون الدولي، اسم «العدالة الانتقالية»، وهي عملية تستهدف معالجة انتهاكات حقوق الإنسان التي حدثت في الماضي بهدف الحيلولة دون تكرارها في المستقبل.
يُقدّم هذا المقال نبذة موجزة عن تجربة العدالة الانتقالية في تونس، التي انطلقت في عام 2011 بعد سقوط الرئيس زين العابدين بن علي. ولا يهدف المقال إلى تقديم دروس أو الزعم بحتمية نموذج معيّن لمسار العدالة الانتقالية في سوريا، وإنما يسعى لاستعراض العناصر الأساسية اللازمة لإنجاح أي مسار للعدالة الانتقالية –وهي عناصر تمت إدارتها بطريقة تفتقر للحكمة في الحالة التونسية، مما أدى في نهاية المطاف إلى انهيار ذلك المسار.
في ظل استمرار حالة عدم الاستقرار والتقلّب السياسي في سوريا، وغياب رؤية واضحة لدى حكّامها الجدد –جماعة مسلّحة ذات توجهات إسلامية متطرفة– تغدو الحاجة ملحّة أمام السوريين للشروع في استكشاف الخيارات الممكنة لنظام عدالة انتقالية.[2] إذ سيكون هذا المسار حاسمًا، ليس فقط لفحص جرائم الماضي، وإنما لبناء الثقة في السلطات المؤقتة الجديدة أيضًا، واختبار مدى قدرتها على صياغة مسار حكم سلمي وشامل وخاضع للمحاسبة في البلاد.
رغم أن هيئة تحرير الشام وزعيمها أحمد الشرع لم يشيروا في البداية إلى مفهوم العدالة الانتقالية؛ إلا أن هذا المفهوم أصبح مركزيًا في خطابهم منذ خطبة تنصيب الشرع رئيسًا.[3] كما تم تضمين هذا المفهوم في الوثيقة الختامية لمؤتمر الحوار الوطني، الذي عُقد ليوم واحد، ونظمته السلطات المؤقتة في 25 فبراير 2025.[4] وبالمثل، أعلن وزير الخارجية، خلال الجلسة الثامنة والخمسين لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، عن تشكيل لجنة خاصة بالمختفين.[5] كما أعرب الوزير عن استعداد الحكومة للتحقيق في الجرائم الماضية، لكنه حصر ذلك في الجرائم المرتكبة من قِبَل نظام الأسد فقط. وحتى الآن، لا يوجد خطاب واضح ومتّسق حول العدالة الانتقالية، ولم تُتخذ أية خطوات ملموسة لحفظ الوثائق ومحتويات المواقع المرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان.[6] وقد دفع هذا العديد من المراقبين للتخوّف من أن أجندة الحكومة المؤقتة تسعى لتهميش قضايا جوهرية مثل المحاسبة، وكشف الحقيقة، وجبر الضرر للضحايا.[7] وتتفاقم تعقيدات هذا الملف في ضوء الأحداث الأخيرة التي شملت مجازر ارتكبتها القوات الحكومية بحق مدنيين في منطقة اللاذقية الساحلية، حيثما تقطن الأغلبية العلوية وتتواجد قوات موالية للأسد؛ الأمر الذي أثار موجة من الغضب دفعت الرئيس المؤقت، الشرع، للإعلان عن تشكيل لجنة للتحقيق في هذه الجرائم.[8]
تُظهر تجارب دول أخرى شهدت مراحل انتقالية أن الأشهر الأولى التي تعقب الصراع غالبًا ما تكون حاسمة في مسار الإصلاح. إذ يحتمل بشكل كبير أن تتبدد فرصة تأسيس نظام حكم قائم على الحقوق إذا لم يتم الإسراع في صياغة وتنفيذ أجندة إصلاحية شاملة. اتسمت تجربة العدالة الانتقالية في تونس بكونها المسار الأكثر تقدّمًا في المنطقة العربية؛ إذ استمرّت نحو عشر سنوات وشاركت فيها العديد من المؤسسات. ورغم انقضاء زمن لا بأس به على تجربة العدالة الانتقالية في تونس، والتقدّم الملحوظ الذي أحرزته خلال تلك السنوات؛ إلا أن انهيارها بعد الانقلاب الذاتي الذي قاده الرئيس قيس سعيد في يوليو 2021 يشكل مثالًا صارخًا على مدى تعقيد هذا المسار وكونه محفوفًا بالمصاعب، حتى في أكثر البيئات المؤاتية.
في سوريا، يُمثّل حجم الفظائع وتعقيدات المشهد السياسي تحديات هائلة. فرغم أن انتهاكات حقوق الإنسان كانت متفشية في تونس؛ إلا أن فظائع زنازين التعذيب في سوريا لا تضاهى.[9] كذلك من ضمن التحديات الأخرى حقيقة وجود أمراء حرب سابقين وجماعات مسلّحة لها سجل في ارتكاب الانتهاكات،[10] بين من يتولّون السلطة حاليًا. وليس من المرجح أن يدعم الكثير منهم عملية عدالة انتقالية قد تُسفر في نهاية المطاف عن كشف جرائمهم.
في السياق نفسه تواجه سوريا تحديات أساسية أخرى من بينها تشرذم القوات شبه العسكرية. فعلى عكس تونس، حيثما تعاملت العدالة الانتقالية بشكل رئيسي مع جهاز دولة مركزي، يعاني القطاع الأمني في سوريا من انقسام عميق؛ إذ تسيطر ميليشيات مختلفة على مناطق متفرقة من البلاد، يمتلك كل منها نظام حكم خاص وولاءاتها الخارجية. في الوقت ذاته، فإن التدخلات الأجنبية في الشأن السوري، مثلما تتجلى في التوغلات الإسرائيلية والتهديدات التي تطال استقرار البلاد، من شأنها تقويض إمكانية إجراء أية جهود للإصلاح. وفي ظل هذا التفتت، سيكون من شبه المستحيل تنفيذ عدالة انتقالية دون وجود سلطة مركزية قادرة على توحيد مختلف المكونات حول مشروع إصلاحي.
صعود وانهيار العدالة الانتقالية في تونس
اعتبرت تجربة العدالة الانتقالية في تونس، والتي انطلقت عام 2011 إثر الإطاحة بالرئيس زين العابدين بن علي، إحدى أبرز نماذج الانتقال ما بعد السلطوية في المنطقة العربية. وقد شكّلت «هيئة الحقيقة والكرامة» جوهر هذا المسار، إذ أُنشئت عام 2014 للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان منذ استقلال تونس، وتقديم توصيات لضمان عدم تكرار مثل هذه الانتهاكات.[11] وتضمن تفويضها التحقيق في طيف واسع من الجرائم، من بينها القمع السياسي، والفساد الاقتصادي، والاستهداف المنهجي للمجتمعات المهمّشة.
من بين أبرز الخطوات التي اتخذتها هيئة الحقيقة والكرامة، عقد جلسات الاستماع العلنية، والتي أفسحت المجال أمام الناجين من التعذيب والاحتجاز غير القانوني وغيرهم من ضحايا الانتهاكات لمشاركة تجاربهم. وقد تم بثّ هذه الشهادات على نطاق واسع عبر وسائل الإعلام الوطنية بهدف تحفيز المجتمع على إجراء محاسبة جماعية للماضي، وتمكين الضحايا، الذين عانوا طويلًا من التهميش، من استعادة صوتهم وإيصاله إلى الرأي العام بعد عقود من الإقصاء والتعتيم.[12]
لم تقتصر عملية العدالة الانتقالية في تونس على إنشاء هيئة الحقيقة والكرامة فحسب، وإنما شملت أيضًا إنشاء دوائر جنائية متخصصة داخل السلطة القضائية. وتم تصميم تلك الدوائر للنظر في القضايا المحالة من إليها من الهيئة، مع التركيز على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان كالتعذيب والاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القضاء. وكان الهدف من هاتين الآليتين –كشف الحقيقة بقيادة هيئة الحقيقة والكرامة، والمحاسبة تحت إشراف الدوائر الجنائية المتخصصة– تحقيق التكامل بينهما وتعزيز كل منهما للأخرى.
وقد سعى التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة، الذي نُشر في عام 2019، إلى تقديم سردية شاملة لعقود من الانتهاكات في ظل الأنظمة السلطوية في تونس.[13] ووثّق التقرير انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، منها التعذيب المنهجي، والاعتقالات بدوافع سياسية، والفساد الذي رسّخ التفاوت الاجتماعي والاقتصادي. تضمّن التقرير أيضًا مقترحات أساسية لتفكيك الأسس البنيوية للسلطوية والحيلولة دون عودتها، من أبرزها إجراء إصلاحات مؤسسية لضمان استقلال القضاء، وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية لمنع تكرار الانتهاكات، فضلًا عن اتخاذ تدابير اقتصادية لمعالجة تهميش المناطق الأقل حظًا في التنمية.
رغم أهمية هذه التوصيات، وإحالة هيئة الحقيقة والكرامة لـ 173 قضية للمحاكمة أمام الدوائر الجنائية المتخصصة؛[14] إلا أن الحكومات المتعاقبة تعمدت عرقلة مسار العدالة الانتقالية وإعاقة تقدمه، وذلك قبلما يوجّه الرئيس قيس سعيد الضربة القاضية لهذا المسار من خلال انقلابه عام 2021. ويجسد مصير سهام بن سدرين، الرئيسة السابقة لهيئة الحقيقة والكرامة، انهيار مسار العدالة الانتقالية في تونس. فبعدما كانت من أبرز الأصوات المدافعة عن العدالة والمحاسبة، ورمزًا للمقاومة في وجه نظام بن علي، وجدت بن سدرين نفسها خلف القضبان، خلال الفترة بين أغسطس 2024 وفبراير 2025، بتهم مشكوك فيها تتعلق باختلاس أموال عامة.[15]
من أبرز نقاط القوة في مسار العدالة الانتقالية في تونس الانخراط النشط لمنظمات المجتمع المدني في صياغة وتطوير ومراقبة النظام. فمنذ انطلاق المسار وحتى نهاية ولاية هيئة الحقيقة والكرامة، سعى المجتمع المدني لحماية الهيئة من محاولات تقويض عملها، ومواجهة محاولات تغيير صلاحياتها أو عرقلة الدوائر الجنائية المتخصصة عن محاكمة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان. ورغم أن هذا النضال الذي استمر لعقد من الزمن في مواجهة القوى المضادة للثورة، أتاح لمسار العدالة الانتقالية أن يحرز تقدمًا؛ إلا أنه في نهاية المطاف فشل في تأمين الحماية الكاملة للمسار.
مطبات مسار العدالة الانتقالية في تونس
رغم البداية الواعدة لتجربة العدالة الانتقالية في تونس، والتي اتسمت بالإشادة واعتُبرت نموذجًا ناجحًا؛ إلا أنها في النهاية أخفقت في عدة مجالات حاسمة، الأمر الذي أفسح المجال أمام خطاب مضاد للثورة. كذا فإن افتقار هيئة الحقيقة والكرامة إلى الاستقلالية، والبيئة السياسية المعادية، وغياب الإصلاحات الجادة في القطاعات الرئيسية، أسفر عن تقويض أهداف مسار العدالة الانتقالية.
الافتقار إلى الاستقلال والبيئة السياسية المعادية
تعتمد مشروعية وفعالية آليات العدالة الانتقالية على توافر ضمانات إجرائية تكفل الاستقلالية والحياد والشمولية. وفي تونس، شكّل القانون الأساسي عدد 53 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها، والذي أقرّه البرلمان عام 2013، حجر الأساس لمسار منظَّم للعدالة الانتقالية، وذلك عقب مرحلة أولى اتسمت بالتشتت وغياب التنسيق. وقد صدر هذا القانون نتيجة مشاورات عامة واسعة، شاركت فيها منظمات المجتمع المدني، وجمعيات الضحايا، وخبراء قانونيون، بدعم مؤسسي من منظمات دولية ومنظمات غير حكومية.[16]
وبينما اتسم المسار، الذي أفضى إلى صياغة قانون العدالة الانتقالية، بقدر كبير من الشمولية؛ إلا أن الترتيبات الإجرائية لاختيار أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة أثارت عدة مخاوف. ويجدر هنا ذكر أن قانون الهيئة ونظام العدالة الانتقالية تم إقرارهما في ديسمبر 2013، وذلك في وقت شهدت فيه تونس أزمة سياسية خانقة أسفرت عن انقسام عميق في البلاد. في هذا السياق، فرضت الأزمة وضع قوتين سياسيتين رئيسيتين في حالة مواجهة مباشرة: حكومة الترويكا بقيادة حزب النهضة الإسلامي، التي تعرضت لانتقادات واسعة ونالتها اتهامات بالتواطؤ في الاغتيالات السياسية.[17] في مواجهة المعارضة العلمانية، التي ضمّت حزب نداء تونس حديث النشأة آنذاك، وهو ائتلاف من شخصيات تنتمي إلى النظام السابق، ويساريين، وقيادات نقابية.
تم اختيار أعضاء هيئة الحقيقة والكرامة من خلال تصويت برلماني أجراه المجلس الوطني التأسيسي. آنذاك اعتُبرت العملية مُسيّسة للغاية؛ نتيجة هيمنة السياسة الحزبية على العملية البرلمانية، فضلًا عن تغليب الانقسامات الأيديولوجية على المبادئ. من ثم، ظلّت حيادية الهيئة محلّ شك في نظر الرأي العام منذ البداية.[18]
ظلّت هذه التصوّرات قائمة طيلة فترة ولاية هيئة الحقيقة والكرامة التي امتدت لأربع سنوات، مما خلق بيئة معادية لمهمّتها في التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان منذ استقلال تونس. وقد مارست وسائل الإعلام دورًا حاسمًا في تشكيل الرأي العام تجاه الهيئة؛ إذ غالبًا ما روّجت لخطابات الكراهية ضدها وسعت لتقويض عملها. وبدلًا من تسليط الضوء على جهود الهيئة في معالجة مظالم الماضي، انصبّ تركيز الإعلام على الولاءات السياسية المزعومة لأعضائها، وخصوصًا رئيستها سهام بن سدرين. والتي أضحت هدفًا مفضّلًا للخطاب المضاد للثورة نظرًا لدورها البارز في معارضة النظام السابق.
روّجت بعض وسائل الإعلام لفكرة أن هيئة الحقيقة والكرامة هي مجرد أداة بيد حركة النهضة، مستغلّةً الخوف المجتمعي الواسع من هيمنة الإسلاميين على الدولة. وفي محاولة لتقويض الهيئة، عملت الجهات الأمنية وشخصيات من النظام السابق على تعزيز هذا الخطاب، معتبرين أنها تمثّل تهديدًا لأمن البلاد واستقرارها. وجرى توظيف وسائل الإعلام لتضخيم الهفوات الإجرائية، والمبالغة في الخلافات الداخلية، وشنّ هجمات على أعضاء الهيئة.[19] الأمر الذي أسفر في نهاية المطاف إلى انحراف النقاشات العامة حول العدالة الانتقالية بعيدًا عن جوهر النتائج التي توصلت إليها الهيئة –والتي كشفت عن عقود من قمع الدولة– لتركّز بدلًا من ذلك على الانحيازات السياسية والحزبية المتخيلة.[20]
تجاوزت البيئة العدائية حدود الخطاب إلى العرقلة الفعلية. فقد خاضت هيئة الحقيقة والكرامة، بين عامي 2014 و2019، معركة شاقة للاستمرار في عملها في خضم محاولات متواصلة لتقويض نتائجها، وفي ظل مقاومة وطيدة داخل مؤسسات الدولة والأجهزة الأمنية. وفي عام 2014، فاز الباجي قايد السبسي –الذي سبق أن شغل عدة مناصب في عهد بورقيبة وبن علي– بالانتخابات الرئاسية. وشكّل حزبه، نداء تونس، ائتلاف حكومي مع حركة النهضة. وقد وجّه السبسي انتقادات علنية لعملية العدالة الانتقالية، زاعمًا أنها تثير الانقسام وغير مجدية. وبينما ضمّ حزب نداء تونس العديد من الشخصيات المرتبطة بالنظام السابق، فقد اختارت حركة النهضة، رغم ما تعرّضت له من مظالم في الماضي، تغليب البراغماتية السياسية على مبدأ المحاسبة الشاملة. أصبحت هذه المرحلة بمثابة مرادف لما عُرف بسياسة «التوافق»، التي حظيت في البداية بالإشادة باعتبارها آلية ضرورية لتحقيق الاستقرار في ظل الاستقطاب السياسي، لكنها أفضت في النهاية إلى خلق ظروف عرقلت أجندة الإصلاح.[21] وبينما بدأ هذا الائتلاف باعتباره خيارًا استراتيجيًا لتجنب الاضطرابات بعد الاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية التي هزّت البلاد؛ لكنه في الأخير أخفق في إنجاز إصلاحات مؤسسية جوهرية. وخلال هذه الفترة، افتقرت تحقيقات الهيئة في كثير من الأحيان إلى التعاون من جانب سلطات الدولة. فبينما أرسلت هيئة الحقيقة والكرامة مئات الرسائل إلى وزارة الداخلية تطلب فيها الاطلاع على أرشيف جهاز الأمن السياسي وأسماء مرتكبي الانتهاكات؛ إلا أن غالبية هذه الرسائل بقي دون رد، فيما اقتصر الرد على بعضها بمعلومات مقتضبة وشحيحة.[22]
إن تجربة العدالة الانتقالية في تونس تؤكد الحاجة لوجود بيئة سياسية تحمي آليات كشف الحقيقة من التدخل. فبينما تتغيّر الديناميكيات السياسية بشكل حتمي؛ لا بد من إنشاء لجان الحقيقة وفق ضمانات قوية تحفظ استقلالها ومصداقيتها. وفي غياب هذه الحماية، تُصبح جهود العدالة الانتقالية عرضة للتقويض، مثلما شهدنا في تونس.
بالنسبة لسوريا، يمكن أن تكون لجنة ذات هيكل تنظيمي محكم وتتمتع بالدعم الدولي بمثابة خطوة أولى حاسمة نحو الحقيقة والمحاسبة والمصالحة على المدى الطويل. ورغم أنه يتعين على السوريين تولي زمام عملية تشكيل هذه الآلية بأنفسهم، وتأمين اعتراف الحكومة الانتقالية بها؛ إلا أنه من الضروري أن تُوفَّر لها ضمانات قوية ومشاركة نشطة من المجتمع المدني لحمايتها من محاولات العرقلة التي لا مفر منها. كما من المهم أن تحظى هذه اللجنة، أو أي آلية قد يتم تأسيسها مستقبلًا، بالدعم والمساندة من الآليات الدولية المتعدّدة التي شكّلتها الأمم المتحدة لتعزيز المحاسبة وتوثيق الانتهاكات في سوريا.
الإخفاق في إصلاح قطاع الأمن
كيف يمكن للدول التي تمر بمرحلة انتقالية من السلطوية إلى الديمقراطية التعامل مع كوادر الدولة الموروثة من الأنظمة السابقة والمتورطة في الانتهاكات؟ إن الإخفاق في الاعتراف بمشكلة الكوادر الموروثة، أو عدم القدرة على معالجتها بفعالية، قد يُشكّل عقبات كبيرة أمام فرص التحول الديمقراطي – رومان ديفيد، التطهير والعدالة الانتقالية، سبتمبر 2011.[23]
غياب الإصلاح الجاد داخل القطاع الأمني كان أحد أبرز الإشكالات في مسار العدالة الانتقالية في تونس؛ فقد ظلت القوات الأمنية التابعة لوزارة الداخلية، والمتورطة في انتهاكات واسعة النطاق في عهد بن علي، بمنأى عن آليات العدالة الانتقالية إلى حد كبير.[24]
حسبما تؤكد منظمات دولية وجماعات حقوقية وباحثون قانونيون؛[25] فإن عمليات الفحص والتدقيق تعد بمثابة حجر أساس في جهود العدالة الانتقالية في المجتمعات الخارجة من الحكم السلطوي. وتهدف هذه العمليات إلى استبعاد الأفراد المتورطين في انتهاكات سابقة، مع ضمان أن يتولى المناصب العامة أولئك الذين يلتزمون بالقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. إلا أن نتائج هذه الجهود تتفاوت بشكل كبير عبر السياقات المختلفة؛ فعلى سبيل المثال، أسفرت عملية اجتثاث البعث في العراق عن إقصاء آلاف من أعضاء حزب البعث، لكنها في الوقت نفسه فاقمت الانقسامات المجتمعية وزعزعت الاستقرار من خلال تهميش شرائح واسعة من السكان.[26]
في تونس، اتّسمت المحاولات المبكرة للإصلاح بالتجزئة وسوء التنفيذ. ففي 7 مارس 2012، أعلنت وزارة الداخلية حل إدارة أمن الدولة، أو ما يُعرف بـ «الشرطة السياسية»، والتي كانت تُعد على نطاق واسع أداة القمع الرئيسة في عهد بن علي. غير أن الغموض ظل يكتنف مصير العاملين في هذه الإدارة، وما إذا كانوا قد أُقيلوا بالفعل أم أُعيد توزيعهم داخل الوزارة، وهو ما أثار شكوك الرأي العام بشأن جدية الوزارة في إحداث تغيير فعلي. بالإضافة إلى ذلك، أحال فرحات الراجحي، الذي تولّى وزارة الداخلية بين يناير ومارس 2011، اثنين وأربعين من كبار ضباط قوات الأمن الداخلي إلى التقاعد المبكر. ورغم أن عملية التطهير لم تكن شاملة؛ لكنها أدت لتجميد عمل عدد من الإدارات الرئيسية، من بينها الإدارة العامة للشئون الخاصة، التي كانت تضطلع بدور محوري في جمع المعلومات الاستخباراتية.
في الوقت نفسه، أسفرت عدة تدابير أخرى عن تفاقم مشكلة الطبيعة العشوائية والمجزأة لعملية إصلاح قطاع الأمن في تونس. فقد أدى حل إدارة الشئون الداخلية للشرطة –المعروفة باسم إدارة التفقدية العامة للأمن الوطني، وهي الجهة المعنية بالرقابة على أداء قوات الشرطة– إلى إزالة آلية رقابة جوهرية. في المقابل، تمت إعادة دمج قرابة 2200 من الضباط المفصولين وكبار الضباط في صفوف الوزارة، وكان العديد منهم قد أُقيلوا في عهد بن علي، دون أي شكل من أشكال الفحص لسلوكهم في عهد النظام السابق. وقد أدى هذا النهج المتناقض في إدارة شئون الموظفين إلى إرباك المشهد، وساهم في تعميق فقدان الثقة لدى الرأي العام.[27]
في الأشهر الأولى من المرحلة الانتقالية، كان المجتمع المدني نشطًا في الدعوة إلى إصلاح القطاع الأمني. كما ظهرت النقابات الأمنية، مستفيدة من المناخ الجديد للحريات في تونس، وطالبت بإنشاء «الشرطة الجمهورية». وقد شكّل هذا الشعار، في بدايته، نداءً محفزًا للإصلاح، لكن سرعان ما تم توظيفه لمعارضة أجندات سياسية داخل الجهاز الأمني، والدخول في مواجهة مع وزراء حركة النهضة، الذين اتُّهموا بمحاولات فرض سيطرتهم على وزارة الداخلية. ومع تحول تركيز هذه النقابات نحو حماية مصالح قوات الأمن، غالبًا على حساب مبدأ المحاسبة، تراجع الزخم الإصلاحي بشكل كبير.
في الوقت نفسه، ساهم المناخ السياسي في تعميق عرقلة جهود إصلاح القطاع الأمني. ففي أعقاب اغتيالات عام 2013 التي نفذها جهاديون تابعون لجماعة أنصار الشريعة[28] بحق اثنين من القادة السياسيين اليساريين (شكري بلعيد زعيم حركة الوطنيين الديمقراطيين، ومحمد براهمي مؤسس حزب حركة الشعب)، وتلتها الهجمات الإرهابية التي طالت متحف باردو ومدينة سوسة الساحلية في عام 2015؛ تحوّل الرأي العام من المطالبة بالإصلاح إلى التركيز على الأمن والاستقرار. وقد أسفر هذا التحول عن تشجيع قوات الأمن على مقاومة مبادئ الشفافية والمحاسبة. وخلال الفترة بين عامي 2013 و2017، طُرحت عدة محاولات تشريعية لتمرير مشروع قانون يسعى إلى «تحصين» قوات الأمن من المحاسبة، وذلك في انعكاس لاتجاه أوسع نحو تعزيز قبضة الأجهزة الأمنية.[29] وفيما أسفر هذا الإخفاق في الإصلاح عن ترسيخ حالة الإفلات من العقاب؛ فإنه عزّز أيضًا الانطباع بأن القطاع الأمني في تونس لا يزال امتدادًا للنظام السابق، بدلًا من كونه يشكّل ركيزة من ركائز الحكم الديمقراطي.
في سوريا، التحقق من خلفيات أفراد الأجهزة الأمنية يُمثّل تحديًا أشد تعقيدًا. ففي ديسمبر 2024، في أعقاب سقوط نظام الأسد، بدأت الحكومة الانتقالية في تنفيذ عملية إعادة هيكلة شاملة للجهاز الأمني في البلاد. وشملت هذه العملية حل الوكالات الأمنية القائمة، بما فيها إدارة المخابرات العامة، وتسريح آلاف من عناصر الأمن والجيش، ودمج فصائل مسلحة متعددة ضمن جيش وطني موحّد تحت إشراف وزارة الدفاع. إلا أن التفكيك المفاجئ لأجهزة أمنية مترسخة، إلى جانب دمج آلاف المقاتلين دون فحص خلفياتهم، هو أمر ينطوي على مخاطر كبيرة قد تهدد الاستقرار. وقد تجسد هذا الخطر في مارس 2025، حينما شنّ مسلحون موالون للأسد هجمات منسقة في المناطق الساحلية، لا سيما في محافظتي اللاذقية وطرطوس، أسفرت عن مقتل مئات المدنيين، معظمهم من الطائفة العلوية، مما زاد من حدّة التوترات الطائفية.[30]
إصلاح قضائي مشوه ومحاسبة معيبة
يُعدّ إصلاح النظام القضائي وضمان استقلالية القضاء عن السلطة التنفيذية من الركائز الأساسية لأي نظام ما بعد السلطوية. ففي تونس، كما في العديد من دول المنطقة العربية، كان القضاء أداة رئيسية بيد الديكتاتورية، جرى توظيفه لفرض قبضة قمعية على المجتمع. وقد تحقق ذلك من خلال إخضاع القضاة لضغوط شملت الإقالات، والنقل القسري، وغير ذلك من الأساليب التي استهدفت إخضاع السلطة القضائية لهيمنة السلطة التنفيذية.
في أعقاب الثورة، بات إصلاح القضاء أولوية قصوى لدى المجتمع المدني، وبدأ يحظى باهتمام متزايد في الأوساط السياسية. مع ذلك، وكما هو الحال مع إصلاح قطاع الأمن، شكّلت القرارات والإخفاقات المبكرة مسار عملية الإصلاح، مما عرّض نجاحها للخطر في نهاية المطاف. ومن أكثر هذه القرارات إثارة للجدل ما حدث في مايو 2012، حين أقدم وزير العدل آنذاك، نور الدين البحيري، المنتمي لحركة النهضة التي كانت تقود الائتلاف الحاكم، على إقالة خمسة وسبعين قاضيًا بشكل فوري، بذريعة تورطهم في قضايا فساد ومخالفات جسيمة. وقد نُفّذ هذا الإجراء دون اتباع أي شكل من الإجراءات القانونية الواجبة، ما أثار غضبًا عارمًا في تونس واعتُبر أول محاولة من حركة النهضة لفرض أجندتها السياسية والهيمنة على الجهاز القضائي.[31]
شهد مسار إصلاح القضاء عنصرًا حاسمًا آخر تمثل في إنشاء المجلس الأعلى للقضاء عام 2016، كما نصّ على ذلك دستور تونس الصادر في 2014. وكان الهدف من هذا المجلس أن يشكّل ضمانة لاستقلالية السلطة القضائية من خلال الإشراف على التعيينات والترقيات والإجراءات التأديبية الخاصة بالقضاة.[32] إلا أن عملية تشكيل المجلس كشفت عن اختلالات بنيوية وسياسية عميقة، أبرزها احتفاظ السلطة التنفيذية بنفوذ غير مباشر على المجلس، سواء من خلال التحكم في ميزانيته أو من خلال دورها في العملية التأديبية. وكان أحد الشواغل الرئيسية بشأن القانون هو تكوين المجلس الأعلى للقضاء؛ إذ إن عددًا قليلًا فقط من أعضائه الخمسة والأربعين هم من القضاة المنتخبين من قِبل أقرانهم. بينما يتم تعيين الأعضاء الآخرين من قبل السلطة التنفيذية أو المؤسسات المهنية القانونية، الأمر الذي يمنح الجهاز التنفيذي تأثيرًا كبيرًا على أداء المجلس. كما يضم المجلس، بحكم المنصب، المدعي العام للقضاء العسكري، وهو منصب معروف بخضوعه للإرادة السياسية.[33]
إلى جانب الطابع العشوائي والمشوَّه الذي اتسمت به عملية إصلاح القضاء، شهدت محاولات المحاسبة نهجًا مماثلًا دونما إجراء أي إصلاح حقيقي في المنظومة القانونية. فقد عُقدت عدة محاكمات، من بينها محاكمات طالت الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وأفرادًا من القوات الأمنية المتورطين في قتل المتظاهرين خلال الثورة.[34] ومع ذلك أُجريت هذه المحاكمات في البداية أمام المحاكم العسكرية، وهي مؤسسات تُعرف بغياب استقلاليتها؛ إذ لا تزال تحت سيطرة السلطة التنفيذية رغم بعض الجهود الإصلاحية المحدودة بعد الثورة.[35] وقد أدى هذا اللجوء إلى المحاكم العسكرية في مثل هذه القضايا الجوهرية إلى تقويض مصداقية مسار المحاسبة بشكل ملحوظ.
علاوة على ذلك، جرت هذه المحاكمات استنادًا إلى أطر قانونية عفا عليها الزمن، باستخدام قوانين قديمة وإجراءات قضائية معيبة تعود إلى ما قبل الثورة.[36] وقد أدّى الاعتماد على هذه الأطر القانونية البالية إلى صدور أحكام مخففة بحق العديد من مرتكبي عنف الدولة، أو استفادتهم من ثغرات قانونية، مما زاد من تآكل ثقة الرأي العام في مسار المحاسبة. بمرور الوقت، تمكن القطاع الأمني في تونس –الذي يمارس عمله متمتعًا بمناخ الإفلات من العقاب– من استعادة نفوذه؛ مما أفسح المجال أمام عودة البنى السلطوية داخل الدولة. وقد ساهم استمرار خضوع السلطة القضائية لهيمنة الجهاز التنفيذي في إبقاء المحاسبة شكلية، الأمر الذي أتاح للمؤسسات الأمنية الاحتفاظ بسيطرتها الفعلية من وراء الكواليس.
بلغت هذه الديناميات ذروتها في انقلاب عام 2021 الذي نفّذه الرئيس قيس سعيد، حين فعّل التدابير الاستثنائية المنصوص عليها في الفصل 80 من الدستور، ليقدم على حلّ البرلمان، وإقالة رئيس الحكومة، وتولّي السلطة التنفيذية دون أي رقابة. وقد تمكّن سعيد من ترسيخ سلطاته بفضل صمود الدولة الأمنية، التي منحته الدعم المؤسسي اللازم لتفكيك الديمقراطية الهشة في تونس. وأدت القوات الأمنية دورًا أساسيًا في فرض إجراءات سعيد، من خلال قمع المعارضة، واعتقال المنتقدين، وضمان ألا يشكّل القضاء –الذي تم تقويضه عبر سنوات من الخضوع للسلطة التنفيذية– أي عائق أمام التوسع في الممارسات السلطوية.
في سوريا، تُلقي الإخفاقات المبكرة بظلالها أيضًا على النظام القضائي. إذ يجسد تعيين وزير للعدل هو شادي الويسي، القائد السابق في هيئة تحرير الشام والمتهم بتنفيذ حكم إعدام بحق امرأة بتهمة البغاء،[37] غياب الالتزام بالمعايير القضائية. فمثل هذه التعيينات تبعث برسالة واضحة مفادها أن الحكومة لا تسعى لإجراء إصلاح قضائي حقيقي، وإنما لترسيخ سلطة من يشاركونها الخلفية العسكرية والأيديولوجية. وهو ما يعني، في ظل هذه الظروف، المجازفة بتوظيف القضاء ليغدو أداة لترسيخ الإفلات من العقاب بدلًا من ممارسة دوره في تعزيز المحاسبة.
خلاصة
تُبرز التجربة التونسية أهمية وجود آليات مستقلة وإجراء إصلاحات مبكرة في القطاعات الأساسية، مثل الأجهزة الأمنية والقضاء، في تحديد نجاح أو فشل مسار العدالة الانتقالية. لكنها، في الوقت نفسه، تمثّل تحذيرًا مما قد يحدث إذا لم تكن العدالة الانتقالية مصحوبة بتغيير بنيوي. فقد أدّى الإخفاق في الفحص المبكر لخلفيات عناصر الأجهزة الأمنية إلى استمرار شبكات النفوذ القديمة، مما قوّض نزاهة المسار. وعلى المنوال نفسه، لم يشهد الجهاز القضائي إصلاحًا عميقًا يُعزز ثقافة المحاسبة. علاوة على ذلك، تسبب غياب التوافق السياسي وعودة القوى المضادة للثورة في إضعاف تنفيذ الإصلاحات الأساسية، وهو ما يؤكد أن العدالة الانتقالية لا يمكن أن تنجح بمعزل عن تحوّل سياسي شامل. وتتمثّل أحد الدروس الحاسمة في التجربة التونسية في صلابة المجتمع المدني. فرغم محاولات تقويض مسار العدالة الانتقالية؛ ظلّ المجتمع المدني التونسي قوة محورية في التعبئة والدفاع عن هذا المسار. أما في سوريا، فإن التوثيق الواسع للانتهاكات التي ارتكبها النظام السابق، والذي نفذه المجتمع المدني السوري بعناية وعلى مدار سنوات، يشكّل ركيزة أساسية للمحاسبة وكشف الحقيقة والإصلاح المؤسسي. إن حماية هذه الجهود ودعمها بشكل فعّال هو واجب أساسي للسلطات الجديدة والمجتمع الدولي. فالإخفاق في ذلك لن يُعد خيانة للتضحيات المبذولة فحسب، بل سيعرّض أيضًا أي انتقال فعلي نحو العدالة والاستقرار للخطر.
الواقع في سوريا أن العدالة الانتقالية ليست ترفًا وإنما ضرورة حتمية –باعتبارها وسيلة لوقف مسار دموي يمكن أن يندلع مجددًا في أي لحظة. إن انتقال سوريا نحو نظام حكم قائم على الحقوق، أو سقوطها مرة أخرى في براثن السلطوية والصراع المسلّح، سيعتمد إلى حدّ كبير على الكيفية التي سيتم بها تنفيذ مسار العدالة الانتقالية.
إقرار: استخدمت الكاتبة أحد أدوات الذكاء اصطناعي للمساعدة في المراجعة اللغوية للنسخة الانجليزية للمقال.
هذا المقال كتب في الأصل باللغة الانجليزية لرواق عربي.
[2] للاطلاع على الأدبيات التأسيسية في مجال العدالة الانتقالية، انظر: روتي ج. تايتل، العدالة الانتقالية(Transitional Justice)، (منشورات جامعة أكسفورد، 2000)؛ وروتي ج. تايتل، عولمة العدالة الانتقالية: مقالات من أجل الألفية الجديدة (Globalizing Transitional Justice: Essays for the New Millennium) ، (منشورات جامعة أكسفورد، 2014).
[3] العربي أخبار، «خطاب الرئيس السوري أحمد الشرع في أول كلمة له إلى الشعب بعد توليه الرئاسة» (Syrian President Ahmad Al-Sharaa’s Speech in His First Address to the People After Assuming the Presidency)، يوتيوب، يناير 2025، خمس دقائق، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.youtube.com/watch?v=rV3arMlfQz4.
[4] راجع مؤتمر الحوار الوطني، الوثيقة الختامية، المبدأ 9: «تحقيق العدالة الانتقالية من خلال محاسبة المسئولين عن الجرائم والانتهاكات، وإصلاح النظام القضائي، وسنّ التشريعات اللازمة، ووضع الآليات المناسبة لضمان العدالة واسترداد الحقوق».
[5] محمد مفرح، «نؤسس الآن مفوضية عليا للنظر في قضايا المفقودين والمختفين قسرًا، كلمة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة» (We are Now Establishing a High Commission to Address the Cases of Missing and Forcibly Disappeared Persons,” Statement by Syrian Foreign Minister Asaad Al-Shaibani before the United Nations Human Rights Council)، الفيس بوك، 26 فبراير 2025، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://shorturl.at/FrQck.
[6] في مقابلة أُجريت في ديسمبر 2024، عرض أحمد الشرع مقاربة مرحلية للتحوّل السياسي في سوريا. ومع ذلك، غابت بشكل لافت الخطط التفصيلية بشأن كيفية معالجة العدالة الانتقالية ومحاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي. راجع: معهد أبحاث إعلام الشرق الأوسط، «زعيم هيئة تحرير الشام أحمد الشرع: الدستور الجديد والانتخابات في سوريا ستستغرق سنوات»(Hay’at Tahrir Al-Sham Leader Ahmed Al-Sharaa: New Constitution And Elections In Syria Will Take Years)، The Middle East Media Research Institute ،29 ديسمبر 2024،
https://www.memri.org/reports/hayat-tahrir-al-sham-leader-ahmed-al-sharaa-new-constitution-and-elections-syria-will-take.
[7] مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، «صالون ابن رشد: هل يمكن لسوريا أن تتجنب الانتقال إلى نظام ديكتاتوري آخر؟» (Ibn Rushd Salon: Can Syria Avoid Transitioning to Another Dictatorial Regime?)، 16 يناير 2025،
https://cihrs.org/ibn-rushd-salon-can-syria-avoid-transitioning-to-another-dictatorial-regime/.
[8] الشبكة السورية لحقوق الإنسان، «مقتل 803 أفراد خارج نطاق القانون بين 6 و10 مارس 2025» (803 Individuals Extrajudicially Killed Between March 6–10, 2025)، 11 مارس 2025،
https://snhr.org/blog/2025/03/11/803-individuals-extrajudicially-killed-between-march-6-10-2025/.
[9] يزيد صايغ، «زنازين آل الأسد» (The Assads’ Houses of Death)، ديوان (كارنيجي)، 13 يناير 2023، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://shorturl.at/eusac.
[10] هيومن رايتس ووتش، «سوريا: “هيئة تحرير الشام” تمارس الاعتقال والتعذيب» (Syria: Arrests, Torture by Armed Group)، 28 يناير 2019، https://www.hrw.org/news/2019/01/28/syria-arrests-torture-armed-group/.
[11] ديكاف – مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن، القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://shorturl.at/7OQOB.
[12] إريك غولدستين، «تونس تسلط الضوء على ماضيها الدموي» (Tunisia Casts a Light on its Bloody Past)، هيومن رايتس ووتش، 24 نوفمبر 2016، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.hrw.org/ar/news/2016/11/24/296921.
[13] هيئة الحقيقة والكرامة، «التقرير الختامي الشامل – المُلخص التنفيذي» (The Final Comprehensive Report Executive Summary)، مايو 2019، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، http://www.ivd.tn/rapport/doc/TDC_executive_summary_report.pdf.
[14] منظمة العفو الدولية، «تونس: يجب أن تؤدي نتائج هيئة الحقيقة والكرامة إلى تحقيق العدالة لآلاف ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان» (Tunisia: Truth Commission Findings Must Lead to Justice for Thousands of Victims of Human Rights Violations)، 25 مارس 2019، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.amnesty.org/en/latest/press-release/2019/03/tunisia-truth-commission-findings-must-lead-to-justice-for-thousands-of-victims-of-human-rights-violations/.
[15] للاطلاع على شرح للتهم وسياقها، راجع: أولفا بلحسين، «في تونس، التقرير ‘المزوّر’ الذي يهدد العدالة الانتقالية»(En Tunisie, le rapport ‘falsifié’ qui menace la justice transitionnelle)، 23 مارس 2023، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025،
https://www.justiceinfo.net/fr/114205-en-tunisie-le-rapport-falsifie-qui-menace-la-justice-transitionnelle-html.html.
[16] المركز الدولي للعدالة الانتقالية، «المركز الدولي للعدالة الانتقالية يرحب بقانون العدالة الانتقالية التاريخي في تونس» (ICTJ Welcomes Tunisia’s Historic Transitional Justice Law)، 17 ديسمبر 2013، تاريخ الاطلاع 14 مارس، https://www.ictj.org/news/ictj-welcomes-tunisia%E2%80%99s-historic-transitional-justice-law.
[17] ريهام بوخياتية، «اغتيال بلعيد والبراهمي: تشريح لنظام قضائي مريض»(Assassinats de Belaid et Brahmi: Autopsie d’une justice malade)، نواة، 11 فبراير 2022، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://nawaat.org/2022/02/11/assassinats-de-belaid-et-brahmi-autopsie-dune-justice-malade/.
[18] ريم القنطري، «تونس في مرحلة انتقالية: بعد عام من إنشاء هيئة الحقيقة والكرامة» (Tunisia in Transition; One Year After the Creation of the Truth and Dignity Commission)، المركز الدولي للعدالة الانتقالية، سبتمبر 2015، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.ictj.org/sites/default/files/ICTJ-Briefing-Tunisia-TJLaw-2015.pdf.
[19] لاريسا شومياك، دراسة الحالة التونسية، دراسة مقارنة للعدالة الانتقالية في أفريقيا (Tunisia Case Study, Comparative Study of Transitional Justice in Africa)، (مركز دراسة العنف والمصالحة، أكتوبر 2018)، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.csvr.org.za/wp-content/uploads/2016/06/Tunisian-Case-Laryssa-Chomiak.pdf.
[20] على سبيل المثال، في عام 2014، حاولت هيئة الحقيقة والكرامة الاستحواذ على أرشيف الدولة من القصر الرئاسي، استنادًا إلى مبررات قانونية كاملة. إلا أن الحرس الرئاسي منع العملية، في حين صوّرت وسائل الإعلام الخطوة على أنها محاولة للتلاعب بالأرشيف وتسليمه لحركة النهضة وحلفائها، بدلًا من اعتبارها جهدًا لكشف حقيقة تورط الدولة في انتهاكات حقوق الإنسان. راجع: باب نات، «كاتب عام نقابة الأمن الرئاسي يؤكد منع سهام بن سدرين من أخذ أرشيف رئاسة الجمهورية» (The Secretary-General of the Presidential Security Union confirms that Sihem Bensedrine was prevented from taking the Presidency’s archives)، باب نات، 26 ديسمبر 2014، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.babnet.net/rttdetail-97222.asp.
[21] شـاران جريوال وشـادي حميد، «الجانب المظلم من التوافق في تونس: دروس من الفترة 2015-2019» (The Dark Side of Consensus in Tunisia: Lessons from 2015-2019)، مركز بروكينجز، يناير 2025، https://www.brookings.edu/articles/the-dark-side-of-consensus-in-tunisia-lessons-from-2015-2019/.
[22] هيومن رايتس ووتش، «السياسيون يحطمون الأمل في العدالة» (Politicians Dash Hopes for Justice in Tunisia)، 18 مايو 2018، https://www.hrw.org/news/2018/05/18/politicians-dash-hopes-justice-tunisia.
[23] رومان ديفيد، التطهير والعدالة الانتقالية: أنظمة التعيين في الوظائف في جمهورية التشيك والمجر وبولندا (Lustration and Transitional Justice: Personnel Systems in the Czech Republic, Hungary, and Poland ) (مطبعة جامعة بنسلفانيا، 2011)، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، http://www.jstor.org/stable/j.ctt3fhbks.
[24] هيكل بن محفوظ، «قطاع الأمن في تونس بعد الثورة وفي عام 2013» (The Security Sector in Tunisia After the Uprising and in 2013)، كارنيجي، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://carnegie-production-assets.s3.amazonaws.com/static/files/The_Security_Sector_in_Tunisia_after_the_Revolution_and_in_2013.pdf.
[25] مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، «أدوات سيادة القانون لدول ما بعد الصراع: فحص السجلات: إطار تشغيلي» (Rule-of-law Tools for Post-Conflict States; Vetting: an Operational Framework, United Nations)، 2006، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.ohchr.org/sites/default/files/Documents/Publications/RuleoflawVettingen.pdf.
[26] ميراندا سيسونز وعبد الرزاق السعيدي، «إرث مرير: دروس من اجتثاث البعث في العراق» (A Bitter Legacy: Lessons of De-Baathification in Iraq)، المركز الدولي للعدالة الانتقالية، مارس 2013، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.ictj.org/sites/default/files/ICTJ-Report-Iraq-De-Baathification-2013-ENG.pdf.
[27] مجموعة الأزمات الدولية، «الإصلاح واستراتيجية الأمن في تونس» (Reform and Security Strategy in Tunisia)، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.crisisgroup.org/sites/default/files/161-reform-and-security-strategy-in-tunisia.pdf.
[28] طارق عمارة، «تونس تحكم على أربعة أشخاص بالإعدام بتهمة اغتيال شخصية سياسية عام 2013» (Tunisia Sentences Four People to Death for 2013 Assassination of Politician)، رويترز، 27 مارس 2024، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.reuters.com/world/africa/tunisia-sentences-4-death-2-life-prison-assassination-politician-2013-2024-03-27/.
[29] يزيد صايغ، «الفرصة الضائعة: السياسة وإصلاح الشرطة في مصر وتونس» (Missed Opportunity: The Politics of Police Reform in Egypt and Tunisia)، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 17 مارس 2015، https://carnegie-production-assets.s3.amazonaws.com/static/files/missed_opportunity.pdf.
[30] الشبكة السورية لحقوق الإنسان، «مقتل 803 أفراد خارج نطاق القانون بين 6 و10 مارس 2025» (803 Individuals Extrajudicially Killed Between March 6–10, 2025)، 11 مارس 2025، https://snhr.org/blog/2025/03/11/803-individuals-extrajudicially-killed-between-march-6-10-2025/.
[31] هيومن رايتس ووتش، «تونس – الإقالات الجماعية ضربة موجعة لاستقلال القضاء» (Tunisia: Mass Firings a Blow to Judicial Independence)، 29 أكتوبر 2012، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.hrw.org/ar/news/2012/10/29/247882.
[32] هيومن رايتس ووتش، «تونس ـ أوجه قصور في قانون المجلس الأعلى للقضاء» (Tunisia: Law Falls Short on Judicial Independence)، 2 يونيو 2015، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.hrw.org/news/2015/06/02/tunisia-law-falls-short-judicial-independence.
[33] المرجع السابق.
[34] هيومن رايتس ووتش، «تونس: “سؤال وجواب” حول محاكمة بن علي وآخرين بتهمة قتل المتظاهرين» (Tunisia: Q&A on the Trial of Ben Ali, Others for Killing Protesters)، 11 يونيو 2012، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.hrw.org/news/2012/06/11/tunisia-qa-trial-ben-ali-others-killing-protesters.
[35] هيومن رايتس ووتش، «المحاسبة المنقوصة: أوجه القصور في محاكمات جرائم القتل أثناء الثورة التونسية» (Flawed Accountability, Shortcomings of Tunisia’s Trials for Killings during the Uprising)، 12 يناير 2025، تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.hrw.org/report/2015/01/12/flawed-accountability/shortcomings-tunisias-trials-killings-during-uprising.
[36] اللجنة الدولية للحقوقيين، «تحقيق العدالة: المحاسبة على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في تونس» (Achieving Justice for Gross Human Rights Violations in Tunisia)، مايو 2018، https://www.icj.org/wp-content/uploads/2018/05/Tunisia-GRA-Baseline-Study-Publications-Reports-Thematic-reports-2017-ENG.pdf?utm_source=chatgpt.com.
[37] العربي الجديد، «وزير العدل السوري الجديد “أشرف على إعدام نساء بتهمة الدعارة في عام 2015» (New Syrian Justice Minister ‘Oversaw Execution of Women for Prostitution’ in 2015)، 5 يناير 2025،تاريخ الاطلاع 14 مارس 2025، https://www.newarab.com/news/syrian-minister-oversaw-execution-women-prostitution.
Read this post in: English