رؤى: توظيف قوانين مكافحة الإرهاب كسلاح ضد مجتمعات الميم-عين في ليبيا ومصر

الإشارة المرجعية: إبراهيم، رتاج. 2025. «رؤى: توظيف قوانين مكافحة الإرهاب كسلاح ضد مجتمعات الميم-عين في ليبيا ومصر». رواق عربي 30 (1): 5-11. DOI: 10.53833/QDJO4273.
يثير تطبيق قوانين مكافحة الإرهاب في منطقة شمال إفريقيا خلال العقد الأخير تساؤلات جوهرية حول أسباب سن تشريعات واسعة النطاق؟ وكيفية تطبيق تلك القوانين؟ وعلى من تُطبق بقسوة أكبر؟ ففي حين تصاغ هذه القوانين ظاهريًا لحماية الأمن القومي؛ إلا أنها تستغل في بلدان مثل ليبيا ومصر بشكل استراتيجي لقمع المعارضة السياسية واستهداف الفئات المهمشة، لا سيما مجتمع الميم-عين (المثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي والعابرات والعابرين والكوير وغيرهم من أصحاب الهويات غير المعيارية). وقد أدى هذا الاستغلال الممنهج للقوانين إلى تسهيل ارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تحت ستار محاربة التطرف، الأمر الذي يكشف الدوافع الحقيقية للدولة المتمثلة في أغلب الأحيان في محاولتها الحفاظ على الهيمنة الاجتماعية وقمع التنوع.
يناقش هذا المقال كيفية تغلغل نفوذ الدولة في المجالين الخاص والاجتماعي، مع التركيز على ليبيا ومصر. مع الأخذ في الاعتبار أن السلطات الرسمية تصوّر الهويات الكويرية، إلى جانب تنظيم مجتمع الميم-عين، كتهديدات لاستقرار الدولة. في واقع الأمر، أضحت قوانين مكافحة الإرهاب اليوم سلاحًا نموذجيًا توظفه الأنظمة السلطوية للبقاء في السلطة، بما في ذلك قمع أي معارضة في السياق الجيوسياسي الحالي. فالقوانين التي كانت تستهدف في الأساس حماية الأمن القومي ومكافحة الإرهاب، تحولت بشكل متزايد إلى أدوات لاستهداف المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان والفئات المهمشة بشكل منهجي، ومن بينهم أفراد مجتمع الميم-عين. في هذا الإطار، يهدف هذا المقال إلى تحليل هذا التوظيف في ظل الأنظمة السلطوية، مع التركيز على التداعيات القانونية والاجتماعية والحقوقية لهذه الممارسات في كل من ليبيا ومصر.
ورغم أن توظيف الأطر القانونية كوسيلة للسيطرة القمعية على السكان ليس أمرًا جديدًا بالضرورة؛ إلا أن الجهود العالمية لمكافحة الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر قد منحت الأنظمة في جميع أنحاء العالم مبررًا ملائمًا، غالبًا ما يُقدم إلى المجتمع الدولي، لسحق المعارضة وفرض الإذعان الاجتماعي. وقد تحولت قوانين مكافحة الإرهاب إلى أدوات قمعية فعالة في شمال إفريقيا، حيثما يتشابك النظام القانوني مع الأيديولوجيات السياسية والدينية. وتتواجد مجتمعات الميم-عين، والتي تُعد بالفعل عرضة للخطر نتيجة الوصمات الاجتماعية والقوانين التمييزية، في صدارة هذه الحملات القمعية الممنهجة. يسعى هذا المقال للإجابة عن عدد من الأسئلة، من بينها: كيفية استخدام قوانين مكافحة الإرهاب ضد أفراد مجتمعات الميم-عين في ليبيا ومصر؟ ماهية الآليات القانونية المحددة التي تتيح هذا النوع من الانتهاكات؟ وما الذي يكشفه ذلك عن الممارسة الأوسع لحقوق الإنسان؟ ومن خلال معالجة هذه التساؤلات، يسعى المقال للمساهمة في النقاش حول حقوق الإنسان في شمال إفريقيا، ودعم جهود حماية الفئات المهمشة من الاضطهاد القانوني والعنف الذي ترعاه الدولة.
السلطوية وقوانين مكافحة الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان
لطالما كانت العلاقة بين مكافحة الإرهاب وحقوق الإنسان من أكثر القضايا إثارةً للجدل في الأوساط الأكاديمية وصناعة السياسات. وقد لاحظ الباحثون أيضًا أنه رغم أهمية الحاجة إلى وجود قوانين لمكافحة الإرهاب ضمانًا للأمن بين الدول؛ إلا أنها غالبًا ما تؤدي إلى إنكار الحريات المدنية، لا سيما في الدول السلطوية. ومن بين الباحثين الذين أسهموا نقديًا في دراسة تأثير قوانين مكافحة الإرهاب على الحريات المدنية في الدول السلطوية، يأتي عزيز رنا.
ويوضح رنا أن هذه القوانين، وإن تمت صياغتها بصدق لحماية الأمن القومي، إلا أنها تتحول إلى أدوات يتم توظيفها من جانب الدول السلطوية لقمع المعارضة السياسية واستهداف الفئات المستضعفة. ويسلط رنا الضوء على هذه المفارقة، إذ تغدو القوانين التي يُفترض فيها توفير الحماية للمجتمع، عائقًا أمام تطور الحريات في ذلك المجتمع. وتعد قوانين مكافحة الإرهاب، بما في ذلك تعريفاتها الفضفاضة للإرهاب وما ينتج عنها من انتهاكات لحقوق الإنسان، من بين بواعث القلق الأساسية التي تناولتها الأدبيات المتعلقة بهذا الشأن.[1] نتيجة لهذه التعريفات الغامضة، يجادل باحثون مثل دونوهيو (2008) بأن التفسيرات واسعة النطاق قد تمتد لتشمل فعليًا أي نشاط تستهدفه الحكومات وتسعى للقضاء عليه.[2]
وبالتالي لا يقتصر استخدام قوانين مكافحة الإرهاب على مجرد تجريم الأعمال العنيفة، وإنما يجري توظيفها أيضًا لقمع المعارضة السلمية وأية تجليات لهويات الأقليات.[3] وبينما وثّقت منظمات حقوق الإنسان العديد من الحالات التي استُخدمت فيها قوانين مكافحة الإرهاب لتبرير الاعتقال التعسفي والتعذيب وحتى الإعدام؛ فإن تقارير هيومن رايتس ووتش (2015)[4] (2018)[5] سطلت الضوء على التأثيرات غير المتناسبة لهذه القوانين بحق الفئات المهمشة، بما في ذلك الأقليات العرقية والدينية، والمعارضون السياسيون، وأفراد مجتمعات الميم-عين. وتجادل هذه المنظمة الاستخدام المسيء لقوانين مكافحة الإرهاب أسفر عن بث الذعر والقمع، وتقليص مساحات المجال العام وتقويض سيادة القانون. في هذا السياق، يرزح أفراد مجتمعات الميم-عين في شمال إفريقيا تحت وطأة قوانين معقدة للغاية وبيئة قانونية غير مواتية على الإطلاق. إذ تجرّم معظم دول المنطقة العلاقات المثلية، وتتراوح العقوبات بين السجن لسنوات عديدة وصولًا إلى الإعدام. وتتفاقم هذه الأحكام القانونية القاسية نتيجة السياق الاجتماعي الذي تتأثر فيه المواقف بالمعايير الدينية والثقافية المحافظة؛ مما يؤدي إلى انتشار واسع للوصم الاجتماعي ضد أفراد مجتمعات الميم-عين.
ويتجاوز التحيز ضد مجتمعات الميم-عين مجرد العقوبات القانونية؛ فهو متأصل في النظام القانوني الذي يسعى أيضًا إلى محو وجودهم من المجال العام. ووفقًا لتقرير صادر عن هيومن رايتس ووتش عام 2018، فإن العلاقات المثلية مُجرَّمة في جميع أنحاء شمال إفريقيا، إذ تُسفر العقوبات القاسية والمواقف المجتمعية عن خلق بيئة معادية بشكل متزايد لأفراد مجتمعات الميم-عين، مما يؤثر على حياتهم الشخصية وقدرتهم على الانخراط في المجال العام.[6]
يخلق الإطار القانوني في العديد من الدول العربية بيئة قمعية لنشاط مجتمعات الميم-عين. إذ يواجه النشطاء المضايقات والاعتقالات والعنف من جانب الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية؛ الأمر الذي يحد بدوره من جهود المناصرة[7] ومبادرات الدعم المجتمعي.[8] يؤدي هذا التهميش، جنبًا إلى جنب مع عدم وجود حوار عام حول قضايا مجتمع الميم-عين، إلى تعزيز ثقافة الصمت والوصم، مما يزيد من عرقلة إمكانية الظهور العلني والصمود بين أفراد مجتمع الميم-عين. ويفاقم تطبيق قوانين مكافحة الإرهاب هذه التحديات؛ إذ يمنح الحكومات أدوات لقمع تنظيم مجتمعات الميم-عين بذريعة الأمن القومي. وتتحول هذه القوانين في أيدي الأنظمة السلطوية إلى وسائل للسيطرة الاجتماعية، من خلال توظيف الأطر القانونية كسلاح لقمع المعارضة واستهداف الفئات المهمشة بأدنى قدر من المقاومة.[9]
يثبت استخدام قوانين مكافحة الإرهاب في ليبيا ومصر صحة التكهنات طويلة الأمد حول السلطوية؛ إذ يتضح توظيف الأطر القانونية في المقام الأول بهدف تعزيز سلطة الدولة بدلًا من حمايتها. وهكذا، تتيح قوانين الإرهاب واسعة النطاق وغير المحددة بشكل واضح أن يتم تطبيقها انتقائيًا، واستهداف المجموعات المهمشة، مثل أفراد مجتمعات الميم-عين، بشكل غير متناسب واضطهادهم.[10] وبمنأى عن القمع القانوني، تعمل هذه القوانين على ترسيخ بيئة من المراقبة والخوف والإذعان السياسي. ففي ليبيا، يُستخدم بث الاعترافات المنتزعة قسرًا بموجب تهم مكافحة الإرهاب، كأداة للإكراه الاجتماعي، ويشكل هذا الإجراء رسالة واضحة بأن أي انحراف عن القواعد الأخلاقية التي تفرضها الدولة سيُواجه عواقب وخيمة. في مصر، تمثل حادثة رفع علم قوس قزح مثالًا على كيف أن هذه الأنظمة لا تكتفي بقمع الأقليات، ولكنها تسعى أيضًا لمحو ظهورها في المجال العام، من خلال تعبئة القوى المجتمعية المحافظة للبرهنة على التفوق الأخلاقي. ومن خلال تصوير وجود مجتمع الميم-عين والتعبير عنه على أنه يشكل تهديد للأمن القومي، تعمل هذه الحكومات على تحويل انتباه الرأي العام عن المظالم الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية، فيما تواصل تعزيز قبضتها على السلطة.
تشدد الأدبيات المتعلقة بالأنظمة السلطوية على الدور الاستراتيجي الذي تضطلع به القوانين في توطيد دعائم السلطة، إذ يتم تأطير التدابير القمعية كضرورة حتمية لحماية الأمن العام. وقد اكتسب هذا التوجه زخمًا ملحوظًا، لا سيما في حقبة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، إذ غدت إجراءات مكافحة الإرهاب الصارمة مقبولة عالميًا باعتبارها ضرورات أمنية. ومن ثم، خلص ليفيتسكي وواي إلى أن الأنظمة السلطوية تستغل الأطر القانونية لإضفاء المشروعية على ممارساتها، وذلك عبر توسيع نطاق السيطرة تحت عباءة فرض القانون والنظام.[11] هذه الديناميكية تشجع الأنظمة على استهداف مجتمعات الميم-عين، وتقديمها باعتبارها تُمثّل تهديدًا للأخلاق العامة والأمن القومي. ومن خلال توجيه وتوحيد الرأي العام ضد أقلية لجعلها كبش فداء، تعمل الحكومات على صرف الانتباه عن القضايا الملحة، مثل عدم الاستقرار الاقتصادي أو الاضطرابات السياسية.
في ضوء هذا، تُشير التحليلات الأكاديمية للسلطوية إلى أن الأطر القانونية في الأنظمة القمعية ليست أدوات حكم محايدة، بل تستغل كآليات سياسية للهيمنة. وكما تكتب حنة آرنت، لا تعتمد الأنظمة التوتاليتارية على الإكراه العنيف فقط، بل تلجأ أيضًا إلى التلاعب القانوني لإضفاء الطابع المؤسسي على القمع.[12] في كل من ليبيا ومصر، يُبرز استخدام قوانين مكافحة الإرهاب لاستهداف أفراد مجتمعات الميم-عين كيفية توظيف الأدوات القانونية لدعم الخطابات الأيديولوجية التي تُكرس السلطوية، وتعزز ترسيخ هذه الأنظمة في السلطة. فالخلط بين مناصرة حقوق مجتمعات الميم-عين والمخاوف المتعلقة بالأمن لقومي يخدم غرضين أساسيين؛ إذ ينزع الشرعية عن جهود المناصرة عبر ربطها بالجريمة من جانب، ويمنح غطاءً قانونيًا للقمع الذي تمارسه الدولة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بذريعة مكافحة الإرهاب من جانب أخر. ومن خلال ترسيخ القمع في الأطر القانونية؛ تعمل هذه الأنظمة على تطبيع الاضطهاد، بحيث لا يُنظر إليه كإساءة استثنائية لاستخدام السلطة، بل يغدو بمثابة وظيفة روتينية للحكم.
ومن ثم، فإن دراسة السلطوية تدمج ممارسة قوانين مكافحة الإرهاب ضمن سياق قمع الدولة. وحسبما هو مذكور آنفًا، توظف الأنظمة السلطوية القوانين لتعزيز السلطة، وقمع المعارضة، والحفاظ على السيطرة الاجتماعية. علاوة على ذلك، فإن التعريفات الفضفاضة والغامضة لقوانين مكافحة الإرهاب تتيح للحكومات تجريم أي نشاط غير مرغوب فيه. ويبحث التحليل التالي في كيفية عمل الأنظمة القانونية التي شكلها الحكم السلطوي المستدام في شمال أفريقيا، على تعزيز سلطة الدولة بدلًا من دعم العدالة.
حالة ليبيا
النظام القانوني في ليبيا مزيج من القانون المدني، والشريعة الإسلامية، والحكم السلطوي، متأثرًا في ذلك بالحقبة الاستعمارية وفترة حكم معمر القذافي طويلة الأمد. ففي ظل حكمه، تم استخدام القوانين كأدوات قمع لإخماد المعارضة وترسيخ قبضة النظام الحديدية على السلطة. ورغم التغييرات الواسعة التي شهدها الإطار القانوني الليبي منذ ثورة عام 2011 التي أطاحت بالقذافي؛ إلا أن ظلال السلطوية لا تزال قائمة، لا سيما في القوانين التي سنّتها البلاد لمكافحة الإرهاب.
تم إصدار قانون العقوبات الليبي لأول مرة عام 1953، وشهد منذ ذلك الحين إدراج أحكام واسعة لمكافحة الإرهاب. على سبيل المثال، ففيما تُجرّم المادة 207 «الأعمال التي تهدف إلى الإطاحة بالنظام السياسي أو الاجتماعي»؛ فإن المادة 291 تعاقب الأفراد المتورطين في أنشطة يُنظر إليها باعتبارها تروج للإرهاب أو تهدد الأمن القومي.[13] تمت صياغة هذه الأحكام باستخدام عبارات فضفاضة بشكل مُتعمّد؛ لإتاحة التأويلات واسعة النطاق التي يمكن توظيفها لاستهداف طيف واسع من الأنشطة، بما في ذلك مناصرة مجتمعات الميم-عين.
في عام 2014، اتخذت الحكومة الليبية خطوة إضافية من خلال تطبيق القانون رقم 3 لمكافحة الإرهاب،[14] والذي منح الدولة نطاق سلطات أوسع لتتمكن من قمع التهديدات المزعومة. يستخدم هذا القانون تعريفًا فضفاضًا وغامضًا للإرهاب، لا يقتصر على الأعمال العنيفة فحسب، وإنما يشمل أي نشاط يُنظر إليه باعتباره يمثل تهديدًا للنظام العام. وقد استغلّت مختلف الفصائل التي تُشكّل المشهد السياسي الليبي المنقسم هذا القانون لقمع المعارضة وترسيخ سيطرتها على السلطة.
تحليل الحالة: حادثة «الاعترافات» عام 2023
من بين الأمثلة البارزة على إساءة استخدام قوانين مكافحة الإرهاب في ليبيا، حينما بث جهاز الأمن الداخلي مقاطع فيديو على شبكة الإنترنت في نهاية 2023، تعرض «اعترافات» قسرية لأربعة وعشرين رجلًا.[15] وقد وُجِّهت إلى هؤلاء الأفراد تهم تتضمن الممارسات الجنسية غير المشروعة والترويج لأفكار أو مبادئ تستهدف الإطاحة كليًا أو جزئيًا بالنظام السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي للدولة. وتتسم العقوبات المتوقعة بحقهم بالقسوة، إذ تتراوح بين السجن المؤبد وعقوبة الإعدام.[16]
يشير الوضع بوضوح إلى أن أولئك الرجال كانوا تحت الإكراه بالتهديد، ويُعتقد على نطاق واسع أن «اعترافاتهم» تم انتزاعها بالإكراه. وفيما تستهدف تلك الممارسات، التي تتضمن التشهير العلني والاعترافات القسرية، معاقبة الأفراد المنخرطين في علاقات محظورة؛ فإنها أيضًا توجه رسالة تحذيرية إلى مجتمع الميم-عين الأوسع، وأي شخص قد يعارض الدولة، بأن العواقب ستكون وخيمة. لا تعد هذه الحالات استثنائية، وإنما تعكس نمطًا متزايد الخطورة في استغلال تشريعات مكافحة الإرهاب ضد المجتمع المدني والأقليات في ليبيا. إذ يمنح هذا الإطار القانوني، بصياغته الغامضة وتعريفاته الفضفاضة، سلطة هائلة للدولة لإخماد أي شكل من أشكال المعارضة –لا سيما مجرد وجود مجتمع الميم-عين.
تشهد ليبيا حالات متكررة لإساءة استخدام قوانين مكافحة الإرهاب كسلاح ضد مجتمع الميم-عين، مما يُسفر عن تفشي مناخ الخوف، إذ يجد الأفراد أنفسهم معرضين لقمع الدولة، مما يجبرهم على التزام الصمت إزاء ما يتعلق بحياتهم، والامتناع عن التنظيم الجماعي أو المطالبة بحقوقهم. في السياق نفسه، يفاقم غياب الحماية القانونية، إلى جانب التهديد بعقوبات صارمة، من هشاشة وضع أفراد مجتمع الميم-عين، الذين يعانون بالفعل من التهميش داخل المجتمع الليبي.
على الجانب الأخر، التزم المجتمع الدولي الصمت إزاء هذه القضية، ولم يتخذ خطوات فعالة لمحاسبة الحكومة الليبية على ممارساتها. ويؤدي الافتقار إلى الرقابة الدولية، في ظل طبيعة المشهد السياسي الليبي المنقسم، إلى صعوبة التعامل بشكل فعّال مع هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان. وتُبرز دراسة الحالة المذكورة أعلاه الحاجة الملحّة لضرورة إجراء إصلاح قانوني، بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات دولية أكثر فاعلية لحماية حقوق أفراد مجتمع الميم-عين في ليبيا.
حالة مصر
على مدى العقود الأخيرة، شهدت قوانين مكافحة الإرهاب في مصر تطورات سريعة، خاصة مع استمرار الاضطرابات السياسية في البلاد. ويشكل قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015،[17] الذي صدر بعد اغتيال النائب العام هشام بركات، الركيزة الأساسية في الإطار القانوني الحالي لمكافحة الإرهاب في مصر.
وينص هذا القانون على تعريفات فضفاضة للإرهاب تشمل أي عمل يستخدم القوة أو العنف بقصد الإخلال بالنظام العام أو الوحدة الوطنية أو السلام أو الأمن. كما يُجِّرم القانون التحريض على الإرهاب، حتى في الاتصالات الخاصة، ونص على عقوبات مشددة، بما في ذلك عقوبة الإعدام، لمجموعة مختلفة من الجرائم المرتبطة بالإرهاب.
واستكمالاً لقانون مكافحة الإرهاب، يعمل قانون الكيانات الإرهابية لعام 2015 على توسيع نطاق سلطة الحكومة من خلال السماح للمحاكم بتصنيف الأفراد أو الجماعات كإرهابيين باستخدام معايير غامضة. وتسمح صياغة القانون الفضفاضة للسلطات باستخدامها ذريعة لاستهداف مجموعة واسعة من الأنشطة السلمية. وقد استغلت الحكومة المصرية هذه القوانين لتنفيذ حملاتها القمعية ضد المعارضة السياسية والمجتمع المدني. وعلى غرار ليبيا، يسمح الإطار القانوني في مصر بتجريم أي فعل تعتبره الدولة تهديدًا لسلطتها. ولا يقتصر هذا على الأعمال العنيفة، بل يشمل أيضًا الاحتجاجات السلمية، والمنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى النشاط الجنسي خارج إطار نموذج المعيارية المغايرة.
تحليل الحالة: حادثة علم قوس قزح عام 2017
تعتبر حادثة «علم قوس قزح» واحدة من أكثر الحالات المعروفة للتطبيق غير المتناسب لقوانين مكافحة الإرهاب في مصر.[18] ففي حفل لفرقة مشروع ليلى اللبنانية –التي يقودها مغنٍ مثلي الجنس بشكل علني– رفعت مجموعة من الجمهور أعلام قوس قزح –وهو رمز لفخر مجتمع الميم-عين. وأسفر هذا العرض الاستفزازي للأعلام عن رد فعل عنيف وغير مسبوق من الحكومة المصرية، إذ تم اعتقال حوالي خمسة وسبعين شخصًا. ووُجهت إليهم اتهامات بالترويج لـ«الشذوذ الجنسي» و«الفجور»، وهي تهم تندرج ضمن الإطار الفضفاض لقوانين مكافحة الإرهاب في مصر. كما تعرض العديد من المعتقلين لفحوص شرجية قسرية، وهي ممارسة تدينها منظمات حقوق الإنسان باعتبارها شكلًا من أشكال التعذيب.[19] من زاوية أخرى، كانت هذه الحملة مجرد وسيلة استخدمتها الحكومة المصرية لاستعادة السيطرة على الأخلاق العامة، في محاولة لتحويل الانتباه بعيدًا عن القضايا السياسية والاقتصادية الأكثر خطورة.
تؤكد تلك الحادثة كيفية استخدام قوانين مكافحة الإرهاب في مصر لترسيخ نظام أخلاقي محدد يستبعد أفراد مجتمع الميم-عين ويعاقبهم. فبينما تم الترويج لهذه القوانين باعتبارها ضرورية لحماية النظام العام والأمن القومي؛ إلا أنها في واقع الأمر كانت تهدف لقمع مجتمع مهمش وترسيخ المعايير الاجتماعية المحافظة.[20]
وقد كان لحادثة علم قوس قزح تأثير هائل على مجتمع الميم-عين في مصر؛ إذ أن موجة الاعتقالات والتغطية الإعلامية، إلى جانب العديد من الحوادث المشابهة، أرغمت معظم أفراد مجتمع الميم-عين على العيش في الخفاء أو اللجوء إلى المنفى. كما نجحت الدولة المصرية في إسكات أي نشاط علني للمنظمات والنشطاء المنتمين لمجتمع الميم-عين. وخلّف القمع الذي مارسته الحكومة المصرية ندوبًا ستدوم في حياة النشطاء والمجتمع الأوسع، فقد تعرض نشطاء مثل سارة حجازي وأحمد علاء لتعذيب وحشي عقب اعتقالهما، مما دفعهما إلى الفرار من مصر. إلا أن الصدمة التي عانت منها حجازي تسببت لاحقًا في انتحارها المأساوي في المنفى.[21] وبشكل عام، يتم استغلال قوانين مكافحة الإرهاب و«الفجور» لإجبار المنظمات على العمل في الخفاء، وإخماد أية إمكانية للحشد المجتمعي، وخلق مناخ من الخوف لأفراد مجتمع الميم-عين.
يشكل كل ذلك جزءً من سياسة أوسع وأكثر إيذاءً تنتهجها الحكومة المصرية. وبينما تدين المنظمات الدولية لحقوق الإنسان هذه السياسة، لكنها لا تتخذ قدر كافٍ من الإجراءات الملموسة على أرض الواقع لمحاسبة الحكومة. ومن شأن افتقار أفراد مجتمع الميم-عين للحماية القانونية في مصر، إلى جانب استعداد الدولة لاستخدام تدابير قصوى لفرض الإذعان المجتمعي؛ خلق مناخ من الخوف والقمع لا يبدو أنه سينحسر في المستقبل القريب.
ليبيا ومصر: منظور مقارن للقمع
رغم استخدام ليبيا ومصر قوانين مكافحة الإرهاب باعتبارها أداة للقمع؛ إلا أن السياقات التي تُطبَّق فيها هذه القوانين تتمايز بشكل كبير. ففي ليبيا، أسفرت الحرب الأهلية الممتدة والتشرذم السياسي عن استغلال الفصائل المتنافسة لقوانين مكافحة الإرهاب كوسيلة لتعزيز وتوسيع سيطرتها من خلال قمع المعارضين. ويأتي استهداف أفراد مجتمع الميم-عين ضمن استراتيجية أوسع للحفاظ على السلطة في سياق تتبدل فيه المعايير القانونية والسياسية.
على جانب أخر، تستخدم الحكومة المصرية قوانين مكافحة الإرهاب بطريقة أكثر مركزية ومنهجية؛ إذ تطبق الدولة هذه القوانين ضمن إطار أوسع يستهدف فرض الهيمنة على الأخلاق العامة وسحق أي شكل من أشكال المعارضة. وتجسد حادثة علم قوس قزح هذا النهج بشكل نموذجي، إذ استهدفت الدولة أفراد مجتمع الميم-عين ليس فقط لفرض الأعراف الاجتماعية المحافظة، ولكن أيضًا لتحويل الانتباه عن التحديات السياسية والاقتصادية الأخرى.
رغم هذه الاختلافات، هناك العديد من أوجه التشابه في كيفية توظيف هذه القوانين لاستهداف مجتمعات الميم-عين في كلا البلدين. ففي الممارسة العملية، يسمح التعريف الفضفاض للإرهاب لكلا البلدين، ليبيا ومصر، بتجريم طائفة واسعة من الأنشطة التي قد تعتبرها السلطات تهديدًا لمصالح الدولة. وفيما يشكل ذلك أحد أشكال النشاط السلمي التي يمارسها أفراد مجتمع الميم-عين؛ إلا أن النتيجة تتمثل في مناخ من الخوف والقمع، حيثما يُجبر الأفراد ذوي التوجهات المثلية على العيش في الخفاء أو مغادرة البلاد، مع حرمانهم من حقوقهم الإنسانية الأساسية.
ومن ثم، فإن استخدام قوانين مكافحة الإرهاب ضد مجتمع الميم-عين في ليبيا ومصر يعكس نمطًا أوسع من استفحال توظيف الأطر القانونية في شمال إفريقيا كأداة للقمع ضد المجتمع المدني وفرض الإذعان الاجتماعي. وجدير بالذكر أن هناك قوانين مماثلة في دول مثل السعودية وإيران والإمارات العربية المتحدة تُجرِّم هوية مجتمع الميم-عين وأي أنشطة ذات صلة، بدعوى ردع الانحلال الأخلاقي وحماية الأمن القومي.[22] وهذا بدوره ينذر بمستقبل قاتم لحقوق الإنسان في المنطقة. إن إساءة استخدام قوانين مكافحة الإرهاب تستهدف الفئات المهمشة بطرق تؤدي إلى تقويض سيادة القانون وتآكل الحريات المدنية، كما تخلق بيئة يُتسامح فيها مع انتهاكات حقوق الإنسان، إن لم يتم ترسيخها قانونيًا بشكل مؤسسي. وقد ساهم ضعف الاستجابة الدولية لهذه الانتهاكات في تشجيع هذه الأنظمة السلطوية على مواصلة سياساتها القمعية والإفلات من المحاسبة.
خلاصة
يُظهر الاستخدام التعسفي لتشريعات مكافحة الإرهاب في ليبيا ومصر أن هذه القوانين لا تستهدف فعليًا حماية الأمن القومي؛ وإنما تُستخدم كأدوات للقمع من جانب الأنظمة السلطوية. فبدلًا من حماية المواطنين، يتم توظيف هذه التشريعات كسلاح لفرض الإذعان، وإسكات المعارضة، واستهداف أفراد مجتمع الميم-عين بشكل غير متناسب بذريعة مكافحة التطرف. في كلا البلدين، تم استغلال المخاوف الأمنية كمبرر للاضطهاد، إذ عمدت الحكومات لتصوير الهويات الكويرية باعتبارها تمثل تهديدًا للأخلاق الوطنية. وتتطلب معالجة هذه القضية إصلاحًا قانونيًا عاجلًا وشاملًا لمنع استمرار إساءة استخدام قوانين مكافحة الإرهاب. كما لا بد من التحرك الدولي الفعّال، بما في ذلك الدعوة إلى إلغاء التجريم، ومحاسبة الحكومات، ووضع آليات تمنع التلاعب بالأطر القانونية لتبرير انتهاكات حقوق الإنسان.
في سبيل ذلك، يتعين على منظمات حقوق الإنسان الدولية تجاوز دور مراقبة تلك الانتهاكات، واتخاذ إجراءات ملموسة مثل ممارسة الضغوط الدبلوماسية، والتدخل في السياسات، والتضامن المباشر مع النشطاء المحليين. في نهاية المطاف، يجب إعادة توجيه قوانين مكافحة الإرهاب إلى هدفها الأساسي، وهو حماية جميع المواطنين من التهديدات الأمنية الحقيقية، مع احترامها لحقوق الإنسان. فلا ينبغي استخدام هذه القوانين كأدوات للقمع، رغم أنها في السياقات السلطوية غالبًا ما تُوظَّف لممارسة الاضطهاد. ومن خلال المناصرة العالمية المتواصلة والتدخل القضائي؛ يمكن تفكيك البنى القانونية القمعية، مما يمهد الطريق لمستقبل تُصان فيه الحقوق الأساسية، ويتوقف تجريم أفراد مجتمع الميم-عين بذريعة حماية الأمن القومي.
هذا المقال كتب في الأصل باللغة الانجليزية لرواق عربي.
[2] لورا ك. دونوه، ثمن مكافحة الإرهاب: السلطة، السياسة، والحرية، (دار نشر جامعة كامبريدج، 2008)، 273 – 332.
[3] المرجع السابق نفسه.
[4] هيومن رايتس ووتش، «مصر: قانون مكافحة الإرهاب يقضي على الحقوق الأساسية» [Egypt: Counterterrorism Laws Continue to Erode Basic Rights]، 19 أغسطس 2015، https://www.hrw.org/news/2015/08/19/egypt-counterterrorism-law-erodes-basic-rights.
[5] نيلا غوشال، «اعتقالات جديدة في الحملة المصرية ضد مجتمع الميم، في غياب التنديد الدولي» [Egypt: More Arrests in LGBT Crackdown, No International Outcry]، هيومن رايتس ووتش، 22 يناير 2018، https://www.hrw.org/news/2018/01/22/more-arrests-egypts-lgbt-crackdown-no-international-outcry.
[6] هيومن رايتس ووتش، «الجرأة في مواجهة المخاطر: نضال مجتمع الميم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» [Audacity in Adversity: LGBT Activism in the Middle East and North Africa]، 16 أبريل 2018، تاريخ الاطلاع 1 فبراير 2025، https://www.hrw.org/ar/report/2018/04/16/316661.
[7] عليمي إيتان وأبراهام سيلا وماريو سزنايدر، الاحتجاج الشعبي، النظام، والانتقال: الثورات العربية من منظور مقارن [Popular Contention, Regime, and Transition: The Arab Revolts in Comparative Perspective] (منشورات جامعة أكسفورد، 2016).
[8] سيرين ج. خضر، تحرير العالمية من الكولونيالية: أخلاقيات نسوية عابرة للحدود [Decolonizing Universalism: A Transnational Feminist Ethic] (دار نشر جامعة أكسفورد، 2018).
[9] ستيفن ليفيتسكي ولوكاس أ. واي، السلطوية التنافسية: الأنظمة الهجينة بعد الحرب الباردة [Competitive Authoritarianism: Hybrid Regimes After the Cold War] (منشورات جامعة كامبريدج، 2010).
[10] ريكاردا أميلينج، «بناء الجماعة القومية من خلال رهاب المثلية بين العامة: تحليل خطاب التغطية الإعلامية المصرية لقضية ‘علم قوس قزح’ عام 2017»، رواق عربي 27، العدد 1 (2022): 23–38. https://doi.org/10.53833/PXDI8870.
[11] ليفيتسكي وأ. واي، السلطوية التنافسية.
[12] حنة أرندت، أسس التوتايتارية [The Origins of Totalitarianism] (هاركوت بريس وشركاه، 1976).
[13] المجمع القانوني الليبي، «مرسوم بإصدار قانون العقوبات»، المواد 207 و291، 20 فبراير 1954، https://shorturl.at/iuiap.
[14] منظمة العفو الدولية، «ليبيا: يتعين على جهاز الأمن الداخلي وضع حد للانتهاكات تحت مسمى “حرّاس الفضيلة”» [Libya Internal Security Agency Must End Abuses in the Name of “Guarding Virtue“]، 14 فبراير 2024، https://www.amnesty.org/ar/latest/news/2024/02/libya-internal-security-agency-must-end-abuses-in-name-of-guarding-virtue/.
[15] جهاز الأمن الداخلي الليبي، «تحايل وتغلغل المنظمات وسهولة التعامل مع الادوات إلحاقاً»، 13 مايو 2023، https://isa.gov.ly/ar/thaelalmondmat.
[16] جهاز الأمن الداخلي الليبي، «تحايل وتغلغل المنظمات».
[17] هيومن رايتس ووتش، «مصر: قانون مكافحة الإرهاب يقضي على الحقوق الأساسية» [Egypt: Counterterrorism Laws Continue to Erode Basic Rights]، 19 أغسطس 2015، https://www.hrw.org/news/2015/08/19/egypt-counterterrorism-law-erodes-basic-rights. .
[18] هيومن رايتس ووتش، «مصر: تعذيب وانتهاكات بحق “مجتمع الميم” على يَد قوات الأمن» [Imprisoned for Raising a Rainbow Flag]، 30 سبتمبر 2020، https://www.hrw.org/ar/video-photos/video/2020/10/01/imprisoned-raising-rainbow-flag.
[19] المرجع السابق نفسه.
[20] أميلينج، «بناء الجماعة القومية».
[21] هيومن رايتس ووتش، «مصر: اعتقالات جماعية وسط تعتيم إعلامي على موضوع المثليين: نشطاء “علم قوس قزح” يواجهون تهديدات بالموت وسوء المعاملة» [Egypt: Mass Arrests Amid LGBT Media Blackout: ‘Rainbow Flag’ Activists Face Death Threats, Ill Treatment]، 6 أكتوبر 2017، https://www.hrw.org/ar/news/2017/10/06/309903.
[22] الرابطة الدولية للمثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي والعابرين والعابرات وثنائيي الجنس (ILGA World)، «رهاب المثلية برعاية الدولة: نظرة عامة على التشريعات العالمية» [State-Sponsored Homophobia: Global Legislation Overview]، 15 ديسمبر 2020، https://ilga.org/state-sponsored-homophobia-report.
Read this post in: English