مراجعة كتاب: التجديف وحرية التعبير

حمل هذا المقال كبي دي إف

في فبراير 2020 نشب جدال في بلجيكا بعد أن ظل يختمر طوال أكثر من عام. كان سبب الجدال هو موكب كرنفال مدينة آلست في عام 2019، حيث تضمن الموكب منصة متحركة تحمل دميتين لرجلين يهوديين. وتم تزيين كلتا الدميتين بشكل نمطي بأنوف مدببة وجدائل الشعر وقبعات الفرو التقليدية. علاوة على ذلك، كانتا تقفان في مواجهة خزانة وسط أكياس من الأموال. واعتبر المنتقدين أن منصة الكرنفال مثال واضح على معاداة السامية.

في نهاية المطاف، أعلنت منظمة اليونسكو في ديسمبر 2019 سحب الكرنفال من قائمتها الخاصة بـ “روائع التراث الشفهي وغير المادي للبشرية”. ولكن أصر آخرون، من بينهم المسئول عن كرنفال آلست، على أن العرض لا يعدو كونه مجرد أداء ساخر. وتحدى مواطنون التنديد بكرنفالهم – “ذروة حرية التعبير” حسب زعمهم – في موكب عام 2020: فقد عاودت المنصة المتنازع عليها الظهور وتنكر المحتفلون هذه المرة على هيئة نمل يرتدي قبعات الفرو فوق جدائل الشعر. وهكذا، أشعل الكرنفال الجدل مجددًا حول حرية التعبير وحماية الأقليات الدينية.

ونعثر على جدل مماثل في متن كتاب التجديف وحرية التعبير: تأملات مقارنة ونظرية وتاريخية بعد مذبحة تشارلي إبدو. محررا هذا الكتاب الجماعي هما يروين تيمبرمان أستاذ القانون الدولي والدين في جامعة إيراسموس روتردام، وأندراس كولتاي أستاذ القانون في الجامعة الوطنية للخدمة العامة وجامعة بازماني بيتر الكاثوليكية في بودابست. بالإضافة إلى كلا المحرران، شارك في الكتاب ثلاثون خبيرًا بارزًا قدموا مساهمات معتبرة، وهو ما جعل الكتاب يضم سبعة وعشرين فصلًا مطولا ولكنها تخلب اللب.

نقطة الإنطلاق في الكتاب لم تكن الكرنفال البلجيكي. بدلا من ذلك، يتعامل الجزء الأول مع الهجوم المروّع على مكاتب شارلي إبدو في 7 يناير 2015 وعواقبه المجتمعية. ومن ثم، يقدّم الكتاب أولاً مخططًا نظريًا شاملا للتجديف، والحق في التجديف، والاختلافات بين التجديف وازدراء الدين وخطاب الكراهية. ومن ثم، يتوسع الكتاب في التطرق إلى الإطار القانوني الدولي، مع العناية بعمل مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحرية الدين والمعتقد والوثائق الرئيسية مثل خطة عمل الرباط. بالإضافة لذلك، يحلل الكتاب بشكل نقدي السوابق القضائية للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. كما يفحص الكتاب قوانين مكافحة التجديف المعمول بها حاليًا في الأنظمة القانونية الوطنية، فضلا عن قوانين مكافحة التجديف الوطنية التي خضعت للإلغاء أو توقف العمل بها لزمن طويل. وينتهي الكتاب بمجموعة من التأملات بشأن مستقبل قوانين التجديف.

ينبغي على المرء ملاحظة أن الكتاب يركز على الحالات الغربية. الاستثناء الوحيد هو باكستان، التي حظيت باهتمام خاطف في الفصل السادس. هذا التركيز على الدول الغربية يكشف عن أكثر مباديء الكتاب أهمية: على عكس ما قد يوحي به الاستخدام الواسع لشعار “كلنا شارلي”؛ فإن الغرب ليس حصنًا ليبراليًا لحرية التعبير. في الواقع، إن العديد من الدول مثل بولندا وإيطاليا وألمانيا تٌقر القيود على التجديف. بينما تحافظ دول أخرى مثل أستراليا وأيرلندا والدنمارك على تشريعات مكافحة التجديف؛ على الرغم من عدم العمل بهذه القوانين منذ عقود. وتصبح هذه المعايير المزدوجة أكثر وضوحًا على المسرح الدولي، حيث تروّج الدول الغربية لأجندة ليبرالية في مقابل بقية العالم، وعلى وجه الخصوص منظمة التعاون الإسلامي.

وتُفسّر نيفيل كوكس وجه التعارض بين الغرب والدول ذات الأغلبية المسلمة. وتلاحظ أن قوانين مكافحة التجديف تظل مثيرة للجدل، بينما الأنواع الأخرى من القوانين المقيدة لحرية الكلام أقل إثارة للجدل في الدول الأوروبية. ومن الأمثلة البارزة على مثل تلك القوانين هي المحظورات القانونية على إنكار الهولوكوست. في وجهة نظر المؤلفة، فإن مثل هذه التشريعات لا تخدم الحساسيات الفردية، ولكن الأخلاق العامة للمجتمع بأكمله. علاوة على ذلك، فإن التشريعات ضد إنكار الهولوكوست لا تستند إلى الدين وإنما إلى مباديء حقوق الإنسان. ومن ثم، ترى نيفيل كوكس أن هناك سببا ذا صلة وراء القيود المفروضة على حرية التعبير في الغرب وحظر التجديف في دول أخرى. فبعد كل شيء كلاهما يتم في توافق مع الأخلاق العامة. فالدول الغربية ببساطة تفرض أخلاقًا ليبرالية تستند إلى العلمانية وفقدت توقيرها للمقدس. في الواقع، إن النقاشات الغربية حول حظر ختان الذكور وشعائر الذبح والحجاب قد تكون دليلاً على هذه العلاقة المضطربة مع الأخلاق الدينية.

برغم أنه قد يكون كتابًا مشوقًا كمقاربة لـ “صدام الأخلاق العامة”، لكنه لا يحجم عن تجاوز هذا الصراع الواضح. حيث يحذر روبرت خان من عدم النظر إلى حظر التجديف “من خلال عدسة صدام الحضارات”، ويشير بشكل لاذع إلى وجود العديد من أشكال التجديف، وإلى أن الاستعمار الأوروبي قام بتصدير مفهوم “حظر التجديف” إلى أجزاء أخرى من العالم. ويؤكد الكتاب أيضًا على تزايد الاهتمام في الغرب بحفظ السلام في مجتمع متنوع. على سبيل المثال، كان النظام العام هو السبب وراء قرار الدنمارك بالحفاظ على قانون مكافحة التجديف، بينما استبدلت كلا من النرويج والمملكة المتحدة تشريعات حظر التجديف بقوانين مكافحة التحريض. وربما شجّع اهتمام مماثل المحكمة الأوروبية  لحقوق الأنسان على التمسك بوجهة نظرها في حكم أصدرته مؤخرًا.

في  قضية إي. إس ضد النمسا، أيدت محكمة ستراسبورغ قرار قاض نمساوي بتقييد حرية التعبير.[1] وكانت المحكمة المحلية قد أصدرت قرارها في إطار حقها في هامش التقدير، واعتبرت أن التصريحات بحق النبي محمد “تجاوزت الحدود المسموح بها لمناقشة موضوعية”.[2] وبالرغم من أن هذا الحكم صدر بعد نشر كتاب التجديف وحرية التعبير، فإنه يظل مُفسرًا لملاحظات توم لويس وجيرون تيمبرمان. حيث أوضح كلا المؤلفان أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قد أظهرت استعدادًا لحماية أشكال معينة من الكلام؛ شريطة أن تسهم في النقاش العام. برغم ذلك، فعندما تكون التعبيرات “مسيئة دون مبرر”؛ فإن المحكمة تقبل بهامش تقدير أوسع بكثير بما يُمكّن الدول الأعضاء من تقييد حرية التعبير. وبالرغم من أن لويس وتيمبرمان قاما بعناية بتفكيك الاستدلال المفتعل للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، فإن قضية إي. إس ضد النمسا تؤكد خلاصة المؤلفان: عندما يأتي الأمر للفصل في شأن حماية الأقليات الدينية؛ علينا أن نتوقع توجيهات قليلة من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

بالإضافة إلى فحص السوابق القضائية للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، تناول تيمبرمان نقطة أخرى، لا تزال بحاجة للتطوير، في أجزاء أخرى من الكتاب. من خلال تناول قضية “بوسي رايوت”، التي تلقى فيها ثلاث أشخاص عقوبات قاسية بموجب قانون مكافحة التجديف الروسي، بسبب غناءهم ضد بوتين في كنيسة؛ يوضح المؤلف العلاقة بين حظر التجديف والسياسة. كما أشار مؤلفين آخرين أيضًا بشكل أقل وضوحًا إلى الاستخدام السياسي لحظر التجديف. على سبيل المثال، يحذر إيان كرم من أن قوانين مكافح التجديف تمثّل تهديدًا للديمقراطية؛ إذ يمكن أن تغدو أدوات استيعابية في سياسات الهوية للأغلبية المسيحية. فضلا عن ذلك، يشرح توماس آيستو الأهمية السياسية لقوانين مكافحة التجديف بالنسبة للمؤسسة الفنلندية: بينما كان حظر التجديف في بداية الأمر يعمل على احتواء الدعاية المناهضة للدين التي مارسها البلاشفة في أقصى اليسار، فإنها تشكّل الآن درعًا ضد خطاب الكراهية لأقصى اليمين.

هناك انتقاد آخر أيضًا متعلق بعدم ملاحظة السياسة الكامنة وراء حظر التجديف. ففي الأجزاء التي قدمها كل من إيفي فوكاس وتارلاش مكجوناجل نجد خلاصات مقنعة بأن قوانين مكافحة التجديف في اليونان وأيرلندا لم يعد ممكنًا الدفاع عنها. ومع ذلك، يبدو أن خلفياتهما التاريخية غير مكتملة. على سبيل المثال، يشير فوكاس إلى أن القانون الجنائي اليوناني لعام 1834 قد تضمن جريمة التجديف؛ بالرغم من أنه كان مستندًا إلى القانون البافاري، وهو أول قانون جنائي أوروبي لا يتضمن جرائم الإساءة بحق الإله. وبينما لا يقدم فوكاس مبررًا لهذا التباين، فإننا نجد أنه يمكن العثور على تفسير في السمة التاريخية المشتركة بين كل من اليونان وأيرلندا. فقد كانت كلتا الدولتين جزءًا من إمبراطورية تسود فيها ديانة مختلفة. ومن ثم، يمكن النظر إلى حظر التجديف في كل من اليونان وأيرلندا كرد فعل على قرون من الهيمنة الإسلامية والأنجليكانية. في العادة تسهم الخلفية التاريخية في إثراء الاستنتاجات؛ إلا أنه من المؤسف أن كلا المؤلفين على ما يبدو يرغبان في القفز إلى الخلاصات دون تقديم سياق تاريخي ملائم.

مع ذلك، يُعتبر كتاب التجديف وحرية التعبير متوازنًا كما أنه يقدّم رؤى طازجة للتعقيدات المتعلقة بحرية التعبير والتجديف. وهو جدير بالقراءة خاصة للأكاديميين والمتخصصين في مجال حرية التعبير والدين والمعتقد، والعاملين في مجال حقوق الإنسان والطلاب بشكل عام. أيضًا يُعد الكتاب قراءة يوصى بها سواء لمن يطالبون بحرية تعبير مطلقة أو أولئك الذين يؤمنون بالقيود القانونية الصارمة للدفاع عن الحساسيات (الدينية). ويختتم الكتاب بشكل موفق بمقاربة “غير قانونية” للتعبيرات المسيئة وخطابات الكراهية المتعلقة بالدين، تؤكد خلاصة مؤلفين مثل بيتر كومبر وأندراس كولتاي: لا ينبغي لنا الاعتماد على القانون لتقديم إجابات متعلقة بحدود حرية التعبير. فالجهود التعليمية والشجاعة السياسية والتمثيل العادل للأقليات كلها أمور من شأنها تعزيز الاحترام والتسامح بشكل أكبر بكثير. إنها مراعاة الجميع لحساسيات بعضهم البعض – وليس قانونًا قمعيًا – ما قد تُمكّن من حل الخلافات مثل تلك التي شهدتها آلست.

 

[1] بيري، ستيفاني (2019). مراجعة كتاب: يروين تيمبرمان وأندراس كولتاي (محرران). التجديف وحرية التعبير: التعبير: تأملات مقارنة ونظرية وتاريخية بعد مذبحة تشارلي إبدو (Book Review: Jeroen Temperman and András Koltay (eds.), Blasphemy and Freedom of Expression: Comparative, Theoretical and Historical Reflections after the Charlie Hebdo Massacre). مراجعة قانون حقوق الإنسان (19)، 387-391.

[2] المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. 25 أكتوبر 2018. قضية إي. إس ضد النمسا. رقم: 38450/12. https://hudoc.echr.coe.int

Read this post in: English

Exit mobile version