الإشارة المرجعية: براون، ناثان جيه (2023). رؤى: من يخاطب الروح المصرية؟ التوتر بين الحكام والأزهر. رواق عربي، 28 (2)، 7-14. https://doi.org/10.53833/SDIO6181
اليوم، تبدو مصر وكأنها مجتمعًا ماتت فيه السياسة، أو أنها قتلت –حسبما يرى منتقدي النظام. فالأصوات السياسية المستقلة التزمت الصمت، ليس داخل المجتمع فحسب، ولكن أيضًا داخل غالبية أجهزة الدولة. فمؤسسة الرئاسة تحدد الاتجاه العام للسياسة ومضمونها، كما تحدد أيضًا المواقف السياسية المقبولة. وبطبيعة الحال؛ تتناثر الشائعات بشأن وجود منافسات بين مختلف الأجهزة الأمنية، إلا أن غياب الشفافية حول عملياتها لا يسمح سوى بإجراء التحليل التخميني. في هذا السياق، لا يزال هناك صوت عام واحد مستقل، وهو الأزهر؛ الذي يمثل مجمعًا ضخمًا من المؤسسات، والتي تشكل مجتمعة مقر التعليم والبحوث الإسلامية في البلاد.
يسود هذا الصمت السياسي بشكل شبه تام؛ إذ يستحيل تحقيق المنافسة السياسية الجادة من خلال القنوات المؤسسية المعتادة، فيما تخضع التنظيمات السياسية للرقابة وغالبًا ما تواجه القمع، بينما تقتصر المناقشات السياسية العامة على الآراء والأشخاص الذين يبدو أنهم اجتازوا محاذير الأجهزة الأمنية. وبينما لا تزال المناقشات الخاصة حرة إلى حد ما، ولكنها تخضع للسيطرة والمراقبة حين تتحول لنقاشات عامة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
تعبير «موت السياسة» يُحمّل الموقف اصطلاحات مطلقة أكثر مما ينبغي؛ إذ لا يزال هناك مجال واحد يتيح إجراء نقاش وجدال عام وحيوي. فمؤخرًا، ناقشت مجموعة من الجهات الفاعلة عملية إجراء إعادة صياغة منهجية لقوانين الأسرة في مصر، وتم نشر المسوّدات، رغم أنها –في بعض الأحيان– اختفت سريعًا من المشهد العام. كما سُمعت أصوات متنافرة حول بعض الجوانب الدينية الأخرى. ولم يدر النقاش فقط بين الجهات المجتمعية المعنية والنشطاء فحسب، وإنما دار أيضًا بين مسئولي الدولة، وأبرزهم الأزهر وإمامه الأكبر أحمد الطيب، اللذان لا يزالان يحتفظان باستقلالهما، كما يتمتعان ببعض الشهرة. ورغم صعوبة احتساب الأزهر وإمامه الأكبر ضمن صفوف المعارضة، ورغم الارتياح الذي يبديانه للنظام السياسي العام؛ إلا أنهما يجاهران برأيهما حين يخالف الرأي السائد حول قضية عامة، حتى وإن كان في ذلك تحديًا للرئيس.
ويعد الإمام الأكبر واحدًا من كبار الشخصيات في الدولة المصرية، إذ تولى منصبه قبل ثلاثة رؤساء وتغييرين في النظام. ولا يقود الطيب وحده الأزهر، وإنما ضم إليه «هيئة كبار العلماء» التي عيّنها، وأصبحت حاليًا هيئة دائمة.
ومن حين لأخر، تطفو على السطح بعض الإشارات بشأن استقلال الأزهر وتنافسه حول الموضوعات الدينية. ورغم قلتها وتباعدها؛ إلا أن بعض هذه المواقف جذبت اهتمامًا كبيرًا. من بينها مواجهتان علنيتان شهيرتان، منضبطتان رغم حدتهما وإثارتهما للدهشة، بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والإمام الأكبر أحمد الطيب. وبصورة أكثر دهاءً، دارت سلسلة من النقاشات حول بعض القضايا الدينية، والتي غالبًا ما أجراها ظاهريًا إما وكلاء عن الرئيس والإمام الأكبر، أو حلفاء لهما.
في هذا المقال؛ سأحلل الجذور والطبيعة والمسار المحتمل للصراع بين مؤسسات الدولة حول من يُمثل الطبيعة الأخلاقية والدينية للمجتمع السياسي المصري، أو بصيغة أخرى، من يتحدث باسم الإنسان المصري. في البداية سأستعرض كيفية حصول الأزهر على استقلاليته وكيفية احتفاظه بها، ثم سأنتقل لتناول الانقسام الظاهر بين قيادة الأزهر والرئاسة، وسأقدم بعد ذلك ماهية الصراع الحقيقي بينهما، وإن كان مستترًا. كما سأشرع بعد ذلك في دراسة احتمالات استمرار استقلالية الأزهر، بالإضافة لدراسة الآثار المحتملة إذا ما حقق الأزهر بعض الانفتاح في المجال السياسي.
إجمالًا، ستكون الصورة التي أعرضها عن مؤسسة تمتلك صوتًا مستقلًا، ينبغي عليها استخدامه بحذر. في الوقت نفسه، ورغم تمتعها باستقلالية حقيقية؛ إلا أن تلك الاستقلالية محفوفة بالمخاطر، ويُستبعد أن تؤدي أو تقود نحو انفتاح أكبر.
جذور استقلالية الأزهر
يعد الأزهر أحد مؤسسات الدولة بشكل واضح ولا لبس فيه، وهو يمتلك التزامًا نحو الدين، كما يُظهر بوادر عظيمة للفخر المؤسسي –من خلال اتباع نهج أزهري مميز للإسلام، والذي يراه وسطيًا ورشيدًا، ويجمع بين حماية تراث التعاليم الإسلامية والالتزام بتلبية حاجات المجتمع المعاصر. وبشكل عام، اتبعت استقلاليته المسار نفسه الذي اتخذته بعض الهيئات الحكومية الأخرى على مدار القرن الماضي.
اليوم، يستخدم العديد من المصريين مصطلح «الدولة العميقة»، وهو مصطلح مستورد ظهر في تركيا لوصف شبكة من كبار مسئولي الدولة في الجيش والقضاء والمستويات العليا من البيروقراطية أبقت على السياسات المدنية ضمن حدود معينة، إذ فرضت «الدولة العميقة» مفهومها عن «الكمالية» في ذلك البلد.[1] وبينما كانت هذه الدولة عميقة؛ إلا أنها لم تكن متخفية. كما أنها لم تكن حكرًا على أجهزة الأمن؛ رغم كون هذه الأجهزة مكونًا رئيسيًا فيها. وحين استخدم المصطلح نفسه في مصر، فإنه كان ينزع للإشارة إلى الهيئات المتخفية، والتي تسيطر عليها الجهات الأمنية. وبشكل عام، إذا ما تواجدت دولة عميقة في مصر، بالمعنى التركي الأصلي، لاعتبرنا القيادة العليا للأزهر جزءً منها؛ إذ سعت هذه القيادة لتقديم نفسها كمترفعة عن السياسة لتضمن أصالة قيمها وتكفل مصالح المجتمع. في السياق نفسه، فإن الأزهر، في المفهوم الأحدث والأكثر شرًا والأمني بشكل محض لـ«للدولة العميقة»، هو قطعًا خارج إطار تعريفه؛ إذ يمارس عمله تحت رقابة أعين الرئاسة والأجهزة الأمنية المتيقظة، والتي لا تتردد في إبداء سخطها حال إحجام قيادة الأزهر عن الانصياع للأوامر. حتى إن التصورات العامة في هذا الصدد قد ولّدت مادة لفيلم تجاري –طفل من الجنة، وهو الفيلم الأول الفائز بمهرجان كان السينمائي، والذي ركزت حبكته الدرامية على هيئة كبار العلماء في الأزهر. إن التوتر بين الدولة العميقة والأزهر هو محور النقاشات السياسية الخاصة في مصر.
على مدار العقود الأربعة التي سبقت ثورة 2011، تمكنت العديد من مؤسسات الدولة تدريجيًا من انتزاع استقلاليتها من براثن مؤسسة الرئاسة، وإلى حد كبير، يعد هذا صمودًا استثنائيًا من عصر سابق. وهناك العديد من العوامل التي ساهمت في تشكيل هذا التوجه طويل الأمد، وهي: حل الاتحاد العربي الاشتراكي في السبعينيات؛ وبداية تراجع أيديولوجيته في الفترة نفسها، إلى جانب تزايد تعقيد جهاز الدولة المصرية، وتعاظم احترافية بعض أجهزة الدولة –وإن تفاوتت في الكفاءة، وكذا اللامركزية المالية غير الملحوظة، والتي أتاحت لبعض الهيئات الحصول على الممتلكات على سبيل المثال. بالإضافة إلى تطور النقابات المهنية، وسيادة قاعدة الأقدمية –والتي اعتمدت في الترقي الوظيفي على طول مدة الخدمة أكثر من اعتمادها على الولاءات السياسية، فضلًا عن استحكام الرقابة الداخلية على التعيينات في الوظائف والمناصب العليا. هذه التطورات كانت تدريجية جدًا وغير مكتملة، الأمر الذي جعلها غير ملحوظة في أغلب الأحيان، رغم أنها أتاحت لبعض الجهات القضائية والدوائر الحكومية والوزارات والبيروقراطيات (مثل مصلحة الضرائب) القدرة على تنفيذ أجنداتهم الخاصة، كما أتاحت لهم في بعض الأحيان صياغة رؤيتهم الخاصة، حال غموض الرؤية السياسية. وبأي حال من الأحول، لم تظهر أي من مؤسسات الدولة كحصن للمعارضة، وإنما كانت جميعها من بين الداعمين الأساسيين، ليس فقط للدولة ولكن للنظام أيضًا، كما لا تزال تمتثل للرئاسة في نهاية المطاف ولكن بطرق غير منهجية في بعض الأحيان. في عام 2011؛ انهارت مؤسسة الرئاسة، لبرهة من الزمن على الأقل، كما انهارت قدرتها على قيادة جهاز الدولة المتفاوت بشكل متزايد.
ساهم الأزهر في تلك التوجهات، فبينما تقلص استقلاله السياسي بحدة في الستينيات؛ إلا أنه بداية من السبعينيات وما بعدها، استرد نزرًا يسيرًا منه. وبينما تلاشت أيديولوجيته الرسمية؛ أصبحت الموضوعات الدينية أكثر بروزًا في الحياة العامة بعدما تخلص النظام عن قدر كبير من التزامه بالاشتراكية والقومية العربية. كما تسبب ظهور الجماعات الإسلامية من مختلف الأطياف في اعتماد النظام على الأزهر بصورة أكبر، باعتباره صوت «الوسطية» الذي يحارب «التطرف».
وفي عام 2011؛ ثبّتت قيادة الأزهر مؤسستها بحذر شديد وسط الاضطرابات السياسية –من خلال اتخاذ موقف مستقل إلى حد ما، إذ كانت تنصح بالولاء للنظام ومناهضة العنف في الوقت نفسه. وفي سبيل مواجهة المد المتصاعد للأطراف الإسلامية الانتخابية الفاعلة، فاز الأزهر بجائزة غاية في الأهمية؛ ففي عام 2012، عدّل المجلس الأعلى للقوات المسلحة القانون الحاكم لمؤسسة الأزهر بموجب مرسوم رسمي. وقد تم تسريع تمرير القانون الذي أعده الأزهر قبل انعقاد البرلمان الجديد، والذي كان يهيمن عليه الإسلاميون، الأمر الذي أثار العديد من الشكوك في أن هدف هذا القانون كان إبعاد أيدي الإسلاميين عن الأزهر.
وبالفعل نجح الأزهر في مسعاه، وانتزع مؤسسته من أيدي الجميع؛ إذ أعاد هذا الإجراء القانوني تشكيل هيئة كبار العلماء، والتي أنشئت في عام 1911، ثم ألغيت لاحقًا في عام 1961؛ حينما وضع النظام وقتها المؤسسة تحت رقابته المباشرة.
الحفاظ على الاستقلالية: الأزهر يقف وحيدًا
لم يكن مرسوم القانون الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة عام 2012 بشأن الأزهر يمثل حدثًا منفردًا؛ إذ اكتسبت هيئات حكومية أخرى سيطرة أكبر على شئونها الخاصة. إلا أن الاستقلالية التي ظفر بها الأزهر تمكنت من الصمود على نظرائه من المؤسسات الحكومية الأخرى، وهو ما يعود بالأساس لأن أنصار الأزهر جعلوا من استقلاليته هدفًا أساسيًا لهم.
وعلى مدار الفترة بين عامي 2011 و2014، حاولت مجموعة من مؤسسات الدولة الحصول على مراسيم قوانين وبنود دستورية لتحقق استقلالًا شبيهًا بما حققه الأزهر. وإلى جانب الجهات الأمنية، حققت الجهات القضائية بعض الانتصارات الحقيقية. ولكن مع بداية رئاسة السيسي، تم إفراغ تلك المكاسب من مضمونها بشكل تدريجي من خلال سلسلة من التغييرات التشريعية والتعديلات الدستورية، وبشكل علني في بعض الأحيان. فالجهات القضائية فقدت سلطتها على تعيين مناصبها العليا؛ إذ فقدت المحكمة الإدارية العليا قدرتها على تسمية رئيسها حينما أبدت نيتها معارضة الرغبة الرئاسية. وفي السياق نفسه، كان هناك عدة معارك أقل علانية؛ فحين أبدت المحكمة الدستورية العليا استعدادها للانصياع للرئاسة –وهي التي ظهرت كهيئة هامة، ومستقلة إلى حد ما، في الثمانينيات والتسعينيات ومن جديد فيما بعد عام 2011– كوفئ اثنان من رؤسائها السابقين والمتقاعدين –كلاهما كان من المخضرمين في السنوات الجريئة للمحكمة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي– بتعيينهم رئيسين لمجلسي النواب والشيوخ في البرلمان. إلا أنها لاحقًا، وإثر تعديل دستوري، فقدت استقلاليتها في تسمية رئيسها. وفي عام 2022، تحول الرئيس السيسي نسبيًا إلى قاضٍ حديث العهد، إذ انضم لهيئة المحكمة العليا في عهد رئيس المحكمة فاروق سلطان –وهو الشخص ذاته الذي دُفع به قبيل نهاية رئاسة مبارك بدافع القلق؛ لتقييد حرية المحكمة أثناء الانتخابات الرئاسية، وكذا أثناء الانتقال المحتمل للسلطة حينها. وللإجهاز على المحكمة الدستورية العليا، عُين رئيس هيئة القضاء العسكري نائبًا لرئيس المحكمة، في تذكير سافر بمن يملك مقاليد الحكم في البلاد.
في المقابل، لم تُتخذ مثل هذه الإجراءات ضد الأزهر؛ فلا يزال الإمام الأكبر محتفظًا بمنصبه، كما لا تزال هيئة كبار العلماء تمارس مهامها. وفي ظل تواجد ثلاثة وعشرين عضوًا في اللجنة، إلى جانب سبعة عشر مقعدًا شاغرًا؛ فإنها تواجه صعوبة في استكمال النصاب القانوني. ونظرًا لاقتصار عضويتها على شخصيات مرموقة ومؤهلة بشكل كبير، فهي تواجه حاليًا مناصب شاغرة بتواتر مقلق، تزامنًا مع وفاة كل عضو من أعضائها الحاليين. ويبدو أن الأعضاء الحاليين يفضلون بقاء الرقم منخفضًا؛ ليقاوموا الضغط عليهم بتعيين شخصيات مذعنة في مجلسهم. في الوقت الحالي، تسمي الهيئة أعضائها، كما ستسمي من سيخلف رئيسها الشيخ أحمد الطيب، وأيضًا من سيخلف مفتي الديار المصرية الحالي، الشيخ شوقي علام رئيس دار الإفتاء –وهي الهيئة المنوط بها تقديم الفتاوى أو التوجيهات الشرعية الإسلامية لأجهزة الدولة في العديد من المسائل، بما في ذلك التصديق على أحكام الإعدام. وفي بعض المناسبات، قدم بعض البرلمانيين مقترحات بتغيير قانون الأزهر والتعديل في سلطة تعيين مفتي الجمهورية، إلا أن جميعها قوبل بالرفض.
وعلى عكس جميع هيئات الدولة الأخرى تقريبًا، يصعب على النظام إخضاع الأزهر؛ لأنه يتمتع بعلاقات دولية ومحلية تجعل منه هدفًا صعب المنال. فعلى الصعيد الدولي؛ يقدم الأزهر نفسه باعتباره الحارس المؤتمن على التراث الكلاسيكي للتعاليم الإسلامية، وأيضًا باعتباره منارةً للمناهج التي تشتبك بصورة كاملة مع الحياة المعاصرة، بدلًا من تلك التي تؤدي إلى التطرف السياسي أو الديني. ورغم المبالغة التي تشوب هذه الصورة عن المؤسسة الدينية الإسلامية الرائدة في العالم؛ إلا أنها لا تخلو من بعض الحقيقة، فالأزهر يستقطب طلبة من جميع أنحاء العالم، كما يشرف على بعض المدارس ومعاهد التعليم العالي خارج مصر. وبصورة دائمة، يستضيف الإمام الأكبر زائرين دوليين، بالإضافة لنشاطه الدولي في العديد من الأمور. ففي عام 2019 على سبيل المثال؛ وقّع مع البابا فرنسيس وثيقة حول الأخوّة الإنسانية، ذلك الحدث الذي اعترفت به الجمعية العامة للأمم المتحدة وأيده الرئيس الأمريكي جو بايدن، كما وقعت الإمارات العربية المتحدة أيضًا على الوثيقة، وهي الدولة التي غالبًا ما توصف بكونها راعية للأزهر. وساهم هذا الحدث في تعظيم هيبة المؤسسة وفائدتها داخل الدولة المصرية.
الأمر الأكثر جوهرية هنا هو مناصري الأزهر المحليين، إذ ساهمت شبكته من المدارس الابتدائية والثانوية، وجامعته الضخمة، واحتكار خريجيها للعديد من المناصب الدينية في المساجد والمدارس في جميع أرجاء البلاد، في وضع مؤسسته في المركز، كما جعلت منه مجالًا آمنًا لمن يمكن تسميتهم «جمهور المتدينين» من المصريين، الذين يتطلعون إلى تعاليم الدين وتعليمه وممارساته من أجل تأسيس حياتهم الخاصة وبناء مجتمعهم. فمعظم المصريين يتعاملون مع الإسلام بصورته العامة بالشكل الذي يصوغه الأزهر، وبتوجيهاته أحيانًا.[2] ورغم أن مؤسسات الدولة الأخرى –مثل القضاء والإعلام الرسمي– لديها العديد من المستفيدين بكل تأكيد؛ إلا أن الكثير منهم لا يشعرون بالانتماء لتلك المؤسسات.
ولا يعد مفاجئًا أنه أثناء قمع النشاط السياسي داخل حرم الجامعات المصرية بعد عام 2013، تُركت جامعة الأزهر حتى النهاية، وعوملت بطريقة أكثر حذرًا. وبينما أبدت قطاعات كبيرة من الطلاب تعاطفًا مع الإسلاميين، ومع الإخوان المسلمين؛ فإن القيادة كانت تميل للنظر إلى الإخوان باعتبارهم انتهازيين وغير عالمين بالدين، وعلى حد تعبير العديد من قادة الأزهر فإنهم «جماعة سياسية أكثر من كونهم جماعة دينية». وأثناء الفترة بعد عام 2013، أفرزت جماعات الدعم القوية في الحرم الجامعي، إلى جانب أقلية من أعضاء هيئة التدريس، مناخ عام شديد التناقض؛ فبسبب الانقلاب، ثم مجزرة رابعة التي أفضت إلى مشاعر مريرة بالفعل، واجه قادة الأزهر –الذين أيدوا النظام الجديد– انقسامًا حادًا بين أصدقائهم وأسرهم، الأمر الذي دفع معظمهم لاتخاذ أفعال أكثر حذرًا، وخطابات أكثر تحفظًا مما كان سائدًا في باقي مؤسسات الدولة آنذاك.[3] ورغم تنحية الأزهريين المؤيدين لجماعة الإخوان المسلمين، أو طردهم؛ إلا أن تلك العملية كانت أبطأ وأسلس مما حدث في أي مؤسسة أخرى في مصر.
اليوم، وبعد قرابة عقد من الزمن على تلك الأحداث؛ ما الذي يفصل الأزهر عن القيادة السياسية للبلاد، بل وعن الرئيس نفسه؟
على السطح: الجدال حول القضايا الدينية
هناك سلسلة من النقاشات التي اختلفت مواقف الأزهر منها عن تلك التي اتخذتها القيادة السياسية للبلاد. وفي وقت سابق على رئاسة السيسي؛ انصبّت الكثير من النقاشات على القضايا المتعلقة بالأمن والإرهاب. مثال على ذلك؛ امتناع الأزهر عن تكفير الدولة الإسلامية وأنصارها واعتبارهم مرتدين، ليس إعجابًا بالجماعة أو رغبة في حمايتها، كما أوضح قادته؛ وإنما لأن إعلان ردتهم يعد خطوة وخيمة العواقب، إذ أن النهج التعليمي السائد يضع عقبات إجرائية صارمة لتحقيق ذلك. فالتنديد بأفعال الدولة الإسلامية وعقائدها، باعتبارها مخالفة لتعاليم الإسلام، شيء، وإصدار الحكم على الوضع الشرعي لإسلام أعضائها هو شيء آخر. بالنسبة لقادة مصر؛ كان هذا الموقف يرقى في أحسن الأحوال لكونه مجرد تدقيق علمي زائد، بينما في أسوأها هو نوع من الحماية الفكرية. ما ضاعف من تعقيد الأمور هو أسلوب المراوغة الذي اتبعه الإمام الأكبر في عام 2013، فبينما أيّد الانقلاب، إلا أنه نأى بنفسه بكل وضوح عن عنف النظام الجديد. كما تحاشى إدانة الإخوان باعتبارهم جماعة إرهابية، حتى حينما أعلن عن نفوره الشديد من ذلك التيار.
وتواصل الخلاف في الأسلوب؛ فحينما يتحدث الرئيس السيسي عن الدين، فإنه يعمد للتشديد على الأمن والاستقرار ومحاربة الإرهاب. ربما يتفق الإمام الأكبر على ذلك، ولكنه يشدد على أهمية الدراسة الموجهة للدين والفهم الصحيح له. كما أنه يبدو أن الإلحاد يثير قلق الأزهر أكثر مما يهم الرئيس.
في السنوات الأخيرة، اتسع مجال النقاش ليشمل مجالات أخرى. وكان الحدث الأكثر علانية، حينما اشتبك الرئيس مع الإمام الأكبر حول مسألة الطلاق. فعلى نحو ما، يبدو الخلاف بينهما تقنيًا: هل المطلب المقترح بأنه يجب على الزوج إشهاد أحد الموظفين الحكوميين على إعلان طلاقه لزوجته حتى يصبح الطلاق ساريًا ومعترفًا به من جانب الدولة –حسبما يرغب الرئيس– هو إصلاح ضروري؟ أم أنه تناقض لمجموعة واضحة من الدلائل النصية بأن إعلان الزوج للطلاق شفهيًا كاف لجعله صحيحًا قانونًا –كما أصر الإمام الأكبر، ودعمته هيئة كبار العلماء؟
ورغم أن الرئيس نفسه لم يخض في المسائل التقنية منذ ذلك الخلاف؛ إلا أن الرأي العام ركز اهتمامه على الأزهر ومواقفه من قانون الأسرة، والعنف الأسري، وسلطة الأحاديث، وغيرها من مسائل الحياة الاجتماعية والتفسيرات الدينية.
الخلاف الأساسي: طبيعة السلطة
على نحو ما؛ فإن إدراك الخلاف بين الأزهر والرئاسة يبدو أمرًا محيرًا. وبغض النظر عن تلك الخلافات البارزة، والتي انحسر الضوء عن معظمها حاليًا، أين يكمن الخلاف الحقيقي؟
هناك الكثير من الأمور التي تبدو أنها توّحدهم. فكلاهما يدّعي دعمه للإسلام الوسطي؛ وكلاهما يؤكد على الحاجة لنظام اجتماعي؛ كما يميل كلاهما للمحافظة الاجتماعية في طيف واسع من الأمور، بدايةً من الملابس وصولًا للحياة الأسرية. وبصورة أكثر تجريدية؛ يعتبر كل منهما نفسه من أعمدة الدولة، حيث الرئيس هو قائدها، ويوافق الأزهر كذلك على ضرورة وجود دولة تكفل النظام بشرعية الدولة المصرية. بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما تكون رؤيتهم المشتركة للدولة نظرة أبوية؛ فالسيسي يشير لجميع المصريين على أنهم أبنائه، فيما يشير زعماء الأزهر وقادته إلى الدولة –وأحيانًا إلى كبار مسئوليها– بأنهم أولو الأمر، ذلك المصطلح المنتشر في الفقه الإسلامي للإشارة إلى كل من وُليّ الأمر، مثل الأب الذي يعمل على صالح أطفاله القصّر، وإلى حاكم الدولة الإسلامية كذلك. ووجهة النظر للسلطة السياسية هذه، تشدد على المسئولية نحو المجتمع ونحو الله، إلا أنها تفتقر لما تقوله بشأن الإجراءات الدستورية أو الآليات الديمقراطية للمساءلة.
إذن، فالخلافات ليست عقائدية في حقيقة الأمر، وعوضًا عن ذلك، نجد أن تلك الخلافات كانت نتيجة للرؤى المختلفة عن دور الرئاسة ودور الأزهر. ومن الضروري هنا أن نتكهن قليلًا؛ إذ أن التوتر –وإن بدا جليًا في بعض الأحيان– عادةً ما يُعبر عنه علنًا بعبارات متحفظة، واصطلاحات عامة في أغلب الأحيان.
ويبدو جليًا أن الرئيس ينظر لنفسه باعتباره زعيم الدولة المصرية، ومن الواضح أنه يرى –ويقدّر بشدة– الدولة باعتبارها الكيان الذي يحمي المصريين ويعولهم. إذ تحتاج حياة المصريين وسبل عيشهم إلى الحماية –من الإرهاب، ومن الأنانية، ومن الخصوم الدوليين، ومن الممارسات الاجتماعية البغيضة، ومن الصعوبات الاقتصادية، ومن الشباب المتمرد، ومن الانحلال الأخلاقي. كذا فإنه من واجبات الرئيس تحديد هذه التحديات وقيادة المجتمع، وجهاز الدولة، أثناء ممارسته مهمته العليا. فيما يمثل الأزهر ذلك الجزء من الدولة المصرية الذي يتعين عليه دعم جهودها من خلال إبراز وحشد الحجج الدينية التي تعزز جهود مكافحة الإرهاب، والانحراف، والطلاق، والتي تعزز أيضًا الأنشطة المنتجة اقتصاديًا. ولكن يبدو أن الرئيس قد شعر بأن القيادة الدينية أحيانًا تكون ظلامية، ومنفصلة عن المجتمع، ومشتتة بمسائل هامشية، ومفرطة في تبجيل طرق تفكير عفا عليها الزمن.
ومن المرجح أن يختلف الإمام الأكبر مع أهداف الرئيس، ولكنه في الوقت نفسه يصر على متابعتها في إطار من الالتزام بالتعاليم الإسلامية، ولا ينتهكها بكل تأكيد. ويستحق الرئيس احترام وتبجيل واجبين في مجال السياسة باعتباره زعيم سياسي للمجتمع، ولكنه زعيم ذا خلفية عسكرية، وتوجيهاته بشأن التعاليم الدينية تعد أقل خبرة من أولئك المتخصصين. وكما لا يسعى الأزهر لتنظيم قواعد السلامة في المصانع المملوكة للدولة؛ لا ينبغي على الرئيس إعطاء توجيهات للإمام الأكبر بشأن الفقه الإسلامي. فالأزهر ملتزم بتحقيق مصالح المجتمع، كما أنه يدين بالولاء للدولة، لكن تعليماته تأتي من الله، دون وساطة من رئيس الجمهورية. وإذا كانت هذه الصياغة –التي لن يصرح بها أي من الجانبين– دقيقة؛ فإنها تشير إلى أن المصدر الحقيقي للتوتر ليس ما إذا كان الأزهر مجرد موالٍ سياسي للدولة أم لا –فهو موالٍ لها بكل تأكيد– وإنما إذا ما كان سيتبع التوجهات السياسية للقائد أم لا؟ فالرئيس يعتقد في قرارة نفسه بأنه هو من يجب أن يعطي التوجه السياسي لجهاز الدولة. ولكنه يجد الأزهر لا يعالج أمورًا ذات اهتمام عام فحسب، وإنما لا يتبع الأوامر المحددة أيضًا.
ورغم كونه ضمنيًا؛ فقد ظهر هذا التوتر بصورة أوضح فيما يتعلق بشأن «تجديد الخطاب الديني» –تلك القضية التي أيدها السيسي علنًا بعد مرور عام واحد على رئاسته. كما اعتنقت هيئات في الدولة المصرية –مثل وزارة الأوقاف المصرية ودار الإفتاء والأزهر– ذلك الشعار بحماس، ونشرت مشروعات بحثية، ومؤتمرات دولية، وبيانات عامة حول هذا الموضوع. ولكن، ماذا كان يعني ذلك الشعار الغامض؟ بالنسبة للرئيس، بدا الأمر وكأنه يعني أن المفاهيم الدينية عليها التوافق مع احتياجات المجتمع اليوم –وهي حاجات ضمنية، ولكنها واضحة بما يكفي– وتعود مسئولية تحديدها لقيادة البلاد. أما بالنسبة للفاعلين الدينيين التابعين –مثل العاملين بوزارة الأوقاف المصرية– فمثّل ذلك الشعار فرصة للتأكيد على أهميتهم لزعيم الدولة. فيما مثّل هذا الشعار لبعض المثقفين مظلة وقائية لتحدي الهيمنة لما اعتبروه تفسيرات شديدة التحفظ. بينما لقيادة الأزهر كان هذا الشعار مناسبًا لدعم ما أصبحت المؤسسة تعتبره مهمتها، وهو ضمان تطوير المفاهيم الدينية، وتعميمها فكريًا، وتنظيمها للحياة الشخصية والاجتماعية. ولكن نادرًا ما ظهر هذه الخلاف على السطح، إذ ادعى الكثيرون موافقتهم عليه.
عدم استقرار استقلالية الأزهر
أثناء مواجهاته مع الرئيس، استطاع الأزهر الصمود، أو أنه حقق انتصارًا على المدى القصير على أقل تقدير؛ إذ لا يزال الطلاق الشفهي قانونيًا، كما أن محاولات تعديل قانون الأسرة المصرية كانت تطفو على سطح الرأي العام، ثم سرعان ما تختفي. بينما بقى القانون الحاكم للأزهر دون تغيير.
إلا أن ذلك لا يعني أن التوتر لن تكون له عواقب طويلة المدى، ففي مواجهة سابقة حدثت بين أجهزة الدولة والرئاسة –شارك فيها بعض العاملين بالقضاء والرئاسة أثناء عهد حسني مبارك في أواسط العقد الأول من القرن الحادي والعشرين–[4] استُخدمت عبارة «لاعبي التنس يدخلون حلبة الملاكمة» للإيحاء بأنه إذا ما نُظر إلى المعارضين باعتبارهم يتحدّون مصالح النظام الأساسية، فقد يهزمهم أتباع النظام المسلحين بالعديد من الأدوات القوية. هل سيلاقي الأزهر المصير نفسه؟ إن ذلك قد يحدث بالفعل، ولكن بشكل تدريجي. بينما في الوقت الراهن، فإن تخميني أن النظام سيتحرك ببطء وبلطف، لأنه يرى أن الأزهر لا يمثل تهديدًا حقيقيًا، وإنما هو مجرد إزعاج. وهو يتعامل مع تلك الطبيعة المزعجة للأزهر بطريقتين واضحتين.
الطريقة الأولى، تتمثل في الدفع بالزعماء الدينيين البديلين إلى صدارة المشهد. ففي وقت مبكر من رئاسة السيسي، سارع وزير الأوقاف بإعادة ترديد خطاب النظام عن الإرهاب والإخوان المسلمين؛ ليتجاوز مخاوف النظام، التي توقعها بنفسه. وهو ما يتضح في جهود الوزير لتوحيد خطبة الجمعة، لتصبح خطبة موحدة تكتبها الوزارة وتوزعها على أئمة المساجد لتلاوتها على المصلين في صلاة الجمعة. في المقابل، لم تكن مصداقية الوزير بين جمهور المتدينين مثيرة للإعجاب، بل أنها قد تضررت؛ ففي السنوات الأخيرة، بدا أن منصب مفتي الديار ومكتبه –دار الإفتاء– قد أحرزا تقدمًا ضئيلًا على وزير الأوقاف ووزارته. ورغم أن مفتي الديار المصرية الحالي، شوقي علام، لم يكن من الأسماء البارزة حين عينته هيئة كبار العلماء بعد فترة وجيزة من إعادة إنشائها، كما أنه، وبكل تأكيد، كان يحظى بمكانة دينية أقل من الإمام الأكبر؛ إلا أنه أيضًا شخصية حذرة، وربما يكون أكثر مرونة.
الطريقة الثانية، تتمثل في استغلال النظام لقبضته المطلقة على وسائل الإعلام العامة، والتي تبدو أكثر إحكامًا من أي وقت مضى منذ السبعينيات. فمتابعي الصحف يقرأون الأخبار نفسها بشكل روتيني، وفي بعض الأحيان مع الصور ذاتها، وموضوعة على الصفحات نفسها من أي صحيفة يقرؤونها –سواء كانت مملوكة للدولة أو خاصة ظاهريًا. كما يلاحظ المشاهدون بروز موضوعات متشابهة، ومواقف مماثلة يتخذها مذيعو الصف الأول ومقدمو البرامج الحوارية.[5] ويتحدث الموالون للأزهر عن «حملات إعلامية» ضد المؤسسة، التي تتعرض لانتقادات بسبب مواقفها تجاه العديد من القضايا مؤخرًا كالعنف الأسري على سبيل المثال. ويبدو أنهم يشتبهون أن رأي الأزهر حين يتعارض مع مصالح النظام، تتعرض المؤسسة أو مواقفها لوابل من النقد أو عدم الاحترام، بشأن قضية غير ذات صلة في بعض الأحيان. وهم قد يكونون على حق، خاصةً بالنظر للبيئة الإعلامية الخاضعة للرقابة المشددة في مصر –والتي يفهم فيها القراء والمشاهدون أن الموالون للنظام، والأجهزة الأمنية كذلك هم الذين يحددون أجندة المنافذ الإعلامية. في المقابل، يمتلك الأزهر بعض الأدوات؛ إذ استأثر بمنصب شرطي الأخلاق العامة، الذي ستذعن له المحاكم المصرية أحيانًا وتعاقب المحتجزين بسبب انتهاكهم للتعاليم الدينية أو تشويه الحقائق الدينية، حتى وإن لم تدعم المحاكم في نهاية المطاف تلك الجهود، أو حينما لا تسفر جهود جمهور المتدينين عن نجاحهم في تقديم قضية متماسكة ترقى لرفع دعوة قضائية أمام المحكمة، حينها قد يكون هناك تأثير سلبي على النقاش العام. وبينما قد يدعم الأزهر ومؤيدوه استقلاليته في الأمور الدينية، ولكنهم ليسوا من مناصري حرية التعبير المطلقة أو الحريات الليبرالية.
في النهاية، يبدو أن مثل هذه الأساليب تنحدر لمستوى مناوشات حرب العصابات، والتي قد تهدد هيبة الأزهر ولكنها لا تتحدى مركزيته أو استقلاليته. إلا أن أثر هذه الأساليب بات واضحًا؛ فمقترح الأزهر لإصلاح قانون الأسرة أُرجئ لأجل غير مسمى، ثم شُكلت لجنة لوضع قانون جديد دون أن تضم أي ممثل عن الأزهر. ويبدو أن الإمام الأكبر يُمسك لسانه عن الحديث في معظم القضايا، وبينما لا يزال يرفض الخضوع للرئاسة، ولكنه متردد في خوض معارك جديدة.
هل يمكن أن تنتشر استقلالية الأزهر؟
هل توفر استقلالية الأزهر فرصًا للمصريين –مهما كانت ميولهم– مساحة سياسية من أي نوع؟ نعم ولكن على نطاق محدود للغاية. بدايةً، من المهم أن ننتبه لأن إصرار الأزهر الصلب على دوره يتجلى في مجالين: صلاحياته المؤسسية الخاصة، والموضوعات وثيقة الصلة بالتعاليم الإسلامية.
فيما يتعلق بصلاحياته المؤسسية، فإنه يُظهر بعض القدرة على توفير مساحة محمية للمنتمين لصفوفه، إلا أنه لا يزال مؤسسة هيراركية –ربما تكون الآن أكثر مما كانت عليه في الماضي بسبب وجود هيئة كبار العلماء. في الوقت نفسه، وبينما يمتلك الأزهر صوتًا مسموعًا فيما يتعلق بالمسائل الدينية؛ إلا أن تصريحاته العامة للجمهور إما يكتنفها الغموض، أو أنها تتم عبر القنوات الإعلامية الخاضعة للسيطرة الرسمية.
وفيما يتعلق بالموضوعات وثيقة الصلة بالتعاليم الإسلامية؛ فإن الأزهر قادر على ضمان أن تُسمع أصوات متعددة فيما يتعلق بقضايا السياسة العامة ذات البعد الديني –مثل الالتزام الديني في أوقات القيود الصحية العامة المتعلقة بفيروس كورونا، وكذا قانون الأسرة– بهدف تقديم نقاشات سياسية حقيقية للشعب المصري في مثل تلك القضايا. ورغم أن هذه النقاشات تتعلق بالعديد من الأطراف؛ إلا أنه ليس بإمكان الجميع المشاركة فيها، وإنما هي متاحة فقط لمن يملكون منبرًا رسميًا –مثل مقعد في البرلمان، أو عضوية في هيئة حكومية.
في سياق متصل، من المهم التأكيد على أن الأزهر بينما يحمي استقلاليته، فإنه لا يزال مؤسسة تابعة للدولة ومحافظة إلى حد بعيد. أي أنه لا يمثل الليبرالية، وإنما يرمز إلى نسخته عن النظام العام المستوحاة من الدين.
وقد يكون أقرب تشبيه لدور الأزهر اليوم هو الكنيسة الكاثوليكية في نظام فرانكو. فرغم أن التوازي بينهما هو أمر بعيد كل البعد عن الدقة؛ إلا المرء بإمكانه في كلتا الحالتين رؤية هيكل هرمي داعم للدولة، ومتحالف مع النظام بصورة فضفاضة، إلا أنه لا يزال يتمتع ببعض الاستقلالية والتعددية بين صفوفه. كما يمتلك القدرة على إظهار انطباع بأن إرادة الزعيم ليست هي الكلمة النهائية في جميع القضايا، وكذلك لديه بعض المصلحة في تجنب الارتباط الوثيق برأس الدولة أو بسياسات بعينها.
في الوقت نفسه فإن الأزهر لا يزال عرضة للخطر على المدى الطويل. وقد يأتي الاختبار الحقيقي حينما يتنحى الإمام الأكبر عن منصبه –إذ أنه أتم عامه السابع والسبعين في يناير 2023، ولا تزال إجراءات تعيين خليفته تخضع لقانون هيئة كبار العلماء التي اختارها بنفسه. إن محاولة تغيير هذا القانون، أو الضغط على بعض أعضاء هيئة كبار العلماء لتعيين شخصية أكثر مرونة، ستعد علامة أكيدة على أن النظام قرر كبح جماح الأزهر كما فعل مع المحاكم من قبل. إن عدم فعل ذلك حتى الآن قد يكون علامة على ثقة الدولة في قدرتها على الاستمرار في إدارة العلاقة مع الأزهر، أو على أن كلفة تقييد المؤسسة الدينية الأكبر في البلاد ستكون باهظة للغاية –ربما بسبب شخصية من ستعزله، أو ربما لأنها ستقوّض مصداقية المؤسسة بين المصريين، أو حتى بين جمهورها الدولي. وحتى اليوم؛ يتصرف النظام مع الأزهر بضبط نفس غير معهود، إلا أنه لن يبقى هكذا لأجل غير مسمى.
هذا المقال كتب في الأصل باللغة الانجليزية لرواق عربي
[1] جينجراس، ريان (2010). الطقوس الأخيرة «لقاطع طريق قح»: العمليات السرية والتأريخ والتأصيل للدولة التركية العميقة، الماضي والحاضر (Last Rites for a ‘Pure Bandit’: Clandestine Service, Historiography and the Origins of the Turkish ‘Deep State Past and Present). فبراير، الصفحات 151-174. أوكسفورد: مطبوعات جامعة أوكسفورد.
[2] بالتعاون مع ميشيل دن؛ حاولت رسم خريطة للدين والسياسة والدولة المصرية في، دن، ميشيل وناثان ج. براون (2021). «من سيتحدث باسم الإسلام في مصر ومن سيستمع؟»، في مقال فريديريك ويري بعنوان «المؤسسات الإسلامية في الدول العربية: تحليل منهجيات السيطرة والاستقطاب والنزاع». مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، 7يونيو. https://carnegieendowment.org/2021/06/07/who-will-speak-for-islam-in-egypt-and-who-will-listen-pub-84654
[3] اعتمد في هذا على محادثات سرية دارت مع أشخاص مرتبطين بالأزهر على مدار العقد الماضي.
[4] ذُكر ذلك التعليق في مؤتمر نظمه مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بالقاهرة في عام 2006. وقد نشرت مطبعة الجامعة الأمريكية بالقاهرة أوراقه التي صيغت خلال تلك الفترة في بيرنارد-موجيرون، ناتالي (2015). القضاة والإصلاح السياسي في مصر، (القاهرة).
[5] تُقدم الصحف اليومية أدلة منتظمة على ذلك. فعلى سبيل المثال، في يوم 9 مارس 2023، التقى الرئيس السيسي بالقيادة العسكرية العليا. وظهرت أوصاف مخففة للغاية للاجتماع في الصحف اليومية المصرية في يوم 10 مارس، وتحتوي على صياغة متشابهة للغاية، كما استخدموا الصورة نفسها.
Read this post in: English