الإشارة المرجعية: سبرينجبورج، روبرت (2023). رؤى: الاعتمادية التبادلية بين الدول، الحقوق المدنية، وحقوق الإنسان. رواق عربي، 28 (2)، 19-15. DOI: 10.53833/CRDT7003
على المستوى النظري، تعد حقوق الإنسان عالمية الطابع، فهي غير قائمة على المواطنة أو الدول، بعكس الحقوق المدنية، المرتبطة بالمواطنة، والتي يتعين على الدول حمايتها، رغم أن هذه الدول نفسها هي من تنتهكها. وفي ضوء غياب نظام عالمي فعال لتعريف وحماية حقوق الإنسان، تنتقل مسئولية تلك المهام بطبيعة الحال إلى الدول بشكل أساسي. كذا فإن الدول التي يتمتع مواطنوها بحقوق مدنية قوية عادة ما تدمج حقوق الإنسان ضمن تشريعاتها وقوانينها الوطنية، كما أنها تمارس دورًا فعالًا في تعزيز حقوق الإنسان والدفاع عنها على المستوى العالمي. بناء على ذلك، تمثل الدول المتغير المستقل في تلك العلاقة ثلاثية الأطراف، بما يجعل الحقوق المدنية –بل وحقوق الإنسان العالمية– مرتبطة بسلوك الدولة والعوامل المؤثرة عليه، وهو ما يجب وضعه في الاعتبار عند تقييم التوقعات المتعلقة بالحقوق المدنية وحقوق الإنسان.
مقارنةً بالدول الضعيفة الخائفة التي لا تستسيغ الخضوع للمساءلة؛ تميل الدول القوية الواثقة التي تتقبل المساءلة لحماية وتوسيع نطاق الحقوق المدنية، ومن ثم حقوق الإنسان بشكل غير مباشر. منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تضم معظم دول المجموعة الأولى، والتي وصفها نزيه أيوبي قبل نصف قرن بأنها «هشة برغم شراستها».[1] على مدار عقد على الأقل، شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تراجعًا للمؤشرات العالمية لمدى قدرة الدول واستقلاليتها وتقبلها للمساءلة لمعدلات أقل من المتوسط، عوضًا عن زيادة وربما رفع أداء دول المنطقة أيضًا.
أنواع مختلفة من الحقوق
تأثير هذا التدهور العالمي ينعكس على الأنواع الأربعة للحقوق المرتبطة بالدولة في المقام الأول، كما ينعكس في الحقوق ذاتها. اثنان من هذه الحقوق مرتبط بالأفراد، فيما يرتبط الأخران بالجماعات؛ فالحقوق الفردية تتعلق بالحق في المشاركة الفعالة في الديمقراطية السياسية. إلى جانب الحقوق الاقتصادية التي، رغم تعدد تعريفاتها، تشير تقليديًا للحق في الغذاء الكافي، والسكن، والتعليم، والصحة، والعمل، والضمان الاجتماعي. على الجانب الأخر، فإن الحقوق المتعلقة بالجماعات من بينها ما هو مرتبط بالمستوى الوطني، أي حقوق الأمم في ممارسة سيادتها، ومنها ما يتعلق بهوية المجموعات المختلفة وحقوق المنتمين لها في التعبير الثقافي والمعاملة المتساوية أمام القانون.
تتباين الأهمية النسبية لتلك الحقوق من دولة لأخرى، وحتى داخل الدولة نفسها، وفقًا للمراحل الزمنية المختلفة. لكن الأنماط الفردية تعكس التاريخ السياسي الوطني، والذي تكتسب فيه عملية بناء الأمة أهمية خاصة. في أوروبا على سبيل المثال، وبينما يُؤكد الفرنسيون على أهمية الحقوق الوطنية مقارنةً بالحقوق الإقليمية، الأمر الذي يعكس التاريخ الطويل لفرنسا الموَحدة –بما في ذلك التوحد اللغوي– وهو ما يعود لتوطيد السلطة الملكِية بنهاية القرن السابع عشر؛ فإن الإيطاليين في المقابل يُعلون من البعد الإقليمي حتى يكاد يصل للمكانة ذاتها التي يحتلها الولاء والهوية الوطنيين، وهو ما يعكس تاريخيًا الاستقلال الذاتي لدول المدن الخمس الأساسية والمقاطعات الموالية حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وتنعكس استمرارية الإقليمية الإيطالية في تباين اللغة المنطوقة بشكل أكثر وضوحًا من الحالة الفرنسية. بينما يتجاوز الوضع في بلجيكا المناطق الثلاث الأساسية، إذ تنقسم بروكسل لتسعة عشر بلدية. على الجانب الأخر، في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، نجد أن المصريين يمنحون للمناطق والهويات الفرعية حقوقًا محدودة، على عكس الوضع في لبنان والعراق إذ تم الاعتراف بالهويات الفرعية دستوريًا، الأمر الذي يدل على إدراك أهميتها.
هناك بُعد آخر تنتظم حوله الأهمية النسبية للحقوق المختلفة؛ وهو الحقوق المدنية الفردية في مقابل الحقوق المدنية الجماعية. فصعود الليبرالية السياسية في إنجلترا ومستعمرتها الأمريكية في القرن الثامن عشر، ارتبط بشكل وثيق بمدى تنامي سلطة البرجوازية في مواجهة الأرستقراطية في إنجلترا، والسلطة الاستعمارية في أمريكا؛ ما نجم عنه الانحياز للحقوق الفردية أكثر من الحقوق الجماعية في اقتصاداتهما السياسية، بما في ذلك الدستور ووثيقة الحقوق في الولايات المتحدة المستقلة حديثًا. علاوةً على ذلك، فإن تلك الحقوق الفردية غلب عليها الطابع السياسي عن الاقتصادي. على سبيل المثال ورغم ضمان حرية التعبير؛ إلا أن تناول الحقوق الاقتصادية اكتفى بالنص على «الحياة، والحرية، والسعي للسعادة». وحتى نداء حرب المستعمرات الأمريكية، «لا ضرائب بدون تمثيل»، يخضع ضمنيًا الاقتصادي للسياسي. هذه الرؤية المفاهيمية للحقوق باعتبارها حقوق فردية سياسية الطابع بالأساس، وليست اقتصادية، عززت بزوغ الرأسمالية الأمريكية؛ إذ عوملت الشركات قانونًا كالمواطنين الأفراد رغم وضوح طبيعتها الجماعية.
في معظم بلدان منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط –وجميعها تقريبًا كانت جزءً من الإمبراطورية العثمانية– فإن الحقوق على مستوى القانون والممارسة مُنحت للمجتمعات القائمة على الهوية الدينية (المِلل)؛ فالحقوق والالتزامات –من النظم القانونية والقضائية الدينية المستقلة وصولًا لدفع الضرائب– كانت تُمنح لتلك الملل وليس للأفراد داخلها، والذين كانوا يخضعون لسلطة خليفة المسلمين، وسلطة رؤساء العشائر التي ينتمون إليها. ومن ثم فإن مفهوم المواطنة في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط لا يستند على الحقوق والواجبات الفردية، وإنما على الامتيازات والمسئوليات الممنوحة للملل. أما الحقوق الفردية فكانت اقتصادية الطابع، كتلك المتعلقة بالضرائب. ومن ثم فإن العوامل الداخلية التي أضعفت وساهمت في انهيار الإمبراطورية العثمانية كانت المجتمعات العرقية والدينية، وعلى رأسها تلك التي كانت في البلقان، وليس المطالبة بالحقوق الفردية مثلما كان الحال في الولايات المتحدة.
وانطلاقًا من كون صعود غالبية الدول في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط عملية ديالكتيكية بين القوميين والحكام المستعمرين، سواء كانوا عثمانيين أو أوروبيين؛ فقد احتلت الحقوق المتعلقة بالسيادة دورًا مركزيًا فيما يتعلق بمبررات وجود تلك الدول ومطالبها، وأيضًا في المعتقدات السياسية لشعوب المنطقة. فخلال حروب التحرير، مارست تلك القوميات –المصطنعة أحيانًا– دورًا في دفع الاهتمام بالحقوق الفردية لمنزلة أدنى، مقارنةً بتلك المتعلقة بتأسيس الأمة والحفاظ عليها.
في سياق متصل، تسبب إرث الدول في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط –المتمثل في ربط الحقوق بالمجتمعات والأمة بديلًا عن الأفراد وكونها اقتصادية أكثر منها سياسية– في خلق إشكالية أشبه بتربيع الدائرة أمام عملية الدسترة وممارسة المواطنة، مما جعل من محاولة الجمع بين تقاليد المنطقة من ناحية، وبين مفهوم الدسترة في الغرب –خاصة الأنجلو أمريكي– من ناحية أخرى تحديًا صعبًا. على سبيل المثال، القانون السعودي الأساسي يقر بأن الأسرة، وليس الفرد، هي الوحدة الأساسية للمجتمع السياسي. والعديد من الدساتير العربية تتضمن تحديدًا للحقوق الاقتصادية، مثل تلك الموجودة في الدستور المصري الحالي، حول تخصيص نسب محددة من الإنفاق العام للصحة والتعليم. كما أن مفهوم المواطنة في المناهج التعليمية في الدول العربية لا يرتبط بالحقوق السياسية الفردية، وإنما بالعلاقة بين الحاكم والمحكومين، فإنجازات الأول تمنحه الحق في ولاء الأخيرين، أو بشكل أكثر تحديدًا كعقد اجتماعي يوفر فيه الحاكم الفوائد المادية في مقابل الخضوع السياسي.[2] ومن ثم فإن الشرعية السياسية للحكومات المعاصرة في المنطقة، والقبول الشعبي بها، لا تستند بالأساس إلى انتخابات حرة ونزيهة، ولكن إلى تلبية الاحتياجات وتوفير الخدمات؛ وهي بذلك تتسق مع التفسير التاريخي للحقوق في المنطقة، وممارسات الدولة ذات الصلة بذلك.
دول متوترة
إذا أخذنا في الاعتبار الاختلافات الجوهرية بين العديد من دول الغرب ودول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فيما يتعلق بالتفسيرات التاريخية والمعاصرة للحقوق المدنية، فليس من المستغرب أن يتباين تأثير الضغوط التي تتعرض لها الدول على ممارسة الحقوق داخلها. في الوقت الحالي، تتراوح الضغوط التي تتعرض لها المنطقتين بين ما هو عالمي ويؤثر على كليهما، أو ما هو خاص بكل منهما وبالدول المختلفة فيها.
يطرح عالم اليوم تحديات عميقة لجميع الدول تقريبًا، ويبدو واضحًا أن غالبيتها تناضل في التصدي لها. كما أن روسيا –إحدى أو ربما آخر الإمبراطوريات الباقية– تسير على نهج الإمبراطورية العثمانية في مواجهة تحدي وجودي بشأن تذمر الأقاليم والقوميات العرقية واللغوية، وهو الأمر الذي يهدد في الغالب بالانتشار لمناطق أخرى من تلك الإمبراطورية التي يتزايد ضعفها. وحسبما شكَّل التعامل مع تداعيات تفسخ الإمبراطورية العثمانية تحديًا للدول المجاورة، يتكرر الأمر حاليًا مع المصاعب التي تواجهها روسيا.
يتواصل هذا التحدي في ظل سياق من المشاكل العالمية المتفاقمة، مثل تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي في معظم المناطق، باستثناء نسبي في شرق وجنوب شرق آسيا، وتزايد التفاوت الاقتصادي وعدم المساواة بين البلدان بين بعضها أو داخل البلد الواحد، وتزايد النمو السكاني خاصةً في إفريقيا، في مقابل تناقص السكان في أوروبا واليابان بشكل خاص. إلى جانب تزايد أعداد النازحين وتدفقات المهاجرين من الدول الفقيرة إلى الدول الأغنى، والضغوط المناخية المتعددة الناتجة عن تغير المناخ، بما يعني ضرورة إنفاق مبالغ طائلة لمعالجة الانبعاثات الكربونية، وتزايد قوة الصين وبدرجة أقل روسيا عالميًا، وكلتاهما تمتلكان احترامًا متضائلًا للحقوق المدنية أو حقوق الإنسان. فضلًا عن التوسع الموازي للسطوة العالمية للشركات متعددة الجنسية، وتصاعد النزاعات العنيفة، خاصة داخل الدول أكثر منها بين الدول. لذا أصبح من الشائع تزايد هشاشة الدول وانهيارها، تحديدًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
في مواجهة التحديات الخطيرة تتمثل ردود الفعل التقليدية للدول في أن تطلب من شعوبها «التوحد حول العَلم»، وهو ما يعني ضمنيًا إخضاع مصالحهم الشخصية وحقوقهم لأجل بقاء الأمة ورفاهتها. وقد قدمت أوروبا القرن التاسع عشر نموذجًا للدول التي تعمل على احتواء خلافاتها السياسية في مواجهة ما يرونه تهديدات وجودية. كان التهديد في تلك الحالة هو تنامي المطالبة بالحقوق السياسية والوطنية، والتي أججتها بشكل مباشر الثورة الفرنسية، وتلاعب نابليون بمطالبها. وفور هزيمته في عام 1815، سارع رؤساء الدول الأوروبية القلقون –بما في ذلك قادة الإمبراطورية النمساوية المجرية– تحت القيادة المحافظة لكليمنس مترنيخ، بتشكيل نظام مترابط من الدول بهدف تقليل الصراعات بينهم، والسيطرة على التحديات الداخلية لأي منهم. قدرة ذلك النظام على هزيمة انتفاضة 1848 برهنت على فعاليته، كما دل استمراره حتى عام 1914 على مرونته وقدرته على الصمود في مواجهة تحديدات عديدة، استطاع التغلب على بعضها –مثل انتفاضة باريس 1871– فيما فشل في البعض الآخر –مثل توحيد إيطاليا بعد النجاح العسكري لغاريبلدي. يمكن وصف تلك الحقبة بأنها الحقبة التي تحالفت فيها الدول الأوروبية مع بعضها البعض لهزيمة تحديات مشتركة، أهمها تلك التي خلقتها شعوبهم.
النموذج المعاصر لتأثير الضغوط على سلوك الدول يتجلى في الولايات المتحدة. ففي مواجهة تراجع مكانتها عالميًا، وتباطؤ النمو الاقتصادي، وعجزها عن إصلاح نظامها السياسي العتيق، إلى جانب الاستقطاب السياسي المتنامي؛ تتعرض الحقوق الفردية في الولايات المتحدة للهجوم بطريقتين مختلفتين على الأقل. تتضح الأولى في تزايد القيود المفروضة على حرية التعبير، سواء من جانب الحكومة الوطنية أو الحكومات المحلية أو عبر مجموعة من المؤسسات والمنظمات الخاصة بما في ذلك التعليمية ووسائل التواصل الاجتماعي. بينما تتمثل الثانية في استبدال الحقوق الفردية بالحقوق الجماعية الهوياتية، على سبيل المثال إزاحة المطالب بالتعويضات عن فترة العبودية لصالح المطالب بمعاملة اقتصادية أكثر عدلًا لمن يعانون جراء المصاعب الاقتصادية. هذا التراجع عن الإرث الأمريكي فيما يتعلق بالحقوق المدنية الفردية –الذي تدفع به الدولة في بعض الحالات، وتتسامح معه في حالات أخرى– يكشف مقدار التهديدات التي يمثلها ضعف الدولة على تلك الحقوق.
كذا فإن صعود الاستبداد، على حساب الديمقراطية، على مستوى العالم يتضمن مؤشرات سيئة للحقوق المدنية وحقوق الإنسان. فمن الواضح أن المواطنين في كثير من الدول النامية، وحتى في بعض الدول المتقدمة، لديهم الاستعداد للتنازل عن مبدأ المطالبة بالحقوق المدنية وترك الأمر في أيدي «رجال أقوياء» يأملون في قدرتهم على الوفاء بالمكاسب التي يتطلعون إليها. هذه الثقة غير المستحقة في قدرات ونوايا الاستبداد تشجعها الصين، إلى جانب رفقة متنامية بين ديكتاتوريين فعليين وأخرين طامحين لأن يصبحوا كذلك. لقد تركت الموجة الديمقراطية الثالثة مكانها لموجة ثانية من الديكتاتورية، بعد الموجة الأولى التي تلت نهاية الحرب العالمية الأولى.
استجابة منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
تعكس استجابة الدول والشعوب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لتلك التحديات المتعددة إرث المنطقة بشأن الحقوق المدنية. على مستوى الدول هناك استجابتان بارزتان؛ تتمثل الأولى في الانتقال من الاستبداد الناعم إلى الاستبداد المتشدد في الدول الملكية والجمهورية، وليس من الاستبداد إلى الديمقراطية مثلما كان مأمولًا بعد انتفاضات الربيع العربي في 2011. وبحسب كريس دافيدسون فإن السعودية والإمارات –أبرز الملكيات في مجلس التعاون الخليجي– قد تحولتا من حكم الشيوخ إلى حكم السلاطين.[3] كذا فإن الأردن أو المغرب، وهي الملكيات التي لم تختبر حكم السلاطين، وكان الحكم الملكي فيهما أقرب للنظم الرئاسية العربية، إذ كانت تُحكم بالتشاور مع شيوخ القبائل المهمين؛ أصبح الحكم فيهما يعتمد بشدة على مؤسسات القمع، خاصة المخابرات التي تحوز حاليًا في المغرب قدرًا كبيرًا من السلطة الملكية. على الجانب الأخر، فإن الدول الجمهورية التي تدار بواسطة سلطويين متشددين، مثل قيس بن سعيد في تونس وبشار الأسد في سوريا وعبد الفتاح السيسي في مصر، أو الخاضعة لحكم المليشيات، مثل حزب الله في لبنان أو قوات الحشد الشعبي في العراق؛ تمكنت من القضاء على ما تبقى من مظاهر الحقوق المدنية.
الاستجابة الثانية تذكرنا بنظام مترينخ في أوروبا القرن التاسع عشر، وتتمثل في تأسيس تحالف معادي للثورة في أعقاب انتفاضات 2011، وهو يتركز حاليًا بشكل أساسي في الدول الرائدة بمجلس التعاون الخليجي. هذا التحالف يمتلك العديد من أوجه التشابه مع نظام مترينخ؛ إذ يعمل على تسهيل وصول سلطويين متشددين إلى السلطة، أو الحفاظ على سلطاتهم فور تأسيسها، بالإضافة إلى إخضاعهم للدول الأساسية في مجلس التعاون الخليجي. وهكذا، شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وضع نظام تراتبي جديد للدول معادٍ للثورة، نظام لا مكان فيه للحقوق المدنية وحقوق الإنسان. تقبع خارج هذا النظام، وإن كانت متأثرة به، الدول الفاشلة مثل ليبيا والسودان واليمن، بالإضافة إلى لبنان وسوريا على الهامش في مساحة ما بين الاستبداد والانهيار. بما أن الحقوق ينبغي أن تؤمنها الدول، فإن حالة اللا-دولة تحرم السكان –بحكم تعريفها– من أي حقوق.
على الجانب الآخر، فإن معارضة الاستبداد لم تكن هي الأمر المركزي للاستجابة الشعبية والتي تمحورت بدلًا من ذلك حول الرفاهية المادية. وتشير النتائج الحديثة لـ«الباروميتر العربي» لأن نسبة متنامية من المستجيبين يتزايد اهتمامهم بالرفاهية الاقتصادية عوضًا عن تفضيل الديمقراطية،[4] وهم في ذلك يريدون من الدولة التأكيد على العقود الاجتماعية أكثر من رغبتهم في توسيع تلك العقود وحماية الحقوق المدنية.
خلاصات واقتراحات
يتمثل التناقض في العلاقة بين الدول والحقوق في أن الدول تمارس دور المانح والمانع فيما يتعلق بالحقوق، بالإضافة لتناقض آخر ثانوي يتمثل في أن الدول القوية القابلة للمساءلة هي الأكثر انفتاحًا لمنح الحقوق، فيما تميل الدول الضعيفة والهشة لإنكارها. تداعيات هذه العلاقات مربكة بدرجة ما، فهي تعني أن دعاة حقوق الإنسان ينبغي عليهم السعي لتدعيم قدرات الدولة على التفاعل بشكل فعال مع مواطنيها، وليس السعي لإضعافها، أملين أن يمنحهم ذلك مساحة لممارسة الحقوق؛ فوجود الدولة أفضل من الفوضى كسياق لممارسة الحقوق.
إلا أن التوترات العالمية الحالية تمثل ضغوطًا على الدول في كل مكان تقريبًا، وهو ما يدفعها لاتخاذ مواقف دفاعية عن مصالحها الضيقة المتصورة، بدلًا من السعي لتعزيز قدراتها بسياسات نشطة لتوسيع الحقوق والدفاع عنها. وفى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يتعزز هذا الميل بتحالف مترينيخي الطابع للدول المعادية للثورة، يسعى لدعم ومواصلة الاستبداد في مواجهة التحديات المتصورة، بما في ذلك تلك المتمحورة حول الحقوق المدنية وحقوق الإنسان. إذا كان لتاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر أن يرشدنا إلى ما يمكن أن تكون عليه المخرجات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في الوقت الراهن، فهو أن دعاة الحقوق سيطرحون تحديات متكررة لنظام الاستبداد، لكن القليل منها سيكون مؤثرًا. وعلى العكس فإن دعاة الحقوق سيقعون بين رحى الدول المستبدة القمعية من جانب، والدول الهشة أو الفاشلة من الجانب الأخر، ومن غير المرجح نجاحهم في أي من الحالتين. كما أن هناك عقبة إضافية، ألا وهي أن الفاعلين الخارجيين، بما في ذلك الديمقراطيات الأوروبية، أقل اهتمامًا بتأمين حقوق الإنسان والحقوق المدنية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مقارنة بتوطيدها في بلدانهم داخليًا؛ إذ يتراجع الالتزام بذلك في كل الأحوال.
هذا المقال كتب في الأصل باللغة الانجليزية لرواق عربي.
[1] الأيوبي، نزيه (1996). تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط(Overstating the Arab State: Politics and Society (in the Middle East لندن: I.B. Tauris .
[2] راؤول، ميجير (2021). «المواطنة في المراجع التاريخ المصرية والتونسية والمغربية». في هشام علوي وروبرت سبرينجبورج (محرران)، الاقتصاد السياسي للتعليم في العالم العربي (41 – 46). بولدر: لين راينر
[3] دافيدسون، كريستوفر م (2021). من الشيوخ إلى السلطنة: الحكومة والسلطة في السعودية والإمارات العربية المتحدة. لندن: هيرست.
[4] البارومتر العربى، الدورة السابعة: t.ly/f3KaA
Read this post in: English