الإشارة المرجعية: أبو الدهب، نها (2023). رؤى: منفصلون عن الواقع، عاجزون عن المساعدة؟ حقوق الإنسان بين الأمم المتحدة والمنطقة العربية. رواق عربي، 28 (2)، 55-61. DOI: 10.53833/SNBT1729
خلال خمس وسبعين عامًا أعقبت اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ظلت حماية حقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك المنطقة العربية، أدنى بكثير مما هو مأمول. تُقدّم هذه المقالة تأملات موجزة حول الدور المترابط بين عنصرين بإمكانهما التأثير على حماية حقوق الإنسان في المنطقة العربية، وهما: الصلاحيات السياسية والقانونية والإدارية الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة؛ ومجموعات الشتات العربية التي تنمو باطراد وتنخرط مع هذه المؤسسات. إن المراجعة السريعة للتحديات الكبرى التي تواجه شعوب المنطقة العربية تعكس صورة قاتمة على الدوام: حملات قمع عنيفة لحرية التعبير وحرية التجمع، إلى جانب الفساد، والاستيلاء على السلطة، والاحتجاز التعسفي، والتعذيب، والمراقبة العابرة للحدود الوطنية، فضلًا عن تفاقم الظروف الاقتصادية. وهو ما يجعل من إعادة التقييم المتواصلة لسبل التغيير الحالية والجديدة أمرًا حيويًا، وذلك في ضوء تلك التحديات التاريخية والناشئة في مجالي حقوق الإنسان والأمن في المنطقة العربية.
تتناول هذه المقالة تلك السبل بطريقتين؛ تتعلق الأولى بشأن إعادة النظر في جدوى الدور الذي تمارسه الجمعية العامة للأمم المتحدة، لاسيما في تعزيز وحماية حقوق الإنسان، في ظل المناخ الحالي من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المنطقة العربية. ثانيًا، يناقش المقال الدور المتزايد للجهات الفاعلة في الشتات وما توفره من تحديات وفرص للتأثير على السياسات الخارجية وعلى إجراءات المؤسسات الدولية؛ من أجل معالجةٍ أفضل لممارسات حقوق الإنسان في المنطقة العربية. ولكن في البداية يتعين علينا الانتباه إزاء الكيفية التي يتم بها فهم واختبار وتطوير ما يُعرف بحماية «حقوق الإنسان»، وذلك بطرق بعيدة تمامًا عن كونها «عالمية» وفقًا لما نص عليه لإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر قبل خمسة وسبعين عامًا.
إن إجراء مراجعة نقدية لمزاعم العالمية في القانون الدولي لحقوق الإنسان هو أمر خارج عن نطاق هذه المقالة، وهو موضوع سبق تناوله، على نحو واسع في الأدبيات، ولا يزال.[1] بدلًا من ذلك، نكتفي هنا بأمرين؛ الأول، اعتراف المقال بأن حقوق الإنسان بعيدة عن الفهم العالمي والمتسق، فضلًا عن التعريف والبناء النظري والتجربة والتفاوض بشأنها وممارستها. الأمر الثاني، أن هذا المقال يؤيد ما ذهب إليه جورج أبي صعب حينما أكد على الدور المهم الذي تمارسه الجهات الفاعلة في العالم الثالث[2] –سواء من المثقفين أو الممارسين– في مواجهة ممارسات القانون الدولي، بما في ذلك حقوق الإنسان والمشاركة فيها. ويجدر بنا هنا النظر بشكل موجز في مقاربته تلك.
ناقش أبي صعب باقتدار –في خطابه الرئيسي في مؤتمر مقاربات العالم الثالث للقانون الدولي (TWAIL) المنعقد بالقاهرة في 2015– دور مثقف العالم الثالث في الممارسة العملية والتعامل مع التطبيق غير المتكافئ للقانون الدولي، وذلك من خلال «المواجهة، والممارسة، والعمل خلف خطوط العدو».[3] وتحاول السياقات القانونية والسياسية والحقوقية تحديد أي من تلك المقاربات الثلاثة، أو أي مزيج بينها، من شأنه تحقيق النتائج المرغوبة. ويجادل أبي صعب بأن تلك الممارسات تهدف إلى «النقد البنّاء» بدلًا من «النقد الهدّام».[4] الأكثر أهمية، أن أبي صعب يقدم في استراتيجيته تطبيقًا «مُنتجًا واستباقيًا ويتسم بالشجاعة» بدلًا من «الانسحاب، أو رفض الانخراط، والتذرع بالنقاء العقائدي الناجم عن الخوف من الاتهام بالتواطؤ مع العدو؛ واللجوء للخيار السهل بالبقاء في منطقة الراحة بعيدًا عن ساحة المعركة، وعدم القيام بأي فعل سوى إحداث جلبة من بعيد حول الظلم أو رشق النوافذ بالحجارة، وترك القرار للطرف الآخر ومكابدة عواقبه».[5]
ومن ثم، تعترف هذه المقالة بأن القانون الدولي بشكل عام، والنظام الدولي لحقوق الإنسان على وجه الخصوص، يمكن تطبيقهما وإنفاذهما في كثير من الأحيان بطريقة غير عادلة وبشكل متعمَد. برغم ذلك، فإن طريقة التطبيق تلك تعزز من قيمة الاشتباك النقدي، أو «الممارسة النقدية» في النظام القانوني الدولي؛ كمقاربة جديرة بالاهتمام في مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان الجماعية في المنطقة العربية. هذا الاشتباك سيخضع للنقاش بهدف دراسة الأثر المحتمل للجمعية العامة للأمم المتحدة والمجموعات العربية المتنامية في الشتات، وهم الأشخاص الذين يؤدون أدوارًا حقوقية بطرق مؤثرة وبشكل متزايد، ولكنها لا تمر دائمًا دون عواقب عنيفة. ونعني بالقمع العابر للحدود الوطنية، على سبيل المثال، استهداف أفراد عائلاتهم في الوطن بالمضايقات، أو السجن، بل وحتى بالتعذيب؛ كوسيلة لمعاقبة نشطاء الشتات على نشاطهم في مجال حقوق الإنسان.[6]
جمعية عامة للأمم المتحدة أكثر صخبًا وفاعلية
بشكل صريح، تنص المادة 13 (1) (ب) من ميثاق الأمم المتحدة على أن إحدى المسئوليات الأساسية للجمعية العامة للأمم المتحدة هي «الإعانة على تحقيق حقوق الإنسان». كما تتمتع الجمعية العامة للأمم المتحدة بسلطة الانخراط في الموضوعات المتعلقة بالسلم والأمن الدوليين، خاصةً حينما يخفق مجلس الأمن في الاضطلاع بهذا الدور. بعبارة أخرى، يمكن القول بأن مجلس الأمن ليس مسئولًا حصريًا عن معالجة قضايا السلم والأمن الدوليين، وأن الجمعية العامة للأمم المتحدة بإمكانها تأدية دور حاسم في القضايا القانونية والسياسية الدولية، وهو ما حدث بالفعل في حالات مهمة، وحينها كان مجلس الأمن إما عاجز عن، أو غير راغب في، التعاطي مع تلك القضايا نتيجة خلافات بين أعضائه الدائمين.[7]
وبهذه الكيفية، يتم إنفاذ الصلاحيات القانونية والسياسية للجمعية العامة للأمم المتحدة بطرق عديدة، بما في ذلك عبر تشكيل هيئات فرعية مثل آليات التحقيق، أو من خلال طلبات الحصول على آراء استشارية من محكمة العدل الدولية (ICJ)، وطلب تقارير من مجلس الأمن والنظر فيها، وأيضًا من خلال قدرتها على مناقشة وإصدار التوصيات بشأن الموضوعات دولية الأبعاد.[8] وحسبما يجادل البعض، فإن صلاحيات الجمعية العامة للأمم المتحدة للانخراط في قضايا السلم والأمن الدوليين «لا يتم الاستفادة منها بالقدر اللازم».[9]
الجمعية العامة للأمم المتحدة تمارس دورًا مهمًا في تعزيز حماية حقوق الإنسان باعتباره قضية أمنية الطابع؛ إذ أن انتهاكات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والسياسية –لاسيما حين تحدث بشكل منهجي وواسع النطاق، عبر المكان والزمان– تُشكّل تهديدًا للأمن بطرق جليّة. فهي تزيد من احتمالات الانتفاضات الجماهيرية، كما شهدنا في الانتفاضات العربية على سبيل المثال.[10] كما قد تؤدي إلى موجات نزوح جماعي داخلية، أو تسفر عن أزمات لاجئين أو الأزمات الإنسانية. كما أنها تفرض تحديات أمنية محلية وإقليمية ودولية، وهو ما يُسفر غالبًا عن حلقة مفرغة؛ إذ تُصنِّف الدول الجهود المبذولة لحماية حقوق الإنسان باعتبار أنها نفسها تمثل تهديدًا للأمن. ولا يمكن اعتبار انتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة العربية (أو في أي مكان) مجرد أمر داخلي مثير للقلق، تُمنع الهيئات الدولية من التعاطي معها تحت مزاعم السيادة. إن قضايا حقوق الإنسان غالبًا ما تشكل أهمية دولية، وذلك بفضل مبادئ القانون الدولي العرفي، وبسبب عواقبها الملموسة بقوة على الأمن الجيوسياسي والدولي. وهناك العديد من الأدلة والمواد العلمية بشأن هذا الأمر، وقد باتت راسخة منذ سنوات عديدة.
رغم ذلك، لا يزال بإمكان الجمعية العامة للأمم المتحدة تقديم رسائل أكثر تأثيرًا للدلالة على أن مثل تلك الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان –بما في ذلك، وربما بشكل خاص الانتهاكات المتعلقة بالجرائم البنيوية والاجتماعية والاقتصادية– تُشكّل تهديدات للسلم والأمن الدوليين بالقدر الذي يتطلب اتخاذ إجراءات، وليس مجرد الإعراب عن الاستنكار. وهذا أمر تزداد أهميته، لاسيما في ظل السجل شديد السوء لمجلس الأمن بشأن القضايا المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان الجماعية، خاصة في المنطقة العربية. لذا، فإن الصلاحيات الإدارية والقانونية والسياسية الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي تُمكِّنها من تحديد ما تُمثله بعض تلك الحالات من تهديد للسلم والأمن الدوليين، تُعد أمرًا بالغ الأهمية؛ خاصةً حينما يخفق مجلس الأمن في اتخاذ مثل تلك القرارات.
كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد طالبت باتخاذ إجراءات تضمنت فرض العقوبات، والحصول على آراء استشارية من محكمة العدل الدولية، وتشكيل وتعزيز نطاق ولايات عمليات حفظ السلام، وتشكيل لجان التحقيق، وبعثات تقصي الحقائق، ومطالبة القوات الأجنبية بالانسحاب، وحظر الأسلحة، وغيرها الكثير.[11] ويُعد تشكيل لجنة التحقيق الدولية المحايدة والمستقلة للمساعدة في التحقيق مع، ومحاكمة الأفراد المسئولين عن الجرائم المرتكبة في سوريا، بمثابة خطوة مهمة تحققت بفعل قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.[12] وبينما يعد من الصعب، إن لم يكن مستحيلًا، التيقن من الأثر المباشر لتلك المطالبات في اتخاذ الإجراءات التي شهدتها كل حالة، فإنه من المنطقي افتراض أنها، على الأقل، لم تؤد لتفاقم المظالم، ومن المحتمل أنها ساهمت في التخفيف من وطأة تلك المظالم في أجزاء مختلفة من العالم. في هذا الإطار، يتضح رسوخ ممارسات الجمعية العامة للأمم المتحدة في التعامل مع القضايا المتعلقة بالسلم والأمن الدوليين، في الأوقات التي يخفق فيها مجلس الأمن في الوصول إلى الإجماع. ورغم أن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة غير مُلزمة؛ إلا أن تملك وزنًا سياسيًا يُستخدم من جانب الهيئات الدولية الأخرى والحكومات لتحقيق الأهداف ذاتها –سواء كانت تتعلق بالمحاسبة، أو إيقاف النزاع، أو تهميش الحكومات القمعية.[13]
ولكن أيضًا بإمكان الجمعية العامة للأمم المتحدة –ويجب عليها بكل تأكيد– أن تحوّل اهتمامها إلى تواطؤ الأمم المتحدة في انتهاكات حقوق الإنسان عبر تخصيص صندوق للتعويضات وجبر ضرر ضحايا سياساتها القاتلة. فعلى سبيل المثال، تبدو التأثيرات المدمّرة للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بحق العراق طيلة عقد التسعينات، والتي أيدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة وأشرفت على تنفيذها من خلال القرار 661، بمثابة حرب اقتصادية بحق ملايين المواطنين العراقيين، الأمر الذي خلف أجيال من العراقيين في صدمة لا تزال تطاردهم حتى يومنا هذا.[14] وأسفرت العقوبات عن وفاة نصف مليون طفل عراقي، فضلًا عن تدمير الخدمات الاجتماعية الأساسية، بما في ذلك الصرف الصحي والخدمات الصحية والتعليم.[15] وفضلًا عن شل قدرة المجتمع العراقي إثر العقوبات المدمرة التي استمرت ثلاثة عشر عامًا، فإنها أيضًا عملت على تعزيز قبضة صدام حسين الديكتاتورية وسحقت أي إمكانية لبزوغ مقاومة عراقية ضده. كما ساهمت في تمهيد الطريق أمام الغزو غير الشرعي بقيادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واحتلال العراق في 2003؛ وهو ما جزم بأن قرار تشكيل عراق ما بعد صدّام لن يكون بأيدي العراقيين.[16] ومن ثم، لا يعد مفاجئًا أن الإيمان بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبقيمه العالمية المزعومة بشأن حرية الإنسان وكرامته يتضاءل، في ظل معاناة الملايين نتيجة سياسات المؤسسة ذاتها التي تزعم عملها على إنقاذ الإنسانية من ويلات الحروب.[17]
إذا كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة تملك من الصلاحيات ما يُمكّنها من تحديد المواقف التي تُمثّل تهديدًا لحقوق الإنسان وللسلم والأمن الدوليين، والاستجابة لها؛ إذن ينبغي عليها أيضًا أن تجد الوسائل الضرورية لتشكيل هيئات جبر الضرر والتعويض اللازمين، من خلال صلاحياتها الحالية بموجب المادة 22 من ميثاق الأمم المتحدة، على سبيل المثال. وبإمكان هيئات جبر الضرر هذه مساعدة الضحايا، باعتبارها أحد أشكال الاعتراف بمسئولية المؤسسة عن انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة بحقهم. الأمر الأكثر أهمية، أن الجمعية العامة للأمم المتحدة بإمكانها أن تغدو وسيلة تتيح محاسبة مجلس الأمن ذاته على الإجراءات التي اتخذها، وتسببت في الموت والدمار الجماعي في أجزاء عديدة من العالم، من بينها المنطقة العربية. وبدون هذا الشكل من المحاسبة المؤسسية؛ فإن الأمم المتحدة تجازف بإضعاف شرعيتها أكثر أمام أولئك الذين تزعم بأنها تعمل على توفير الحماية لهم.
ومن المهم عدم المبالغة في تقدير قوة وتأثير الجمعية العامة للأمم المتحدة. فقراراتها، على عكس قرارات مجلس الأمن، غير ملزمة. ورغم أن بإمكانها إصدار التوصيات؛ إلا أنها عاجزة عن الجزم بماهية إجراءات الإنفاذ التي ينبغي اتخاذها بشأن قضية متعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين. كما أنها لا تملك سلطة إلغاء حق النقض الذي يمارسه أعضاء مجلس الأمن. رغم ذلك، هناك محاولات تهدف لغرس شكل ما –رغم كونه محدودًا– من أشكال المحاسبة والحوار حول استخدام حق النقض، كما هو متضمن في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي تم اعتماده في 2022، والذي يسمح لأعضاء المنظمة البالغ عددهم 193 عضوًا بعقد اجتماع لمناقشة حق النقض الذي مارسه واحد أو أكثر من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.[18] كما نجد أن القرار نفسه يدعو مجلس الأمن لتقديم تقرير للجمعية العامة يفسر فيه استخدام حق النقض. وبينما من المبكر تقييم تأثير تلك المبادرة المتعلقة بحق النقض، فإن استخدامها وتطورها يستحقان المتابعة بكل تأكيد.[19]
في الوقت ذاته، من المهم تذكر أن الجهات الفاعلة في الجنوب العالمي مارست دورًا مهمًا في تطوير القانون الدولي من خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد تمكنت من ذلك من خلال حشد الدعم من أجل إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة (1960)، وإعلان السيادة الدائمة على الموارد الطبيعية (1962)، وفي تطوير إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقًا لميثاق الأمم المتحدة (1970)، وذلك من بين أمور أخرى.[20] في 2012، تم قبول فلسطين بأغلبية 138 صوتًا مقابل 9 أصوات وامتناع 41 عضوًا عن التصويت، لتحظى بصفة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة.[21] وهو ما سمح لها بالانضمام لمعاهدات دولية من بينها نظام روما الأساسي. ومنذ ذلك الحين، بدأت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقًا لا يزال مستمرًا في الجرائم المرتكبة في الأرض الفلسطينية المحتلة.[22]
المشاركة العربية في الشتات
إن الأدبيات بشأن دور الجنوب العالمي في القانون الدولي ثرية وواسعة النطاق، ومع ذلك فإن التحليل المتعمق لتلك الأدبيات لا يقع ضمن أغراض هذه المقالة. بدلًا من ذلك، أرغب في النهاية التأكيد على الحاجة الماسة لإجراء بحث صارم بشأن الدور المتطور والمتنامي للجهات الفاعلة العربية في الشتات في تعزيز وحماية حقوق الإنسان، وفي القانون الدولي بشكل عام. إذ تمارس الجهات الفاعلة العربية في الشتات دورًا مهمًا، ليس فقط في لفت الانتباه للسياسات الخارجية التي تعزز الممارسات المجحفة لحقوق الإنسان في بلدانهم، ولكن أيضًا في حشد الرأي العام في أجزاء أخرى من العالم، وفي ابتكار استراتيجيات وسياسات لدعم حماية حقوق الإنسان في المنطقة العربية. وقد بذل الكثيرون جهودهم لتحقيق ذلك، لاسيما في السياقين السوري واليمني.[23] كما أن هناك حاجة لإجراء المزيد من البحث لدراسة ما إذا كان بمقدور الجهات الفاعلة في الشتات، من مختلف أنحاء المنطقة، دعم المواطنين في بلدانهم للضغط من أجل مجتمعات أكثر عدلًا.
ومع استمرار التدابير القانونية والسياسية في خنق قدرة منظمات المجتمع المدني على العمل من داخل العديد من الدول العربية؛ واصلت العديد من المنظمات عملها عبر نقل مكاتبها إلى الشتات، أو عبر تغيير طريقة عملها وانتقالها بشكل كامل إلى المساحات الرقمية. نتيجة لذلك، يتمتع صُناع القرار الدوليون، لاسيما في أوروبا وأمريكا الشمالية، بميزة الوصول إلى المجتمعات الجديدة في الشتات، التي تحظى بروابط مع البلدان الأصلية ربما تكون أكثر قوة من الجاليات العربية التاريخية والأكثر رسوخًا.
إن الجهات الفاعلة في المجتمع المدني والصحفيين والفنانين والمحامين والأكاديميين، من مختلف أنحاء المنطقة العربية، يوظفون قدرتهم على الوصول لصناع السياسات والمؤسسات الدولية، بما في ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة، بطرق عديدة. ويتضمن ذلك الجهود المبذولة لتعبئة الرأي العام، والتأثير على السياسات الخارجية الغربية إزاء بلدانهم، والتنقل واستكشاف طرق جديدة ومبتكرة لاستخدام الأدوات القانونية والمؤسسات الدولية من أجل صنع التغيير –سواء بشكل رمزي أو مادي– في بلدانهم الأصلية. وفي إيجاز، تشكل الجهات الفاعلة العربية في الشتات مصادر أساسية للتجربة والخبرة لصانعي القرار الدوليين والغربيين، الذين يمتلكون رغبة حقيقية في حماية وتعزيز حقوق الإنسان في المنطقة.[24]
على الناحية الفكرية، ينبغي على تلك المجتمعات العربية في الشتات، بالإضافة للمواطنين في بلدانهم الأصلية، الإسهام بشكل أكبر في عملية الإنتاج المعرفي بشأن استراتيجيات المناصرة السياسية والقانونية التي تسعى لتأمين مجتمعات أكثر سلامًا وعدالة في المنطقة العربية. بعبارة أخرى، يجب على منابر النشر –لاسيما تلك التي تُمثّل «الاتجاه السائد» والناشرين المقيمين في الغرب– العمل بفعالية أكبر لاستكشاف وإنتاج التحليلات العلمية وتوصيات السياسات من العرب في الشتات، وفي الداخل. بما في ذلك الممارسين والنشطاء والكُتاب والمحامين الذين يملكون خبرة بشأن الأسئلة الدقيقة التي تؤثر على تجارب حقوق الإنسان في المنطقة، والذين غالبًا ما يتم الاستفادة منهم كمصادر للمعلومات والبيانات –وموضوعات لإجراء المقابلات– وليس كمنتجين للمعرفة، وهو أمر مهم للغاية لسببين رئيسيين. أولًا، مثل تلك المعرفة من شأنها المساهمة في توضيح كيف أخفقت منظومة حقوق الإنسان الدولية الحالية في مهمتها، وكيف هَمشت حماية حقوق الإنسان في المنطقة العربية، وحولتها على نحو خاطئ لقضايا «خارج» نطاق سيطرتها. السبب الثاني أن من شأن ذلك إتاحة مساحات أكبر أمام ممارسة «النقد البنّاء» الذي يشير إليه أبي صعب، وهو الذي يستهدف تحديد المشكلات والحلول المحتملة، من خلال اقتراح استراتيجيات قانونية وسياسية تعتمد على الحقائق المتنوعة في المنطقة العربية، بدلًا من التمسك بالمعايير المحدودة للنظام الدولي الحالي لحقوق الإنسان.
منذ اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قبل خمسة وسبعون عامًا، شهد ميدان القانون الدولي تطورًا مؤثرًا في الصكوك المتعلقة بحقوق الإنسان، فضلًا عن تشكيل هيئات قضائية دولية تهدف لضمان المحاسبة على الجرائم الإنسانية وجرائم حقوق الإنسان. وبرغم ذلك، يبقى استخدامها وإنفاذها بعيد المنال أو عسير الإنجاز، أو كليهما، في ظل الواقع السياسي للعديد من الأجزاء في العالم، بما في ذلك المنطقة العربية. ومع ذلك، فإن الصلاحيات الإدارية والقانونية والسياسية للجمعية العامة للأمم المتحدة ترغمنا على إعادة النظر في قيمة نهج «العودة إلى الأساسيات» الذي يأخذ بجدية هذه الصلاحيات التي تمتلكها الجمعية العامة، وكذلك تأثيرها المحتمل على تعزيز وحماية حقوق الإنسان في المنطقة العربية. إن مشاركة أكثر فعالية ومستنيرة إقليميًا للجمعية العامة للأمم المتحدة فيما يتعلق بقضايا المنطقة العربية، لاسيما من خلال إصدار القرارات وتشكيل الهيئات الفرعية، بإمكانها المساهمة في إبراز قضايا حقوق الإنسان في المنطقة بطرق أكثر وضوحًا على الصعيد العالمي. كما أن دور المجموعات العربية المتزايدة في الشتات، والتي تتمتع بالقدرة على الوصول لتلك المؤسسات، مهم أيضًا؛ وذلك بسبب تأثيرها المحتمل في صناعة القرار لدى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وما يعقب ذلك من إجراءات. وحين تكون الجمعية العامة مقيدة في صلاحياتها التنفيذية، فإنها توجه الدعوات مباشرةً لصناع القرار لاتخاذ الإجراءات اللازمة.
وشكل هذا أهمية خاصة من أجل تعزيز مصداقية وشرعية الأمم المتحدة كمؤسسة تزعم تمثيلها للعالم. علاوةً على ذلك، فإن الجهات العربية الفاعلة في الشتات –والتي تمتلك القدرة على الوصول للغرب وغيره من صناع القرار ذوي النفوذ، والجمعية العامة للأمم المتحدة والهيئات الأخرى التي تتفاعل بشكل وثيق معها– تمارس دورًا مهمًا في تعبئة الرأي العام وإلقاء الضوء على القضايا التي تعرضت للإهمال، وتدعو أيضًا لاتخاذ إجراءات ملموسة.[25] الأمر الأكثر أهمية، أنها تؤدي دورًا تشتد الحاجة إليه في تحدي مناهجنا في التفكير، وكذلك الأساليب التي نمارس من خلالها القانون الدولي وحقوق الإنسان.
هذا المقال كتب في الأصل باللغة الانجليزية لرواق عربي.
وبروان، كريس (1997). نقد عالمية حقوق الإنسان (Universal Human Rights: A Critique). المجلة الدولية لحقوق الإنسان 1(2). إصدار الصيف، ص 42-65.
وموتوا، ماكاوا (2002). حقوق الإنسان: نقد سياسي وثقافي (Human Rights: A Political and Cultural Critique). مطبوعات جامعة بنسلفانيا.
[2] بينما يوجد تنوع فكري بين الباحثين المنخرطين في فعاليات مقاربات العالم الثالث للقانون الدولي (TWAIL)؛ فإن هناك توافقًا عامًا إزاء مصطلح «العالم الثالث» كتصنيف تحليلي مفيد لـ«مجموعات من الدول والشعوب التي تنزع إلى تعريف نفسها بهذا المصطلح» نتيجة خبراتهم التاريخية والمعاصر المشتركة فيما يتعلق بالاستعمار والتبعية. انظر أوكافور، أوبيورا (2005). الحداثة والإمبريالية والإصلاح القانوني الدولي في عالمنا المعاصر: من منظور مقاربات العالم الثالث للقانون الدولي (Newness, Imperialism, and International Legal Reform in Our Time: A TWAIL Perspective). دورية أوسجود هول 43 (1/2). ص 171-191.
[3] قد يكون «العدو» أي مجموعة من الجهات الفاعلة التي تهدف للإخضاع وفرض اللامساواة والظلم والتمييز، سواء كانت جهات فاعلة استعمارية أو جهات فاعلة سلطوية في مرحلة ما بعد الاستعمار، أو مؤسسات.
[4] أبي صعب، جورج (2016). مثقف العالم الثالث في الممارسة العالمية: المواجهة أو المشاركة أو العمل خلف خطوط العدو؟ (The Third World Intellectual in Praxis: Confrontation, Participation, or Operation Behind Enemy Lines?). فصلية العالم الثالث 37(11). ص 1958.
[5] المصدر السابق، ص 1964.
[6] انظر مجدي عمرو (2023). المنفى أو السجن: ما تعرضه مصر للمنتقدين في الخارج. هيومن رايتس ووتش. 28 مارس، https://www.hrw.org/ar/news/2023/03/28/exile-or-prison-egypts-offer-critics-abroad.
والشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان (2020). أسرتك تحت أيدينا: عن احتجاز أقارب وأفراد من أسر المنتقدين والمعارضين في مصر (Your Family is in our Custody…About Detaining Relatives and Family Members of Dissidents and Critics in Egypt)، https://www.anhri.info/?p=20169.
وهوليس، جنيفير (2023). مصر تستهدف النشطاء في فترة الاستعداد للانتخابات الرئاسية (Egypt Targets Activists in Presidential Election Run-up’). دويتشه فيلله، 1 سبتمبر، https://www.dw.com/en/egypt-increased-crackdown-against-activists-and-their-families-in-presidential-election-run-up/a-66689882?maca=en-Twitter sharing.
[7] باربرا، ريبيكا (2021). صلاحيات الجمعية العامة للأمم المتحدة لمنع الجرائم الفظيعة والتصدي لها: وثيقة إرشادية (The Powers of the UN General Assembly to Prevent and Respond to Atrocity Crimes: A Guidance Document). المركز الآسيوي-الباسيفيكي لمسئولية الحماية، أبريل، ص 9.
[8] المادة 10، ميثاق الأمم المتحدة. للحصول على أمثلة بشأن استخدام الجمعية العامة للأمم المتحدة لصلاحياتها، انظر باربرا، ريبيكا (2021). صلاحيات الجمعية العامة للأمم المتحدة لمنع الجرائم الفظيعة والتصدي لها: وثيقة إرشادية (The Powers of the UN General Assembly to Prevent and Respond to Atrocity Crimes: A Guidance Document). المركز الآسيوي-الباسيفيكي لمسئولية الحماية، أبريل.
وباربرا، ريبيكا (2021). استقصاء حول كفاءة الجمعية العامة للأمم المتحدة في الموضوعات ذات الصلة بالسلم والأمن الدوليين: في القانون والممارسة (A Survey of the General Assembly’s Competence in Matters of International Peace and Security: In Law and Practice). دورية استخدام القوة والقانون الدولي 8(1)، ص 115-156.
[9] باربرا، ريبيكا (2021). صلاحيات الجمعية العامة للأمم المتحدة لمنع الجرائم الفظيعة والتصدي لها: وثيقة إرشادية (The Powers of the UN General Assembly to Prevent and Respond to Atrocity Crimes: A Guidance Document). المركز الآسيوي-الباسيفيكي لمسئولية الحماية، أبريل، ص 4.
[10] في حين أن الانتفاضات الشعبية نفسها، ليست مشكلة بالطبع؛ إلا أن تداعياتها واستجابات الدول لها خلقت أوضاعًا أمنية محفوفة بالمخاطر في مختلف أنحاء المنطقة وخارجها.
[11] ريبيكا (2021). مصدر سابق. ص 14.
[12] قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (2016) A/RES/71/248. متاح على:
https://documents-dds ny.un.org/doc/UNDOC/GEN/N16/462/01/PDF/N1646201.pdf
[13] وهذا ليس أمرًا هينًا؛ وفقًا لباربرا (2021)، فهي تجادل بأنه «إذا ما كان مجلس الأمن بالأمم المتحدة نفسه يصنف موضوعًا ما باعتباره تهديدًا للسلم والأمن الدوليين؛ فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة ربما تستطيع إتمام تلك المهمة. إن حقيقة كون الجمعية العامة مخوّلة من قّبَل ميثاق الأمم المتحدة بالنظر في الموضوعات بالسلم والأمن الدوليين وتقديم التوصيات بشأنها، ولفت انتباه مجلس الأمن إليها؛ يدل بالضرورة على وجود اختصاص للجمعية العامة لاتخاذ قرارها بشأن المسائل التي تُمثّل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين»، ص 16-17.
[14] جوردن، جوي (2020). الدروس الدائمة من العقوبات على العراق (The Enduring Lessons of the Iraq Sanctions). مشروع أبحاث ومعلومات الشرق الأوسط، 294. الربيع، https://merip.org/2020/06/the-enduring-lessons-of-the-iraq-sanctions/.
[15] اليونيسيف (1999). استطلاعات العراق تُظهر «حالة طوارئ إنسانية» (Iraq Surveys Show ‘Humanitarian Emergency’). 12 أغسطس. https://reliefweb.int/report/iraq/iraq-surveys-show-humanitarian-emergency.
[16] أبو الدهب، نهى (2023). العراقيون يستحقون العدالة في شكل تعويضات (Iraqis Deserve Justice in the Form of Reparations). الديمقراطية في المنفى. 17 مارس، https://dawnmena.org/iraqis-deserve-justice-in-the-form-of-reparations/.
[17] ميثاق الأمم المتحدة، https://www.un.org/en/about-us/un-charter/preamble.
كما جادلت في موضع آخر، ينبغي أيضًا على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تخصيص صندوق لجبر الضرر للمساعدة على معالجة الأضرار الناجمة عن العقوبات التي فرضاها بحق الملايين من العراقيين الأبرياء. انظر أبو الدهب، نهى (2023). العراقيون يستحقون العدالة في شكل تعويضات (Iraqis Deserve Justice in the Form of Reparations). الديمقراطية في المنفى. 17 مارس، https://dawnmena.org/iraqis-deserve-justice-in-the-form-of-reparations/.
[18] الأمم المتحدة (2022). الجمعية العامة تعتمد قرارًا تاريخيًا يهدف لمحاسبة خمسة أعضاء دائمين على استخدام حق النقض (General Assembly Adopts Landmark Resolution Aimed at Holding Five Permanent Security Council Members Accountable for Use of Veto). بيان صحفي صادر عن الأمم المتحدة. 26 أبريل، https://press.un.org/en/2022/ga12417.doc.htm.
[19] تقدم ريبيكا باربر تحليلًا ممتازًا لتأثير مبادرة حق النقض في الذكرى السنوية الأولى لها: باربرا، ريبيكا (2023). مبادرة الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن حق النقض تبلغ عامها الأول. هل لها جدوى؟ (The U.N. General Assembly’s Veto Initiative Turns One. Is it Working?). جاست سيكيوريتي. 26 أبريل، justsecurity.org/86140/the-u-n-general-assemblys-veto-initiative-turns-one-is-it-working
[20] أبي صعب، جورج (2016). مثقف العالم الثالث في الممارسة العالمية: المواجهة أو المشاركة أو العمل خلف خطوط العدو؟ (The Third World Intellectual in Praxis: Confrontation, Participation, or Operation Behind Enemy Lines?). فصلية العالم الثالث 37(11).
[21] الجمعية العامة للأمم المتحدة (2012) GA/11317، 29 نوفمبر.
[22] للتعليق على دور المحكمة الجنائية الدولية في فلسطين، انظر الندوة (2020). التقاضي بشأن فلسطين أمام المحكمة الجنائية الدولية (Litigating Palestine Before the International Criminal Court). دورية العدالة الجنائية الدولية 18(4).
[23] أبو الدهب، نهى (2022). العدالة الانتقالية كقمع ومقاومة: ممارسات في العالم العربي (Transitional Justice as Repression and Resistance: Practices in the Arab World). دورية العدالة الجنائية الدولية.
[24] أبو الدهب، نهى (2021). كيف يمكن لصُناع السياسات الغربيون التفاعل مع الشتات العربي الجديد (How Western Policymakers Can Engage the New Arab Diasporas). معهد بروكينجز. 16 يوليو، https://www.brookings.edu/articles/how-western-policymakers-can-engage-the-new-arab-diasporas.
[25] المصدر السابق.
Read this post in: English