الإشارة المرجعية: بشير، رزاز (2024). حقوق المواطنة في السودان: الخطاب والممارسة في مساري الثورة والحرب. رواق عربي، 28 (3). 49-64. DOI: 10.53833/KQOD2906
خلاصة
يتناول هذا المقال أحداث الثورة السودانية الآخذة في الانكشاف منذ ديسمبر 2018 فيما تحاول القوى العسكرية وأدها تحت حرب عبثية اشتعلت في العاصمة الخرطوم منذ الخامس عشر من أبريل 2023. يتفحص المقال هذه الأحداث والمطالب المصاغة من جانب الفاعلين المختلفين، من وجهة نظر حقوق المواطنة باعتبارها مدار رئيسي للصراع في الدولة الوطنية – الحديثة عمومًا وفي سياقات ما بعد الاستعمار بصورة خاصة. يستخدم المقال منهجية «تحليل الخطاب النقدي» للنظر في مواقف الفاعلين المؤثرين في مجريات الثورة وما تلاها من نزاع مسلح، من التغيير الاجتماعي وما يمليه ذلك من حقوق للمواطنة. يستند المقال في ذلك على مجموعة من الوثائق المكتوبة على وسائل التواصل الاجتماعي، وهتافات وشعارات ثورية. ويجادل المقال بأن التهديد الذي شكلته هذه التعبيرات الثورية المختلفة من قِبل مَن هم خارج دائرة المواطنة التاريخية، هو ما دفع النخبة المهيمنة لجر البلاد إلى هذه اللحظة من التعليق الكامل لشروط العمل السياسي المدني والانزلاق إلي حرب عبثية.
مقدمة
منذ اندلاع الثورة السودانية الأخيرة في ديسمبر 2018 وحتى يومنا هذا، يستطيع المتابع غير المتخصص أن يرى بوضوح أن الثورة قد وقعت فريسة لقوى عسكرية مختلفة تحاول دحرها منذ ميلادها. وحينما استصعب الأمر عليهم، كثورة مضادة، فإن هذه القوى العسكرية أوقعت البلاد في براثن حرب عبثية، بدأت من الخرطوم في أبريل 2024، قبل أن تمتد لاحقًا لجبهات أخرى. يدرس هذا المقال مفهوم حقوق المواطنة من خلال تحليل تسلسل الأحداث ونصوص المطالبات المصاغة من جانب الفاعلين المختلفين منذ بداية الثورة، وحتى وقت كتابة هذا البحث. سيجري تحليل هذه النصوص –سواء التي تم التعبير عنها من خلال ممارستها المباشرة بالانخراط في الاحتجاجات، أو الأنشطة الثورية المختلفة، أو المواطنة– كمجموعة من الحقوق التي تتم المطالبة بها وتضمينها في الإعلانات والمواثيق السياسية. ومن هنا، تجادل هذه الدراسة بأن التهديد الذي شكلته هذه التعبيرات الثورية المختلفة من جانب من هم خارج دائرة المواطنة التاريخية، هو ما دفع النخبة المهيمنة من المدنيين والعسكريين، بالتواطؤ مع القوى الدولية المتحكمة في الاقتصاد العالمي، لإدخال البلاد في موجات من العنف، بلغت ذروتها مع لحظة اندلاع الحرب وما تلاها من تصعيد وتعليق لشروط العمل السياسي المدني.
يستخدم المقال طريقة «تحليل الخطاب النقدي»، وهي طريقة تحليل تنطلق من موقع اجتماعي/سياسي صريح، ينحاز لضحايا الخطاب المسيطر والمعزز بعلاقات القوى غير المتكافئة، مع الأخذ في الاعتبار العلاقة بين النصوص موضع الدراسة والإدراك الاجتماعي، علاقات القوى، المجتمع وثقافته، بحسب فان ديجيك.[1] من هذا المنطلق، يحلل المقال مواقف الفاعلين المؤثرين في مجريات الثورة وما تلاها من نزاع مسلح، من ناحية موقعهم التاريخي في بنية الدولة الحديثة للمواطنة، ورؤيتهم لطبيعة التغيير المنشود وترجمة هذه الرؤى لمطالب للحقوق الأساسية والمدنية والاجتماعية. ويستند المقال في هذا التحليل على مجموعة من الوثائق المكتوبة من بيانات وإعلانات سياسية ودستورية، ومصادر متعددة الوسائط وهتافات وشعارات ثورية.
يبدأ المقال بتأطير نظري لمفهوم المواطنة وارتباطه بنشأة الدولة الوطنية الحديثة، ومظاهره في سياق دول ما بعد الاستعمار عمومًا، وفي السودان بشكل خاص. بعد ذلك، ينظر المقال للموجة الأولى من أحداث الحراك الثوري مع التركيز على دور خطابات نخب «المجتمع المدني» في انحراف مسار التغيير الاجتماعي/السياسي للحراك. فيما يسلط الجزء الثالث من المقال الضوء على موجة الاحتجاجات الثانية، والتعبير الفاعل للجماهير الثورية من «المجتمع السياسي» عن حقوقها في المواطنة، من خلال الانخراط المباشر في العملية السياسية وإعادة صياغة خطاب التغيير. لينتقل بعدها لتفحص المشهد الثوري بعد الحرب، من خلال استعراض مواقف داعميها والمعارضين، مع التركيز على خطابات الوطنية التي يجري استدعاؤها وتوظيفها للمحافظة على الوضع القائم، والذي يقضي بإقصاء فئات اجتماعية واسعة.
أطر حقوق المواطنة وقراءاتها في السياق السوداني
يتطلب التأمل في مفهوم المواطنة التطرق لفكرة الدولة-الوطنية، التي أتت به إلى حيز الوجود في شكله الحديث، والتي لا تزال تثير الجدل حول جوهرها وتناقضاتها رغم تصدرها كنموذج عالمي للسيادة. ويجادل مايكل هاردت وانتونيو نيقري[2] بأن مفهوم السيادة الحديثة، في نسخته العلمانية لأوروبا ما بعد عصر النهضة، قد بدأ كمشروع ثوري ضد الكنيسة والأنظمة السماوية الشرعية، ليحل محلها أنظمة تستمد شرعيتها من الجماهير (Multitude) وسلطة العقل والعلم. وفي ظل تنوع وتباين المصالح للجماهير، فإن السيادة التي يصعب بسطها، قد أسقطت الدولة-الوطنية سريعًا في الردة الثورية، عن طريق توظيفها لأدوات إقصاء الآخر، من خلال تعزيز فكرة الشعب (Nation) كوحدة تهيمن عليها مجموعة متجانسة تتشارك التاريخ واللغة والعرق أو الطبقة، وتُعرف نفسها دائمًا بالتضاد مع «آخر». مع ذلك، فإن الطبيعة الإقصائية لهذه الدولة الحديثة ظلت تستعيد بُعدها الثوري في لحظات مختلفة، مثل النضال ضد الاستعمار باعتبارها لحظة توحد ضد الآخر الأجنبي. وبينما يخلص بينديكت أندرسون لأن الشعوب ما هي سوى مجموعة من «مجتمعات مُتخيلة» تمكنت من تخيل نفسها من خلال العملية التي تزامنت مع ظهور «رأسمالية الطباعة»، فمن جانب تمكنت من تعزيز سلطة بعض اللهجات المحلية دون الأخرى، بينما على جانب أخر، خلقت تجربة زمانية متجانسة، من خلال صدور الصحف اليومية داخل حدود الدولة الواحدة.[3] في المقابل، يعكس هاردت ونقري الأطروحة بأن «الشعب لا يمكن أن يكون إلا متخيلًا».
من ناحية أخرى، يُعقد بارتا شاتارجي هذا المشهد في سياقات ما بعد الاستعمار،[4] إذ يرى بأن هذه التجربة الزمانية المتجانسة لهذه «المجتمعات المتخيلة» من الشعوب، والتي تتشاركها المجتمعات تحت أنظمة الإنتاج الرأسمالية، لا تنطبق على الواقع ما بعد الاستعماري الذي يعيش في «أزمنة متعددة» من أنظمة إنتاج رأسمالية حديثة، وأخرى تقليدية تخضع لإيقاعها الزماني الخاص. تنعكس هذه الجدلية في مبحثين أساسيين لشاتارجي: يتعلق الأول بمسار تشكل الدولة الوطنية،[5] والتي يعتمد مدى نجاحها على قدرتها للتوفيق بين تناقضاتها المتعددة. فمن جانب هي تخوض حربًا ضد المستعمر تحت شعارات الوطنية المُستقاة من مصادر المستعمر نفسها، ومن الجانب الآخر، هي دولة سيادة حديثة تستمد شرعيتها من سكان غالبيتهم قبل حداثويين. أما المظهر الثاني لهذه «الأزمنة المتعددة» فهو تمييز أساسي يضعه بارتا شاتارجي بين الفاعلين في الفضاء العام، وفقًا لانخراطهم في مواقع المواطنة الحديثة أو عدمها.[6] إذ يقترح شاتارجي التمييز بين «المجتمع المدني» و«المجتمع السياسي»، مُعرفًا المجتمع المدني بأنه «جمعية مغلقة من مجموعات النخبة الحديثة، معزولة عن الحياة الشعبية الأوسع للمجتمعات، وتحتمي داخل جيوب للحريات المدنية والقانون العقلاني». ورغم الافتراض النظري في مفاهيم الدولة الحديثة بأن كل المواطنين بإمكانهم أن يصبحوا جزءً من هذا المجتمع المدني، بحكم حقوقهم في المواطنة المتساوية. إلا أنه في حقيقة الأمر، فإن هذا المجتمع ظل دومًا برجوازيًا، حتى في الديمقراطيات التي تستند إلى مبدأي الحرية والمساواة، ويتجسد ذلك في عدد من المؤسسات والممارسات المحصورة على فئات قليلة تحتل مواقع اجتماعية يمكن تعريفها بوضوح، ويتحكم به معياري «الملكية» و«المجموعة الاجتماعية» التي ينتمي إليها الأفراد.
في السياق نفسه، يكشف الواقع، خصوصًا في دول ما بعد الاستعمار، عن وجود غالبية السكان خارج هذه المواقع الاجتماعية سهلة التعريف ضمن قواميس الدولة الحديثة، وتصنيفاتها لما هو رسمي أو قانوني من سكان المناطق غير الرسمية (السكن العشوائي)، أو عمال القطاعات غير الرسمية أو غير القانونية. ورغم أوضاعهم غير الخاضعة للتصنيف، وانحرافهم عن معايير المواطنة الحديثة، فإنهم يظلون جزءً من «السكان» الخاضعين لآلة الدولة البيروقراطية وسياساتها اليومية، والتي أصبحت تستمد شرعيتها بتزايد هذه العلاقات الحكومية (Governmentality) مع «السكان»، وليس بالمشاركة السياسية الفاعلة «للمواطنين».[7] وبهذا يتشكل «المجتمع السياسي» من الفئات الهشة، ويدير حياته اليومية من خلال هذه العلاقة المبهمة مع الدولة، والتي تخضع للكثير من المفاوضات والمناورات، ويلجأ أحيانًا لخلق شبكات وتنظيمات لهذا الغرض. ورغم تباين أهدافه وتكتيكاته، ونظرة «مواطني» الدولة الحديثة الاستعلائية لأفعاله التي لا تتوافق دومًا مع قيم «المجتمع المدني» العقلانية؛ فقد مثّلت الأشكال المختلفة لمناورات هذا «المجتمع السياسي» الأساس لكثير من أشكال المقاومة وتغيير موازين القوى بهذه المجتمعات.
هذه المقابلة بين المجتمع المدني والسياسي يتردد صداها في أدبيات الحراك الثوري في مجتمعاتنا المعاصرة، إذ تشير دينا كيوان لكيفية تصدُّر الجماهير القاعدية ضعيفة التنظيم أحداث الربيع العربي.[8] رغم رهان القوى الغربية على قدرة المجتمع المدني في إحداث التغيير الديمقراطي، وتمويلها السخي للمنظمات لدعم أنشطة المشاركة المدنية، خصوصًا بين أوساط الشباب. وتجادل كيوان بأن تهميش فئات الشباب والنساء واللاجئين قد مثّل دافعًا لها للمشاركة في أحداث الربيع العربي؛ كتعبير فاعل عن المواطنة وللمطالبة بحقوقها الكاملة. ووفقًا لنيلز بيوتنشون،[9] ومن وجهة نظر تاريخ مؤسسي، فالثورات، والانتفاضات عمومًا، يمكن اعتبارها «منعطفًا حرجًا» يتعرض فيه الاستقرار المؤسسي «المعتمد على المسار» للمساءلة، إذ تتوفر حينها إمكانية إجراء تغييرات كبيرة في إعادة صياغة البنى المؤسسية وبنود العقد الاجتماعي للمواطنة من حيث الشمول والإقصاء والحقوق والواجبات. بذلك، يمكن النظر لهذه الانتفاضات كأنسب لحظات للصراع من أجل «حق الحصول على الحقوق»، وهو المفهوم الذي يشرح أندرو سشاب تباين قراءاته بين حنة آرندت وجان رانسيير.[10] وقد برزت هذه الصياغة من خلال أطروحات حنة آرندت في تشككها في أطر حقوق الإنسان، حين جادلت بأن «حق الحصول على الحقوق» هو الحق الذي لا يمكن الحصول عليه خارج الإطار السياسي للفرد المعترف به كمواطن في المقام الأول، الأمر الذي يضع اللاجئين، و«عديمي الأوراق الثبوتية»، وفاقدي الدول خارج مظلة حقوق الإنسان. في المقابل حاججها جان رانسيير بأن الصراع من أجل «حق الحصول على الحقوق» ليس لحظة استثنائية تحدث خارج الأطر السياسية للمواطنة، وإنما هو مدار أساسي للصراع السياسي من أجل المساواة في وضع تمثل فيه اللامساواة طبيعة الأمور.
هذا الصراع، من أجل الاعتراف بالمواطنة وحقوق الإنسان الأساسية في السودان، مثّل عقبة كبيرة في طريق التعايش السلمي والاستقرار بالبلاد. ويشرح عبد الله بولا كيف تم التصالح تاريخيًا مع انتهاكات حقوق الإنسان بحق مجموعات كبيرة من سكان البلاد،[11] من خلال توظيف منطق هرمي للمواطنة يسبق وجوده نظام البشير (1989-2019)، والذي ارتكب بدروه أكبر الانتهاكات في حرب الجنوب (1955-2005)، وكذا الإبادة الجماعية في دارفور في غرب البلاد المستمرة منذ 2003، والحرب المشتعلة في جبال النوبة في جنوب غرب البلاد منذ 2011. ويوضح بولا أن «البنى الأساسية للانتهاكات حقوق الإنسان» ما هي إلا «البنى الذهنية والمفاهيمية والاجتماعية والثقافية والنفسية والسياسية القائمة في مجتمعنا من قبل استيلاء الإسلامويين على السلطة، والتي شكلت قواعد داعمة ومستودعات ومخابئ آمنة للطاقة العدوانية، وهيأت ظروف نفسية مواتية لانتهاكات حقوق الإنسان»، الأمر الذي يتجلى بوضوح في الخطاب الذي يؤجج الصراع الدائر الآن.
ولفهم الخطوط التي يحدث على أساسها هذا التمييز بين فئات السكان وحقهم في المواطنة في السياق السياسي/الاجتماعي لسودان ما بعد الاستعمار، فمن المفيد الإشارة لتحليل محمود مامداني[12] للطريقة التي قد أنتج بها الاستعمار البريطاني فئتين من السكان، من خلال نظام حكم غير مباشر في أطراف عدد من المستعمرات. الفئة الأولى خضعت للحكم المباشر، عادةً ما سكنت المدن الكبرى وتمتعت بمستوى معيشة وخدمات تقارب ما يحصل عليه المستعمر، كما اختبرت مبادئ المواطنة، كالخضوع لحكم القانون والحوكمة، ويمكننا النظر إليها كــ«مواطنين». بينما الفئة الثانية هي التي ظلت بمعزل عن التأثير المباشر للحكومة الاستعمارية، وخضعت لسيطرة القوى التقليدية من الإدارات الأهلية والمشايخ ورجال الدين، ويمكن النظر إليهم باعتبارهم «رعايا» من وجهة نظر الدولة الحديثة.
وقد تبنت الحكومة الاستعمارية في السودان (1898-1956) نظام الحكم غير المباشر لخدمة عدة محاور. من جانب لردع وتحجيم التحركات المناهضة لها، سواء من القوى التقليدية من بقايا المهدية والطرق الصوفية عمومًا أو من القوي الناشئة المتعلمة خصوصًا بعد ثورة 1924. ومن جانب آخر فقد جنبها تفويض الإدارات الأهلية الأعباء الإدارية والمالية، خصوصًا في المناطق النائية محدودة العائد، من وجهة النظر الاستخراجية المتبناة تجاه المستعمرات. فنجد مناطق الحكم المباشر، أو مراكز المواطنين، في المدن الكبرى والواقعة على شريط النيل، والمغرية اقتصاديًا أو لوجستيًا في شمال وشرق ووسط السودان بصورة أكبر،[13] فيما يتواجد باقي سكان البلاد ضمن «الرعايا» جغرافيًا.
أما خطوط التقسيم الأخرى التي وظفها هذا النظام الاستعماري في إعادة ترتيب الهرمية الاجتماعية فقد اتبعت أساسًا إثنيًّا. يشرح مامداني[14] كيف حولت دراسات هارولد ماكمايكل بشأن أصول المجموعات السكانية في السودان الأحاجي الشعبية الشفاهية عن السلالات العربية والأصول الشريفة وشهادات النسب مشكوكة الدقة –والتي رسخت للاستعلاء الإثني لبعض المجموعات– لإحصاءات رسمية للدولة وحقائق علمية ظل يرددها ورثة الأرشيفات الاستعمارية من النخبة المتعلمة. ليستند الاستعمار إلى هذه الخطوط الجغرافية-الإثنية في توزيع الامتيازات التي ظلت تحكم موازين القوى بالبلاد ضمن منطق «فرق تسد»، بالانحياز لشمال ووسط السودان وللمجموعات الإثنية التي تسكنه. مما فاقم من الفجوة التنموية بالمناطق من جانب، ومؤشرات التنمية الاجتماعية والاقتصادية بين المجموعات الإثنية من الجانب الآخر. فيشير محمد سعيد القدال مثلًا لسياسات المستعمر في التعليم،[15] فنجد أن التوسع في التعليم الأساسي والمتوسط حتى عام 1946 قد ظل في أم درمان والخرطوم وحلفا وسواكن وواد مدني (مدن بوسط وشمال وشرق السودان)، لدرجة أنه حتى عام 1930، لم يوجد طالب واحد من جنوب السودان أو دارفور بين طلبة كلية غردون البالغ عددهم 555 طالبًا.
في ضوء هذه الديناميكيات التي شكلت سودان ما بعد الاستعمار ومواقع المواطنة فيه، يحاول هذا المقال النظر في الأحداث التي أربكت موازين القوى التقليدية بالبلاد منذ ديسمبر 2018 وحتى الآن. أولًا، يتفحص المقال الحراك الثوري الذي استمر لما يقارب خمسة أعوام، بالنظر إليه كموجتين ثوريتين منفصلتين إلى حد ما، متمعنًا في أسباب اشتعال كل موجة وطبيعة القوى التي تقدمت لقيادتها. الموجة الأولى يمكن إعلان بدايتها في 13 ديسمبر 2018 بخروج أول مظاهرة في مدينة الدمازين في جنوب شرق البلاد ضد غلاء الأسعار، مرورًا بسقوط عمر البشير في أبريل 2019، وصولًا لتشكيل الحكومة الانتقالية بقيادة الأحزاب والقوى المدنية تحت اسم «تحالف قوى الحرية والتغيير» وحتى فجر الانقلاب عليها في 25 أكتوبر 2021. بينما انطلقت الموجة الثانية منذ فجر الانقلاب نفسه، تتقدمها التنظيمات القاعدية من «لجان المقاومة» والتي حافظت على زخمها الثوري، حتى لحظة اشتعال الحرب في منتصف أبريل 2023. ثانيًا، ينظر المقال للحظة الحالية من النزاع الدائر في العاصمة الخرطوم والأجزاء الغربية من البلاد، وحالة الاستقطاب الحاد التي تضع مجموعات متعددة من الداعمين للحرب في مواجهة الداعين لوقفها تحت دعاوى مختلفة من الجانبين.
واستنادًا لإطار بارتا شاتارجي للفاعلين السياسيين بدولة ما بعد الاستعمار السابق ذكره، يجادل المقال بأن الموجة الأولى للثورة قد تصدرت لقيادتها مؤسسات «المجتمع المدني» التاريخية المتمثلة في الأحزاب السياسية والأجسام المهنية والنقابية والمنظمات غير الحكومية والمجتمعية بأشكالها المختلفة. بينما تصدر «المجتمع السياسي» مشهد الموجة الثانية متمثلًا في لجان المقاومة بالأحياء،[16] والتي ظلت تتشكل عضويًا منذ الحراك المتواضع الذي أعقب الربيع العربي في 2012، وحتى وصولها لأشكالها الأكثر تنظيمًا من خلال التنسيقيات المركزية عند انقلاب أكتوبر 2021. إذ اتبعت هذه اللجان أشكالًا تنظيمية مرنة على أساس جغرافي يتخذ من الحي السكني أصغر وحدة له، تختلف من لجنة لأخرى لكنها تتفق في كونها أفقية التنظيم ومفتوحة للجميع، فيما عدا بعض الاستثناءات مثل عضوية النظام البائد.
يركز المقال على الحراك الثوري بالعاصمة الخرطوم، باعتبارها المركز التاريخي «للمجتمع المدني» من جانب، وبوتقة تشكل هذا «المجتمع السياسي» من الجانب الآخر، ما جعل بها مستوى من التنظيم متقدم نسبيًا ومقدرة أكبر على التأثير على مجريات الأحداث. فدور العاصمة كأهم مركز حضري بالبلاد في مساءلة الوضع القائم يتقاطع مع تحليل آصف بيات لمكامن الحركات الاجتماعية الحضرية بالشرق الأوسط،[17] وذلك بحكم تشاركها تجربة المرور بأنظمة حكم وطنية-شعبوية لفترات ما بعد الاستقلال، والتي اكتسبت قدرًا من الشرعية من خلال إنفاقها، السخي نسبيًا، على دعم السلع الأساسية والخدمات الاجتماعية. وما تلاها من ارتباك لهذا العقد الاجتماعي تحت ظل الإصلاحات النيوليبرالية المتسارعة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وما نتج عنه من مظاهر للفقر واستراتيجيات للتعايش معه.
ففي السودان، تم التقاط شعلة الاحتجاجات التي انطلقت تلقائيًا كرد فعل على زيادة أسعار الخبز، من جانب الجموع الحضرية بالعاصمة، التي بلغ سكانها قبل الحرب 9 مليون نسمة، أي حوالي 20% من سكان البلاد،[18] والذين قصدوا العاصمة ضمن موجات نزوح كبيرة بسبب الحروب أو المجاعات أو بحثًا عن مستوى معيشي أفضل. وكما يشير بيات، فقد اعتمد القادمون الجدد من فقراء المدينة والطبقة الوسطى التي سحقتها سياسات التقشف في تدبير معاشهم من خلال «الانتهاك الهادئ» لبنية المدينة الإقصائية، من خلال التمدد في المساحات العامة لشغل الحرف غير الرسمية أو غير القانونية، أو السكن غير الرسمي الذي آوى أكثر من خمسين بالمائة من سكان المدينة.[19] ليجد هؤلاء «الفاعلين غير الجمعيين»[20] الفرصة سانحة للتعبير عن تطلعاتهم لحقوق أوسع من خلال «أعمال الشغب الحضرية» في لحظات الأزمات السياسية وانفراط أنظمة السيطرة القائمة. ويمكن النظر لهؤلاء القادمين من تقاطعات التمييز الجغرافي-الإثني، بالإضافة للشباب العاطل عن العمل، والنساء، وعمال القطاعات غير الرسمية، وسكان العشوائيات، وغيرها من الفئات الخاضعة لأشكال الإقصاء المختلفة، على إنهم العناصر الأساسية «للمجتمع السياسي» السابق ذكره.
الموجة الأولى للثورة: المجتمع المدني وازدواجية معايير الحقوق
التقط تجمع المهنيين السودانيين مبادرة قيادة المشهد بعد الانطلاقة التلقائية للتظاهرات في عدة مناطق حول السودان في ديسمبر 2018، ما تمخض عنه «إعلان الحرية والتغيير» ليصوغ مطالب أساسية للحراك، تم توقيعه من جانب الأحزاب السياسية المختلفة وتجمع المهنيين كمظلة لعدة أجسام مهنية وقوى مدنية أخرى.[21] ومن خلال صفحته في فيسبوك أضحى تجمع المهنيين بمثابة مُوجِّه لفعاليات الحراك الثوري، من خلال بياناته المنتظمة التي يحدد فيها مكان وزمان التظاهرات، والتي اتبعها المتظاهرون بدقة. ورغم الانتهاكات واسعة النطاق بحق المتظاهرين من قتل واعتقالات، تصاعدت وتيرة الاحتجاجات بأشكالها المختلفة، كما شهد مستوى التنسيق بين المتظاهرين بالعاصمة والولايات تحسنًا، ليأتي اعتصام القيادة العامة في 6 أبريل 2019 كذروة للحراك وليعلن نهاية حكم البشير في 11 أبريل. هذا التغيير الصوري لوجه النظام لم يغير كثيرًا في الانتهاكات التي ظلت ترتكبها القوات الأمنية بحق الثوار؛ إلا أن طريقة تناول هذه الانتهاكات من جانب النخبة المدنية هي التي تغيرت.
رغم سقوط البشير، تواصل الاعتصام كوسيلة ضغط على المجلس العسكري الانتقالي لتسليم السلطة للمدنيين، الذي حاول تغيير وجه النظام بعد البشير دون تغيير جوهري في بنيته، الأمر الذي أسفر عن محاولات متعددة لإنهاء الاعتصام. فبينما كان المعتصمون يقيمون متاريسًا جديدة ردًا على طول أمد المفاوضات، بدأت القوات الأمنية في مهاجمة هذه المتاريس والاستهداف المعتصمين بشكل مباشر. في المقابل، أصدر تجمع المهنيين السودانيين بيانات تبريرية بما أسمته «حدود الاعتصام»،[22] مثل «ولذلك نناشد الثوار والثائرات السلميين الالتزام بحدود الاعتصام المعروفة والمحددة منذ 6 أبريل 2019، والابتعاد عن مرمى زخات رصاص المتفلتين من الأجهزة العسكرية».[23] انطلاقًا من هنا، أضحى الاعتصام الذي بدأ تلقائيًا وتمدد عضويًا منحصرًا ضمن حدود رسّمها البيان بخريطة. مُفرقًا بشكل ضمني بين فئتين من الثوار؛ فئة متماهية مع مساومات القوى المدنية ولديها الحق في الحياة، في مقابل فئة أخرى ترفض المساومة على مطالبها التي خرجت من أجلها، وبالتالي يخضع حقها في الحياة لتقديرات القوى الأمنية.
في ظل هذا السياق، وفيما خضع تصنيف المعتصمين لما تتطلبه المواقف، ظهرت قضية «كولومبيا»،[24] وهي منطقة على ضفاف النيل الأزرق على مقربة من القيادة العامة –مركز الاعتصام. بحكم وجودها على مقربة من الاعتصام، أضحت جزءً منه، وشارك قاطنيها في الفعاليات الثورية وحراسة المتاريس. في الوقت نفسه، فإن «كولومبيا»، بصفتها منطقة مأهولة بسكان المدينة المهمشين بفئاتهم المختلفة، ممن يتخذون من تعريض أنفسهم لخطر التعاملات خارج القانون، أو النظام الأخلاقي السائد وسائل لكسب عيشهم الهش، الأمر الذي جعل شيطنة الاعتصام ككل أمرًا أسهل من خلال شيطنتها ذاتها. فنجد بيانًا لتجمع المهنيين يصف كيف «اعتاد عدد من متفلتي الأجهزة النظامية وبعض المدنيين من ممارسة الظواهر السالبة في شارع النيل أسفل كوبري النيل الأزرق، بمساعدة مروجي الممنوعات، ومن ثم الانخراط في مواجهات مع الشرطة العسكرية المسئولة عن ضبط منسوبي المؤسسة العسكرية».[25]
مثل هذه البيانات التبريرية تم توظيفها كحجة لتنفيذ هجمات أمنية على الاعتصام، وصولًا للمجزرة البشعة لفض اعتصام القيادة العامة في فجر الثالث من يونيو 2019.[26] الأمر الذي يتمثل في بيان شمس الدين الكباشي، أحد قادة المجلس العسكري الانتقالي، لتبرير المجزرة بقوله: «هناك منطقة تسمى كولومبيا ظلت منذ فترة طويلة بؤرة للفساد والممارسات السلبية والتي تتنافى وسلوك المجتمع السوداني وأصبحت مهددًا أمنيًا كبيرًا للمواطنين»،[27] كتعبير صريح عن استثناء سكان كولومبيا من فئة «المواطنين» وحقوقهم الأساسية. الأمر نفسه الذي لمح إليه قادة الحراك، استنادًا إلى المراجع الأخلاقية التقليدية والمتناقضة مع قيم المواطنة التي يدعون تمثيلها.
في أعقب المجزرة، علق المجلس العسكري المفاوضات مع المدنيين. ورغم الانقطاع التام للإنترنت تمكن الثوار من تنظيم أنفسهم؛ وخرجوا في الثلاثين من الشهر نفسه، معيدين ميزان القوى في مصلحة المدنيين بقيادة قوى الحرية والتغيير، والتي فشلت في استغلال الزخم الهائل والمخاطر التي تكبدها الشارع بعد صدمة المجزرة؛ إذ عادت لطاولة المفاوضات نفسها لتتقاسم السلطة مع العساكر المنقلبين عليها منذ أيام، الأمر الذي انتهى بتوقيع الوثيقة الدستورية في أغسطس 2019. [28]
توقيع الوثيقة الدستورية لم ينهِ سلسلة الانتهاكات؛ إذ استمر قتل واستهداف المتظاهرين، فيما تواصلت حالة الانفلات الأمني خارج مناطق «المواطنين»، ما أسفر عن ارتكاب مجازر مثل فوربرنغا وكريندينق ومستري في غرب البلاد. [29] وبينما كان عبدالله حمدوك، رئيس الوزراء التكنوقراط ذو الشعبية العالية، مقتصدًا في مخاطبته للجماهير أو تعليقه على الأحداث اليومية أثناء الفترة الانتقالية؛ فإنه كان حريصًا على التصريح بأن «فجر اليوم ولخمس ساعات حبسنا أنفاسنا جميعًا ونحن نتابع عن كثب عملية الإنقاذ البطولية للأطفال وأُسرهم بـساقية منتزه الرياض الخرطوم بواسطة قوات الدفاع المدني»،[30] متفاعلًا مع حدث تعطل لعبة أطفال بمنتزه الرياض، المتواجد في منطقة بالاسم نفسه بوسط الخرطوم تسكنها الطبقات العليا، والذي تحول إلي مركز الحياة الليلية والترفيه والتسوق بالمدينة. مؤكدًا من جديد على هرمية المواطنة عند ممثلي الانتقال الديمقراطي.
على مستوى آخر، تتضح أولويات ممثلي تلك المرحلة من الثورة من خلال تجاهلهم للواقع المعيشي المتردي لغالبية الشعب، وتبنيهم للتصورات الليبرالية للتغيير، التي يروج لها وكلاء التنمية الغربيون، والتي تفترض أن الانتقال للدولة الديمقراطية الحديثة سيتم بمجرد الالتزام بالحقوق والحريات الأساسية للإنسان، إنفاذ حكم القانون وتهيئة المناخ للسوق الحر، الأمر الذي سيؤدى تلقائيًا، من وجهة نظرهم، لإطلاق الممكنات الاقتصادية والبشرية للدولة.[31] وذلك في ظل تجاهل تام للبنى الاقتصادية الموروثة على مدار عقود من الاستغلال والتنمية غير المتوازنة والإصلاحات النيوليبرالية. عادة ما يتم تجاهل هذه الموروثات في محاولات فهم ديناميكيات الحراك الثوري في المنطقة، كما وضح آدم هنية.[32]
يمكن استقرا ء هذا التوجه الليبرالي في الوثيقة الدستورية، وتحديدًا في الترتيب المربك للمهام الأساسية أثناء الفترة الانتقالية،[33] والذي يقفز من المهمة الأولى «العمل على تحقيق السلام العادل والشامل» للمهمة الثانية «إلغاء القوانين والنصوص المقيدة للحريات أو التي تميز بين المواطنين على أساس النوع». لا يمكن قراءة وضع أولوية حقوق المرأة سوى ضمن الخطاب الليبرالي المتملق للغرب والمانحين؛ إذ أنه ليس نابعًا عن إرادة حقيقية لمنح حقوق أكبر للنساء. ليس فقط لمجرد تقديمه على مهام إصلاح المؤسسات الحقوقية والعدلية، والتي ستؤدي تلقائيًا لوضع قوانين أكثر عدالة، أو مهام أكثر إلحاحًا لفئات الشعب عامة مثل الوضع الاقتصادي المتدهور؛ وإنما لضآلة الجهود التي بُذلت فعليًا في تحسين أوضاع النساء السياسية والقانونية. فقد ظل تمثيل النساء ضعيفًا في المستويات المختلفة للحكومة الانتقالية، كما لم يتم تعديل قانون الأحوال الشخصية المجحف في حق النساء خلال سنتين من القيادة المدنية.[34]
في سياق متصل، يمكن ملاحظة الرؤية الليبرالية المنقوصة للانتقال، المتمثلة في عقيدة السوق الحر، في الطريقة التي تجاوزت بها «وثيقة الحقوق والحريات» الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، المفصلة تحت البند الرابع عشر من الوثيقة الدستورية. فبينما تم نسخ الحقوق والحريات الأساسية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بتفصيل يتناسب مع وضعه المتدهور بالبلاد؛ غابت الإشارة للحقوق الاقتصادية، مثلما يتضح المادة الثانية والعشرين أو الخامسة والعشرين. إذ لا تمثل الغالبية المحرومة من هذه الحقوق أولوية في محاور التغيير لدى النخبة المدنية، أو حتى مجرد جمهور لخطابها. هذا التجاهل الضمني لأولوية المطالب الاقتصادية في الوثيقة الدستورية تم التعبير عنه بشكل صريح في المؤتمر الاقتصادي الذي انعقد في سبتمبر2020؛ إذ لم يجد رئيس الوزراء، وأعضاء حكومته المستوردين من منظمات الأمم المتحدة، حلًا لتدارك الوضع الاقتصادي متسارع الانهيار سوى التسول لمنظمات التنمية والمانحين وبرامج تخفيف الديون، وهي الآليات التي عادةً ما تأتي مشروطة بإصلاحات هيكلية قاسية.[35] ففي ظل هتافات لجان المقاومة «لا لرفع الدعم» التي ترددت في القاعات نفسها أثناء انعقاد المؤتمر، أعلنت الحكومة عما أسمته «ترشيد الدعم السلعي».[36] الأمر الذي استقبله المجتمع الدولي بالترحيب، لنسمع «أُحي الحكومة الانتقالية على الإصلاحات القاسية» التي أطلقها أنطونيو غوتيريش في مؤتمر باريس.[37] ولم يخطر ببال وزراء الانتقال الديمقراطي واقعية مطالب مثل إدخال منظومة الصناعات الدفاعية المملوكة للجيش لخزينة الدولة، أو إعادة التحكم في صادرات الذهب التي تسيطر عليها مليشيا الدعم السريع، إذ تقدر قيمة الذهب المهرب للخارج سنويًا بـ 390 مليون دولار.[38]
باشرت الحكومة الانتقالية سياسات إصلاحات التقشف التي اشترطتها هذه المؤسسات، فتم تعويم الجنيه ورفع الدعم عن دقيق القمح والوقود، كما تم رفع الدعم الجزئي عن تعريفة الكهرباء، وتضاعفت أسعار السلع والخدمات بمعدلات أسية وفي فترة وجيزة. كل هذا على أمل استلام المزيد من التمويل من المجتمع الدولي، الذي تباطأ في الوفاء بالكثير من وعوده التمويلية، نظرًا لموقع السودان في ذيل قائمة أولوياته على الأرجح. وحتى انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، لم يتم استلام معظم التمويل، بعد ذلك، تم تعليق كافة أشكال التمويل تمامًا لحين العودة للمسار الديمقراطي.
نفذ الشريك العسكري للحكومة الانتقالية انقلاب أكتوبر 2021؛ إذ حل الحكومة، وألغى بنود الوثيقة الدستورية التي تتضمن الشراكة مع المدنيين. الأمر الذي غيّر موازين القوى الثورية لصالح لجان المقاومة بدلًا من النخبة المدنية؛ إذ فقد تجمع المهنيين أهميته بسبب صراعاته الداخلية، فيما تراجعت الأحزاب السياسية للصفوف الخلفية بعد الهجمة الشرسة التي شنها العساكر عليها منذ الساعات الأولى للانقلاب، بعدما احتجز قادته رئيس الوزراء وعدد من وزراء حكومته وأعضاء الأحزاب السياسية والنقابيين، فضلًا عن قتل عشرات المتظاهرين في غضون أيام. الأمر الذي جعل حقيقة انقلاب قيادات الجيش والدعم السريع على البشير على ظهر حصان طروادة الثورة أمرًا جليًا للجميع، فيما عدا نخب المجتمع المدني التي ظلت تعود لتفاوض العساكر، شركاءها التاريخيين في مؤسسات المواطنة.
في أعقاب الانقلاب، تصدرت لجان المقاومة بالأحياء المشهد، خصوصًا بالعاصمة؛ بفضل مستوى التنظيم المتقدم الذي أحرزته من خلال تشكيل مستوى عالي من التنسيقيات الأفقية والرأسية منذ استعداداتها للتظاهرات التي تلت مجزرة الثالث من يونيو 2019، والتي انضوت تحتها تدريجيًا كل لجان الولاية تحت «تنسيقة لجان ولاية الخرطوم»، مما منحها القدرة على التواصل والتحرك المتزامن، حتى بعد غياب الإنترنت الذي قُطع مجددًا بعد الانقلاب. فتوالت المظاهرات، وبرزت منذ الأسابيع الأولى اللاءات الثلاثة «لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية»، مع أو للعساكر، والتي كثفت في تعبير مختصر موقف الثوار من الانقلاب، وظلت لشهور طويلة ميثاق للجان، أملى تحركاتها واستجابتها لدعوات القوى الفاعلة الأخرى، خصوصًا في ظل المحاولات المتكررة لجرها لطاولة المفاوضات مع العساكر، أو تخفيض وتيرة المظاهرات التي أضحت تنتظم فعالياتها المركزية والمناطقية في جداول أسبوعية، كما أبدى تجاهها الشارع درجة عالية من الالتزام في أعنف لحظات الانقلاب.
لمحاولة امتصاص غضب الشارع، وفي ظل المساومات المستمرة بين القوى المدنية والشق العسكري، عاد عبد الله حمدوك،[39] المنقلَب عليه في 21 نوفمبر 2021، رئيسًا للوزراء. تبع ذلك تحول إدانات المجتمع الدولي للانقلاب لمباركات، وصدرت بيانات التهنئة تباعًا من بعثة الأمم المتحدة (يونيتامس)،[40] ودول الترويكا،[41] والاتحاد الأوروبي وأمريكا.[42] والتي رأت في عودة رئيس الوزراء لمنصبه عودةً للوضع الدستوري « الذي يمهد للانتقال الديمقراطي»[43]، فبالنسبة للمجتمع الدولي الديمقراطي فإن امتلاك فاعل واحد للسلطة والحصانة لتعليق الوضع الدستوري حينما يرى ذلك مناسبًا؛ يشكل أمرًا يتعين على الشعب السوداني تقبله، إذ أن «مساءلة هذا الحل.. ستكون خطرة جدًا على السودان» حسبما صرح أنطونيو غوتيريش في خطابه الذي دعا فيه السودانيين للاحتكام «للفطرة السليمة»،[44] والذي لم يشرعن فقط للانقلاب على الوضع الدستوري، وإنما أيضًا للعنف المفرط الذي عوملت به مقاومة الانقلاب.
في ظل اتساع الهوة بين مطالب الشارع والعمليات السياسية الدائرة، باشرت لجان المقاومة مهمة ترجمة تطلعاتها لبنود للفعل السياسي نحو الانتقال الديمقراطي. فحين دقت ساعة كتابة المواثيق[45] التي أطلقتها لجان مقاومة مايرنو من أقاصي جنوب شرق البلاد، تبعتها لجان مقاومة مدينة مدني في وسط البلاد بإصدار «الميثاق الثوري لسلطة الشعب» والذي صادقت عليه عدد من الولايات الأخرى، تلاه «ميثاق تأسيس سلطة الشعب»[46] من تنسيقية لجان ولاية الخرطوم، ثم أخيرًا تم توحيد المواثيق في «الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب»،[47] الذي تم تدشينه رسميًا في فبراير 2023.[48] ترجمت هذه المواثيق هتافات ما بعد الانقلاب لرؤى مفصلة لعملية الانتقال الديمقراطي صاغتها لجان مصغرة، شُكلت من مناديب من المستويات المختلفة.
لم يكتفِ الميثاق فقط بالتأكيد على ضرورة خروج المؤسسات العسكرية المختلفة من المشهد السياسي بالكامل؛ بل قدم تحليلًا مفصلًا للطرق التي تم بها توزيع صكوك المواطنة بالبلاد، إذ نجد في مقدمة الميثاق:
لا يمكن فهم الصرع السياسي الســوداني بمعــزل عــن تشريح السياق التاريخي لتشــكُّل الدولــة السودانية فــي الحقــب الاستعمارية (التركــي المصــري- الإنجليزي المصــري) الــذي كــان دافعــه النهب والسيطرة علـــى المـــوارد المحلية عبـــر هندسة نسيج اجتمـــاعي جديد مـــن مجموعـــة الدويلات والممالــك المختلفــة ثقافيًا وإثنيًا ودينيًا بشروط استعمارية، عبــر تفكيك البنــاء الأساســي للمجتمعــات وخلــق حــدود جغرافية جديدة تــم التمييز فيها بين تلــك المجتمعــات إثنيًا ودينيًا وثقافيًا عبــر الاســتعانة بالمؤسســات التقليدية والحديثة. تتســم دولــة مــا بعــد الاستعمار فــي الســودان التــي كانـــت ومـــا تـــزال ذات طبيعة عُنفية قائمـــة علـــى سياسات الإخضـــاع والانصهار والاســـتحواذ والاســتتباع السياسي والاقتصــادي والثقــافي، ويتمظهر ذلــك فــي الهيكل الاستعماري فــي الدولــة السودانية الحديثة فــي عمـــل مؤسساتها وطبيعة الســـلطة الاحتكارية وطبيعة الاقتصـــاد الريعي وعلاقــات الإنتــاج غیــر المتكافئــة فضــلًا علــى تدوير أنظمــة النخــب الاحتكارية وتداولها للســلطة المســتمرة التــي لا تــزال تشــكل جــزءًا لا يتجزأ مــن القــوائم الهيكلية للدولــة. إن اســتمرار مؤسســات النخــب التقليدية والحديثة كالجيش والخدمــة المدنية والإدارات الأهلية ومختلــف مؤسســات الحكــم والأنظمــة العدلية بشكلها مــا بعــد الاستعماري ســببه غياب المشــروع الــوطني التنمــوي المُلبي لتطلعـــات الشـــعب الســـوداني؛ إذ يتناقض وجـــوده مـــع مصـــالح النخـــب المحلية ورأس المـــال الأجنبي.
هذا الاقتباس الطويل نسبيًا يهدف لتوضيح الاختلاف بين طريقة كتابة نخب المجتمع المدني للمواثيق لتخاطب بها نفسها، عن المواثيق الصادرة عن العمليات التشاركية الموسعة للمجتمع السياسي في محاولاته لاستيعاب تنوعه وآليات إقصاء فئاته المتباينة. كذلك أوضحت المواثيق كيف ساهمت السنوات القليلة للحراك الثوري في نقل تحليلات متقدمة لطبيعة الأزمة بالبلاد، والتي كانت حكرًا على النخبة ضمن الكتب وبين أروقة السياسة والثقافة. لتتحول إلى مساحات المجتمع السياسي بمنصاته القاعدية التي اتخذتها هذه العمليات التشاركية والتي مرت فيها المواثيق بسلسلة من «صاعد – هابط» بين القواعد ولجان صياغة المواثيق، وظفت خلالها مجموعات التواصل على تطبيق الواتساب «WhatsApp»، والاجتماعات الداخلية والفعاليات الجماهيرية للجان.[49] هذه التحليلات استطاعت تقديم تصور لهياكل سلطة يقترب قدر الإمكان من التمثيل المباشر؛ إذ تتدرج هياكل الحكم التي يطرحها الميثاق انطلاقًا من ممثلين منتخبين من بين الوحدات الإدارية، ثم ممثلي المجالس المحلية، ثم المجالس الولائية، وصولًا للمجلس التشريعي القومي الذي يختار بدوره، ديمقراطيًا، رئيس وزراء البلاد كسلطة عليا.[50]
في الوقت نفسه، لا نجد تصور إعلان الحرية لإحلال السلام الشامل وحل مشاكل التباين التنموي بين المجموعات الاجتماعية يُسائل الوضع القائم لتقسيم الثروة؛ وإنما يؤكد على استمراره في بنود مثل «وقف الحرب بمخاطبة جذور المشكلة السودانية…. ومعالجة مشكلة الأراضي مع المحافظة على الحواكير التاريخية».[51] إذ يمثل نظام الحواكير التاريخية إرث آخر أعادت به السلطة الاستعمارية أنظمة الملكية لأسس قبلية، لترجيح موازين القوة وفقًا لدرجات الولاء للمستعمر.[52] في المقابل، يؤكد الميثاق الثوري على أنه «يجب على المجلس التشريعي الانتقالي التواضع ]الاتفاق[ على إجراءات وحلول متفق عليها لمشكلات ملكية الأراضي ونظام الحواكير والنظام الضريبي والمصرفي وعلاقات الإنتاج في الريف والقطاع غير الرسمي». وضمن هذا التصور الاقتصادي، يخصص الميثاق «مفوضية تفكيك نظم القهر والتبعية» والتي تتمثل أبرز مهامها في «التراجـــع الكامــــل عــــن بــــرامج التكييف الهيكلية لضــــمان التركيز على التنمية والعدالــــة الاجتماعية».
وبينما لم تشمل عضوية اللجان كل المشاركين في الفعاليات الثورية، إلا أنها استمدت شرعيتها من الألاف التي داومت على الاستجابة لدعوات التظاهر لما يزيد عام، رغم الهجمة الأمنية العنيفة. لكن وبالضرورة لم تنجُ اللجان من التشظي وغياب الاتساق أحيانًا، وضعف البنية المؤسسية وقنوات المحاسبة بها نظرًا لحداثة التجربة عمومًا. الأمر الذي أسفر عن تحول الزخم والأهمية التي اكتسبتها اللجان لحالة من الاستقطاب الحاد داخل أجسامها، والذي يعود أيضًا لطبيعتها الأفقية والمناطقية، والتي خلقت درجة عالية من المسامية والتباين في المصالح داخل اللجنة الواحدة، أسفرت بدورها عن حالة من الصراعات بين دعاة ما عُرف بـ «الهبوط الناعم»، وهو الموقف الداعي للتفاوض والشراكة مع القوى العسكرية، والذي تقوده أحزاب قوى الحرية والتغيير. في مقابل موقف دعاة «التغيير الجذري» بقيادة الحزب الشيوعي السوداني، والذي أعلن موقفًا معارضًا لأي شراكة مع العساكر مرة أخرى. إلا أن فقدان الثقة في الأحزاب السياسية عمومًا، إلى جانب ضعف وجودها المؤثر على مستوى القواعد، حال دون تكون أي التفاف جماهيري مباشر حول موقف الحزب الشيوعي.
في سياق متصل، اتضح ضيق أفق مطالب التغيير للمجتمع المدني في الموقف الضبابي للأجسام المهنية من الأحداث بعد الانقلاب. فبينما نجحت التظاهرات المستمرة والمتاريس في تحجيم العملية الانقلابية، والتي استهدفت النقابيين والتنظيمات المهنية منذ اليوم الأول، ما هيأ المناخ لهذه الأجسام النقابية والمهنية لتنفيذ سلسة من أقوى الإضرابات المطالبة بتحسين الأجور في ظل الوضع الاقتصادي المتردي،[53] ظلت مطالب هذه الأجسام محصورة في مطالبها القطاعية، فيما بقيت استجابتها ضعيفة للأحداث التي لا تؤثر عليها بصورة مباشرة. فعلى سبيل المثال، حين أعلن العاملون بقطاع الكهرباء إضرابهم الذي قطع الإمداد الكهربائي بأجزاء كبيرة من البلاد في سبتمبر 2022، أجبرت المتاريس، التي شلت بها اللجان الحركة بالمدينة، السلطات على الاستجابة لمطالبهم.[54] في المقابل، ظل العاملون بالقطاعات المختلفة يتجاهلون دعوات لجان المقاومة للإضراب رفضًا للانقلاب عمومًا أو حين تتعرض التظاهرات لدرجات مفرطة من الانتهاكات من رصاص حي وسقوط عدد كبير من الشهداء في يوم واحد مثل مجزرة أم درمان في 30 ديسمبر 2021 أو مجزرة 17 يناير 2022.
حينما اشتعلت شرارة الحرب في الخرطوم في 15 أبريل 2023 بين الجيش السوداني ومليشيا قوات الدعم السريع المتمردة عنه، كانت التناقضات بين الفاعلين في مشهد الانتقال قد وصلت مرحلة محدودية المساومات. إذ تمسكت حركة المقاومة بالشارع بمواثيقها التي اختصرها هتافها الموحد، «السلطة سلطة شعب، والثورة ثورة شعب، والعسكر للثكنات، والجنجويد (الدعم السريع) ينحل». رافضة معادلات اقتسام السلطة التاريخية بين المجتمع المدني والمؤسسات العسكرية. بالمقابل، ذهب فاعلو المجتمع المدني، تتقدمهم قوى الحرية والتغيير، المحتكرون لتمثيل المدنيين، بحكم طبيعتهم المؤسسية والمفهومة للمنظمات الدولية والإقليمية، لمفاوضات ما عرف بـ «الاتفاق الإطاري» لهندسة محاصصة جديدة للسلطة والثروة مع العساكر. المفاوضات التي تقدمها مبعوث الأمم المتحدة فولكر بيرتس مصرحًا، «أنا متفائل، وأنا متفائل أكثر بكثير مما كنت عليه منذ سنة تقريبا».[55]
الحرب: مواطنون ورعايا
السبب الأساسي لخلاف مليشيا الدعم السريع مع الجيش السوداني كان رفض قائده محمد حمدان دقلو، الشهير بحميدتي، خطة دمجه في الجيش المقترحة بواسط الاتفاق الإطاري. وإلى جانب احتكام المليشيا على الثروة والسلاح، فقد مكنتها حملات العلاقات العامة المقدرة بملايين الدولارات،[56] من اجتذاب مستشارين يجيدون الخطاب السياسي، الذي يوظف تاريخ الغبن التنموي الناتج عن تهميش المجموعات الشمالية – النيلية لبقية أقاليم البلاد. خصوصًا لمجموعات الرعاة والرُحّل بغرب السودان، والتي ظلت في حدود جغرافيا «الرعايا» منذ الاستعمار، والتي ينتمي إليها حميدتي وتمثل حواضنه الاجتماعية ومصدر عدد كبير من قواته. فنجد شعارات مثل «تفكيك دولة 56»،[57] تتصدر مداخلات مستشاريه، كتحليل لأزمة البلاد لانفراد هذه المجموعات بالسلطة على حساب الهامش منذ الاستقلال في 1956. الهامش نفسه الذي ظلت قوات الدعم السريع ترتكب فيه أسوأ أنواع الفظائع في دارفور تحت إمرة الجيش السوداني، ومازالت تمارس فيه ما يصل حد الإبادة الجماعية، بهجماتها الأخيرة على مدينة الجنينة بإقليم دارفور، والتي يُقدر عدد ضحاياها بخمسة ألاف شخص قُتلوا في غضون أيام.[58]
على الجانب الآخر، ورغم تكبد الجيش السوداني أفظع خسائره على جبهة القتال تحت يد المليشيا؛ إلا أن هذا لا يمنعه عن استعادة شعبيته المفقودة وسط الملايين من سكان مركز المواطنة الحديثة، والتي تختبر أهوال الحرب لأول مرة. فحتى من ترددوا في دعم أي طرف من الأطراف في الأيام الأولى للنزاع، انتهى بهم الأمر لترجيح كفة الجيش بعد صدمة سكان مناطق النزاع بالخرطوم والأجزاء الغربية للبلاد بممارسات الدعم السريع، والذي لا يقتصر هجومه على الأهداف العسكرية، وإنما يمارس جميع أنواع الانتهاكات بحق المدنيين، من نهب للممتلكات واغتيالات واعتقالات عشوائية وحوادث اغتصاب، وإفادات مؤكدة عن اتخاذ رهائن من بين النساء بغرض المطالبة بالفدية ببعض مدن دارفور.[59] الغريب أن فظاعة ممارسات الميليشيا والانتهاكات التي تجرؤ على ارتكابها، هي ما أهلها في المقام الأول لكسب ثقة الجيش لمعاونته في حربه ضد المتمردين خارج نطاق قاعدته الاجتماعية من «المواطنين».
بالإضافة للحشد الشعبوي لدعم الجيش، ظهر عدد مقدر من المفكرين والأكاديميين البارزين من اليمين واليسار الداعمين للجيش السوداني ولاستمرار الحرب ضد الدعم السريع، الرافضين لخطاب «لا للحرب» الذي تبنته عدة لجان للمقاومة منذ الساعات الأولى للنزاع. أبرز المفكرين الذين تحولوا لدعم الجيش ووفروا مسوقات نظرية وأخلاقية للحرب وللتقليل من وزن الخطاب الداعي لوقف الحرب كموقف ثوري، هو محمد جلال هاشم، والذي عُرف تاريخيًا بتبنيه لمناهج تحليل ثقافية تعلي من شأن مفاهيم مثل الأفروعمومية ونظريات المركز-والهامش التي تبنتها بعض الحركات المسلحة، والتف حوله الكثير من الثوار من أعضاء لجان المقاومة وغيرهم في فترة بعد سقوط البشير. يطرح هاشم بدوره الكثير من تاريخ ونظريات الدولة-الوطنية الحديثة، والتي يعتقد أنها «…تقف الآن، خلال هذه الحرب، في المحك، بين أن تكون أو لا تكون»،[60] وهو الخطاب الذي يمكن قراءته على عدة مستويات.
المستوى الأول لقراءة الخلل في هذا الخطاب يكمن داخل المرجعية نفسها التي يستند إليها، وهي المرجعية الليبرالية للحداثة والتي يستشهد بها في
مفهوم «الدولة الوطنية» (بحسب كتابات الفلاسفة والمفكرين الذين تناولوا هذا الموضوع) يُقصد به الخصائص البنيوية structural characteristics للدولة التي تأسست بموجب اتفاقية ويستفاليا عام 1648م. هذه الخصائص من قبيل الآتي: الحدود المعترف بها دوليا، ثم الشعب بوصفه مصدر السلطات ولو صودرت منه أدائيًا من قبل نظام حكم غير وطني non-patriotic، حتى لو كان استعمارًا (وطبعًا قبل تلك الاتفاقية لم يكن مصطلح «الشعب» قد اكتسب هذا المفهوم)، ثم الاستقلالية، وأخيرا السيادة بوصفها جماع سلطات الشعب المفوضة من القاعدة إلى المستوى السياسي. هذا هو الفهم البنيوي لما تعنيه مقولة «الدولة الوطنية».[61]
أولًا تتضح تناقضات استخدام التعريف المذكور مع الواقع السوداني في غياب اثنتين من الخصائص الأربعة التي يعددها الكاتب: «الشعب بوصفه مصدر السلطات» و«السيادة بوصفها جميع سلطات الشعب المفوضة من القاعدة إلى المستوى السياسي» إذ لا يمثل الشعب دورًا بأي شكل من الأشكال كمصدر للسلطات أو للسيادة تحت الوضع الانقلابي الحالي، بل بالعكس هي سلطة فاقدة للشرعية ظل الشعب يرفضها على جميع المستويات، ما أجبرها على الجلوس لمفاوضات الاتفاق الإطاري كما سبق تفصيله. كما أن مسألة شرعية الدولة السودانية الحديثة بشكلها الحالي قد ظل خلف كل هذه التمردات والحروب منذ حرب الجنوب التي اشتعلت قبل استقلال البلاد وانتهت بانفصاله في 2011، مرورًا بحرب دارفور التي لم تنطفئ حتى هذه اللحظة، وصولًا لخروج مناطق واسعة بجبال النوبة خارج سيطرة الدولة المركزية فيما يعرف «بالمناطق المحررة».[62] أما مغالطات تحول الخصائص من «بنيوية» عند وجودها إلى «أدائية» عند غيابها فلا يوضح الكاتب الطريقة التي يحصل بها هذا التغيير الجوهري في الخاصية.
أما المستوى الثاني لقراءة تناقضات خطاب الدولة الوطنية الحديثة فهو في إشكالية الرجوع العقائدي للأطر الغربية للحداثة كما لو أنها حقائق علمية ما علينا سوى قصها ولصقها في السياق المعين. وكأن كل ما تم ذكره بشأن عدم خضوع السودان لخصائص هذه الدولة الويستفالية من عدم استقرار الحدود، ومكونات الشعب بسبب الحروب الأهلية، والانفصال، وفقدان احتكار أدوات العنف الذي مثلت المليشيا أكبر تمظهراته؛ ليس كافيًا لوقف هذه المحاولات البائسة لتحليل وضع البلاد ضمن الأطر الأنيقة للحداثة الأوربية، بدلًا عن تفكيكها بصورة نقدية تمكننا من فهم مكمن الخلل الدائر على أرض الواقع. فخلل هذا الخطاب ليس في تعريف الدولة على المستوى السياسي فقط والذي لا ينطبق على وضع السودان كما سبق ذكره، لكن مفهوم «الوطنية – Nationalism» أو «الشعب – Nation» ليس منزهًا عن الغموض. فنجد هاشم يجادل في مكان آخر بأنه
يمكننا أن نقول بأنه وبموجب اتفاقية تقرير المصير في عام 1953م، وما نجم عن ذلك في يناير عام 1956م من استقلال لدولة اسمها «السودان»، مستقلة وذات سيادة داخل حدودها الجغرافية المعترف بها من قبل العالم، وبالتالي نجم عن ذلك بالضرورة بروز كيان اسمه «الشعب السوداني» -بهذا تكون الشروط البنيوية للدولة الوطنية Nation Statehood قد توفرت لدينا بخصوص هذه الدولة تحديدًا وهذا الشعب تحديدًا. كل هذا تحقق بنيويًّا structurally لحظة إعلان ميلاد هذه الدولة في الأول من يناير 1956م وما أعقبه من اعتراف دولي بها.
ففكرة أن «الدولة الوطنية» تسبق ظهور «الشعب» كما يجادل هاشم وأن أي تهديد لدولة ما بعد الاستعمار الحديثة هو تهديد وجودي للشعب السوداني هي مغالطة في أحسن الافتراضات. يوضح شاتارجي[63] كيف أن الوطنية هي «حقيقة أنثربولوجية» بمعنى أنها نتاج السياق المكاني والزماني والفكري لأوروبا ما بعد عصر التنوير، أي أن «نصوص الوطنية تكتسب معنىً فقط عند قراءتها ضمن الإطار الشامل لهذا التفكير».[64] وكيف أن الدولة الحديثة في سياقاتنا ما بعد الاستعمارية ابتكرت دومًا مساراتها الخاصة لتجاوز تناقضاتها الداخلية مثل ثنائية «المواطنين» و«الرعايا» وتبعاتها من تباين في التنمية الاقتصادية والوصول للخدمات الاجتماعية، أو باختصار الدخول للحداثة كنظام إنتاج رأسمالي وأسلوب حياة. وبالتالي تتفاوت درجة نجاح هذه التجارب مع استيعابها لعناصرها المكونة لها انطلاقًا من فهم هذا الواقع.
تجادل نخب المجتمع المدني بأن دعمها للجيش السوداني ولانخراط المدنيين في حمل السلاح ضد المليشيا هدفه المحافظة على الدولة الحديثة ومؤسساتها في المقام الأول. الشيء الذي يتردد صداه في عبارة هاشم بأن «وقوفي هنا ليس وراء هذا الجيش، بل هو وقوف مع الشعب السوداني»، بينما يقرأ رؤية هذا الجيش نفسه للتعاطي مع الصراع الدائر بأنها تتلخص في «أن يتمكن الشعب والجيش من دحر مليشيات الجنجويد إلى أن يستسلموا أو أن يفنوا عن آخر جندي، أو أن يفنى دون ذلك الشعب السوداني إلى آخر مواطن مدني يحمل السلاح».[65] فوفقًا لهذه المنطق، يضع هاشم «مليشيا الجنجويد» خارج دائرة «الشعب السوداني». كما أنه لا يرى إشكالية في دعم جيش يحمل مثل هذه الرؤية كحل لمشكلة معقدة مثل مليشيا الدعم السريع المكونة من طاغية طموح يمتلك ثروة طائلة، ومخزون من المحاربين المدفوعين بعقود من الفقر والتهميش وانعدام الخيارات. إلى جانب امتلاكها قاعدة اجتماعية عريضة من قبائل الرعاة لا ترى في حميدتي سوى القائد والأمل الوحيد لها في الوصول لمكتسبات الدولة الحديثة، مثل أسلوب الحياة المريح، والذي عبر عنه المقاتلون وهم يختبرون تجربة الوصول للخدمات الأساسية لأول مرة عند اقتحامهم بيوت مواطني الخرطوم بقولهم: «الألمي كده باارد، نمرقو تاني كيف؟ والله مانمرق».[66] –وهو ما يعني «إن الماء بارد، كيف تطالبوننا بالخروج من هنا». والناتجة جميعها عن عنف الدولة الحديثة ذاتها، وسياساتها الإقصائية التي يدعو هاشم للدفاع عنها.
افتراض أن دفاع الانتلجنسيا السودانية عن الدولة الوطنية الحديثة أو عن فكرة المواطنة ناتج عن قصور فكري هو حسن ظن في غير محله كما أثبتت تجربة سنوات الثورة السابق عرضها. فخطاب المواطنة الحديثة من مصادره الشعبوية أو المدعوم نظريًا يمكن قراءته بسهولة تحت ما وصفه عبدالله بولا[67]عن الهوية الوطنية الثقافية التي ظل مثقفو الصفوة يزودون عنها للحفاظ على امتيازاتهم. والتي اتخذت من الثقافة العربية/الإسلامية في نسختها الشمالية/النيلية مرجعًا ضد المكونات الثقافية الأخرى. لكن ما عقّد مهمة حراس الهوية الوطنية هذه المرة هو انتماء الدعم السريع كمجموعة إثنية للثقافة العربية/الإسلامية نفسها، باستثناء أنها جغرافيًا تقع خارج دائرة المواطنة التاريخية كقبائل من الرعاة الرحل في غرب السودان. فتبدل خطاب «مسلمين/مسيحيين» الذي استخدم في حرب الجنوب، وخطاب «أولاد العرب/أولاد الغرب» من حرب دارفور، لهذه الخطابات الأداتية عن المواطنة وتهديد الدولة الحديثة.
لنجد الُطرف الشعبوية التي تعج بها مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تسخر من لكنة مقاتلي الدعم السريع، أو من عدم معرفتهم للغة العربية، مما يُستنتج عنه أنهم أجانب. الشيء الذي يتطابق بالكامل مع ما يصفه بولا بقوله: «أفضل السبل وأنفذها في تحقير الشخص وتصغيره في بلد تعتبر العربية «الفصيحة» فيه صنوًا لتمام الإبانة وسداد الحجة، هي إظهار عجزه عن أدائها»، في بلد به 500 مجموعة ثقافية و150 لغة.[68] أما وصف حميدتي «بالراعي» للتعبير عن جهله أو تحقيره في بلد يعمل أكثر من أربعين بالمائة من سكانه بالزراعة والرعي،[69] فهو ما يظهر التحيز الطبقي العميق لهذا الخيال الوطني الذي يرفع من شأن الياقات البيضاء من خريجي كلية غردون (جامعة الخرطوم) وموظفي المنظمات الدولية، حسبما كشفت هستيريا الاحتفالية الشعبية برئيس الوزراء عبدالله حمدوك.
في مقابل هذا الموقف النخبوي الصريح تأتي «لا للحرب» مختصرة ومحددة لأولويات المرحلة، تتبناها لجان المقاومة الموقعة على «الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب» كموقف رسمي معلن، والتي عبرت عن رؤيتها لهذا الصراع في قولها:
ونفهم أن الصراع بين الجيش والجنجويد ليس صراعًا حول قضايا وطنية كما يدعون، وإنما هو صراع داخل النخبة السياسية والاقتصادية التابعة للقوى الإقليمية والمتحكمة في القوتين العسكريتين والأحزاب السياسية التي تدعمهما لأجل تحقيق مصالح تلك المحاور، وبالتالي فإننا عند طرحنا لأدوات إنهاء الحرب فإننا ننطلق من تصنيف كلا الطرفين كأعداء لمصالح وطننا وشعبه.[70]
فموقف «لا للحرب» يأتي دفاعًا عن حق أساسي في الحياة يُسلب في هذه اللحظات تحديدًا ممن هم خارج هذه المجموعات النخبوية، والتي تُستخدم كذخيرة لمدفع دولة المواطنة الحديثة التي يزود عنها المثقفين في منافي نزوحهم الآمنة. فمن بقي في المناطق تحت القصف في الخرطوم الآن فهم إما من نازحي حروب أخرى ولا يملكون رفاهية المناطق الآمنة التي هرب إليها من تعود أصولهم لوسط وشمال وشرق البلاد، أو لا يتحملون تكاليف السفر والمعيشة في مناطق أخرى داخل أو خارج البلاد.[71] بينما من يتواجدون تحت القصف الآن هم جنود الصف والمشاة للجيش والذين جُندوا تاريخيًا من مناطق الهامش.
«لا للحرب» تبنته اللجان كموقف يدعو للعودة للشروط المدنية للاختلاف، ولا يرى في وجود المليشيا الآن مهددًا لوجود الدولة أكثر مما رأت ذلك منذ سنوات وترجمته في مواثيقها وهتافاتها التي قابلها الجيش نفسه بالرصاص. «لا للحرب» هو موقف يؤكد ببساطة على أن «حياة الأرض وحياة الوطن وحياة الدولة في سلم أهلها».[72]
«لا للحرب» هو موقف ينطلق من ثقة في «الشعب»، ليس كما عرفته اتفاقيات المستعمر، وإنما كمجموعة من السكان الذين عاشوا في هذه البقعة منذ ألاف السنين وهم مدركون لوحدة المصير التي يحكمها التقارب المكاني والمعرفة والثقافة المشتركة عبر الزمان. والتي تمكنوا من خلالها من إيجاد صيغ للعيش المشترك، فعقدوا التحالفات وشكلوا وحدات سياسية/اجتماعية من ممالك وسلطنات دامت لقرون، وخاضوا واحدة من أعظم الثورات في جنوب العالم ضد السلاح الناري للمستعمر التركي/المصري.
خاتمة
وجدت تناقضات دولة ما بعد الاستعمار بالسودان أوضح تجلياتها في «المنعطف الحرج» الذي قادت إليه سلسلة الانتفاضات بالبلاد منذ 2018. فقد تمت، وبطرق عدة، مساءلة هذا الاحتكار التاريخي لتحالف النخبة العسكرية و«المجتمع المدني» التي ظلت تتبادل قيادة البلاد من دون تغييرات حقيقية في توزيع حقوق المواطنة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والموروثة من البنى الاستعمارية. انطلاقًا من التعبير السلمي، الذي حاول «المجتمع السياسي» من خلاله صياغة أجندة تغيير تقدمية تكفل مساحات لممارسة المواطنة والاستمتاع بحقوقها لفئات اجتماعية أكبر. وصولًا لهذه اللحظة العنيفة من أشكال التعبير المسلح الرجعي، الذي تمارسه المليشيا الريفية الموظِفة لمطالب عادلة للمواطنة، في سبيل رؤية لا تقل إقصائيةً وانتهاكًا لحكم القانون ولحقوق «الأخر» حسب مرجعياتها الخاصة للمواطنة التي تحاول صياغتها.
في الختام فإن مسئولية انزلاق البلاد إلى هذه اللحظة الدموية يتحملها تحالف النخبة العسكرية/المدنية في تمسكها بامتيازاتها التاريخية. في تجاهل تام وتحايل على مطالب الثورة وصوت الحشود، التي تأتي غالبيتها من المدن المنخرطة في قنوات التبادل العالمية، والتي أضحت أكثر إدراكًا لمواقعها الاجتماعية من خلال تجربتها في الممارسة الفعلية لحقها في المواطنة في سنوات الحراك الخمس. مما يعني أن الخروج من هذه الأزمة يبدًأ بالاعتراف بهذه المسئولية والجلوس للتفاوض على شروط جديدة للمواطنة وأكثر شمولًا لهذا «المجتمع المتخيل» للشعب السوداني.
رزاز بشير هي باحثة سودانية وطالبة دكتوراة بالمركز الأفريقي للمدن-جامعة كيب تاون-جنوب أفريقيا.
[2] هاردت، مايكل ونيقري، أنتونيو. (2000). الامبراطورية (Empire). لندن: هارفارد يونفيرستي بيرس.
[3] أندرسون، بينديكت (1991). مجتمعات متخيلة: تأملات في أصل وانتشار الوطنية (Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism). طبعة منقحة. لندن: فيرسو.
[4] شاتارجي، بارتا (2004). سياسة المحكومين: تأملات في السياسة الشعبية في معظم العالم (Politics of the Governed: Reflections on Popular Politics in Most of the World). نيويورك: مطبعة جامعة كولومبيا.
[5] شاتارجي، بارتا (1986). فكرة الوطنية والعالم الاستعماري: اشتقاق الخطاب (Nationalist Thought and the Colonial World: A Derivative Discourse). لندن: كتب زيد لجامعة الأمم المتحدة.
[6] شاتارجي، بارتا (2004). سياسة المحكومين: تأملات في السياسة الشعبية في معظم العالم (Politics of the Governed: Reflections on Popular Politics in most of the World). نيويورك: مطبعة جامعة كولومبيا.
[7] المرجع السابق.
[8] كيوان، دينا. (2015). الصراع على المواطنة في الثورات العربية الشباب والنساء واللاجئين. الديمقراطية والأمن، 11 (2)، 129-144.
[9] بيوتنشون، نيلز. المواطن العربي والدولة العربية: الربيع العربي كمنعطف حرج في السياسات العربية المعاصرة (Arab citizen and the Arab state: the Arab spring as critical juncture in contemporary Arab spring). الديمقراطية والأمن، 11 (2)، 129-144.
[10] شاب، أندرو (2011). تنفيذ حقوق الحصول على حقوق: نقد جاك رانسيير لهانا آرندت Enacting the Rights to Have Rights:) Jacques Rancière’s Critique of Hannah Arendt). المجلة الأوروبية لنظرية السياسة، المجلد 10 (1)، ص 22-45.Top of Form
[11] بولا، عبدالله (2021). شجرة نسب الغول في مشكل الهوية الثقافية وحقوق الإنسان في السودان: أطروحة في كون الغول الإسلاموي لم يهبط علينا من السماء ومواضيع أخرى في الديمقراطية والثقافة وحقوق الإنسان. الخرطوم: مركز عبد الكريم ميرغني.
[12] مامداني، محمود (1996). مواطنون ورعايا: أفريقيا المعاصرة والإرث الاستعماري (Citizen and Subject: Contemporary Africa and the legacy of late colonialism). برينيستون: مطبعة جامعة برينيستون.
[13] مامداني، محمود (2009). منقذون وناجون: دارفور، السياسية والحرب على الإرهاب (Saviors and Survivors: Darfur, Politics, and the War on Terror). كيب تاون: مطبعة إتش إس أر سي.
[14] المرجع السابق.
[15] القدال، محمد سعيد (2018). تاريخ السودان الحديث 1820-1955. الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للطباعة والنشر.
[16] النيل، مزن (2023). طريقة ثورية للعمل السياسي تتشكل في السودان (A Revolutionary Way of Doing Politics is Taking Shape in Sudan). نيو بوليتكس، 19(2)، 35-41.
[17] بيات، آصف (2000). الحركات الاجتماعية والعمل العام والتنمية الاجتماعية في الشرق الأوسط (Social Movements, Activism and Social Development in the Middle East). جنيف: مركز أبحاث الأمم المتحدة للتنمية الاجتماعية.
[18] أيلي، إنركيو و ستيل، غريت (2021). الخرطوم: دراسة تأطيرية. مجموعة بحوث المدن الأفريقية. تاريخ الاطلاع 1 ديسمبر 2023، https://www.african-cities.org/wp-content/uploads/2021/12/ACRC_Khartoum_City-Scoping-Study.pdf
[19] عمر، خلف الله (2018). إصلاح السياسات وليس الإخلاء القسري: دراسة حالة عشوائيات مدينة الخرطوم (Policy Reform, not Evictions! The Case of Slum Urbanisation in Khartoum). يوربان نت. تاريخ الاطلاع 17 نوفمبر 2023، https://www.urbanet.info/sudan-slum-urbanisation/
[20] بيات، آصف (2010). الحياة كسياسة: كيف يغير الناس العاديون الشرق الأوسط. أمستردام: يونفيرستي برس.
[21] أبو شوك، أحمد (2021). الثورة السودانية (2018-2019): مقاربة توثيقية – تحليلية لدوافعها ومراحلها. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
[22] تجمع المهنيين السودانيين (2019). موجهات عامة لنحافظ معًا على استمرار وسلامة اعتصامنا الباسل. تويتر (Twitter)، 15 مايو. تاريخ الاطلاع 5 أكتوبر 2023، https://twitter.com/associationsd/status/1128766160298704898
[23] تجمع المهنيين السودانيين (2019). نداء عاجل. فيسبوك (Facebook)، 2 يونيو. تاريخ الاطلاع 5 أكتوبر 2023، https://www.facebook.com/857752900918065/posts/2750981504928519/?paipv=0&eav=AfZlsPrApPgOF_VZ2ZlNqPi5Uar41NI3TO1nfaGzaghwi0Qijph3–EbxOc4oXZxzkg&_rdr
[24] أبو شوك، أحمد (2021). الثورة السودانية (2018-2019): مقاربة توثيقية – تحليلية لدوافعها ومراحلها. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
[25] تجمع المهنيين السودانيين (2019). نداء عاجل. فيسبوك (Facebook)، 2 يونيو. تاريخ الاطلاع 5 أكتوبر 2023، https://www.facebook.com/857752900918065/posts/2750981504928519/?paipv=0&eav=AfZlsPrApPgOF_VZ2ZlNqPi5Uar41NI3TO1nfaGzaghwi0Qijph3–EbxOc4oXZxzkg&_rdr
[26] عين أفريقيا (2019). بث مباشر على الهواء لمجزرة السودان (Sudan’s Livestream Massacre). بي بي سي، 10 أغسطس. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://www.bbc.co.uk/programmes/n3ct6rnv#:~:text=The%20BBC%20has%20uncovered%20evidence,top%20and%20planned%20in%20advance.
[27] أبو شوك، أحمد (2021). الثورة السودانية (2018-2019): مقاربة توثيقية – تحليلية لدوافعها ومراحلها. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
[28] دويتشه فيلا (2019). السودان: المعارضة والعسكر يوقعان الوثيقة الدستورية النهائية. دويتشه فيلا، 17 أغسطس. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://shorturl.at/bjyAL
[29] الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال (2022). 1154 قتيل على الأقل في عهد «البرهان». الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، 23 أكتوبر. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://shorturl.at/afrMO
[30] حمدوك، عبدالله (2021). فجر اليوم ولخمس ساعات. تويتر (Twitter)، 23 أبريل. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://x.com/SudanPMHamdok/status/1385548785141665796?s=20
[31] غاني، ياسمين (2022). من الخطاب للممارسة: الاستشراق، السياسة الغربية والانتفاضات العربية (From Discourse to Practice Orientalism, Western Policy and the Arab Uprisings). إنترناشونال أفيرز، 98 (1)، 45-65.
[32] هنية، آدم (2016). فيما وراء الديكتاتوريات: إعادة النظر في ثورة مصر الطويلة (Beyond Authoritarianism: Rethinking Egypt’s Long Revolution). التنمية والتغيير، 47(5).
[33] وكالة السودان للأنباء (2019). نص الوثيقة الدستورية. وكالة السودان للأنباء، أغسطس. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://shorturl.at/bhDL5
[34] محمد الحسن، ناهد (2021). قانون الأحوال الشخصية وصراع الجماعات السلفية والقوى اليمينية. مركز كارنيجي للسلام الدولي، 5 أبريل. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://carnegieendowment.org/sada/84248
[35] علي، معز والنيل، مزن وحسنين، ميادة (2023). مشروطة للفشل: تعامل المانحين والشراكات المتعددة مع السودان بعد الثورة (Conditioned to Fail: Donor and Multilateral Engagement in Post-Revolution Sudan). 29 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://africanarguments.org/2023/09/conditioned-to-fail-donor-and-multilateral-engagement-in-post-revolution-sudan/
[36] وكالة السودان للأنباء (2020). الجلسة العاشرة: التوصيات والبيان الختامي للمؤتمر الاقتصادي القومي. قناة وكالة السودان للأنباء على موقع اليوتيوب (Youtube)، 28 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 6 أكتوبر، https://www.youtube.com/live/CXPNq-UQWpo?si=KLdvDKMHftt5OTHk
[37] قناة النيل الأزرق (2021). مؤتمر باريس – كلمة رئيس الوزراء د/ عبد الله حمدوك. قناة النيل الأزرق على موقع اليوتيوب (Youtube)، 17 مايو. تاريخ الاطلاع 6 أكتوبر 2023، https://youtu.be/NMmeY3WYyz0?si=Ympbqag7Ba90uZgl
[38] قالوبين، جان بابتيست (2020). الشركات الضارة: كيف تهدد الأموال المشبوهة الانتقال في السودان (Bad Company: How Dark Money Threatens Sudan’s Transition). المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، 9 يونيو. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://ecfr.eu/publication/bad_company_how_dark_money_threatens_sudans_transition/
[39] عزام، إسماعيل (2021). لماذا أثار اتفاق البرهان مع حمدوك غضب «قوى الثورة»؟. دويتشه فيلا، 22 نوفمبر. تاريخ الاطلاع 2 أكتوبر 2023، https://shorturl.at/degI4
[40] الأمم المتحدة (2021). بيان اليونيتامس عن الاتفاق بين عبد الفاتح البرهان ورئيس الوزراء عبد الله حمدوك (UNITAMS Statement on the Agreement Between Lt. Gen Abdel Fatah al-Burhan and Prime Minister Abdallah Hamdok). 21 نوفمبر. تاريخ الاطلاع 2 أكتوبر 2023، https://sudan.un.org/en/160047-unitams-statement-agreement-between-lt-gen-abdel-fatah-al-burhan-and-prime-minister-abdallah
[41] العلاقات الخارجية للاتحاد الأوروبي (2021). السودان: بيان من دول الترويكا، الاتحاد الأوروبي، سويسرا وكندا (Sudan: Statement by the Troika, the European Union, Switzerland and Canada). 22 نوفمبر. تاريخ الاطلاع 2 أكتوبر 2023، https://www.eeas.europa.eu/eeas/sudan-statement-troika-european-union-switzerland-and-canada_en
[42] بلينكين، أنتوني (2021). أثناء مكالمتي اليوم مع رئيس الوزراء عبدالله حمدوك (In my Calls Today with Sudanese Prime Minister Hamdok). 23 نوفمبر. تاريخ الاطلاع 2 أكتوبر 2023، https://twitter.com/SecBlinken/status/1462952770663768065
[43] الأمم المتحدة (2021). المؤتمر الصحفي للأمين العام مع موسى فكي محمد رئيس بعثة الاتحاد الأفريقي بعد المؤتمر بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي (Secretary-General’s Press Conference with Moussa Faki Mahamat, Chairperson of the African Union Commission, following the AU-UN Conference). 1 ديسمبر. تاريخ الاطلاع 2 أكتوبر 2023، https://www.un.org/sg/en/content/sg/press-encounter/2021-12-01/secretary-generals-press-conference-moussa-faki-mahamat-chairperson-of-the-african-union-commission-following-the-au-un-conference
[44] المصدر السابق.
[45] النيل، مزن (2022). مواثيق المشهد السياسي السوداني (The Charters of Sudan’s Political Landscape). معهد التحرير لدراسات الشرق الأوسط، 26 أبريل. تاريخ الاطلاع 2 أكتوبر 2023، https://timep.org/2022/04/26/the-charters-of-sudans-political-landscape/
[46] لجان المقاومة (2022). ميثاق تأسيس سلطة الشعب. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://resistancecommittee.com/ar/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%AB%D8%A7%D9%82/
[47] الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب – نسخة للشعب السوداني (2023). فيسبوك (Facebook)، 6 فبراير. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://www.facebook.com/photo?fbid=201610805751907&set=pb.100077089664055.-2207520000
[48] كبير، حافظ (2023). لجان المقاومة تدشن النسخة النهائية من «الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب». ألترا سودان، 4 فبراير. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://shorturl.at/bciV4
[49] تنسيقية لجان المقاومة نيالا (2022). جلسة نقاش مع قواعد الأحياء عن: الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب. فيسبوك (Facebook)، 20 أكتوبر. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://web.facebook.com/watch/?v=920835218876950
[50] الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب – نسخة للشعب السوداني (2023). فيسبوك (Facebook)، 6 فبراير. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://www.facebook.com/photo?fbid=201610805751907&set=pb.100077089664055.-2207520000
[51] تجمع المهنيين السودانيين (2019). إعلان الحرية والتغيير. فيسبوك (Facebook)، 1 يناير. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://web.facebook.com/photo/?fbid=2489688437724495&set=pcb.2489688764391129
[52] مامداني، محمود (1996). مواطنون ورعايا: أفريقيا المعاصرة والإرث الاستعماري (Citizen and Subject: Contemporary Africa and the Legacy of Late Colonialism). برينيستون: مطبعة جامعة برينيستون.
[53] ياسين، محمد (2023). تصاعد الإضرابات في القطاعات الحكومية السودانية. الشرق الأوسط، 22 يناير. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://shorturl.at/dCS36
حمزة، هالة (2023). إضرابات سودانية احتجاجًا على تردّي الأوضاع المعيشية. العربي الجديد، 9 يناير. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://shorturl.at/asFO0
[54] شمام، نازك (2022). السودان.. إضراب عمال الكهرباء يراكم الأزمات (تقرير). وكالة الأناضول للأنباء، 30 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 7 أكتوبر 2023، https://shorturl.at/amDTY
[55] أخبار الأمم المتحدة (2023). الممثل الأممي في السودان يعرب عن تفاؤل كبير إزاء الجهود الحالية لإيجاد مخرج للأزمة والشروع في مرحلة انتقالية جديدة أكثر استدامة. 17 يناير. تاريخ الاطلاع 9 أكتوبر 2023، https://news.un.org/ar/interview/2023/01/1117552
[56] وكالة الأناضول للأنباء (2019). صحيفة كندية: حميدتي يدفع الملايين لتلميع صورته في الخارج. 28 يونيو. تاريخ الاطلاع 9 أكتوبر 2023، https://shorturl.at/vABCN
[57] إندبندنت العربي (2023). يوسف عزت إبراهيم مستشار حميدتي الغامض. 22 مايو. تاريخ الاطلاع 8 أكتوبر 2023، https://www.youtube.com/watch?v=ZFn77UiRBVw
[58] الجزيرة (2023). الأمم المتحدة: اكتشاف 13 مقبرة جماعية في الجنينة بدارفور. 14 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 9 أكتوبر، https://shorturl.at/ajCD3
[59] شبكة صيحة (2023). اختطاف واسترقاق: ارتكاب الدعم السريع لانتهاكات بالغة الخطورة ضد المدنيين في السودان (Kidnapping and Slavery: The RSF is Committing more Dangerous Rights Violations in this Malign War Against Civilians in Sudan). 1 أغسطس. تاريخ الاطلاع 9 أكتوبر، https://sihanet.org/kidnapping-and-slavery-the-rsf-is-committing-more-dangerous-rights-violations-in-this-malign-war-against-civilians-in-sudan/
[60] هاشم، محمد جلال (2023). قواعد عامة في حالات الحرب ومآلاتها بخصوص كتاب الرأي. 3 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 9 أكتوبر 2023، https://shorturl.at/gqDF6
[61] هاشم، محمد جلال (2023). مداخلة بين مفاكرات قصي وأبي بكر. 15 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 9 أكتوبر2023، https://web.facebook.com/mjalal.hashim.1/posts/pfbid0h3NqqWMFNNM54FSbrJyQhPrmeMQbG93xn5MKhzDhajRfC4ksz1CFFDY4HpEKk5S7l
[62] الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال (2020). السلطة المدنية للسودان الجديد. تاريخ الاطلاع 9 أكتوبر 2023. https://shorturl.at/xAKU1
[63] شاتارجي، بارتا (1986). فكرة الوطنية والعالم الاستعماري: اشتقاق الخطاب (Nationalist Thought and the Colonial World: A Derivative Discourse). لندن: كتب زيد لجامعة الأمم المتحدة.
[64] المرجع السابق.
[65] هاشم، محمد جلال (2023). تعالوا نفكر بصوت مقروء: ما هي الرؤى المطروحة لتحكم وقف هذه الحرب؟. 29 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 9 أكتوبر 2023، https://web.facebook.com/mjalal.hashim.1/posts/pfbid02EZ1T59qddoxwJio6JnpU33kEmMg4dYKNtVzrHhraV17FTio1zAUPFC7eDPKvZub2l
[66] رنزوز (2023). مرتزقة الدعم السريع يستبيحون البيوت. 21 يونيو. تاريخ الاطلاع 9 أكتوبر 2023، https://vm.tiktok.com/ZMjqG1GAh
[67] بولا، عبدالله (2021). شجرة نسب الغول في مشكل الهوية الثقافية وحقوق الإنسان في السودان: أطروحة في كون الغول الإسلاموي لم يهبط علينا من السماء ومواضيع أخرى في الديمقراطية والثقافة وحقوق الإنسان. الخرطوم: مركز عبد الكريم ميرغني.
[68] المرجع السابق.
[69] الفاو (2021). تقرير خاص: بعثة تقييم الغذاء والمحاصيل بجمهورية السودان لعام 2020 (Special Report – 2020 FAO Crop and Food Supply Assessment Mission (CFSAM) to the Republic of the Sudan). روما
[70] الميثاق الثوري لسلطة الشعب.(2023) الرؤية السياسية لإنهاء الحرب في السودان. 13 أكتوبر. تاريخ الإطلاع 15 أكتوبر 2023. https://www.facebook.com/photo?fbid=330419716204348&set=pcb.330420206204299
[71] جيفري، جاك (2023). ماذا عن أولئك الذين لا يستطيعون مغادرة الخرطوم؟ يواجه الكثيرون الخطر واليأس (What About Those Who Can’t Flee Fighting in Sudan? Many Face Danger and Despair). 25 مايو. تاريخ الاطلاع 12 أكتوبر2023، https://apnews.com/article/sudan-khartoum-trapped-battleground-shortages 9ea2f2a41f6bde8924f8df388cfdd4e6
[72] لجنة مقاومة الرياض (2023). ما تدوش من وطنك ما تدوش من أهلك. 15 أبريل. تاريخ الاطلاع 12 أكتوبر2023،
https://m.facebook.com/story.php/?id=100069789737016&story_fbid=529963762673277
Read this post in: English