الإشارة المرجعية: الرمضاني، مسعود (2024). مراجعة كتاب «رجال الأعمال: الديمقراطية وحقوق الإنسان لمحمد السيد سعيد». رواق عربي، 29 (1)، 79-82. DOI: 10.53833/QMNF1118.
حين نفكرّ، كنشطاء مدنيين أو حزبيين أو حتى كمهتمين بالشأن السياسي العام، في بدائل ديمقراطية للخروج من وضع الاستبداد الذي نعيشه في كل المنطقة العربية، عادة ما نستحضر الأطراف الاجتماعية والساسية التي تشاركنا هذا «الحلم» وتلتقي معنا في صياغة البدائل. في تلك اللحظة، أحيانًا تبرز إرهاصاتنا الأيديولوجية وأفكارنا المسبقة وآرائنا المتسرعة، والتي لا تستند إلى دراسة ميدانية وتحليل علمي، فنتعسّف على أطراف قد تكون فاعلة في عملية التغيير المنشود.
في هذا السياق تكمن أهمية كتاب «رجال الأعمال: الديمقراطية وحقوق الإنسان»[1] لمحمد السيد سعيد؛[2] إذ يمثل محاولة مبتكرة لإعادة الاعتبار لقراءة الواقع المجتمعي بعيدًا عن المسلمات والأفكار الشائعة. فالكتاب يقدم قراءة ميدانية لرؤية رجال الأعمال للواقع المصري، منطلقًا من استطلاع رأي يحاول قدر الإمكان أن يكون علميًا، ليثبت ضرورة مراجعة أفكارنا وتصوراتنا حول رجال الأعمال أو كما نسميهم –أيديولوجيًا– «البرجوازية»، مبرهنا أنهم ليسوا –جميعهم– متماهين مع السلطة السياسية، وليسوا معادين للديمقراطية وحقوق الإنسان، وإنما كغيرهم من الشرائح المجتمعية الأخرى، كثيرًا ما يعانون من ارتدادات استبداد أنظمة الحكم وحيفها ، بل ويمكن أن يشكلوا سندًا ودعمًا للمشروع الإصلاحي والحقوقي في مصر، أو أي بلد أخر يخضع للاستبداد السياسي والحيف الاجتماعي.
الكتاب الذي يُصنف ضمن البحوث الاجتماعية يحتوي على أربعة فصول مترابطة، يشتبك فصله الأول مع النظريات الأيديولوجية –وخاصة القومية والماركسية– التي ترى في رجال الأعمال طبقة رأسمالية متماسكة ومتجانسة من حيث المصالح والرؤية السياسية، وتمتلك علاقة خاصة مع الدولة ودوائرها البيروقراطية والمالية وبالتالي يجب مواجهتها. فيما يتناول الفصل الثاني الاستطلاع الذي اعتمده المؤلف، من حيث الصياغة والدقة والمصداقية ثم إجابات رجال الأعمال بتنوعها، بينما يحاول الفصل الثالث تفسير إجابات رجال الأعمال بالنظر إلى تنوع الاعتبارات التي ترتبط عادة بحجم الملكية أو طبيعة المشروع المُدار، والسن والمستوى التعليمي والخبرة. ويضع الفصل الرابع إجابات رجال الأعمال في سياق العلاقات العامة في المجتمع، بما تعرفه من مكامن ضعف وقوة، وذلك في علاقة بالمسار السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي عرفته البلاد.
ينطلق الكاتب من سؤال منهجي يعتبره مدخلًا لقراءة موضوعية حول علاقة رجال الأعمال –أو البرجوازية– بالدولة والسلطة والديمقراطية وهو: هل ننطلق من رؤيتنا الأيديولوجية كي نفسر الواقع، أم أننا يجب أن ننطلق من الواقع ونغوص في دلالاته لاستخراج الاستنتاجات التي تؤهلنا لاستقرائه بموضوعية دونما أفكار مسبقة؟
يعتبر الكاتب أن مهمة البحث ينبغي أن تتحرر من قبضة الأيديولوجيا ومن مكبلات الصراعات السياسية لتخلص لفهم دقيق للواقع. فكثير من الباحثين، وخاصة اليساريين منهم، ينطلقون من الأيديولوجيا ويحاولون إسقاطها على المجتمع، الأمر الذي يسفر عن نتائج تتماهى مع تفكيرهم، لكنها لا تحيل إلى قراءة موضوعية، وإنما تُفضي أحيانًا لنتائج خاطئة. على سبيل المثال، لم يتطور النظام الرأسمالي بالشكل الذي تنبأت به الماركسية ولم يشهد الانهيار «الحتمي» الذي توقعته؛ إذ تمكنت الرأسمالية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية من تخطي أزماتها المتعددة، وتأقلمت مع المتغيرات، كما ازدهرت في فترات عديدة وأرست آليات للضمان الاجتماعي، وعززت من الرخاء، بشكل نسبي، لمختلف الطبقات الاجتماعية (بمن فيهم العاطلين عن العمل).[3]
بينما في المجتمعات العربية التي شهدت «ثورات عسكرية وسياسية» قادتها الطبقة الوسطى؛ فقد هيمنت بيروقراطية الدولة وقوتها الأمنية والعسكرية وساد فيها القمع والتسلط وسيطر فيها تفكير راديكالي متعنت لا يثق في الطبقة البرجوازية. لكن إذا ما وضعنا الأيديولوجيا القومية والماركسية جانبًا، ودققنا في أوضاع رجال الأعمال، فإنه يمكننا ملاحظة أنهم لا يختلفون عن غيرهم من الفئات الاجتماعية الأخرى من حيث الرؤية السياسية، بل إنهم «يتواجدون على الأرضية الثقافية نفسها التي تعيش عليها طبقات المجتمع الأخرى» أي أنهم يشكلون جزءً من الزخم الثقافي العام في تنوعه واختلافه وتجزئته.
الأمر الذي يحيلنا لماهية الدولة، فإما أن تكون دولة ديمقراطية تسمو عن المصالح الخاصة وتعمل باستقلالية عن كل الطبقات وتشرك كل الأطراف الاجتماعية؛ أو أن يتم خصخصتها وتتحيز لمصالح فئات وطبقات معينة، وتكون في هذه الحالة مستبدة وفاسدة، تشوه التطور الرأسمالي وتعوق أي نزعة نحو «دمقرطتها».
ولا يكمن الخطأ في تقييم رجال الأعمال وعلاقتهم بالدولة والديمقراطية وحقوق الإنسان في استباق الأحكام الأيديولوجية وفرضها على واقع معقد ومتغيّر فقط، بل أيضًا في انتشار الأحكام الانطباعية التي لا تستند لقراءة موضوعية. فبعض الآراء السطحية أو التغطيات الصحفية المنحازة –كالقول مثلًا أن الرأي العام المصري يحمل ثقافة فرعونية تنشد الخلاص على يد «المستبد العادل» ولا يقيم اعتبارًا لحريته ولا لحقوقه الأساسية– تؤدي حتمًا لاستنتاجات تخدم الاستبداد القائم. وحقيقة الأمر أنه لا يمكن الخروج من هذه المواقف المزاجية سوى عبر بحث علمي ميداني يستطلع أراء كل فئة اجتماعية ويستخلص النتائج من خلال استنطاق الواقع. وبما أن رجال الأعمال المصريين هم الجمهور الغائب في التواصل مع المنظمات الحقوقية وهو القطاع الأكثر تعرضًا للأحكام المسبقة، سواء كانت أيديولوجية أو انطباعية، فإن استطلاع آرائهم بشأن الدولة والحكم وحقوق الإنسان والديمقراطية يعتبر أمرًا ضروريًا.
وهو الأمر الذي اعتمده الكاتب، إذ ارتكزت الأسئلة الموجهة إلى العيّنة من رجال الأعمال حول العديد من المسائل، من بينها تقويم الحالة الديمقراطية في مصر من خلال وجود –أو عدم وجود– دولة القانون، وفاعلية البرلمان، ونزاهة الانتخابات، وإمكانية تداول السلطة، وفرص المشاركة السياسية للمواطنين، بالإضافة إلى الحالة الحقوقية في البلاد ومدى توفر الاحترام والحماية لممارسة الحقوق المدنية والسياسية، و حاجة البلاد إلى المنظمات الحقوقية ومدى معرفة العيّنة من رجال الأعمال بهذه المنظمات، ومدى رغبتهم في المشاركة الفعلية في العمل الحقوقي. وجاءت الإجابات لتؤكد أن أغلبية رجال الأعمال:
- تعارض وجود حكومة قوية تضحي بالديمقراطية في سبيل النهوض الاقتصادي،
- ترى أن مصالحها تتفق مع وجود دولة القانون والمؤسسات، وتتمسك بالخيار الديمقراطي،
- تعترف بوجود انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان، مثلما تشير إليه المنظمات الحقوقية الدولية، وتدعم الجهود الرامية لإنهائها.
وما يمكن استنتاجه أيضًا، هو صعوبة بلورة قطاع رجال الأعمال المصريين كطبقة متماسكة تحمل تصورات متناغمة بشأن المسائل العامة التي تهم البلاد. فاذا اعتبرنا أن الفضيلة الأساسية في النظام الرأسمالي هي المنافسة الحرة، التي بدونها لا مكان لرأسمالية قادرة على التطور، واذا سلمنا بأن الشركات الكبرى ورجال الأعمال النافذين، الذين يمثلون أقلية، هم الوحيدين القادرين على بناء شبكة زبونية مع السلطة والحصول على تسهيلات مصرفية كبيرة، ويمتلكون المقدرة على التأثير في القرارات السياسية، بينما لا يحظى أصحاب الشركات والمنشئات الصغرى الذين يمثلون الأغلبية الساحقة بالاهتمام نفسه، ولا يحصلون على الامتيازات نفسها، وبالتالي لا يقدرون على المنافسة؛ فإننا ندرك حجم الركود الذي يصيب التطور الداخلي لقطاع الأعمال والغبن الذي يشعر به أصحاب الشركات الصغرى والمتوسطة.
لذا، فمن غير الممكن الحديث عن وعي طبقي متماسك ومتكامل لرجال الأعمال المصريين مما يجعلهم قوة مهمة تمارس نفوذها على الدولة والمجتمع. فهم، مثل غيرهم من الفئات الاجتماعية الأخرى، يخسرون مكانتهم في الحياة السياسية والمدنية، تمامًا مثل الطبقة الوسطى التي فقدت الكثير من قوتها بسبب ضعف الحركة العمالية وتلاشي دور النقابات، وحتى المثقفين الذين مارسوا دورًا بارزًا، إبداعيًا وإعلاميًا، فانهم ظلوا خارج ديناميكية الحياة العامة، وظل المجتمع المدني هشًّا وضعيفًا، يفتقر إلى الأليات والمؤسسات التي تتواصل مع رجال الأعمال وتساهم في تزويدهم بالثقافة المدنية. وفي مقابل تهميش كل هذه القوى الاجتماعية، أخذ التحالف بين جهاز الدولة وكبار رجال الأعمال الذين يتحكمون في السوق في التبلور والتعاظم.
وتظل المشكلة الأساسية في أن جهاز الدولة الذي يفرض سيطرته على معظم الحياة الاقتصادية والاجتماعية يحبذ الجمود، ولا يرغب في إجراء أية إصلاحات ديمقراطية عميقة تساهم في النهوض الوطني وتحرر طاقات المجتمع، أي بلورة طبقة بورجوازية تمتلك دورًا مقننًا، وأحزابًا سياسية قوية، ومجتمعًا مدنيًا فاعلًا، وحركة عمالية مؤثرة.
لذلك، فإن الوعي الديمقراطي لدى الشريحة المستهدفة في استطلاع الرأي، والتي تحبذ في أغلبها سلطة القانون والتداول السلمي على الحكم وترغب في إجراء إصلاحات جوهرية، كان مبنيًا على رغبات خاصة وربما فطرية أكثر منها نتيجة لمتابعة دقيقة للشأن العام. والأدهى، أنهم يفضلون الابتعاد عن الحياة السياسية ولا يرغبون في مساهمة ملموسة فيها، ولا في المشاركة من أجل تحرير البلاد من أزماتها المتعددة.
ويبدو من خلال استطلاع الرأي هذا مدى الحاجة لبناء كتلة ديمقراطية داخل المجتمع تتشكل من جميع الفئات الاجتماعية الذين لهم مصلحة في الانتقال الديمقراطي، ولا يجب تجاهل دور رجال الأعمال لأن لهم القدرة والاستعداد للتأدية دور مهم في عملية الإصلاح السياسي. ويرى الكاتب أنه أتاح، باستطلاع الرأي هذا، طريقًا نحو إجراء المزيد من الاستطلاعات على أن تتناول قطاعات اجتماعية أخرى، رغم ما يحيط بهذه الممارسة العلمية المباشرة من معوقات؛ لعل أهمها الميراث التسلطي الذي انتقل من السلطة ليلامس الرأي العام، كذلك أصحاب الأيديولوجيات الشمولية الذين يخشون أن تكشف الاستطلاعات ضعف أفكارهم وسرديتهم، لذلك يفضلون أن يبقى الرأي العام في جموده وتجزئته.
لقد حاول الكتاب رفع ثلاثة تحديات، أولها غطرسة الأيديولوجيا ووصايتها على التفكير والتحليل، وثانيها تنفيذ عمل ميداني فيه الكثير من الجرأة والموضوعية، وأخيرًا إماطة اللثام عن قسم مهم من المجتمع كنّا نعتقد تجانسه، ولا نعرف عنه سوى حبه للمال والسلطة، لنكتشف أنهم يتقاسمون معنا همومنا ويحملون أحلامنا بمجتمع تسوده الحرية والديمقراطية.
لكن ماذا عن راهنية الكتاب الذي نُشر قبل 23 سنة، وعرفت مصر وكل المنطقة العربية بعده هزات وتطورات عديدة؟ اعتقد أنه يستحق القراءة وإعادة القراءة في ضوء ما شهدته الساحة من انتكاسات وإحباطات بعد مآلات الثورات العربية، فمحمد السيد سعيد يدعو أولًا للتمسك بمشروع التغيير وتكييف الحلم به مع الواقع «بما يترتب عن ذلك من مراجعة مزدوجة يتعلق جزء منها بإعادة تقويم الحلم نفسه والجزء الآخر بإعادة تحليل الواقع نفسه».[4] أي باختصار إعادة النظر في مسلماتنا ومعتقداتنا حتى تناسب الواقع. وثانيًا يدعو المجتمع المدني والسياسي وكل المؤمنين بحلم الإصلاح السياسي لـ«تطوير وسائل التواصل المختلفة مع جمهور يشكل عزله وتهميشه وإسكاته شرطًا لإعادة إنتاج النظم الاجتماعية والسياسية القائمة».[5] وهو ما لا نسعى إليه.
[1] الناشر: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 2001.
[2] باحث في العلوم السياسية ومناضل حقوقي مصري، كان مستشار البحوث ومؤسس مشارك لمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ومؤسس دورية رواق عربي وأول رئيس تحرير لها، قبل وفاته سنة 2009.
[3] ص 20 من الكتاب.
[4] غليون، برهان، تحية تقدير لمحمد السيد سعيد في أربعينه، 21-10-2009- تاريخ الاطلاع، 12 مارس 2024، rb.gy/zisd8v.
[5] المصدر السابق.
Read this post in: English