الإشارة المرجعية: عبد النعيم، حكيم (2024). رؤى: أمننة الإبداع كأداة للـسلطوية السياسية والبطريركية الشعبية بمصر. رواق عربي، 29 (1)، 123-128. DOI: 10.53833/GQOS3717.
في عالمنا المعاصر علينا إدراك التدمير الآخذ في الانتشار بشكل مطرد لتلك الظروف التي يكون الخلق الثقافي ممكنًا في ظلها. فهذا يستتبع بالضرورة انحطاطًا واضحًا بشكل متزايد؛ ليس فقط للعمل الفني، وإنما أيضًا للشخصية «الفنية» تحديدًا. إن نظام هتلر –بعدما جرد ألمانيا من كل الفنانين الذين عبرت أعمالهم عن أقل مقدار من التعاطف مع الحرية، مهما كان هذا التعاطف سطحيًا– قد حول أولئك الذين لا يزالوا يقبلون بحمل القلم أو الريشة إلى مجرد خدم شخصين للنظام، تقتصر مهمتهم على تمجيده بالأمر المباشر، وفقًا لأسوأ أعراف جمالية ممكنة. وإذا صدقنا التقارير؛ فإن الأمر لا يختلف في الاتحاد السوفييتي، حيثما تبلغ الردة الترميدورية[1] أوجها في الوقت الحالي.
أندريه بروتون[2]
في عام 1991، قدم المخرج والكاتب المصري داوود عبد السيد أحد أفضل أفلامه (الكيت كات)،[3] وفي فصل الفيلم الأخير يقدم لنا عبد السيد واحدًا من المشاهد شديدة الأثر في السينما المصرية، وهو مشهد موت «عم مجاهد». في ذلك المشهد، يلقي رجلًا كفيف (الشيخ حسني) مونولوجًا طويلًا أمام جثة عم مجاهد، يكشف فيه انهياره الإنساني، بينما لا يزال عم مجاهد، برغم وفاته، مفتوح العينين، ولم يدرك وفاته أحد. وبينما يحاول الأعمى، في حديثه، فهم وتبرير مصيره المنهار، ويستفيض في الحديث بدون رد من الرجل؛ حتى ينتبه أنه يتحدث لجثة هامدة، وأن (عم مجاهد) قد مات، لينتهي المشهد بعربة خشبية تحمل جسد الرجل العجوز بينما يجرها الأعمى.
أظن أن الفصل الأخير في انهيار المجتمعات يبدأ من تلك اللحظة التي يدرك فيها أفراد ذلك المجتمع أن الأمر جلل. لكن ذلك الإدراك يأتي بعد فوات الأوان، فيحاولون تدارك الأمر عبر التبرير أولًا واللوم ثانيًا والغضب ثالثًا لكنهم لم يدركوا بعد أنهم يتحدثون لجثة هامدة لأنهم عميان عن رؤية الحقيقة.
وعليه ففي عالمنا المعاصر، حيث نرى تنويعات لمحاولات أنظمة مختلفة لإعادة إنتاج ممارسات نظام هتلر عند تجريده لألمانيا من كل الفنانين الذين يبدون أي تعاطف مع الحرية، وتحويل من تبقى لخدم يمجدون النظام بأسوأ الأعراف الجمالية. ولعل صدى التدمير الثقافي يرمز له بشكل جلي في مشهد فيلم «الكيت كات»؛ حين يجسد الشيخ حسني الأعمى انهيار الإنسانية عبر حديثه مع جثة عم مجاهد، مما يعكس انهيار المجتمع وتبريره للأوضاع دون إدراك حقيقة فوات الأوان.
عند الحديث عن الانهيار، نجد أن انهيار المجتمعات يشار عادةً لأسبابه المتعددة كالتغير البيئي، والغزو، وانهيار التماسك الاجتماعي، وتزايد عدم المساواة، وتراجع القدرات المعرفية وقمع الإبداع؛ لكنني بصدد استكشاف الانهيار والتداعي الحاصل في السياق المصري، والذي يعد أحد أشكاله انهيار الصناعات الإبداعية، والتي تمثل الهيكل الصناعي الأكبر والأقدم في المنطقة العربية. ولعل سؤال الأهم في هذا الانهيار هو: كيفية استبدال النقد بالرقابة، وتحول النقد لأداة للهيمنة على الإبداع؟ ذلك السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، خصوصًا في ظل سياقات عربية تصارع السقوط في فخ الهيمنة السلطوية الكاملة على أدوات الإنتاج الرمزي كافة.
إن عملي، كمسئول عن البرامج في وحدة التعليم بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، أتاح لي فرصة خوض تجربة استثنائية مع مجموعة من الفنانات والفنانين وصانعي/ات المحتوى الرقمي الشباب من منطقة المتوسط، المشاركين كمتدربين في برنامج «تأثير»، أحد البرامج التي تنفذها وحدة التعليم بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، وتم إطلاقه في سبتمبر 2023 من مرسيليا – فرنسا، على أن يمتد لثلاث سنوات. ويهدف البرنامج إلى تعزيز حقوق الإنسان في منطقة البحر المتوسط اعتمادًا على الإبداعات الرقمية والفنية للشباب. ويتطلع لتشجيع المشاركين على تحليل تأثير السياقات المجتمعية والسياسية والاقتصادية والثقافية على الإبداع الفني، وتشريح العلاقات المعقدة بين الإبداع وبين مفاهيم تقليدية مثل النظام الأبوي أو الرقابة. كما يتضمن البرنامج أنشطة متنوعة ضمن نطاق الإشراف النسبي على تطوير أفكار مشاريع المشاركين/ات، بالإضافة لإعداد مشروع بحثي بالتوازي مع فعاليات البرنامج. فضلًا عن عقد اجتماعات ولقاءات مباشرة للمشاركين مع العديد من الفاعلين الثقافيين والمؤسسات العاملة في مجال الفنون والثقافة وحقوق الإنسان في مرسيليا.[4]
بالإضافة لما تتيحه التجربة من إمكانية الاستماع والاطلاع، بل والتعلم، من تجارب شديدة التنوع والأثر والقوة؛ فإنه بفضل ذلك المشروع أتيحت لنا فرصة طرح كل تلك التساؤلات وغيرها، والتي تتعلق كلها بفكرة رئيسية: أنه برغم اختلاف التجارب وتباينها؛ إلا أنه في العقد الأخير، نستكشف عبر الأحداث، أن الأنظمة الحاكمة في المنطقة العربية جميعها مرتبطة بمفهوم السلطوية، خصوصًا في التعامل مع الإنتاج الرمزي. الأمر الذي تجاوز السياقات الموضوعية المتنوعة لبلدان المنطقة، إذ أضحت السلطوية، في بعض تلك البلدان، هي الشكل السائد لـديناميات القوة بين الحكومة والمواطنين. بل أن تلك الأنماط تطورت لتصبح القوة الدافعة الرئيسية للعلاقات الاجتماعية في تلك السياقات.
في عام 1970، كتب لوي ألتوسير «إن الطبقة (أو التحالف الطبقي) في سدة الحُكم لا يمكنها الهيمنة على أجهزة الدولة الأيديولوجية صراحةً بنفس سهولة هيمنتها الصريحة على جهاز الدولة (القمعي)، ليس فقط لأن الطبقات الحاكمة يمكنها الحفاظ على مواقف قوية في هذا الصدد لمدد طويلة؛ إنما أيضًا لأن مقاومة الطبقات المُستَغَلَة يكشف لها عن وسائل ومناسبات للتعبير عن نفسها فيما يخص أجهزة الدولة الأيديولوجية، سواء من خلال الاستفادة من تناقضاتها، أو من خلال غزو واقتحام مواقع فيها بالاستعانة بالنضال».[5]
أكثر ما يثير انتباهي في هذا المقتطف هو أن إحدى المهام الجوهرية للطبقات الحاكمة، في أي مجتمع، هي الهيمنة على الجهاز الأيديولوجي للدولة، والذي يمكننا تعريفه –وفقًا لألتوسير– بأنه جهاز الدولة الأيديولوجي الديني (المؤسسات الدينية)، التعليمي (أنظمة المدارس العامة والخاصة)، الأسري، القانوني، السياسي (النظام السياسي، مشتملًا على مختلف الأطراف)، النقابي، الإعلامي (الصحافة، الإذاعة، التلفزة، إلخ)، الثقافي (الأدب، الفنون، الرياضة، إلخ). وبالتركيز على الثقافي، فهيمنة الطبقة الحاكمة على ذلك الجهاز ضرورة استراتيجية لها، عبر السيطرة الكاملة على المساحات العامة، بالإضافة إلى السيطرة على كل ما يتعلق بالإنتاج الرمزي أو الإبداعي، وأظن أن ذلك ينطلق من وعي عميق لدى تلك السلطات الحاكمة أن هذه الأشكال من الإنتاج البشري تشكل تهديدًا وجوديًا لأي هيكل سلطوي داخل المجتمع.
وعلى مدار عقود عديدة، امتلكت السلطوية تأثيرًا عميقًا على الفنون، خاصة في المنطقة العربية. وتطور هذا التأثير جنبًا إلى جنب مع الأنظمة السياسية والاجتماعية في المنطقة. ومع ذلك، فإن مفهوم السلطوية ليس مقتصرًا على السيطرة المفروضة على الفنون من جانب الدولة والمؤسسات الرسمية؛ وإنما يتجلى أيضًا من خلال الممارسات السلطوية التي تشكل التصورات الاجتماعية والثقافية، مما يؤثر على وعي نسبة معتبرة من المواطنين ويحولهم في بعض الأحيان لشرطة ضبط اجتماعي، الأمر الذي يؤدي بدوره في كثير من الأحيان لتشكيل تهديد وجودي لاستمرارية ووجود الإنتاجات الرمزية بشكل جوهري.
في ذلك الصدد مثلًا، يمكن لنا تفحص وقائع اعتقال عدد من النساء صانعات المحتوى الرقمي المصريات بحجة «تهديد قيم الأسرة المصرية وقيم المجتمع المصري والتحريض على الفسق والفجور وممارسة الرذيلة».[6] تلك الوقائع التي نستطيع من خلالها فهم كيفية تحول المجتمع، في كثير من الأحيان، لمحرك ودافعة رئيسية للتحريض على القمع. والتي تتحرك فيها أجهزة الدولة القمعية، شرطة وقضاء، مدفوعة لاعتقال صانعات محتوى على تطبيق تيك توك، على خلفية بلاغات تقدم بها عدد من صانعي المحتوى الرجال. وبينما تم تحريك دعاوى قضائية نتيجة هذه البلاغات؛ فإن مقدميها لم يكتفوا بذلك، وإنما شرعوا في حملة تشويه كبيرة بحق جميع النساء المتهمات في القضية. ومن جانبها، حركت الدولة القضية بشكل متسرع نتج عنه أحكامًا متعجلة بالحبس والغرامة.[7]
وعليه فإن تهديد الإنتاج الإبداعي ليس حصرًا تحت سيطرة السلطة الحاكمة، والتي تفرض بدورها قيودًا على المواضيع والتقنيات، ما قد يؤدي لقيود محتملة في التعبير، ما يجبر صانعي الأعمال الإبداعية على إنتاج أعمال تتوافق مع القيم الثقافية والسياسية والاجتماعية أو الدينية السائدة. قد ترتبط تلك القيود بشكل وثيق بالسياسة، إذ يتم استخدامهم في كثير من الأحيان كوسيلة للترويج لرؤية من يمتلكون السلطة على الفضاءات العامة. علاوةً على ذلك، قد يؤدي هذا الوضع لتغيير محتوى الأعمال الفنية وتوجيهها نحو أهداف محددة. إلا أن الجانب الأخطر في هذا الوضع يتمثل في تهديد التنوع الثقافي من خلال التركيز على الثقافة الوطنية السائدة، والتي تعبر في كثير من الأحيان عن رؤية الطبقة الحاكمة في تلك المجتمعات.
لكن هل البطريركية، كمفهوم نظري تنتج عنه ممارسات اجتماعية، يمثل نقطة الانطلاق الأساسية في تخريب الإنتاج الإبداعي؟ على أولًا الإشارة لأن البطريركية، في هذا السياق، تشير لجميع أشكالها المختلفة التي تتجلى في جوانب مختلفة من الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، تلك الأشكال التي تؤثر بشكل سلبي بالضرورة على أي إنتاج رمزي قدمته المجتمعات، بل وتتفاعل وتؤثر في حياة الأفراد والمجتمعات بطرق معقدة ومتشابكة.
يشمل ذلك الزعماء الدينيين الذين يمتلكون السلطة الروحية والدينية التي تؤثر على المعتقدات والأخلاق الفردية والجماعية، بالإضافة إلى القوانين الأبوية التي تحدد الأدوار والمسئوليات المسندة إلى النساء والرجال في المجتمع، فضلًا عن السلطان الأبوي على القيم الثقافية والتقاليد والفنون والأدب المقبولة في المجتمع. ولعل أحد الأعمدة الرئيسية لاستمرار البطريركية في مجتمعات المنطقة العربية هو الهيمنة الثقافية الذكورية العميقة على تلك المجتمعات.
«الهيمنة الذكورية» هو مفهوم يختصر واقعًا قائمًا لا يساهم فيه الذكور وحدهم، وإنما الإناث أيضًا وبشكل لا واعٍ. إنّه اشتراك طرفي الصراع –من يمارس القمع ومن يتم ممارسة القمع ضده– في تبنّي التصورات والمقولات التصنيفية ذاتها، ممّا يسمح بإعادة إنتاج الهيمنة والمحافظة عليها، بل ومحاولة فرضها كأمر واقع. فمركزية الذكورية تفرض نفسها كأنها محايدة، وإنها ليست بحاجة للإعلان عن نفسها في خطب تهدف لشرعنتها، وبالتالي يعمل النظام الاجتماعي بأكمله باعتباره آلة رمزية هائلة تصبو للمصادقة على الهيمنة الذكورية التي يتأسس عليها.[8] ولعل واقعة صانعات المحتوى في مصر دليل مهم لتلك الممارسات.
وعن مفهوم الهيمنة الثقافية بشكل عام، طور أنطونيو جرامشي أفكارًا متنوعة حولها على أساس النظرية الماركسية التي تتعامل مع الأيديولوجية السائدة في المجتمع باعتبارها انعكاسًا لمعتقدات ومصالح الطبقة الحاكمة، وإن قبول حكم المجموعة المهيمنة يتحقق من خلال انتشار الأيديولوجيات المهيمنة –مجموعة من وجهات النظر والمعتقدات والافتراضات والقيم العالمية– من خلال المؤسسات الاجتماعية مثل التعليم والإعلام والأسرة والدين والسياسة والقانون، من بين أمور أخرى. ونظرًا لأن المؤسسات تعمل على إضفاء الطابع الاجتماعي على الناس في القواعد والقيم والمعتقدات الخاصة بالمجموعة الاجتماعية المهيمنة، و إذا كانت المجموعة تسيطر على المؤسسات التي تحافظ على النظام الاجتماعي؛ فإن هذه المجموعة تحكم كل الآخرين في المجتمع.[9]
ومن المهم الإشارة لأن واحدة من تلك التجليات السلطوية الهامة هي الرقابة الحكومية المتمثلة في القوانين واللوائح، والتي تعمل المؤسسات التنظيمية على تنفيذها عبر عملية مراقبة مستمرة لكافة الإنتاجات الفنية والإعلامية، تحدد فيها المواضيع التي يمكن مناقشتها أو تصويرها أو تضمينها في أعمال فنية. ولعل الدراسة التي أصدرتها مؤسسة حرية الفكر والتعبير بعنوان (تحت الحصار.. محاولات جديدة للرقابة على الدراما)،[10] توضح الأوجه المتعددة لممارسة تلك العملية الرقابية من جانب الدولة، والتي اعتمدت على التحايل لقانوني لمجموعة من القوانين والقرارات الإدارية المتعلقة بالرقابة على الأعمال الدرامية، بالإضافة لقرارات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والمشاريع المقدمة من لجنة المقترحات في الهيئة الوطنية للإعلام بشأن إضافة محاذير رقابية على الأعمال الدرامية. وبذلك تخلق تلك الرقابة متنًا محكمًا للنظام السلطوي في تشكيل رؤية المجتمع الإبداعية.
تلك العملية، والتي تحتاج لتكاتف أكثر من جهة لتنفيذها، قد تؤدي لهيمنة النظام السلطوي على المؤسسات النقابية، وإخضاعها لممارسة دور شرطي المهنة. إذ يعمل النظام السلطوي على تبديلها من هيئة قانونية تتكون من مجموعة من المواطنين يمارسون مهنة واحدة أو مهن متقاربة، يتم تشكيلها في الأساس لأغراض المفاوضة الجماعية بشأن شروط العمل ورعاية مصالح أعضائها الاقتصادية والاجتماعية، بل والسياسية، وذلك عن طريق الضغط على الحكومات والهيئات التشريعية؛ لتتحول إلى صيغة أقرب لنظام يعمل على مراقبة الأنشطة والسلوكيات والعمليات في مؤسسة أو مجتمع معين عبر تنظيم السلوك وفحص الأداء والتأكد من الامتثال للسياسات والقوانين المحددة.
وأظن أنه في سبيل فهم الهيمنة الثقافية السلطوية الشاملة، لابد وأن ننطلق باستخدام النقد، والذي يمارس دورًا حيويًا في ذلك الصدد، إذ يكشف البعد الفلسفي والمنطقي للسلطة، فهو كمرآة تعكس الطبيعة الحقيقية للهيمنة والسلطوية. بمعنى آخر، يُعتبر الوسيلة الأهم لتفكيك ديناميات السلطة في السياقات الاجتماعية والثقافية. ولعل النقد في ذاته عملية إبداعية وجزء أساسي من اكتمال أية عملية فنية، لكنني أظن أن ذلك تغير الآن بعدما حلت الرقابة محل النقد فأصبحت الرقابة في ذاتها جزءً لا يتجزأ من اكتمال العملية الفنية، كما ذكرت أعلاه.
في ذلك السياق، فإن النقد بإمكانه أن يشكل عملية إبداعية وفنية في حد ذاته؛ إذ يجمع بين الفحص الدقيق للأعمال الفنية والإلهام الفكري، مما يؤدي لفهم معمق للمفاهيم والأفكار التي تعالجها، بل وتدفع لمواجهة السلطوية منها.
ولعل جان فرانسوا ليوتار وهو عالم الاجتماع والفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي، أُشتهر بكونه أحد الرواد في إدخال مفهوم ما بعد الحداثة لميداني الفلسفة والعلوم الاجتماعية، قد عبّر عن هذه الفكرة في نهاية السبعينيات من القرن العشرين. وفي إجابة ليوتار عن نوع الفن الذي يُمكن أن نُطلِق عليه وصف ما بعد الحداثة كان رده «علينا أن نرتاب من كل الإبداع الفني الذي وصل إلينا من القديم وحتى البارحة. لقد تحدى سيزان الانطباعيين (Les impressionnistes)، ثم جاء بيكاسو وبراك فاستهدفا سيزان بالهجوم، ثم كفر دوشان Duchamp عام 1912 بفرضية الرسم نفسها حتى وإن كان تكعيبيًا، وجاء بعده بورين (Buren Daniel) ليتشكَّكَ بدوره في فرضية أخرى، رأى أن دوشان حافظ عليها في أعماله ولم يتعرض لها بالنقد، وهي الفرضية التي تتعلق بموقع التصوير ومكانه في العمل الفني».[11]
ولكن هل يمكننا تحويل تلك الأداة النقدية من مجرد أداة لنقد التمثيلات (Presentations) إلى وسيط إبداعي مرن يمكن له ممارسة مهام إبداعية متعددة في سبيل كشف تعقيدات مسارات السلطوية في الهيمنة الثقافية. بل هل تستطيع تلك الأداة أن تجد لنفسها دورًا تحوليًا يجعل منها وسيط إبداعي مقاوم لكل تمظهرات السلطوية والهيمنة الثقافية الذكورية والرقابة؟
لعل ماثيو فولر[12] وإيال وايزمان[13] ذهبا لأبعد من ذلك في التعامل مع النقد، باعتباره وسيط فني في ذاته وليس كأداة لنقد التمثيلات، إذ عملا على أن يحولا النقد لأداة استكشافية لجماليات الاستقصاء،[14] كمقاربة فلسفية وسياسية لاستكشاف مفهوم «الجمال» وتعزيز التفاعل بين مختلف الميادين، ليس فقط من أجل إنتاج الحقيقة، بل أيضًا لجعل تلك الحقيقة «مفهومة» وقابلة للمعاينة من أجل تحقيق «العدالة».
على أن يتم ذلك من خلال إعادة النظر في مفاهيم مثل «الدليل»، «الوثيقة»، ودور السلطة السياسية التي تسعى بدأب لدعم جهود «التضليل»، ومواجهة تلك الجهود عبر زيادة الحساسية تجاه سيل الصور والفيديوهات من حولنا من أجل تحقيق العدالة. ويؤكدون دائمًا أن الفنانين المعنيين بجماليات الاستقصاء عليهم فحص الفساد والعنف الحكومي وتدمير البيئة والتقنيات القمعية مشتركين في الهم نفسه مع ميادين أخرى غير مرتبطة عادة بالجماليات، مثل الصحفيين المحترفين اللذين يدرسون مقاطع الفيديو مفتوحة المصدر والصور الفضائية لتنفيذ تحقيقات بصرية استقصائية.
هذا التوازن بين ميادين متنوعة يعرف بـ «جماليات الاستقصاء» ويستند هذا المفهوم لنظريات المعرفة والبيئة والتكنولوجيا. إذ يفحص الوقائع والوثائق بعمق، إلى جانب فحص الممارسات الراديكالية، مثل تلك المتبعة من قبل ويكيليكس وبيلينجكات وفورينزيك أركيتكتشر. فـ «جماليات الاستقصاء» تجري في الأستوديو والمختبر، وقاعة المحكمة والمعرض، عبر الإنترنت وفي الشوارع، ساعية لبناء «حواس مشتركة» جديدة، فذلك المفهوم يعد مقدمة ملهمة لميدان جديد يجمع بين التحقيق والجمال لتغيير كيفية فهمنا ومواجهتنا للسلطة اليوم.
لذلك، فمن الضروري تفكيك تلك الرؤية للنقد من خلال تقديمه كوسيلة لمنع انحياز تيار معين من تأميم التنوع الثقافي واحتكاره لصالحه، وكخطوة أولى نحو إعادة فهم الفكر والثقافة بما يتماشى مع مجتمع متنوع وديمقراطي.
إن الواقع الاجتماعي المعقد والواقع تحت هيمنة السلطوية، يؤثر على هيكل الحياة الثقافية والفنية عبر التأثير البطريركي والذي يعد نقطة انطلاق أساسية في تخريب الإبداع، وعليه فعلينا إدراك أهمية فهم أدوات السلطة والأثر الناتج من الهيمنة الثقافية والسياسية للطبقة الحاكمة والتي تعتبر عائقًا أساسيًا أمام التنوع الثقافي والإبداع.
إن تحويل النقد لقوة إبداعية يمكن أن يكون أحد الحلول لتحدياتنا الثقافية والفنية، إذ يتيح لنا فرصة لاستكشاف الحقائق والتحليل بطرق جديدة ومبتكرة؛ لكنه في الوقت نفسه حلًا يحتاج لمجهود عميق وكبير في سبيل فحص متمعن لكافة المعطيات.
وعلينا تكريس جهودنا لتحقيق تحول جذري في طريقة تعاملنا مع السلطة والهيمنة الثقافية، فعندما نستخدم النقد كأداة للتحليل والتغيير، بل للكشف والسعي للحقيقة، نفتح الباب أمام فرص جديدة لبناء مجتمع قائم على المساواة واحترام التنوع وحقوق الإنسان. بل هي مسئوليتنا جميعًا كمواطنين وفنانين وباحثين، الآن، أن نناضل من أجل بناء عالم يسوده العدل والتعاون والإبداع، حتى وإن كان مؤقتًا حبيسًا لخيالنا الفني.
[2] بيان نحو فن ثوري حر المكسيك 25 يوليو 1938.
[3] «الكيت كات» فيلم مصري من إنتاج عام 1991. الفيلم من تأليف وإخراج داود عبد السيد، وإنتاج حسين القلا، ومن بطولة محمود عبد العزيز، وأمينة رزق، وشريف منير، وعايدة رياض، ونجاح الموجي، وعلي حسنين. قصة الفيلم من وحي رواية مالك الحزين للروائي إبراهيم أصلان.
[4] يقود البرنامج كل من الشبكة الأورومتوسطية الفرنسية، ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، و(Les Instants Video (Numeriques et Poetiques ورابطة التعليم الفرنسية بمنطقة البوش دو رون، بالشراكة مع الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان. ومعهد الأبحاث والدراسات المتوسطية والشرق أوسطية بالجنوب. والمشروع مدعوم ماليًا من الوكالة الفرنسية للتنمية.
[5] ألتوسير، لوي، الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية (ملاحظات نحو تحقيق) ترجمة – عمرو خيري. نقلًا عن الترجمة الإنجليزية لـ بين بريوستر. المصدر: «لينين والفلسفة ومقالات أخرى»، 1971. نُشر هذا المقال للمرة الأولى في عام 1970- https://shorturl.at/gjkAF.
[6] الجبهة المصرية لحقوق الإنسان (2020). «تهديد قيم الأسرة المصرية»: كيف تفرض الدولة سيطرتها على الفضاء العام بحبس فتيات التيك توك. تاريخ الاطلاع، 1 يونيو 2024، https://egyptianfront.org/ar/2020/07/tiktok/ .
[7] المرجع السابق نفسه.
[8] بورديو، بيار (2009). الهيمنة الذكورية. بيروت – لبنان: دار المنظمة العربية للترجمة – ترجمة: د. سلمان قعفراني.
[9] سيكاج، كليجتون (). أنطونيو غرامشي حول الهيمنة الثقافية.. ما هي وكيف تعمل؟، ترجمة مروان عمرو. تاريخ الاطلاع، 1 يونيو 2024، https://shorturl.at/lrvQZ.
[10] عثمان، محمود (2019). تحت الحصار.. محاولات جديدة للرقابة على الدراما. مؤسسة حرية الفكر والتعبير، 15 أبريل. تاريخ الاطلاع 27 نوفمبر 2023، https://afteegypt.org/research/research-papers/2019/04/15/17386-afteegypt.html.
[11] كاي، نك (1999). ما بعد الحداثة والفنون الأدائية، ترجمة: نهاد صليحة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. ص 25.
[12] ماثيو فولر-Matthew Fuller هو أستاذ في الدراسات الثقافية. بالتعاون مع عثمان هاك، هو مؤلف مشترك لكتاب «نظام التحديث الحضري الإصدار 1.0» (ALNY)، وبالتعاون مع أندرو جوفي، مؤلف كتاب «الوسائط الشريرة» (MIT)، وهو أيضًا محرر لكتاب «دراسات البرمجيات، معجم» (MIT) ومحرر مشارك في مجلة «الثقافة الحسابية». يشارك في عدة مشاريع في مجال الفن ووسائط الإعلام والبرمجيات، وهو الكاتب المنتظر لكتاب «كيفية النوم، في الفن والأحياء والثقافة». (Bloomsbury).
[13] إيال وايزمان – EYAL WEIZMAN (مواليد 1970) هو مهندس معماري بريطاني. مدير منظمة «العمارة الجنائيّة»، تلك التي تمارس جهود فنيّة وجماليّة وقانونيّة لكشف «الحقيقة» في عالم مفرط في المعلومات والأكاذيب وإنكار الحقيقة. يشغل منصب مدير وكالة البحث Forensic Architecture في جامعة جولدسميث في لندن، ويشغل أيضًا منصب أستاذ في الثقافات المكانية والبصرية، وهو أحد المديرين المؤسسين لمركز البحث في العمارة (Centre for Research Architecture) في قسم الثقافات البصرية. في عام 2019، تم انتخابه زميلًا في الأكاديمية البريطانية.
[14] فولر، ماثيو ووايزامان، إيال (2021). جماليات التحري (Investigative Aesthetics: Conflicts and Commons in the Politics of Truth).
Read this post in: English