مراجعة كتاب: جيوسياسة كوفيد-19
حمل هذا المقال كبي دي إف
صدر مؤلف «جيوسياسة كوفيد 19: ما تكشفه لنا أزمة فيروس كورونا» لكاتبه باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية بباريس، في منتصف عام 2020، وهو كتاب تجشم ما يشبه المخاطرة، لاعتباره جائحة كورونا عاملًا ذا تأثير جيوسياسي على مستوى العالم وعلى مستوى فرضية حدوث تحولات مهمة في منظومة علائق القوة والتأثير السياسي وتيارات المصالح والنفوذ في العالم.
ويتطلع الكتاب إلى الاستجابة للحاجة إلى وضع تشخيصات موثقة يمكنها المساعدة في تقييم التطورات الجيوستراتيجية الممكنة عبر إدماج المتغيرات الاقتصادية والصحية والمجتمعية، وهو يعتمد لذلك، عبر فصوله العشرة، منهجية متدرجة تنطلق من تحليل البُعد الأشمل للتداعيات الجيوسياسية لأزمة كورونا، محاولًا تشخيصها من خلال دراسة فرضيات تتعلق بوضعية النموذج الغربي والانتصار البادي للصين ومحاذير «الخطر الشيوعي» وموقف الولايات المتحدة المتراجع وأوروبا المترددة، وغير ذلك من مقولات «نهاية العولمة» وأزمة تعددية الأطراف والتقييدات المريبة التي ترد على الحريات بسبب الطوارئ الصحية. ويخلص الكتاب إلى نتيجة مفادها أن تداعيات أزمة كوفيد 19 قد لا تؤدي، بالنظر للمعطيات الجيوسياسية القائمة، إلى حدوث مراجعات عميقة تمس جوهر النسق الدولي، مع أن الفرصة تلوح لأوروبا للنظر إلى ذاتها باعتبارها فضاءً متجانسًا يستقل عن هيمنة الولايات المتحدة.
ينطلق الكتاب من توصيف لـ«حالة الذهول» التي رافقت انتشار الفيروس. فمع أن إشارات وإنذارات قوية نبهت إلى احتمالات وقوع الجائحة إلا أنها لم تؤد إلى استعداد وتحرك من طرف الحكومات.
ويعتبر بونيفاس أن ثمة تضخمًا في استخدام مصطلح «الثورات» الاستراتيجية أو التاريخية، في الوقت الذي يجري فيه الخلط بين الأحداث الطارئة والتحولات الهيكلية «الطبيعية» التي تنتج، حقًا، التحول في النظام الدولي. وحيث تقع أزمة كوفيد بين الحالتين، إلا أنها لم تخرج عن التأثير على وضعيات موجودة في السابق، كمثل ما يتصل بالمنافسة بين الصين والولايات المتحدة، أو أزمة التعددية، أو تلك الإشكالات المطروحة أوروبيًا، أو التساؤلات حول حدود العولمة. بيد أن الأزمة الوبائية غيرت كثيرًا من مصطلحات وأدبيات تلك المواضيع، كونها عمقت وعززت جانبًا مهمًا من الحقائق والتصورات ذات الصلة بها، فطبقًا لبونيفاس «ثمة فعلًا لحظة كوفيد 19 على المستوى الجيوسياسي»، وهي لحظة فارقة بتأثيرات غير مطمئنة.
ويتساءل المؤلف عن الدروس المستفادة من كون الدول الغربية في مواجهة الجائحة وقفت على قدم المساواة مع الآخرين وليس في مستوى أعلى، حيث يسرد ترسانة من الوقائع والأحداث والحقائق الصادمة التي رافقت انتشار فيروس كورونا بتلك الدول. لقد تعلق الأمر بدول غنية عصرية لا تتردد في تقديم نموذجها الحضاري، لم تجد نفسها في مستوى التصدي لصدمة صحية، وأكيد أن الصورة التي كانت لديها والتي رغبت دائمًا في تقديمها للآخرين، قد تعرضت للتشوّه. إنه انهيار مفاجئ لنموذج من «العظمة» اعتقد الجميع أنه مثال للمتانة والصلابة. وقد نجم عن ذلك، الوعي «بضآلة» الفجوة بين الشمال والجنوب وبين الغرب وباقي العالم، على أن هذه الحقيقة لم يجر استيعابها بشكل كاف من طرف الغرب. ولعل من أسباب ذلك، ذاك الشعور بالسمو المتوطّن في الفكر الغربي وذلك الاستعلاء الذي أودى بواجبات الحيطة والتحفز لدى دوله، ما جعله حساسًا وهشًا إزاء الجائحة.
ويشير الكتاب إلى أن هناك قوى كثيرة عبر العالم تنتقد النموذج الغربي وتستنكف الصورة النمطية التي يحاول تسويقها عن نفسه، والمشكلة أن الغرب لا يحسب حساب ذلك الرفض، فهو يعجز عن صياغة استراتيجية منسقة وتنافسية مفضلُا «الخبط» في كل اتجاه،[1]غير مدرك أنه أضحى يفقد تدريجيًا الوسائل التي خولته فرض مصالحه الخاصة على الآخرين.
أما العولمة التي اعتبرها الغرب ثمرة تفوقه، فقد أنتجت وباءً عابرًا للحدود، لتفقد بعض مضامينها مع تحول الحدود إلى ما يشبه «الستار الحديدي»، لتفرز، ولأول مرة في التاريخ، خوفًا معولمًا تشترك فيه البشرية جمعاء. لكن العولمة لم تعن يوما نهاية الحدود، فما حدث هو انتقال إجباري من «الحقيقي» إلى الافتراضي ترافق مع إعادة اعتبار للدولة الوطنية ضمن إقليمها الذي مثل الملجأ لمواطنيها. على أن الغرب اكتشف أن أممًا أخرى، كالصين مثلًا، بإمكانها قلب موازين القوة لغير صالحه، بفعل العولمة.
لقد شعر الغرب بالقلق من واقع أن كوفيد 19، ليس فقط لم يربك الصين، بل لكون هذه الأخيرة خرجت منتصرة وأكثر قوة في تحررها المبكر مما لا يزال الآخرون يعانون منه بشدة. وبحسب الكتاب، يمثل صعود الصين بالنسبة للغرب، التحامًا بين «الخطر الأصفر» والتهديد الشيوعي المدعوم بأداء اقتصادي قوي وبهجوم دبلوماسي تضامني. ومهما تكن انتقادات الغرب للصين بشأن تدبيرها للوباء، إلا أن هذا الأخير مثّل لها فرصة لتطوير جانب من قوتها المرنة؛ فعبر جوانب مساعدتها وتعاونها العالمي لمصلحة البشرية، تظهر الصين وكأنها بصدد كسب حرب شاملة ضد كوفيد 19 وفق منطق براغماتي يجمع الترويج «للحماية الصحية» والمُضي قُدمًا في مشروعات «الحزام والطريق». وحيث يخشى الغرب على ديمقراطيته وقيمه من حضور متصاعد لقوة عظمى ذات توجه شيوعي، يتجه الكاتب للقول بأن الصين لا تتوفر على خطط وخلفيات سياسية وأيديولوجية كما كان أمر الاتحاد السوفيتي، فهي تبحث عن مصالحها الاقتصادية، ومواجهتها مع الغرب هي مواجهة تقليدية بين دول كبرى، فالصين «صينية» أكثر منها شيوعية. على أن الغرب منزعج لكونه مهدد بتجاوزه من قبل دكتاتورية آسيوية تقدم نموذجًا سلطويًا للقوة الاقتصادية وفق نمط الإنتاج الرأسمالي. وبحسب الكتاب، فإن الخيار الأفضل للغرب هو النظر إلى الطموحات الصينية بعقلانية، دون إصرار على ترويج شعار «الديمقراطية الغربية–الدكتاتورية الصينية»، الذي لن يكون مقنعًا ولا جذابًا لغير الغربيين.
أما الولايات المتحدة، فيشير الكاتب إلى أنها أضحت «قوة عظمى متذبذبة». فالرئيس ترامب لم يُدِر أزمة كورونا من وجهة علمية أو حتى صحية، بل من زاوية سياسية تتصل بالانتخابات. وكان سوء تدبيره للجائحة كافيًا لجعله «يطلق النار» على الصين وعلى منظمة الصحة العالمية. ويتطلع الكتاب إلى إبراز البون الشاسع بين أمريكا والصين في أسلوب التعاطي مع الأزمة دوليًا. ويبقى الواضح بالنسبة لبونيفاس، أن جائحة كورونا ستفضي إلى إذكاء أسباب الصراع والخصومة بين البلدين، بدلًا من أن تكون موضوعًا لتعاونهما، فقد تقلص موضوع العلاقة مع الصين من موضوع استراتيجي ودبلوماسي مركزي قوامه التوافق العام، إلى سجال انتخابي مصطنع.
ويشير الكتاب إلى أن الصين تتقبل النسق الدولي القائم وتندمج –على خلاف الولايات المتحدة– بعقلانية وفعالية في مؤسساته،[2]فهو يتيح لها التقدم والنفوذ والاندماج فيه، بشكل يلعب لمصلحتها في علاقات القوة. على أن القلق يصيب أمريكا، فهي الراغبة في احتواء الصعود المتنامي للصين، كما أنها لا تتقبل، وهي دولة الاستثناءات، أن تسبقها قوة أخرى «آسيوية وشيوعية» . لذلك، فإن السيناريو الأكثر احتمالًا يتمثل، دون النزاع المسلح، في خصومة وتنافس وتحرش متبادل بأشكال مختلفة، وما كان لجائحة كوفيد 19 إلا أن تغذي العداء بين القوتين. وسيكون الصراع على الزعامة العالمية بين الطموح الصيني والقلق الأمريكي، المظهر الرئيس المهيكل للعلاقات الدولية.
فيما يتصل بالاتحاد الأوروبي، يشير الكتاب إلى أن مواجهته للجائحة افتقدت التنسيق الجيد والبعد التضامني، بتصرف أعضائه بشكل انفرادي وأناني أحيانًا. لكن أوروبا استعادت توازنها، واستطاعت، حسب بونيفاس، أن توجد تضامنًا بينيًا وتعددية أطراف حقيقية ونشطة تجاه دول العالم الأخرى، في مواجهة التخلي الأمريكي والحضور، «الخانق أحيانًا» للصين.
في هذا الإطار، ثمة مجال لأوروبا، من خلال تعددية غير تدخلية تحترم هوية وخصوصيات الآخرين، كي تطرح ذاتها كلاعب شامل بدلًا من كونها مجرد مانح شامل؟. يبقى عليها إدراك أنها لا تتقاسم انشغالات وأهداف الولايات المتحدة ذاتها، فانشغال الأخيرة بالسبق الصيني الماثل هو مشكلتها الخاصة، كما أن أوروبا لن ترغب في معاداة الصين وهي لم تعد بحاجة إلى حماية أمريكا –حسب الكتاب– وإنما إلى النظر بموضوعية أكبر إلى مصالحها. ولكن، هل تستجيب أمريكا بكل بساطة لمثل هذا «التملص» الأوروبي المحتمل؟ وهل تسمح به أصلًا في خضم مساعيها لكبح جماح الصين؟
في الأخير، يعرض الكتاب جانبًا جدليًا مهمًا من آثار جائحة كورونا، وهو المتمثل في انحسار الكثير من الحقوق والحريات بسبب حالات الطوارئ: فقد سنت القوانين الاستثنائية وشددت بعض العقوبات وأوقفت أشكال التجمع وعلقت الحراكات والتظاهرات ومُست–بأشكال مختلفة– المعطيات الشخصية والحياة الخاصة للأفراد…الخ. على أن بونيفاس يرى في كل ذلك مظاهر مؤقتة مرتبطة بالأزمة، كما أنها ستكون سببًا في الرفع من ديناميكية المجتمع المدني والإعلام والرأي العام باتجاه مطالبة الحكومات بكشوف حساب، وأيضًا، بشأن صلاحية طرق ووسائل إدارتها وتدبيرها للأزمة. وإذا كانت مراقبة الوباء تتطلب مراقبة الأفراد، فهذا يستدعي أيضًا تشديد الرقابة على الحكومات والمقاولات الكبرى.
وفي توجه يخالف ما ذهب إليه جورجيو آغامبان في رؤيته لـ«دولة الطوارئ الدائمة»،[3] يوصي الكتاب بنقل الجدل الهام حول مفارقات الحرية والأمن إلى مجال أوسع خارج نطاق الأزمات، على أن يتسم بالانفتاح والتشارك والتعددية، سواء على المستويات الوطنية أو الدولية، مؤكدًا على حقيقة أنه إذا كانت الحكومات تتوجه إلى تقييد حريات الشعوب، فإن هذه الأخيرة، بمقاومتها تقييد حرياتها وبمطالباتها المختلفة، تكتسب حقوقًا جديدة.
ولكن كيف يمكن التأسيس لتشارك دولي فعال بشأن أية مسألة في ظل الأزمة العميقة لتعددية الأطراف التي أجلتها أزمة كورونا؟ لاسيما مع التخلي المضطرد الذي تبديه الولايات المتحدة خصوصًا في عهد إدارة ترامب؟
قد يكون من البديهي ، بل ومن المطلوب أيضا،توجيه العديد من الانتقادات للمؤسسات الدولية، بصفتها أحد أهم وأبرز الأطر التعددية، لكن الأكيد أن غيابها لم يكن ليؤدي إلى تعاط أفضل مع الجائحة، كونها لعبت،عبر عقود، أدوارًا مهمة في مكافحة الأوبئة والأمراض عبر العالم، ولا شك أن التوجه الأمريكي الانفرادي سيصيب المقاومة الشاملة للوباء، والنظام الدولي عامةً، بكثير من الضرر. يدعو الكاتب، في ظل عدم موضوعية مطلب التأسيس لحوكمة عالمية جديدة، إلى إنشاء نظام أكثر فعالية للإنذار الصحي، ففي فضاء متعولم، يتوجب أن تعالج كافة التحديات التي تواجهها البشرية ضمن التشاور والتنسيق في أطر متعددة الأطراف، لا غنى فيها عن المؤسسات الدولية.
[1]محبوباني، كيشور (2018). هل تاه الغرب؟ (L’Occident s’est-il perdu?)، فايار، باريس، ص. 18
[2] فيرون، إيمانويل. لينو، إيمانويل (2020). المنظمات الدولية منظومة الهيمنة الصينية تتبلور، (Organisationsinternationales: le spectre d’une hégémonie chinoise se concrétise)، كونفيرساسيون.
[3] آغامبان، جورجيو (2003). حالة الاستثناء، (État d’exception)، سوي، باريس.
Read this post in: English