الإشارة المرجعية: ملاح، محمد (2024). استراتيجيات التعبئة في السياق الاحتجاجي: دراسة في احتجاجات الريف المغربي 2016 – 2017. رواق عربي، 29 (3)، 43-61. DOI: 10.53833/WJIC8486.
خلاصة
تبحث هذه الورقة الآليات التي وظفها نشطاء الحركة الاحتجاجية التي شهدتها منطقة الريف شمال المغرب أثناء الفترة الممتدة بين أواخر 2016 و2017 وكيفية نجاحهم في تعبئة الحشود، وإفراز دينامية احتجاجية ممتدة على مدى زمني مهم. وقد وظفت الدراسة المنهج التحليلي الوصفي مع الاستعانة بمنهج تحليل المضمون، في تتبع وتحليل خطاب النشطاء، والوقوف عند الخصائص الديمغرافية والثقافة السياسية للمحتجين، ووسائل التواصل والحشد. وأوضحت نتائج البحث الحضور الملفت لخطاب المظلومية بأبعادها التاريخية والنفسية والاجتماعية، وهو ما جعله يشكل موردًا مهمًا للاحتجاج، وصرخة من جانب المحتجين من أجل الاعتراف بهم وبهويتهم التاريخية والثقافية كحق أصيل من حقوق الإنسان، ومدخل لتحقيق الاحترام والتقدير والأمان النفسي والاجتماعي للمنطقة. من ناحية أخرى أظهرت الدراسة الدور المحوري الذي مارسه الشباب في قيادة الحراك الاحتجاجي، وتمردهم على الأنماط التقليدية للمشاركة السياسية، من خلال تبني الاحتجاج الميداني أو الرقمي كأشكال بديلة.
مقدمة
أضحت الحركات الاحتجاجية تشكل جزءً لا يتجزأ من الممارسة السياسية؛ إذ لم يعد الناس يعبرون عن توجهاتهم واختياراتهم عن طريق الأحزاب السياسية والعمليات الانتخابية فقط، وإنما أصبحوا يلجئون أيضًا إلى الاحتجاجات والمظاهرات وجمع التوقيعات وغيرها من الآليات المدنية المتاحة للتعبير عن مطالبهم. وتكتسي كل هذه الأساليب أهمية بالغة لتأكيد المصالح والدفاع عنها في السياسة المعاصرة.[1] والاحتجاج، كظاهرة اجتماعية وكفعل جمعي، يعبر في كثير من الأحيان عن مظاهر الفاعلية والحيوية في المجتمعات الإنسانية، خاصة حينما تعجز آليات الوساطة المجتمعية من نقابات وأحزاب ومنظمات مدنية عن ممارسة أدوارها في توصيل المطالب والترافع عنها وممارسة التأثير على النظام السياسي. فحينما تكون فاعلية هذه القنوات محدودة، يلجأ الناس إلى الاحتجاج، باعتباره من أكثر الأساليب التي تؤدي إلى التغيير السياسي والاجتماعي عندما تغيب القنوات والمسالك الشرعية والفاعلة لإنجاز هذا التغيير.[2]
لقد أصبح الاحتجاج طقسًا مألوفا في المغرب؛ والذي شهد منذ الاستقلال سلسلة من الانتفاضات والاحتجاجات. ويميز أحد الباحثين بين ثلاثة أجيال من الاحتجاج بالمغرب:[3] جيل الاحتجاج السياسي وساد أثناء الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ومارست فيه نقابات الموظفين والحركة الطلابية والتلاميذية دورًا بارزًا. ثم جيل الاحتجاج الحقوقي وظهر أثناء التسعينيات وكان أكثر عقلانية واستفاد من الخطاب السياسي العالمي المرتكز على الديمقراطية وحقوق الإنسان، مما أدى لتحطيم الطوق الذي كانت تفرضه أجهزة السلطة على المجتمع وعلى الفضاء العام في الماضي.[4] ثم جيل الاحتجاج على السياسات التنموية الذي بدأ يكتسح الفضاء خاصة خلال سنوات 2008، 2009، 2010. ثم جاءت حركة 20 فبراير في سياق إقليمي مضطرب عام 2011، وفيما تراجع زخمها لاحقًا بإقرار دستور جديد للملكة في 29 يوليو 2011؛ إلا أن روح الحركة ظل موجودًا، وتجسد في استمرار مطالب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية في كل الاحتجاجات الفئوية والمناطقية التي تلتها بما فيها احتجاجات حراك الريف، موضوع هذه الدراسة.
ورغم انتماء احتجاجات حراك الريف إلى الجيل الجديد من الحركات الاحتجاجية التي تتخذ من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية موضوعًا لمطالبها؛ إلا أن السياق الذي اندلع فيه، وطبيعة المطالب التي رفعها، وآليات التعبئة الذي وظفها النشطاء، تجعل منه حركة احتجاجية متفردة ومتميزة عن غيرها من الاحتجاجات. وهو ما يقود إلى طرح الإشكالية التالية: كيف ساهمت آليات التعبئة التي تم توظيفها، (استدعاء التاريخ وخطاب المظلومية من جهة؛ وتوظيف حيوية الشباب وتقنيات التواصل الرقمي من جهة ثانية) في بناء استراتيجية احتجاجية ذات زخم غير مسبوق وممتدة في الزمن على مدى عدة أشهر؟ وتتفرع عن هذه الإشكالية الأسئلة الفرعية التالية: ماهي الأسباب الحقيقية والعميقة التي نقلت حراك الريف من رد فعل لحظي عاطفي عن حادث «طحن محسن فكري» إلى حركة احتجاجية عارمة ممتدة في الزمان والمكان؟ ما مدى استيعاب الدولة للقضايا الكبرى التي أثارها حراك الريف، خاصة ما يتعلق بالهوية والذاكرة والتاريخ؟ هل يمثل حراك الريف مؤشرًا عن محدودية نتائج هيئة الإنصاف والمصالحة على مستوى منطقة الريف؟ ماهي مواطن القوة التي استفادت منها احتجاجات حراك الريف في بناء فعل احتجاجي ممتد في الزمان؟ ولمناقشة الإشكالية والإجابة عن أسئلتها الفرعية، ننطلق من الفرضية التالية: أدى استدعاء ذاكرة الريف المثخنة بالجراح وغياب سياسات الاعتراف بشباب المنطقة لتكريس أزمة الثقة في مؤسسات الدولة ووسائطها السياسية والمدنية، مما ساهم في تحفيز الاحتجاج.
الإطار النظري والمنهجي للدراسة
إن الإحاطة بموضوع استراتيجيات التعبئة في احتجاجات منطقة الريف، يستدعي التوقف عند المفاهيم المؤطرة للدراسة، وسياقها، بالإضافة إلى التصريح بالمقاربة المنهجية التي تم سلكها لتحليل الظاهرة المدروسة.
المفاهيم المؤطرة للدراسة
تنطوي هذه الورقة على ثلاثة مفاهيم أساسية لفهم آليات التعبئة التي تم توظيفها خلال احتجاجات حراك الريف؛ مفاهيم التعبئة الاحتجاجية كمفهوم عام، ومفهوم التعبئة الرقمية أو الشبكية والتي أضحت تشكل موردًا مهمًا في الحشد للاحتجاج، بالإضافة إلى توظيف مفهوم الاعتراف كمورد للتعبئة والاحتجاج لفهم الاحتجاجات التي عاشتها منطقة الريف المغربي.
التعبئة الاحتجاجية: يشير مفهوم التعبئة في السياق الاحتجاجي إلى الاستراتيجيات التي يتم اللجوء إليها لحشد الجماهير وإقناعها بوجهة نظر معينة وكسب تأييدها بهدف اتخاذ إجراءات ومواقف من قبيل الدعوة إلى الاحتجاج أو التظاهر أو العصيان المدني.[5] وتشكل التعبئة بهذا المفهوم آلية للتعبير المجتمعي تهدف إلى تحقيق مصالح وأهداف مشتركة، وتساهم في انبثاق الفعل الاحتجاجي كسلوك يعبر عن موقف معين، الغرض منه التأثير والضغط في اتجاه مزدوج: أولًا بهدف دفع النظام السياسي أو السلطة السياسية لاتخاذ رد فعل قد يستجيب لمطالب المحتجين أو يتجاهلها، وثانيًا من أجل التعريف بمطالب الحركة الاحتجاجية وكسب تأييد الرأي العام لها. وهو ما يمنح الفعل الاحتجاجي بُعدًا ديناميكيًا تفاعليًا وفق منظور تارو سيدناي (Tarrow Sidney)، الذي يرى أن طبيعة الحركة الاحتجاجية تتحدد من خلال العلاقات التي تحافظ عليها مع البيئة السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية المحيطة بها.[6]
فيما تنقسم التعبئة من منظور العلوم الاجتماعية إلى تعبئة هيكلية وتعبئة مرنة، والتي تسمى أيضًا بالتعبئة الثقافية،[7] بحيث ينظر النهج الهيكلي إلى الفعل الاحتجاجي الجماعي على المستوى الكلي، ويكون تحت تأثير البيئة الخارجية المتمثلة في المؤسسات والممارسات الاجتماعية، أو الظروف السياسية. بينما يركز نهج التعبئة الثقافية بشكل أكبر على التحليل الجزئي أي على تصور الفرد للاحتجاج، ويهدف إلى تحليل تفاصيل العلاقة بين علم النفس والسلوك السياسي للفرد،[8] باعتباره ذاتًا فاعلة واعية وحرة في اختياراتها من منظور نظريات الفعل الاجتماعي لكل من تالكوت بارسونز Talcot Parsonz)) وروبرت ميرتون (Robert Merton) وماكس فيبر (Max Weber). فانخراط الفرد في الفعل الاجتماعي يكون نابعًا من حاجته –وهو يتمثَّل قيم الجماعة التي ينتمي إليها– إلى التغيير، ويتحول بذلك الفعل الاجتماعي إلى سلوك فردي منتج لفعل متأثر بقيم وثقافة الجماعة التي ينتمي إليها.[9]
التعبئة الرقمية/الشبكية: في كتابه «المجتمع الافتراضي»، يرى هوارد راينجولد،[10] أن ما يسميه «الحشود الذكية» المتصلة ببعضها البعض من خلال التراسل والتواصل باستعمال تقنيات التواصل الحديثة التي تتيحها شبكة الإنترنت، هي التي ستتسلم المشعل من الحركات الاجتماعية التقليدية.[11] فالثورة المعلوماتية الراهنة أدت لتغير معالم وبناءات الحركات الاحتجاجية والمدنية، التي لم تعد تستمد مرجعياتها من الأيدولوجيات الماركسية أو الدينية أو غيرها، كما أنها لم تعد في حاجة إلى تنظيمات أو لجان تنسيقية سرية أو تأطير إيديولوجي أو مذهبي.[12] بل شكلت شبكات التواصل الاجتماعي فضاءات مستقلة وبعيدة عن سيطرة الحكومات والشركات التي ظلت تحتكر، عبر التاريخ، قنوات الاتصال كمرتكز لسلطتها، ووفرت الأرضية الملائمة لتشكل حركات اجتماعية معارضة نظرا لما تتيحه من إمكانيات الانتشار الواسع والسريع للصور والأفكار.[13] وجعلت بذلك المجال العام تحت سيطرة عموم المواطنين بقيادة الجماعات الافتراضية.[14]
إن التطورات المتسارعة التي تشهدها تكنولوجيا الاتصال الحديثة منحت الشباب المبادرة باعتبارهم الفئة الأكثر قدرة على استعمال هذه الأنماط الإعلامية والتواصلية الجديدة والتفاعل معها. إذ أضحت شبكات التواصل الرقمي فضاءً رحبًا للتواصل والمشاركة سواء بالنصوص أو الصور أو الفيديوهات أو تقنيات البث المباشر. كما كان لتكنولوجيا التواصل الرقمي دور في ظهور أشكال جديدة من التنظيم، لم تعد ترتكن إلى مفهوم البنية، باعتبارها مستوى تأطيري ثابت، بقدر ما باتت ترتكز على مفهوم البيئة، باعتبارها فضاءً افتراضيًا تتفاعل داخله كل أنماط العلاقات والسلوكيات والتفاعلات والتعبيرات، دونما تمتلك السلطات العامة قدرة كبيرة على كبحها أو إعاقتها، فما بالك بإعمال القوانين واللوائح والتشريعات للحد من مداها، أو تحجيم التجاوزات التي قد تبدو لها كذلك من منظورها.[15]
الاعتراف: يعتبر أكسيل هونيث (Axel Honneth) أن الحاجة إلى الاعتراف هي السبب في توليد أزمات المجتمع، وبالتالي فإن أي علاج للمشكلات الاجتماعية يجب أن ينطلق من استحضار قيم الاعتراف وتبني سياسات تؤدي إلى ترسيخها في نفوس المواطنين.[16] أما نانسي فريزر (Nancy Fraser) فتؤكد على أهمية الربط بين الاعتراف ومستلزمات العدالة الاجتماعية، أي السير بشكل متوازي بين الاعتراف القيمي والعدالة في التوزيع الاقتصادي، لاغية التناقض بينهما.[17]
تعتبر نانسي فريزر أن التطلع إلى نيل الاعتراف هو القاسم المشترك بين الحركات الاجتماعية وحركات حقوق الإنسان والحركات البيئية والأقليات المهاجرة وغيرها. وتؤكد فريزر على الاعتراف بوصفه مدخلًا إلى تحقيق العدل ورفع الظلم عن الهويات التي ترى أنها تعاني من الإقصاء والتهميش. وتنتقد الظلم الناتج عن التهميش الاقتصادي نتيجة الخلل في توزيع الثروات واحتكارها، لذلك فهي تدعو إلى التمييز بين نموذجين: نموذج إعادة التوزيع للتصدّي للاعدالة الاجتماعية/الاقتصادية، ونموذج الاعتراف لمواجهة الإقصاء الهوياتي. فمن خلال تتبع مطالب وشعارات حراك الريف، يُلاحَظ أن مطالب المحتجين تعبر عن الإحساس بالإكراه الاقتصادي المؤسس على مشاعر اللاعدالة، وهو ما تجسده مطالب: الشغل؛ الجامعة؛ المستشفى؛ توظيف عائدات الجالية المقيمة بالخارج لتنمية المنطقة. كما تعبر أيضًا عن غياب الاعتراف بتاريخ وذاكرة ورموز الريف، وهو ما يظهر من خلال خطاب المظلومية الذي يستدعي أمجاد الأجداد في مواجهة الاستعمار؛ ورفع صور محمد بن عبد الكريم الخطابي؛ والحضور المكثف لأعلام تامزغا وأعلام اتحاد قبائل الريف الذي تولى تدبير شئون المنطقة ما بين 1921 و1926؛ واستحضار مظالم فترة الاستقلال الناجمة عن عنف الدولة في مواجهة الانتفاضات التي عرفتها المنطقة وخاصة خلال أحداث 1958 – 1959 وأحداث عام 1984. لذا فإن التأخر في معالجة كل تداعيات سوء الفهم بين سكان المنطقة والدولة التي تسببت في جراحات تأبى ذاكرة المنطقة نسيانها، والتي يبدو أنها تحتاج لمزيد من الجهد من كلا الطرفين لتجاوزها؛ من المحتمل جدًا أن تبقى تمثل ندوبًا عالقة في الذاكرة وعاملًا محفزًا على الاحتجاج في منطقة الريف أكثر من غيرها. ورغم المجهودات المبذولة منذ تولي الملك محمد السادس الحكم في تنمية المنطقة، ومحاولات بناء الثقة مع ساكنيها من خلال زياراته المتكررة لها؛ إلا أن المنطقة لازالت تنتظر الاعتراف بتاريخها وهويتها وإدماجهما في هوية وطنية وتاريخ وطني جامعين لتحقيق العدل. فهذا الأخير من منظور براديغم الاعتراف لا يمكن اختزاله في العدل التوزيعي للخيرات المادية، وإنما هناك جوانب أخرى يجب أن تحظى بمعاملة عادلة؛ وهي الجوانب الأخلاقية والرمزية للإنسان.[18] وبحكم ارتباط الاعتراف بالأفراد أو الجماعات ذات المطالب المشروعة، فإنه يُعد عنصرًا تكوينيًا في مختلف النزاعات الاجتماعية والثقافية؛ إذ تكمن مشروعيته في قدرته على التعبير عن التجارب الإنسانية التي تتصف بالظلم والحيف والغبن والإقصاء من جهة، والتعبير أيضًا عن بلوغ الذات الفردية الاجتماعية مرتبة رفيعة من الإدراك التام للشروط الكفيلة بتحقيق المستوى المنشود من الاحترام والتقدير والأمان النفسي والاجتماعي. ومن الطبيعي أن يرافق هذا التطلع للاعتراف نشوء نقاش محتدم بشأن الواقع الاجتماعي والعمومي والحقوقي، وتجاذب مستمر بخصوص مهمة الدولة وواقعها ومستقبلها. وإجمالًا يمكن القول أن الجميع يسعى لتحصيل الاعتراف كذات حرة فاعلة تحظى بالتقدير والاحترام.[19] ولقد كان لأكسيل هونيث (Axel Honneth) السبق في طرحه الجديد لبراديغم الاعتراف مستندًا في ذلك إلى الفيلسوف الألماني هيغل، باعتباره أول فيلسوف غربي تعمق في دراسة العلاقات الاجتماعية باعتبارها علاقات بين ذوات تسعى لتحقيق الاعتراف المتبادل، كما أوضح أن العلاقات الاجتماعية يجب أن تكون محكومة بمفهوم أساسي وهو الاحترام المتبادل، والذي حوّله فيما بعد لمفهوم أخر وهو الاعتراف المتبادل.[20]
وفي كتابه «الهوية: مطالب الكرامة وسياسات الاستياء» يرى فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) أن الهوية انبثقت في الوهلة الأولى من التمييز بين الذات الداخلية الحقيقية والعالم الخارجي المكون من القواعد والعادات الاجتماعية التي لا تعترف عادةً بقيمة الذات الداخلية وكرامتها، ومع أن هذا التمييز قد وُجد في التاريخ البشري كله؛ إلا أنه في العصر الحالي تطور لإحساس لدى الأفراد بأن العالم الخارجي على خطأ، وأن الذات الداخلية لها قيمة وليست مطالبة بالخضوع لقواعد المجتمع، وإنما ينبغي على المجتمع أن يتغير. لذا، بدأت الذات الداخلية تسعى للحصول على الاعتراف العلني بوجودها وقيمتها. فتطور معنى الهوية الحديث إلى سياسة الهوية التي تشمل جزءً كبيرًا من الصراعات السياسية في العالم المعاصر، من الثورات الديمقراطية لحركات اجتماعية جديدة، إلى الحركات القومية والحركات الإسلامية وغيرها.[21] ووفق الفيلسوف الكندي شارل تايلور (Charles Taylor): فإن «هويتنا تتشكل جزئيًا بالاعتراف أو بغيابه، وكذلك بالإدراك الخاطئ أو السيئ الذي يملكه الآخرون عن هويتنا».[22] وعليه، فإن عدم الاعتراف أو الاعتراف غير المطابق أو المشوه يمكن أن يعد ظلمًا، وقد يشكل نوعًا من الاضطهاد.
السياق العام لاحتجاجات الريف 2016 – 2017
تشير بعض الدراسات إلى أن موجة الحركات الاحتجاجية الحالية التي انطلقت منذ 2011 تنزع عنها أية صبغة إيديولوجية؛ بينما في المقابل تتخذ التاريخ والنضالات الوطنية والاجتماعية السابقة مرجعًا لها ولشعاراتها. على سبيل المثال، ارتبط «الحراك الجزائري»، الذي يصرح أنصاره بأنه نضال من أجل الكرامة، بفترة النضال الوطني من أجل إنهاء الاستعمار. كما يحيل شعار «No son 30 pesos, son 30 años» «إنها ليست 30 بيزو، إنها 30 عامًا» الذي رفعه المحتجون في شيلي إلى معاناتهم من استمرار مخلفات الحكم العسكري بعد ثلاثين سنة من سقوطه، إذ تشير عبارة «30 بيزو» إلى تذكرة دخول مترو سانتياغو، التي فجرت الضغط الذي يعاني منه الشعب التشيلي، فيما تُحيل عبارة الثلاثين عامًا إلى الفترة التي تلت نهاية النظام العسكري والتي لم تحقق الأحزاب السياسية الديمقراطية خلالها أية تغييرات جوهرية، عدا مساهمتها في تكريس النموذج الاقتصادي الذي فرضته الديكتاتورية.[23] ويبدو أن الاحتجاجات التي شهدتها منطقة الريف لا تخرج عن هذا الإطار، فرغم أنها كانت احتجاجات ذات صبغة اجتماعية بالأساس؛ إلا أنها وجهت انتقادًا حادًا للطبقة السياسية وللأحزاب التي وصفتها ب «الدكاكين السياسية». كما أن مضمون الخطاب الاحتجاجي يوحي بارتباطها بمجموعة من الأسباب العميقة ذات الصلة بالذاكرة والتاريخ والتي غذت الاحتقان بالمنطقة على مدى عدة عقود من الزمن؛ إذ تميزت العلاقة بين الريف والسلطة المركزية بالتوتر والصدام على الأقل منذ نهاية القرن التاسع عشر. كما تشكل هذه الموجة الاحتجاجية امتدادًا لسلسلة الانتفاضات التي شهدها المغرب منذ الاستقلال حتى الآن. إذ شهدت المملكة سلسلة من الانتفاضات الكبرى، من بينها انتفاضة الريف 1958 – 1959، التي ارتبطت بتدبير مرحلة ما بعد الاستقلال، إذ تحدث دافيد هارت عن وجود حالة من عدم الرضا، من جانب الريفيين، عن زمن الاستقلال بسبب ما طالهم من تهميش وإقصاء وخيبة أمل في الأحزاب السياسية والحكومة المغربية التي لم يحصل فيها الريفيون ولو على منصب عامل إقليم،[24] وقد كان لهذه الانتفاضة تأثير واضح على احتجاجات 2016 – 2017، ثم تلته عدد من الانتفاضات الحضرية خلال سنوات 1965، 1981، 1984، و1990. وقد كانت انتفاضة 1984 التي اندلعت في سياق تداعيات سياسة التقويم الهيكلي، إحدى محطات التوتر الاجتماعي الكبرى في منطقة الريف. إذ اندلعت في البداية كحركة احتجاجية تلاميذية في عدد من المدن والمناطق المغربية، رافضة لمشروع القرار الحكومي القاضي بفرض رسوم للتسجيل في الباكالوريا وفي الكليات، ثم تحولت إلى مواجهات مع قوات الأمن، وقد نالت مدن الناظور والحسيمة النصيب الأكبر من القمع. ووثق تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة وفاة 46 فرد نتيجة الاستعمال المفرط وغير المتناسب للقوة من جانب القوات المساعدة والجيش والدرك أثناء التصدي لتلك الاحتجاجات، من بينها 16 في الناظور، 12 في الحسيمة، و13 في تطوان، فضلًا عن عشرات الجرحى والمعتقلين.[25] ومنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي أصبحت هذه الاحتجاجات تتكرر بوتيرة سريعة، لدرجة أنها أضحت تشكل ظواهر سوسيو- سياسية شبه مألوفة، منها ما يتمحور حول مطالب ذات بعد سياسي وحقوقي كالمطالبة بالديمقراطية وحقوق الإنسان ودعم الشعوب والدول العربية (فلسطين والعراق). وأخرى متمحورة حول قيم مادية كالبطالة، غلاء المعيشة، أزمة المواصلات، والسكن اللائق.[26] إلا أنها لم تصل لدرجة التعاقب الذي شهدته بعض الدول، مثل فرنسا التي شهدت وحدها خمسين انتفاضة خلال سنوات 1992، 1993، 1994.[27]
في هذه الفترة، دخل الاحتجاج المغربي مرحلة التنظيم السلمي في ظل تسارع التحولات السياسية الداخلية التي أفضت إلى المراجعة الدستورية لعام 1996، ودخلت المعارضة معترك الحكم من خلال المشاركة في حكومة التناوب التوافقي التي قادها الزعيم الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي. كما استفاد المد الاحتجاجي من غطاء الخطاب السياسي العالمي المرتكز على الديمقراطية وحقوق الإنسان، مما أدى إلى تهشيم ذلك الطوق الذي طالما فرضته أجهزة السلطة على المجتمع وعلى الفضاء العام في الماضي.[28] وفي سياق «الربيع العربي» الذي شهدته المنطقة العربية منذ أواخر سنة 2010، خرجت مظاهرات 20 فبراير الحاشدة في عدة مدن مغربية، رافعةً شعارات تطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ومحاربة مظاهر الفساد والاستبداد، ووضع حد للجمع بين السلطة والثروة، ووضع دستور جديد يؤسس للملكية البرلمانية. وهي المطالب التي تفاعل معها الخطاب الملكي في 9 مارس 2011، ما أفضى لإقرار دستور 2011. وفيما أسفر هذا التفاعل عن خفوت الاحتجاجات، وشل قدرة الحركة على إنضاج مبادرة سياسية تدفع بها نحو الأمام،[29] فضلًا عن وجود عوامل أخرى مرتبطة بالهشاشة التنظيمية والسياسية لحركة 20 فبراير، والتي تجلت في عجزها عن إدارة الخلافات الإيديولوجية بين مكوناتها، وفي الصراع على الزعامة؛ فإن ذلك لم يحد من استمرار حركة الاحتجاجات المناطقية والفئوية. فقد شهدت منطقة الريف عام 2012 حراك بني بوعياش، الذي شكَّل أحد تجليات استمرار حركة 20 فبراير نفسها، كما أن أغلب نشطاء حراك الريف بمن فيهم «ناصر الزفزافي» كانوا من نشطاء حركة 20 فبراير. وفيما ظلت الأحداث الدامية لليوم الأول من تظاهرات 20 فبراير بالحسيمة –والتي أدت لوفاة خمسة شبان حرقًا داخل مقر وكالة بنكية بمدينة الحسيمة– تمثل شرارة خامدة تنتظر أي حادث لتبرز من جديد؛ فقد جاءت الوفاة المأساوية لـ «محسن فكري» في 28 أكتوبر 2016، واندلاع احتجاجات حراك الريف لتنبعث من جديد، ويتم إدراجها ضمن الوثيقة المطلبية لحراك الريف، بالكشف عن مآل التحقيق في ملف الضحايا الخمس لأحداث 20 فبراير 2011، كما تم توظيف هذا الحادث أيضًا في التعبئة والحشد للاحتجاج من جانب نشطاء الحراك.
منهجية الدراسة
تحلل هذه الورقة العوامل التي ساهمت في تشكّل الاستعداد للفعل الاحتجاجي إبان حراك الريف المغربي (أواخر 2016 – 2017)، وذلك من خلال توظيف براديغم الاعتراف عند كل من أكسيل هونيث (Axel Honneth)، و نانسي فريزر (Nancy Fraser)، وعبر تحليل الخطاب الاحتجاجي للحراك وشعاراته، ورصد مطالبه. فمطالب هذه الحركة الاحتجاجية، وإن كانت تندرج ضمن مصفوفة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلا أنها مفعمة أيضًا بقيم رمزية هي بمثابة صرخة من أجل الاعتراف الذي يشكل أحد عوامل توليد الأزمات وفق تصور هونيث، والذي يرى أن تدبير التوترات الاجتماعية يقتضي تبني سياسات اعتراف رمزية تعزز الثقة لدى المجتمع.[30] في السياق نفسه، تؤكد فريزر على ضرورة الربط بين الاعتراف بالقيم الرمزية والتوزيع العادل للقيم المادية.[31]
توظف الدراسة المنهج الوصفي التحليلي في تتبع وتحليل مسار الحركة الاحتجاجية بالريف، مع الاستعانة بمنهج تحليل المضمون لتحليل الخطاب الاحتجاجي وشعاراته ومطالبه. كما تم الاعتماد على تقنية الملاحظة بالمشاركة، إذ واكب الباحث جل أطوار الاحتجاجات في مدن الحسيمة والناظور والعروي، إما بالحضور الميداني أو بالتتبع عبر منصات التواصل الاجتماعي التي كانت تنقل المظاهرات والأحداث المرافقة لها بتقنية المباشر عبر الفيسبوك. بالإضافة إلى الرجوع إلى خطابات الناشط «ناصر الزفزافي» على اليوتيوب، باعتباره كان شخصية مؤثرة في القيادة وفي التعبئة والحشد.
دور القيادة ومضمون الخطاب في التعبئة للاحتجاج
برزت القيادة وكاريزما القائد كعامل مؤثر في احتجاجات حراك الريف، وعززها مضمون الخطاب الذي ساهم في التعبئة والحشد للاحتجاجات.
دور القيادة في التعبئة
في ظل توفر وسائط التواصل الرقمي مع الجماهير، برز «ناصر الزفزافي» كشخصية قيادية تمتلك كاريزما خاصة جعلت الناس يلتفون حوله لقدرته على التعبير عن مطالبهم والتحدث بلسان حالهم؛ إذ تستند زعامة ناصر الزفزافي إلى ثلاثة عناصر:[32]
أولًا، الخطاب البسيط والمبسط الممزوج بالجرأة. إذ أظهرت قيادة الحراك على قوة الإرادة والعزيمة والاستعداد للتضحية دفاعًا على الملف المطلبي المسطر، وباعتماد اللغتين الأمازيغية والعربية لإيصال صدى الحراك إلى مختلف مناطق المغرب، وهو ما أكسبه تعاطفًا واسعًا، وبدد التردد والمخاوف التي انتابت بعض الشرائح المجتمعية للوهلة الأولى.
ثانيًا، غياب مرجعية محددة في الخطاب. ما يتضح في الاستحضار العفوي والفطري للمرجعية الدينية دون أي تبني سياسي لها، من خلال الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، واستحضار الخليفة عمر بن الخطاب كمثال في الشجاعة والعدل، ثم انتقاله بتلقائية وعفوية كبيرتين من خطاب ديني إلى خطاب سياسي يساري عفوي هو الآخر بدون مصطلحات كبيرة أو تنظير أو إيديولوجيا.
ثالثًا، استحضار الإرث التاريخي لمنطقة الريف بحمولاته البطولية والرمزية، وبما يوقظه من إحساس بالظلم والتهميش من طرف الدولة من جهة ثانية. من خلال حضور الزعيم التاريخي محمد عبد الكريم الخطابي في كل الخطابات المباشرة سواء بصيغة لفظية، أو من خلال الصورة التي تؤثث الغرفة التي كان يبث من خلالها أهم خطاباته باعتماد تقنية المباشر على الفيس بوك.
إن أهم ميزة طبعت عنصر القيادة في حراك الريف، من خلال استحضار براديغمات النظرية الرمزية التفاعلية، هي القدرة على الجمع بين السمات الشخصية للقائد، والمقومات الأساسية لنظرية الموقف ببعدها التفاعلي، أي الجمع بين السمات والموقف؛ فقيادة حراك الريف تبدو متمركزة حول الجماهير وتؤثر فيها اعتمادًا على أشكال مختلفة من التعبئة ووسائل الإقناع، في إطار من التفاعل الإيجابي بين سمات وصفات القائد، وعناصر الموقف، وخصائص الجماهير المحتجة بمختلف اتجاهاتها، مما أضفى على هذه القيادة قدرًا كبيرًا من الفعالية والتميز.[33]
مضمون الخطاب الاحتجاجي
الاحتجاج هو قول تعبيري، لا يكتفي بالقول فقط، وإنما يعبر عن تسجيل موقف من وضع ما. إذ لا تكاد واقعة الاحتجاج تنفصل في طرحها عن معنى الموقف والقضية، ولذا تأتي كممارسة للقول المعبر عن موقف.[34] ومن هذا المنطلق فالشعار الاحتجاجي متى توفق في اختيار الكلمات المناسبة، واتصف بالصياغة الجيدة الحاملة للمعاني المترجمة لشعور الجماهير؛ صار وسيلة تعبير جماهيرية متكاملة ومركزة.[35]
إن منتجي الشعارات ومروجيها في حالة حراك الريف هم النشطاء الشباب المتعلمون، ومنهم نسبة مهمة استفادت من المشاركة في احتجاجات حركة 20 فبراير عام 2011، ومنهم أيضًا من كانت له تجربة في الحركة الطلابية بالجامعة. فضلًا عن منتمين إلى بعض التيارات الثقافية، لاسيما الحركة الثقافية الأمازيغية، غير أن أغلبهم مستقلون عن أي انتماء أو لون إيديولوجي. وحمل نشطاء حراك الريف على عاتقهم مسئولية تجميع المطالب وتسطيرها في وثيقة مطلبية معبرة عن القيم التي تتطلع إليها ساكنة المنطقة. معتمدين على مقاربة تشاورية – تشاركية من خلال فتح نقاشات عامة، مع الساكنة على مستوى مدينة الحسيمة وما حولها، بما فيها مناطق تشكل امتدادًا ترابيًا لإقليم الدريوش.[36] وإثر ذلك، أعلنت لجنة الإعلام والتواصل قائمة تضمنت واحدًا وعشرين مطلبًا، مصنفةً إلى مطالب حقوقية وقانونية واجتماعية واقتصادية وإدارية. وبالإضافة إلى الوثيقة المطلبية المكتوبة، تجسدت تلك المطالب أيضًا في صورة شعارات ترفع أثناء التظاهرات الاحتجاجية، ووسوم إلكترونية (هاشتاغ) على شبكة الفيسبوك، وهو ما يؤكد ما ذهب إليه شارلز تلي بأن المطالب الشعبية من جانب الحركات الاجتماعية لم تعد تصوغ مطالبها بالشكل الذي كان متعارفًا عليه سابقًا، في ظل ظهور أشكال جديدة من العمل الجماهيري المعتمدة على الوسائط الرقمية الإلكترونية كبديل متاح وغير مكلف، وكفء.[37]
إن القراءة المتمعنة في شعارات احتجاجات حراك الريف توحي بدلالات عميقة؛ فشعار «سلمية سلمية لا حجْرة لا جنْوية»، ومعناه «احتجاجاتنا سلمية لا حاجة لنا لحجر ولا لسكين»، يؤكد على تشبث المحتجين بسلميتهم، وهو الشعار الذي كان يُرفع بحماس كبير كلما تحركت سيارة للأمن، أو خرج صوت نشاز أراد نسف الحراك.[38] كما كان يتضح كذلك في تشكيل سلاسل بشرية لحماية المنشآت العامة والمؤسّسات. أما شعار «الشعب يريد إسقاط الفساد» و«الشعب يريد إسقاط الاستبداد»، والذي تمت استعارته من الثورة التونسية التي رفعته أول مرة، وبات لا يفارق كل حركة احتجاجية بالمغرب مهما كان نوعها وحجمها، فإنه يمتلك دلالة عميقة؛ فهذا الشعار جاء في شكل جملة خبرية إسمية تفيد التجدد. فالجملة تبتدئ باسم هو «الشعب»، وهو المبتدأ «الفاعل»، صاحب السلطة والقرار والسيادة الحقيقية، ثم يأتي الفعل المضارع «يريد»، الذي يفيد التجدد والتطلع إلى التغيير،[39] والذي يتمثل هنا في إسقاط الفساد وإسقاط الاستبداد؛ فالفساد والاستبداد هما مكمن الداء بالنسبة للجماهير، ولن تستقم الأمور –في نظرهم– بدون إنهاء هذا الوضع، والانتقال إلى دولة الحق والقانون واحترام كرامة الناس. وباستحضار البعد التاريخي الذي يحمله حراك الريف، فإننا نجد البذور الأولى للاحتجاج الكامنة في هذا التاريخ حاضرة بقوة من خلال شعارين «هل أنتم حكومة أم عصابة؟»، وهي العبارة التي تعيد استحضار تاريخ التوتر بين المقاومة وحكومة الاستقلال. هذا التوتر الذي شكّل –في اعتقاد المحتجين– السبب الرئيسي في التهميش والإقصاء الذي تعرضت له منطقة الريف لعقود من الزمن. أما شعار «الموت ولا المذلة»، فإنه لا يعني الرغبة في الموت بقدر ما يعبر عن التشبث بالحياة الكريمة، وهو مستوحى من إحدى رسائل محمد بن عبد الكريم الخطابي التي جاء فيها «ولنطلب الموت لتوهب لنا الحياة».[40] كما يبدو أن التسلط والعنف –اللذان مارستهما الدولة على منطقة الريف– حاضران بقوة في شعارات الحراك، ولعل ما يستوقف المرء في هذا الصدد، شعار «عاش الشعب عاش.. الريف ماشي (ليس) أوباش»، فإذا كان الشطر الأول من الشعار هو امتداد لأحد الشعارات المركزية لحراك 20 فبراير، «عاش الشعب»، والذي يسعى لكسر ذلك الربط النمطي بين كلمتي «عاش» و«الملك»؛ إذ ألف الناس عبارة «عاش الملك»، وإدراج عنصر آخر منافس وهو «الشعب»، باعتباره صاحب السلطة الأصلية في أنظمة الحكم الديمقراطية. أما الشق الثاني من الشعار «الشعب ماشي (ليس) أوباش»، فإنه يستدعي لحظة حرجة أخرى من لحظات التوتر الشديد بين الريف والسلطة المركزية، والتي وصلت حد إهانة الساكنة في خطاب رسمي، مما ترك ندوبًا لدى أجيال لم تعاصر الحدث.[41] ويعبر استحضار هذه الأحداث، التي تمثل محطات توتر مؤلمة بالنسبة لساكنة منطقة الريف، أن مخرجات هيئة الإنصاف والمصالحة، خاصة على مستوى جبر الضرر الجماعي، وطي صفحة الماضي المؤلم،[42] لم تحقق مبتغاها. وبرزت شعارات جديدة أثناء الاحتجاجات كشعار «بيك يا وليدي» المليء بالدلالات التي تعبر عن حجم التناقض الصارخ والمنافي للمنطق السليم، بين الخطاب الحداثي الذي يتم ترويجه تنمويًا وحقوقيًا، وبين الممارسة الفعلية التي تكرس السلطوية والقمع والمنع.[43] واقتناعًا منهم بعدم تحقق أي مصالحة تاريخية حقيقية مع الريف؛ فلازال الوعي الجمعي لشباب الحراك يشبه جهاز السلطة –الذي يُعبَّر عنه في المغرب بـ «المخزن»– بالأفعى التي لا يؤتمن شرها ولا يمكن الوثوق بها، وهو ما يعكسه «أرمخزن أحكار، أعديس أوفيغار»، وهو شعار باللغة الأمازيغية الريفية ويعني «المخزن المتسلط.. كبطن الأفعى».
وباستقراء الشعارات التي رفعت خلال احتجاجات حراك الريف يتضح أنها في مجملها كانت مطلبية متمحورة حول قيم العدالة والحرية والاعتراف بتاريخ منطقة الريف وهويته، وتنشد محاربة مظاهر الفساد التي تشكل عائقًا أمام كل تنمية اقتصادية واجتماعية من شأنها أن تُخرج المنطقة من تأخرها التنموي. لذلك فإن مضامين تلك الشعارات كان لها دور كبير في بث الحماس وسط المحتجين، ومثّلت أداة فعالة للتعبئة والحشد من أجل مواصلة الاحتجاجات، ما يفسر استمراريتها بالزخم والحماس الجماهيريين نفسهما لأكثر من سبعة أشهر، ولم تتوقف سوى بعد لجوء السلطات العمومية لاستعمال القوة بحق المحتجين واعتقال قادة الاحتجاجات.
احتجاجات الريف بين خطاب المظلومية ومطلب الحق في الاعتراف
تتواجد في سيكولوجية الإنسان الريفي تراكمات لمحطات الاضطهاد المتعاقبة على منطقة الريف، والتي وإن كانت بدون بداية محددة؛ إلا أنها ترتبط ببعض الأحداث المفصلية، فنشطاء الحراك يستحضرون «الحملة التأديبية» التي قادها مبعوث السلطان «بوشتى البغدادي» ضد قبيلة «بقيوة» عام 1898، وارتكب خلالها مجازر بشعة في عدد من المناطق كأجدير والرواضي. تم التنكيل بالشيوخ والنساء والأطفال، كما أباد أعيان القبيلة بالمكر والخداع وهم يقيمون الصلاة، ولم تسلم حتى الأضرحة من بطشه.[44] وتتوالى المآسي المؤلمة من خلال الجرائم التي اقترفها المستعمر عندما تم قصف المنطقة بالغازات السامة والتي لا تزال مخلفاتها تشكل وبالًا على الأرض والإنسان. وغداة الاستقلال تعرضت منطقة الريف لانتهاكات جسيمة أثناء انتفاضة 1958 – 1959، إذ واجهتها الدولة بالجيش، والذي استخدم جميع أشكال العنف المادي والرمزي بحق ساكنة المنطقة.[45] وتواصلت محطات التوتر مع انتفاضة يناير 1984، وما ترتب عن قمعها من اعتقالات ومقابر جماعية كشفها تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة. إلى جانب كل ذلك، جاءت حادثة وفاة خمسة شبان حرقا سنة 2011، والتي سجلها القضاء ضد مجهول، فضلًا عن حوادث الإجهاز على الحق في الحياة التي تعرض لها المواطنان محسن فكري وعماد العتابي، واعتقال العشرات من الشباب والحكم عليهم بسنوات طويلة من السجن. كل هذه الأحداث حين يتم ربطها بمظاهر التهميش والإقصاء يطفو نحو السطح شعور رهيب بالظلم (أولًا)، ورغبة جامحة من جانب المحتجين في التحرر ورد الاعتبار، ليصبح الحق في الاعتراف مطلبًا للمحتجين (ثانيًا).
الشعور بالظلم كمورد للتعبئة ودافع للاحتجاج
الحياة البشرية هي مسرح للصراعات بين مصالح الأفراد والجماعات، وتخلف بالضرورة ضحايا ومظلومين. وهو ما يقود الفئات التي تشعر بالظلم إلى الثورة والاحتجاج، واكتساح الفضاءات العامة من شوارع وساحات، مستهدفين نقل صبرهم وتذمرهم وشكواهم من الحيز الخاص بهم إلى الفضاء العام، وهو ما يعد خروجًا، من جانب الجماهير، عن قواعد اللعبة السياسية المألوفة التي رسمتها الأنظمة السلطوية[46]، والبحث عن وضع قواعد جديدة تراعي تحقيق مصالحهم.
إن خروج شباب الريف لساحات الاحتجاج كان بهدف دفع ما يعتبرونه ظلمًا لحق بهم جراء السياسات المتعاقبة، وللمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وشكلت شبكة العلاقات الاجتماعية التي تربط المحتجين موردًا مهمًا للدفع نحو الانخراط في الحركة الاحتجاجية التي وجدت البيئة الملائمة لضمان تماسكها وتنسيق حركتها. كما ساهمت شبكة العلاقات الاجتماعية في امتداد الاحتجاجات، وإن كان ذلك بزخم أقل، نحو الإقليمين اللذين يشكلان الامتداد المجالي للهوية الاجتماعية نفسها: إقليمي الدريوش والناظور. بل ووصل صداها إلى الجالية المغربية المنحدرة من منطقة الريف والمقيمة في مختلف الدول الأوربية، وهو ما يدعم الطرح القائل بأن الاحتجاجات يمكن أن تكون نتيجة تعبئة اجتماعية ترتكز على التضامن الاثني أو المجالي.[47]
لقد رسخت شبكة العلاقات الاجتماعية لدى المحتجين قناعة بأن معاناتهم هي نتاج ظلم قائم وليست حالة طبيعية أو مجرد معطى اجتماعي. وهو ما يتجلى في الإفراط في ترديد خطاب المظلومية من جانب النشطاء، لاسيما في بعدها التاريخي.[48] إذ يُلاحظ المتتبع الاستحضار المكثف للماضي من جانب نشطاء الحراك بكل ما يحمله هذا الماضي من أمجاد يرى المحتجون أنها لم تحظ بالتقدير والاعتراف اللازمين من جانب الدولة خلال مرحلة الاستقلال. وتتجلى تلك الأمجاد بالأساس في الانتصارات التي حققها الريفيون أثناء مقاومتهم للاستعمار الإسباني، والتي تتجلى في انتصار معركة «إغزار نووشن»، أو معركة «واد الذئب» قرب مليلية بقيادة الشريف محمد أمزيان عام 1909، والانتصار في معركة أنوال عام 1921 بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وما أعقبها من توحيد لقبائل الريف ووضع الأسس التنظيمية لإدارة المنطقة. أيضًا يتم استحضار الماضي المرتبط بالنكبات والجراح التي يأبون نسيانها، لاسيما العنف المفرط التي تعاملت به الدولة مع المنطقة في 1958 – 1959، وكذلك خلال أحداث 1984. ويتم ربط هذا الماضي بواقع الإقصاء والتهميش والقمع المسلط على المنطقة، مما يؤدي لتشكل هوية تعبوية متماسكة، تنسج علاقة ترابط وتفاعل بين الماضي والحاضر لتكريس استمرارية نوع من شبه القدرية والحتمية التاريخية لتوالي النكبات والانكسارات، بشكل يؤدي للسقوط في سيكولوجية الضحية،[49] ويذكي النزوع نحو الفعل الاحتجاجي.
كما ارتبطت احتجاجات حراك الريف أيضًا بواقع موسوم بخصوصية ثقافية تستمد مشروعيتها من التنظيم الاجتماعي المتميز بآلية التضامن الآلي، والتي تفسر طرق التعبئة ودينامية اشتغالها. وتعكسه أيضًا شعارات الحراك وسلوك المحتجين؛ إذ نجد المطالب الاقتصادية والاجتماعية المقترنة بخطاب المظلومية التاريخية قد شكلت عاملًا معبئًا في سياق موسوم بالزمن الاحتجاجي. وهو ما يمكن رصده من خلال خطاب المحتجين وشعاراتهم المؤطرة بمصطلحات من قبيل التهميش والحكرة والعسكرة، ومنصهرة داخل قالب مفاهيمي ساهم في التجذر الاجتماعي للاحتجاج. إن حضور المظلومية في حراك الريف يتخذ ثلاثة أبعاد على الأقل:
المظلومية التاريخية: تتميز منطقة الريف بوجود استعداد جمعي متجدد للانخراط في الغضب الاجتماعي، ويستمد هذا الاستعداد بعضًا من ديناميته الخاصة من الاستحضار المعرفي والوجداني المستمر لما تعرضت له المنطقة من انتهاكات جسيمة عبر التاريخ، وبشكل أخص أثناء الفترة الاستعمارية التي تكالبت فيها القوتين الاستعماريتين الإسبانية والفرنسية لسحق المقاومة الريفية سنة 1926، مستخدمة في ذلك أسلحة فتّاكة لاتزال آثارها المدمرة تؤثر على الأرض والإنسان. كما أن العنف الذي مارسته السلطات المغربية في مرحلة الاستقلال بحق ساكنة الريف ترك ندوبًا عميقة في ذاكرتها، وخلف لديها إحساسًا عميقًا بالظلم. وهو ما يسفر عن اللجوء إلى تبجيل التاريخ لأهـداف وغايات سيكولوجية سرعان ما تنتج ذاكرة جمعية تأبى النسيان، وتميل أكثر للاحتجاج الخفي أو العلني، وهي خاصية مميزة لمنطقة الريف عن غيرها من المناطق التي تعرضت ذاكرتها للإقصاء والتهميش نفسهما.[50]
المظلومية المرتبطة بالكرامة: تتجلى هذه المظلومية في الاستعمال المتواتر من جانب الشباب للفظ «الحكرة» الذي يعني نقيض الكرامة، ويعبر عن أن المجتمع لا يقدرهم أو يمنحهم المكانة التي يستحقونها، وهو ما يجعل من «الحكرة» عملا تعبويًا وخطوة أولى نحو التمرد.[51] لقد ساهمت السياسات المطبقة في منطقة الريف في تكريس الإحساس بالظلم و”الحكرة”، ما يتجلى في المقاربة التي لجأت إليها السلطات لكبح المد الاحتجاجي لحراك الريف، عبر تجييش الأحزاب السياسية المشكلة للحكومة لاتهام النشطاء بالانفصال وخدمة الأجندات الأجنبية.[52] فضلًا عن توظيف رجال الدين للانخراط في مهاجمة الحراك ونشطائه،[53] بالإضافة إلى تشكيل وسطاء والدعوة لتظاهرات مضادة.
المظلومية المرتبطة بالمطالب الاجتماعية: يشكل إدراك اللاعدالة البنيوية في تدبير الثروة أحد أهم العوامل المساهمة بشكل مباشر في إذكاء مشاعر الحرمان والإحساس بالغبن التنموي لدى الشباب في منطقة الريف، وهو ما يؤدي بدوره لزيادة منسوب الحس الاحتجاجي بهذه المنطقة. ويزداد الإحساس بالظلم الاجتماعي حينما يتم ربطه بالدور السلبي الذي مارسته الدولة في خلق اقتصاد هامشي في المنطقة كسياسة «عقابية» لها، في وقت ما، إذ تم تجاهلها ثم التخلي عنها وعدم الاهتمام بها لردح من الزمن.[54] وهذا ما أسفر عن تشكل اعتقاد بأن منطقة الريف كانت ضحية غياب إرادة التغيير والتنمية، مما ترك الساكنة المحلية عرضة لأشكال مختلفة من الفقر والحرمان. ولابد من الإشارة هنا إلى أن تنامي مشاعر الحرمان لدى ساكنة الريف لا ينبعث من حجم الخصاص الاجتماعي والاقتصادي الذي تعانيه المنطقة فحسب؛ وإنما تحكمه أيضًا الأبـعـاد السياسية لتوزيع الثروة على المستوى الوطني، في ظل إدراك أن تردي الأوضاع الاجتماعية مرتبط بطبيعة السياسات التمييزية المتعلقة بالاستفادة من الموارد الاقتصادية والسياسية. ومن هنا فإن الإحساس بالإكراه الاقتصادي المؤسس على مشاعر اللاعدالة السياسية، يغذي دافعية السكان للاحتجاج.
كذا فإن التنشئة السياسية الأسرية العابرة للأجيال تشكل ركنًا هامًا في الثقافة السياسية للريف، وما أفرزته من تنامي الوعي في صفوف الأجيال بغياب العدالة في جميع أبعادها المجالية والسياسية، وتجذر الإحساس بالظلم المسلط على الإنسان والمجال والتاريخ، وتجلياته المتمثلة في الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي وتهميش اللغة والتاريخ المحليين. كل هذا يشكل معطى غير خفي عن أنظار المراقبين للعناصر الثابتة في الثقافة السياسية للريف، إلى جانب الذاكرة الجمعية المرتبطة بالماضي والأكثر ميلا للمقاومة السياسية الخفية أو العلنية حسبما تقتضي الظروف.[55]
البحث عن الاعتراف كدافع إلى الاحتجاج
من هذا المنطلق النظري نجد أن احتجاجات الريف وإن احتوت على مطالب اقتصادية واجتماعية، فإنها في عمقها كانت بمثابة صرخة من أجل الاعتراف.[56] لقد شكل مطلب الاعتراف عنصرًا معبئًا للاحتجاج ضد الظلم وما ينطوي عليه من إذلال وانتهاك للكرامة، وإعادة الاعتبار لذاكرة الريف والعمل على إدماجها في ذاكرة وطنية شاملة؛ إذ لن تتحقق المواطنة الكاملة سوى بالاعتراف بأصالة المواطن وبانتمائه العلني إلى الجماعة.[57] وبشكل عام، فإن إثارة الحاجة إلى الاعتراف بذاكرة الريف التاريخية وخصوصيته الهوياتية؛ شكل مخزونًا لتغذية الفعل الاحتجاجي. كما يتضح حضور العنصر الرمزي، أو ما يمكن التعبير عنه قانونيًا برد الاعتبار، في احتجاجات الريف من خلال الوجود المكثف للرموز المتصلة بالهوية والذاكرة المحليتين في مختلف المسيرات والتظاهرات والشعارات والأشكال التواصلية للحراك (صور زعيم المقاومة الريفية محمد بن عبد الكريم الخطابي، علم «جمهورية الريف» إبان مقاومة الاستعمار الإسباني، علم تامزغا). لقد شكلت هذه الرموز مواردًا لتعبئة المحتجين في سعيهم نحو تحصيل الاعتراف كقيمة رمزية ضرورية تعيد لهم ولهويتهم الاعتبار، وذلك بالنظر إلى العلاقة القائمة بين الاعتراف والهوية، باعتبار هذه الأخيرة تتشكل جزئيًا بالاعتراف أو بغيابه، وكذلك بالإدراك الخاطئ أو السيئ الذي يملكه الآخرون عن تلك الهوية.[58] لذلك، فإن عدم الاعتراف أو الاعتراف غير المطابق أو المشوه يمكن أن يعد ظلمًا، وقد يشكل نوعًا من الاضطهاد.
يعتقد المحتجون أن المدخل الأساسي للمصالحة الحقيقية مع الريف، ينطلق من إعادة الاعتبار لساكنته ولتاريخها وهويتها وذاكرتها الجماعية، وإرساء سياسات اعتراف حقيقية تزرع في نفوس شباب المنطقة الإحساس بالكرامة. كانت هناك مؤشرات في هذا الاتجاه منذ تولي الملك محمد السادس الحكم، إذ انطلقت دينامية المصالحة مع منطقة الريف، بزيارة الملك للمنطقة عام 2000، وأعقبتها زيارات أخرى حملت معها العديد من المشاريع التنموية التي كسرت العزلة عن المنطقة (الطريق المداري المتوسطي، المحطة بالحرية بالحسيمة، الربط السككي بين الناظور وخط وجدة – فاس، بعض مؤسسات التعليم العالي، مشاريع التأهيل الحضري). كما أن زيارة الملك للحسيمة في أعقاب زلزال 2004، ونصب خيمته وسط الساكنة، وإلقاء خطاب 25 مارس 2004 بالحسيمة والذي جاء فيه: «من منطلق منظورنا الاستراتيجي للقضايا الكبرى للأمة، فقد أصدرنا تعليماتنا للحكومة، قصد الانكباب الفوري على إعداد مخطط تنموي مندمج وهيكلي، على المدى المتوسط والبعيد من أجل تأهيل إقليم الحسيمة، وإعمار منطقة الريف».[59] وقد رسخ هذا السلوك انطباعًا إيجابيًا لدى ساكنة المنطقة، إذ تطرقت التقارير الإعلامية الوطنية والأجنبية في عدة مناسبات إلى أجواء المصالحة التاريخية بين الريف والدولة.[60] فضلًا عن أن تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة يعد تعبيرًا عن إرادة الدولة في طي صفحة الماضي الأليم. لكن يبدو أن هذا المجهود لم يفلح في تحقيق العدل بمفهومه الواسع، الذي يتضمن أيضًا الرأسمال الرمزي، بمفهوم بيير بورديو، والذي يتجلى في التقدير والاحترام والاعتراف والإيمان بالآخر، واكتساب ثقة الآخرين.[61] ومن هذا المنطلق فالمقاربة القائمة على التنمية الاقتصادية التي لا تؤسس للاعتراف لن تكون كافية لتطبيع العلاقة بين منطقة الريف والدولة المغربية لأنها لا تزال مقاربة تتصف بالاختزالية، وتفتقد للقدرة على فهم القضايا ذات الطبيعة الرمزية وأهميتها في حياة الإنسان.
إن التركيز على مطلب الاعتراف في بناء الثقة بين الدولة وحراك الريف ليس ترفًا فكريًا، وإنما يعد قيمة حقوقية يتعين احترامها. فحسب أكسيل هونيث، يعد الحق الذي يقابله الاعتراف القانوني، والذي يمنح المرء مكانة الشريك المتفاعل والمتمتع بكافة حقوقه مثل غيره من الشركاء، أحد النماذج المعيارية المميزة للاعتراف.[62]. فإذا كان مفهوم العدل كقيمة حقوقية، وخاصة العدالة التوزيعية، يجد سنده القانوني في العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ فإن مفهوم الاعتراف يؤدي لوصف وتشخيص مختلف حالات الظلم والجور والذل والإقصاء التي تعد انتهاكًا لكرامة الإنسان، ومن ثم العمل على وقفها وعدم تكرارها. إن الحضور المكثف لمطالب الهوية والذاكرة يعد مؤشرًا على حاجة شباب حراك الريف لسياسة اعتراف من جانب الدولة لتدارك الفشل الذي كشفت عنه مخرجات هيئة الإنصاف والمصالحة، حينما غيّبت الملفات الساخنة من علاقة الريف بالدولة، كانتفاضة 1958 – 1959، عن تقريرها النهائي، واقتصرت على معالجة أحداث الفترة الممتدة بين 1965 و 1999،[63] الأمر الذي يمثل فشلًا في إعادة الاعتبار الرمزي لتاريخ المنطقة. كذا فإن توصيات جبر الضرر الجماعي، والتي تستهدف ترميم الذاكرة الجماعية للريف؛ كإنجاز دراسة أكاديمية حول أحداث 1958 – 1959، واستحداث مركزًا لأبحاث محمد بن عبد الكريم الخطابي، وإنشاء متحف تاريخي بالريف، وإعادة كتابة تاريخ المنطقة؛ كلها لم يتم تنفيذها، وكأن الحقيقة التاريخية تأبى المصالحة.[64] وقد يكون المجلس الوطني لحقوق الإنسان قد انتبه لتقصيره في تتبع توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة ذات الصلة بمنطقة الريف، حينما صرح في تقريره الصادر بشأن احتجاجات الريف: «إن حضور مطالب الذاكرة والهوية، التي ميزت، في جزء لا يستهان به، مطالب الاحتجاجات تساءل المجلس بقوة، نظرًا لمهمته المتعلقة بمتابعة تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، ولكن أيضًا نظرًا للأبعاد غير المسبوقة لما وقع بالحسيمة ونواحيها».[65]
الشباب والوسائط الرقمية كموارد للتعبئة الاجتماعية
قبيل اندلاع احتجاجات الريف، كانت غالبية المعطيات المرتبطة بالحياة السياسية تؤكد على فقدان الشباب للثقة في المؤسسات وهيئات الوساطة من أحزاب ونقابات وجمعيات مدنية، والتي لديها إمكانية لعكس مطالبه والتعبير عنها. ومن ثم فإن لجوئه للفضاء العمومي يحمل معنيين: يشير الأول إلى عجز هذه المؤسسات، التي أصبح ينظر إليها باعتبارها مترهلة وعاجزة عن حمل هموم الشباب والترافع عن مطالبه. فيما يتمحور المعنى الثاني حول أن وعي جيل الشباب بضرورة مشاركته في الحياة العامة، عبر السعي نحو دمقرطتها، لا يمكن أن يتحقق سوى عبر تجاوز الأجيال السابقة.[66] وهو ما دفع الشباب في منطقة الريف، باعتبارهم قوة تعبوية في الحراك (أولًا)، إلى العودة إلى الشارع العام للاحتجاج. معتمدين على الوسائط الرقمية، بوصفها فضاءً عموميًا، في التعبئة (ثانيًا) للتعريف بمطالبهم المتمحورة حول الحق في العيش الكريم، وحرية التعبير، والحق في الاختيار، والمواطنة، والهوية، ومحاربة الفساد والرشوة، وتحقيق العدالة الاجتماعية
الشباب قوة تعبوية في الاحتجاجات
أظهرت الممارسة السياسية على مدار العقود الخمسة الأخيرة، أن التصويت في الانتخابات لم يعد يمثل النمط الوحيد من أنماط المشاركة السياسية. والتي أضحت تتم من خلال أنشطة مباشرة ومظاهرات وعرائض. وتميزت الحركات التي تتبنى هذه الأنماط الجديدة من المشاركة بكونها أكثر انفتاحًا من القوى السياسية التقليدية، إذ أنها توحد أنصارها من خلال الاهتمام المشترك ولا تلتفت إلى الأيديولوجية السياسية.[67] وحتى نهاية الستينيات، كان الاعتقاد السائد في أوربا هو أن الشباب يفتقرون للمهارات أو النضج اللازمين للانخراط في الحياة السياسية. إلا أن هذا الاعتقاد سرعان ما اختفى، وبدأت تُمنح للشباب فرص للمشاركة السياسية، بل وحتى المشاركة في عمليات صنع القرار. ويعتقد بعض الباحثين أن هذا التغيير جاء نتيجة حركات الاحتجاج الكبرى التي قادها الشباب الأوروبي في نهاية ستينيات القرن الماضي، والتي أظهرت أن السياسات الرسمية –في كثير من الأحيان– لم تعكس اهتمامات الشباب. ومنذ ذلك الحين، شرعت السلطات السياسية في الإنصات لآراء الشباب والتفاعل مع احتياجاتهم. من خلال خلق آليات للمشاركة كمنتديات الشباب، ومجالس الشباب الوطنية، وبرلمانات الشباب وغيرها من أشكال المشاركة السياسية للشباب.[68] وفي المغرب، تميزت بداية التسعينيات بأزمات سياسية واجتماعية حادة ارتبطت بتداعيات سياسة التقويم الهيكلي، والتي أثرت على الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للطبقة المتوسطة والعمال. وخلف ذلك ردود أفعال سياسية ونقابية كان أبرزها الإضراب العام ليوم 14 ديسمبر 1990، والذي دعت إليه المركزيتان النقابيتين: الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، وشهد أحداث عنف دامية، مما دفع الدولة لاستشعار الخطر، والبحث عن آلية للوساطة بينها وبين الكتلة الحرجة في المجتمع. وهو ما قاد إلى استحداث المجلس الوطني للشباب والمستقبل، بمقتضى ظهير 20 فبراير 1991، وأُسندت رئاسته إلى الحبيب المالكي المنتمي إلى أكبر حزب معارض بالمغرب آنذاك، والمتمثل في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وعُهد إليه بصياغة ميثاق وطني لتشغيل الشباب وتنمية الموارد البشرية، وتضمن الميثاق ضرورة الحوار والتشاور والتفاوض والتعاقد والتضامن لتحقيق أهدافه.
من جانب أخر، أكدت الدراسات السياسية على تأثير الشباب في الحياة السياسية؛ إذ أولى عالم الاجتماع والسياسة الأمريكي جاك أ. گولدستون أهمية بالغة للفئة العمرية الشابة 15 – 29 سنة، في تفسير التحولات السياسية، وذلك من خلال بحث تأثيرها العميق على العلاقة التي تربط المجموعات الاجتماعية والنخب السياسية والاقتصادية في دولة معينة.[69] وفي المغرب أكدت الأبحاث والاستقراءات التي أُجريت حول النزوع السياسي لدى الشباب المغربي، أن الأغلبية الساحقة منهم لا يشعرون بأي تعاطف مع الأحزاب السياسية، بل إن 86 % منهم تحكمهم نظرة سلبية إزاء الفاعلين السياسيين.[70] وقد أثبتت الديناميات الاحتجاجية التي شهدها المغرب منذ حركة 20 فبراير إلى حراك الريف، امتلاك الشباب قدرة هائلة على المبادرة والفعل وتحفيز التغيير. وأظهرت مدى وعيهم بما تفرضه الأوضاع العامة القائمة من تحديات تنموية جسيمة. لذلك أعلنوا انتفاضتهم تجاه هذه الأوضاع، وطالبوا بتغييرها معتمدين في ذلك على استراتيجية الشارع للفت الانتباه إلى مطالبهم، وقيادة سلطة مضادة متجاوزة آليات الوساطة التقليدية. وعلى عكس التجربة الأوربية التي استوعبت، إلى حدما، مطالب الشباب وتفاعلت مع حركاتهم الاحتجاجية؛ يبدو أن المغرب، كبلد في طور التحول الديمقراطي، لازال يرى في المشاركة السياسية التقليدية المتمثلة في التصويت طريقة وحيدة لإشراك الشباب في الحياة العامة. في حين أنه في كثير من الأحيان، يُنظر إلى مجرد الاهتمام بالسياسة على أنه مؤشر جيد للمشاركة السياسية.[71] كما لازالت الدولة تنظر لاحتجاجات الشباب باعتبارها تهديدًا أمنيًا، وهو ما يجعل تدبيرها يتسم بتغليب المقاربة الأمنية.[72] إذ يُلاحظ أن السلطات، برغم إبداء التفاعل مع مطالب هذه الحركات؛ إلاّ أنها تقتصر في فتح قنوات الحوار والتواصل مع ممثلي الجماعات الترابية، حتى وإن كان امتداد وتأثير هذه الهيئات محدودًا، إن لم يكن منعدمًا. وتعجز عن قيادة الوساطة بين المحتجين والمؤسسات الرسمية. ولعل أهم مؤشر على هذا العجز، المبادرة التي قادها السيد إلياس العماري حينما كان رئيسًا لمجلس جهة طنجة تطوان الحسيمة أثناء احتجاجات حراك الريف. فرغم أنه نظم ملتقى حواري لبحث سبل معالجة الأزمة؛ إلا أنه فشل في إقناع نشطاء الحراك بمبادرته، رغم أنه يعد واحدًا من أهم نخب منطقة الريف، وعضوًا منتخبًا عن جماعة النكور، إحدى الجماعات التي تنتمي إلى جغرافية الاحتجاج بإقليم الحسيمة. في المقابل طالبت لجنة الإعلام والتواصل التي شكلها نشطاء الحراك، في بيان صدر يوم 7 فبراير 2017، بالحوار مع المسئولين، لكن السلطات لم تبد أي تجاوب مع ذلك المسعى.[73] وهو ما رأى فيه المحتجون استصغارًا لهم، رغم قدرتهم على تعبئة قرابة 150.000 محتج، وتأطيرهم خلال المظاهرات.[74] وفي السياق نفسه، زار وفد حكومي مدينة الحسيمة وعقد لقاءً تواصليًا موسعًا مع المنتخبين وممثلي المجتمع المدني والساكنة المحلية، في إطار تتبع سير المشاريع التنموية بالمنطقة؛ لكن غاب عن هذا اللقاء نشطاء الحراك المعنيون مباشرة بالحوار، وبالتالي لم يكن له أي تأثير على مسار الحركة الاحتجاجية. وتبرر السلطات عدم مبادرتها للحوار مع النشطاء بصعوبة فتح الحوار مع أي ناشط وإيجاد مخاطب رسمي قادر على الاستمرار في الحوار والالتزام بنتائجه، بسبب التهرب من تحمل المسئولية. إلا أن هذا المبرر يبدو متزعزعًا بالنظر إلى أن الحوار يستلزم الإعلان عنه بشكل رسمي وتحديد مهلة معقولة له لإفساح المجال أمام المحتجين من أجل تشكيل فريق الحوار وتدقيق المطالب وسقف الاستجابة…إلخ، وهو ما لم يحدث. وفي مقابل تهميش الشباب الذي يقود الحركات الاحتجاجية، وعدم الاعتراف بهذه الأخيرة كشكل من أشكال المشاركة السياسية؛ يتم اللجوء إلى القمع كوسيلة لإجبار المحتجين على الصمت.
فئة الشباب تشكل الكتلة السكانية الأكبر بالمغرب، وهي أيضًا الكتلة الحرجة. وفي الوقت نفسه، فإنها الأقدر على التواصل والحركة، كما أنها أيضًا الأكثر شعورًا بالحرمان. إذ أن معدل البطالة في صفوف الشباب بالمغرب يظل مرتفعًا، ويصل إلى 38.1 %لدى الفئة العمرية 15 – 24 سنة، و20.9% لدى الفئة العمرية 25 – 34 سنة.[75] أغلب الشباب المشتغلين يعملون ضمن القطاع غير المنظم، وفي مناصب تتسم بالهشاشة وبأجور زهيدة، كما أنهم لا يستفيدون من الامتيازات الاجتماعية. في الوقت نفسه، فإن امتلاك الكفاءة أو التوفر على شهادة عليا ليس كافيًا لنيل منصب شغل لائق، إذ لا تزال العلاقات الزبونية والشخصية والعائلية تمتلك مفعولها. لذا فإن الشباب يشعرون بأنهم لا يتحكمون إلاّ بشكل نسبي في مستقبلهم الاقتصادي.[76] ومنطقة الريف ليست استثناءً لهذه القاعدة، الأمر الذي يجعل أغلبية المشاركين في حراك الريف من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و40 سنة، وأغلبهم بدون عمل أو يعملون في أنشطة هامشية أو ذات طبيعة موسمية. وبشكل عام فإن علاقة شباب منطقة الريف بالعمل متقطعة وغير مستقرة.[77] وعلى مستوى المؤشرات السوسيو – ديمغرافية نجد أن أكثر من 64% من ساكنة إقليم الحسيمة تتراوح أعمارهم ما بين 15 و59 سنة، والذين يتطلعون إلى الحصول على فرص عمل لائقة وحياة كريمة. ومن ناحية أخرى نجد فئة 0 – 14 سنة تشكل 27,4% وهي الفئة التي تحتاج إلى خدمات الرعاية الصحة والتربية والتعليم وغيرها من الخدمات الاجتماعية الأساسية.[78] ورغم تحقيق وتيرة إيجابية في متوسط النمو السنوي للناتـج الداخلي الخام الوطني خلال العقد الأخير؛ إلاّ أن انعكاسها على مستوى تلبية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لهذه الفئات ظل محدودًا.
إن المعطيات السوسيو – ديمغرافية تفسر الدور المحوري لفئة الشباب في التعبئة للاحتجاج باعتبار الشباب هم القوة المحركة لما يقع داخل المجتمع وحوله،[79] إذ شكلت القاعدة الشبابية لحراك الريف مصدر قوة له. وكان الحراك قد استمد توهجه وروحه التعبوية من قدرته على إدماج واستيعاب مختلف فئات الشباب دونما اعتبار لخلفياتهم الاجتماعية أو المهنية أو الأيديولوجية. كما أفسح المجال أمام مختلف الأطياف والهويات والأيديولوجيات للمشاركة، دون أية هيكلة تنظيمية صارمة، الأمر الذي مكنهم من خلق ثقافة تنظيمية جماعية بديلة عما هو سائد لدى الوسائط السياسية التقليدية.[80] كما كان لتركيز شباب الحراك على المطالب ذات الصبغة الحقوقية، بدلًا من الشعارات ذات الحمولة السياسية، مفعولًا مهمًا في تحقيق نوع من الالتحام القوي بين شرائح واسعة من المجتمع بمنطقة الريف، وأفسح المجال أمام المشاركة الواسعة لمختلف الفئات العمرية في الأشكال الاحتجاجية التي تمت الدعوة لها على مدى سبعة أشهر. إذ يبدو أن هناك توافقًا شبه جماعي للأجيال حول مشروعية الاحتجاج.[81]
إن اللجوء إلى الاحتجاج من أجل مطالب اقتصادية واجتماعية ورمزية وإبداء موقف المحتجين من السياسة والسياسيين، يعد إعلانًا بأن المشاركة في الحياة العامة لا يمكن اختزالها في التصويت في الانتخابات أو الانضمام إلى حزب أو جمعية. بل إن ارتداء قميص يحمل رسالة أو مجرد عرض ملصق، قد يكون شكلًا من أشكال المشاركة السياسية الفاعلة. أضف إلى ذلك أن التقنيات والوسائط الجديدة قد أتاحت أشكالًا بديلة للمشاركة السياسية تفرض على السلطة السياسية ألا تقترح أنواعًا من المشاركة وفقًا للقواعد التي تراها مقبولة فحسب، بل يتعلين عليها الاعتراف بالأشكال الجديدة للمشاركة وتقبلها.[82]
دور الوسائط الرقمية في التعبئة للاحتجاج
تشكل شبكات التواصل الاجتماعي موردًا مهمًا للتعبئة والحشد للاحتجاج؛ إذ تتح إمكانية المساهمة في إحداث التغيير من خلال أربعة طرق، وهي: تحفيز العمل الجماعي، لأن الوسائط الرقمية تسمح بخلق علاقات اجتماعية جديدة بين أفراد يتقاسمون نفس القيم والمطالب رغم عدم وجود معرفة مسبقة ببعضهم البعض؛[83] والحدّ من آليات قمع الدولة؛ والتأثير على الدعم الخارجي للنظام؛ ثم التأثير والسيطرة على الفضاء العام. وبالتالي يمكن القول أن الوسائط الرقمية مهمة لزيادة الوعي حول أحداث العمل الجماعي، مثل تنظيم الاحتجاجات والمظاهرات الجماهيرية، وتصبح موردًا سياسيًا للتعاون بين المجموعات والتنسيق فيما بينها، ومكافحة العزلة الاجتماعية.[84]
برزت أهمية هذه الشبكات في جميع الحركات الاحتجاجية منذ «انتفاضات الربيع العربي» عام 2011؛ إذ أتاحت لها قدرة هائلة على التواصل باستقلالية تامة عن قنوات الإعلام التقليدية، كما مكّنت من ربط الصلات بين المشاركين من مختلف الشرائح الاجتماعية عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة التي تتيح إمكانيات النقل الآني للأحداث، وتقاسمها، وتعبئة الأفراد. وتتواجد هذه القدرة التواصلية بشكل أكبر لدى الفئة العمرية من السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 16و 34 سنة، القادرين على استخدام مهارات التقنيات الرقمية، ولديهم ميل أكبر للتمرد على ما يعتبرونه نظامًا اجتماعيًا لا يطاق.[85] وفي هذا الصدد تشير بعض الدراسات، التي أُنجزت في أعقاب الانتفاضات العربية، إلى الدور الفعال الذي لعبته الشبكات الرقمية في الحشد والتعبئة للاحتجاج؛ إذ أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي البنية التحتية التي نسجت علاقات تواصل عميقة وقدرة تنظيمية هائلة مكنت الناشطين من تعبئة الجماهير للنزول الفعلي إلى الميادين. فانتشار استعمال الوسائط الرقمية، والتطور المهم في البنية التحتية للمعلومات والاتصالات، خاصة في المدن، أدي دورًا تعبويًا سياسيًا في مختلف الدول التي شهدت الانتفاضات.[86] على الجانب الأخر، وكنتيجة مباشرة لسنوات من القمع والتدجين؛ باتت الهيئات السياسية والمدنية، من أحزاب وجمعيات، مترهلة ومفتقدة لثقة الشباب والناشطين الذين قادوا الحركات الاحتجاجية.[87]
لقد حدثت احتجاجات الريف في سياق هذه الثورة الرقمية، واعتمد نشطاؤها على هذا الفضاء الشبكي في الحشد والتعبئة والتواصل، مستفيدين من التطور الملحوظ الذي شهدته شبكة الاتصالات في منطقة الريف بصفة عامة، وإقليم الحسيمة على وجه الخصوص؛ إذ تشير إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط إلى أن نسبة الأسر التي تمتلك هاتف محمول واحد على الأقل بإقليم الحسيمة قد انتقلت من 60.8% عام 2004، إلى 96.6% بالوسط الحضري و92.3% بالوسط القروي عام 2014. كما أن 33.1% من الأسر الحضرية تمتلك جهاز حاسوب، بينما لا تتجاوز النسبة 4.1% في الوسط القروي. كما أن 27% من الأسر الحضرية لها ربط مستقر بشبكة الإنترنت، في حين لا تتجاوز 2.2% في الوسط القروي. وعلى مستوى امتلاك الصحن الهوائي المخصص لاستقبال القنوات الفضائية فالتغطية تشمل 90.6% من الأسر بالوسط الحضري مقابل 80.3% بالوسط القروي بالإقليم.[88]
جدير بالذكر هنا أننا ارتأينا الاعتماد على إحصائيات عام 2014 لأنها الفترة التي تسبق اندلاع احتجاجات حراك الريف والتي كانت في أكتوبر 2016، ولكونها تبقى معبرة بشكل أوضح عن مدى مساهمة التجهيزات والوسائل الرقمية في التعبئة، مع استحضار التطور المتسارع الذي تشهده تلك التقنيات في مختلف الأوساط ولدى مختلف الشرائح. ومع استحضار أيضًا مستعملي الإنترنت غير المنتظم، سواء عن طريق اقتناء ربط شخصي مؤقت، أو عن طريق استعمال الإنترنت المتوفر في الفضاءات العامة، لاسيما المقاهي. وعلى العموم فإن المعطيات المشار إليها تعبر عن فكرة غاية في الأهمية، تتعلق بالفرص المتكافئة، التي أصبحت توفرها وسائل التواصل الرقمي لمستعمليها في مجالات مختلفة، للوصول إلى المعلومة في أوقات قياسية، لم تكن متاحة في السابق. وأصبحت هذه الوسائل والأجهزة قادرة على توثيق الأحداث بالصوت والصورة، ومشاركتها على نطاق واسع في زمن وجيز. وتم توظيف هذه التقنيات التواصلية كوسائط نقلت الأفراد من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي، يحملون مطالب فعلية وملحة، ويمارسون ضغطًا على الفاعلين السياسيين، بقدرتهم على الاجتماع دونما حاجة إلى ترخيص مسبق، وأن يتظاهروا بمجرد الاستجابة العفوية لنداء على شبكة التواصل، لدرجة أنها أصبحت تضع السلطات العمومية في موضع الحرج؛ نتيجة الانتقال السريع للمعلومة، وعجزها عن السيطرة على الوضع، ومحاولاتها التقليل من دور هذه الوسائل التكنولوجية في التأثير.[89] وقد شكلت منصة فيسبوك أهم منصات التواصل الاجتماعي التي وظفها نشطاء حراك الريف منذ اللحظة الأولى لحركتهم الاحتجاجية. فمنذ مساء يوم 28 أكتوبر 2016، انتشر خبر حادث «طحن محسن فكري» عبر الوسائط الإلكترونية، وتم تداول فيديو يوثق تفاصيل الحادثة على نطاق واسع، إلى جانب تناقل تصريحات وانطباعات النشطاء عبر وسائل الإعلام الإلكترونية المحلية والوطنية. وتم تداول هاشتاغ «طحن مو»، وتعني «أفرم أمه»،[90] من جانب عدد كبير من الصفحات والحسابات على الفيسبوك. وعلى مدار سبعة أشهر من الاحتجاجات والتظاهرات المتواصلة –سواء بمدينة الحسيمة والبلدات المجاورة لها، وأيضًا بالناظور، والعروي– تواصل اعتماد نشطاء الحراك على منصة فيسبوك في التعبئة والحشد لاحتجاجاتهم، وتوظيف تقنية «البث المباشر» التي تتيحها المنصة لتقاسم النقل المباشر للأشكال الاحتجاجية بالصوت والصورة على نطاق واسع. كما استعمل «ناصر الزفزافي» التقنية ذاتها للتواصل اليومي مع جماهير الحراك الاحتجاجي والمتعاطفين معه، موظفًا قدراته الخطابية المهمة باللغتين الأمازيغية والعربية لاستقطاب آلاف المشاهدين والمتابعين. فعلى سبيل المثال، في بث مباشر يوم 23 مايو 2017، حصد 350 ألف متابع، و13 ألف مشاركة، و33 ألف تعليق في أقل من 20 دقيقة، وهي أرقام ضخمة ومعبرة، يستعصي على أي زعيم سياسي بالمغرب، أو حتى أشهر فنان، جمعها في هذا الوقت القياسي.[91]
في سياق متصل، لم يقتصر اللجوء إلى الشبكات الرقمية على نشطاء حراك الريف، وإنما وظفها بعض المناوئين للحراك في مهاجمة النشطاء عبر بعض الإذاعات الخاصة وقنوات اليوتيوب وصفحات التواصل الاجتماعي. ويتعلق الأمر هنا ببعض الفاعلين المدنيين، والإعلاميين، والأكاديميين، ورجال الدين، واللافت للانتباه في خطابهم أنه خطاب تحريضي بحق المحتجين؛ إذ نعتهم أحد الشيوخ بالخيانة والنزعة الانفصالية والتآمر على الدين الإسلامي والوحدة الترابية وإمارة المؤمنين، كما وصفهم باللقطاء والعاقين.[92] وفي سياق التعليق على احتجاجات حراك الريف، هدد أحد محللي الإذاعات الخاصة قائد الحراك، على أثير إحدى الإذاعة، بــ «القتل» و«التقطيع».[93]
في السياق ذاته، انخرطت بعض الجرائد في حملة التشكيك في نوايا المحتجين، الأمر الذي تجسد في بعض العناوين التي حاولت ربط الحراك بجبهة «البوليساريو» الانفصالية، إذ جاء في عنوان بارز بجريدة الصباح: «معتقلو الحسيمة تسلموا أموالًا من بوليساريو». كما ربطت الجريدة في عنوان آخر بين الاحتجاجات وتجار المخدرات بقولها: «الحشيش يحرك الحسيمة من الخارج». ومرة أخرى ربطت الجريدة بين الحراك وبين تنظيم «داعش» بقولها: «البحث عن أموال داعش بالحسيمة». واتبعت جريدة الأحداث المغربية النهج نفسه، حينما وصفت احتجاجات حراك الريف بكونها مؤامرة خارجية ذات طموحات انفصالية.[94]
كما انخرط بعض «المحللين» في حملة التحريض ضد حراك الريف على اليوتيوب، وتم خلالها الربط بين الحراك ومليشيات الحشد الشيعي بالعراق، الأمر الذي جر على أصحابه الكثير من النقد والسخرية من جانب المتعاطفين مع حراك الريف.[95]
إن هذا النوع من الخطاب المفعم بالعنف والكراهية والتحريض، أيا كان مصدره، يشكل في عمقه تهديدًا لمقومات العيش المشترك، وتكريسًا لأزمة الثقة بين مكونات المجتمع. وتتعاظم خطورة هذا الخطاب حينما يصدر عن مؤسسات إعلامية، أو عن شخصيات يُفترض أنها تمثل نخبة المجتمع التي يجدر بها الحرص على حماية الحقوق والحريات، وأن تشكل حائط الصد الأول ضد العنف والكراهية وانتهاك حقوق الإنسان. فضلًا عن مساهمتها في توعية المجتمع من أجل فهم الديناميات الهوياتية التي تخترق مختلف التحولات الاجتماعية في المجتمع المغربي، وتجاوز المنطق اليعقوبي المركزي الذي لا يزال متحكمًا في الدولة ويشكل عبئًا ثقيلًا عليها.[96] والتخلي عن الارتكان لنظرية المؤامرة التي ترى في كل صوت متطلع للاعتراف بذاكرته وتاريخه وهويته عنصر تهديد للمجتمع.
خاتمـة
يتضح من خلال تحليل آليات التعبئة التي تم توظيفها أثناء احتجاجات الريف أن هذه الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة على مدار عدة أشهر لم تكن وليدة حادث عرضي، أو احتجاج يعبر عن حالة التوتر والقلق الذين يساوران ساكنة المنطقة جراء عقود من التهميش والإقصاء وفشل السياسات العمومية فحسب؛ ولكنها تحمل في العمق رسالة ذات مضمون يتجاوز سقف المطالب الاقتصادية والاجتماعية ويرفع مطالب مرتبطة بذاكرة المنطقة وتاريخها وخصوصياتها الثقافية، ويؤكد على أن تدخلات الدولة، التي أعقبت تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، لم تقدم أجوبة مطمئنة بخصوص قضايا شائكة تهم التاريخ والهوية من جهة، والكرامة والعدالة من جهة ثانية. وأوضحت هذه الحركة الاحتجاجية تصور المحتجين للعلاقة الجدلية بين الاعتراف بتاريخ وهوية المنطقة وبين حق ساكنتها في الكرامة والعدالة الاجتماعية. وبينت أن مشروع الإنصاف والمصالحة لازال يراوح مكانه في غياب سياسات اعتراف تمنح ساكنة المنطقة، وخاصة شبابها، تقديرًا ذاتيًا، يولد لديهم الإحساس بقيمتهم الاجتماعية، ويمنح وجودهم الاجتماعي معنى. كما أن قضايا الظلم الناجم عن التأخر التنموي في بعديه الاقتصادي والاجتماعي (ضعف الاستثمارات، هشاشة البنية التحتية، ارتفاع معدلات البطالة في أوساط الشباب، تدني الخدمات الصحية، غياب عرض جامعي يستجيب لحاجيات الساكنة…)، بالإضافة إلى الحاجة للاعتراف قد شكلتا آليات محفزة للتعبئة والاحتجاج. وهو ما يؤكد الحاجة الملحة لإعادة كتابة تاريخ المغرب وحفظ الذاكرة الجماعية للمغاربة بالشكل الذي يولد لدى أجيال المغاربة شعورًا بالانتماء لدولة وطنية ولهوية جماعية مستوعبة لمختلف روافد التاريخ المغربي التعددي. بما يؤدي في نهاية المطاف لامتلاك رؤية إيجابية وشاملة لمختلف المراحل المتعاقبة في التاريخ الوطني، ويساهم في تخليد أدوار مختلف الأجيال والمناطق في صياغته وتشكيل تفاصيله وملامحه الكبرى. بما يحول بدوره دون تكاثر ثقوب الذاكرة وانعكاس سلبياتها على سياق التماسك والتعاضد والتعاقد الاجتماعي الواسع.
من جهة أخرى، كشفت احتجاجات الريف عن وجود طاقة كامنة لدى شباب اختار تصريفها كقوة معبئة للاحتجاج باعتبارها شكلًا من أشكال التعبير عن الرأي وإبداء وجهة نظره من السياسة والسياسيين. كما أوضحت ضعف أدوات العمل السياسي المنظم، التي من شأنها ضمان استدامة وسلمية التغيير. وأوضحت أنّ حصر الاستجابة لمطالب التغيير بالتعامل الأمني دون معالجة أسبابها قد يحقق استقرارًا مؤقتًا يؤجل دورات الاحتجاج دونما يقلل من فرص تكرارها؛ بل إنه قد يؤدي لتراكمها ما يسفر عن عودتها لاحقًا للظهور بشكل أكثر عنفًا. كما امتلاك الشباب للقدرة على التأقلم مع التطورات التكنولوجية، وما أفرزته من أنماط إعلامية وتواصلية جديدة، قد مكنهم من توظيف شبكات التواصل الاجتماعي الرقمي بشكل مكثف في التعبئة والحشد، بعيدًا عن آليات التعبئة التقليدية كالأحزاب والنقابات والجمعيات المدنية.
[2] خمليش، عزيز (2005). الانتفاضات الحضرية بالمغرب: دراسة ميدانية لحركتي مارس 1965 ويونيو 1981. أفريقيا الشرق، 2005. ص. 15.
[3] استاتي، زين الدين الحبيب (2016). من الاحتجاج على التسلط إلى سلطة الاحتجاج. مجلة المستقبل العربي، العدد 453، نوفمبر، ص. 54 – 55.
[4] منار السليمي، عبد الرحيم (2014). الحركات الاحتجاجية في المغرب: المسار والمآل. في عمرو الشوبكي (محرر)، الحركات الاحتجاجية في الوطن العربي (مصر – المغرب – لبنان – البحرين – الجزائر – سوريا – الأردن) (140). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
[5] بوستميس، توم، وسوزان برونستينغ (2002). العمل الجماعي في عصر الإنترنت: الاتصالات الجماهيرية والتعبئة عبر الإنترنت (Collective Action in the Age of the Internet: Mass Communication and Online Mobilization). مجلة العلوم الاجتماعية الحاسوبية، عدد أغسطس 2002. تاريخ الاطلاع 13 مايو 2024، https://bit.ly/3VOkHBB.
[6] ليلان، ماثيو (2004). كيف نكافح؟ علم الاجتماع والحركات الاجتماعية (Comment Lutter? Sociologie et Mouvements Sociaux). باريس: إصدارات تيكستويل. ص. 24.
[7] كروتشينسكايا، إيكاترينا (2021). عوامل التعبئة للاحتجاج، تأثيرها وتغيرها: نهج بايزي الهرمي (Factors of Mobilization to Protest, Their Impact and Variability: Hierarchical Bayesian Approach). ورقة عمل برنامج البحوث الأساسية، سلسلة: العلوم السياسية WP BRP 79/PS/2021، ص 3. تاريخ الاطلاع 22 مايو 2024، https://papers.ssrn.com/sol3/papers.cfm?abstract_id=3798447.
[8] المرجع السابق، ص 4.
[9] أيت بود، محمد (2020). التعبئة السياسية الافتراضية.. مقاربة سوسيو-سياسية. الكويت: مركز نهوض للبحوث والدراسات. تاريخ الاطلاع 3 أغسطس 2024، https://bit.ly/41NWYoY.
[10] في كتاب «المجتمع الافتراضي.. الحياة في ظل التقدم الإلكتروني» (Virtual Community.. Homesteading On Electronic Frontier) يرى هوارد راينجولد (Howard Rheingold) أن ما يحتاجه الناس هو الحصول على فرصة لتكوين علاقات متبادلة وقوية مع جيرانهم المتواجدين في أماكن نائية من القرى العالمية ولو عبر الشبكات الإلكترونية. للمزيد: إسماعيل عبد الفتاح، عبد الكافي (2007). مصطلحات العولمة. القاهرة: الدار الثقافية للنشر. الطبعة الأولى. ص. 161.
[11] تلي، تشارلز (2005). الحركات الاجتماعية 1768 – 2004. ترجمة وهبة، ربيع. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة. الطبعة الأولى. ص 198.
[12] زياني، عثمان (2011). الكبت السياسي والثورات الشعبية العربية: دراسة سوسيو–نفسية في بناءات وإفرازات السلوك الثوري. مجلة وجهة نظر، العدد 49، ص. 24.
[13] كاستلز، مانويل (2017). شبكات الغضب والأمل: الحركات الاجتماعية في عصر الإنترنت. ترجمة هايدي، عبد اللطيف. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ص. 25.
[14] الجموسي، جوهر (2016). الافتراضي والثورة: مكانة الإنترنت في نشأة مجتمع مدني عربي. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى. ص. 33.
[15] اليحياوي، يحيى (2015). الشبكات الاجتماعية والمجال العام بالمغرب: مظاهر التحكم والدمقرطة. مركز الجزيرة للدراسات، 8 نوفمبر. ص. 13-14. تاريخ الاطلاع 12 أبريل 2024، http://studies.aljazeera.net/ar/mediastudies/2015/11/201511885144375848.html.
[16] بومنير، كمال (2022). الاعتراف وسؤال الهوية عند أكسيل هونيث. مجلة تبين، العدد 41، ص. 96.
[17] فريزر، نانسي (2004). معضلات العدالة في عصر ما بعد الاشتراكية (Les Dilemmes de la Justice dans une ère «Post-Socialiste»)، ترجمه من الإنجليزية إلى الفرنسية لامورو، ديان. تاريخ الاطلاع 12 أغسطس 2024، www.cairn.info/revue-du-mauss-2004-1-page-152.htm.
[18] بغوره، الزواوي (2014). في نظرية العدل: من إعادة التوزيع إلى الاعتراف. مجلة يتفكرون، العدد 4، صيف 2014، ص. 12.[19] أشلحي، يوسف (2018). الحراك الاجتماعي بالريف: أسئلة الوعي بالذات والاعتراف. مجلة الربيع، العدد 9، ص. 140.
[20] بيهليفانغلو، أونورهان (2011). أكسل هونيث وتفسيرات الصراع من أجل الاعتراف (Axel Honneth and Interpretations on the Struggle for Recognition). جامعة إزمير للاقتصاد، ص 3. تاريخ الاطلاع 26 يونيو 2024، https://www.academia.edu/1004486/Axel_Honneth_and_Interpretations_on_the_Struggle_for_Recognition.
[21] فوكوياما، فرانسيس (2018). الهوية: الطلب على الكرامة وسياسات الاستياء (Identity: The Demand for Dignity and the Politics of Resentment). نيويورك: دار فارار، شتراوس وجيرو. ص. 18.
[22] تايلور، تشارلز (1994). التعددية الثقافية: الاختلاف والديمقراطية (Multiculturalisme: Différence et Démocratie). باريس: فلاماريون. ص. 4.
[23] بيّون، ديدييه وفينتورا، كريستوف (2020). حركات الاحتجاج في العالم: الأسباب، الديناميات والحدود (Mouvements de Contestation Dans Le Monde: Causes, Dynamiques Et Limites) مذكرة تحليلية أعدها المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية والاستراتيجية (IRIS) لصالح الوكالة الفرنسية للتنمية، أبريل. ص. 10.
[24] هارت، دايفيد مونتكومري (1976). آيث ورياغر قبيلة من الريف المغربي، دراسة اثنوغرافية وتاريخية (The Aith Waryagher of the Moroccan Rif: an Ethnography and History). جامعة أريزونا، ص. 428 – 432.
[25] هيئة الإنصاف والمصالحة (2006). التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة. الكتاب الأول، ص. 83.
[26] رشيق، عبد الرحمن (2016). المجتمع ضد الدولة: الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع في المغرب (La Société Contre L’État: Mouvements Sociaux Et Stratégie De La Rue Au Maroc). الدار البيضاء: دار لاكْروازي دي شومان. الطبعة الأولى، ص. 69.
[27] خمليش، عزيز (2005). الانتفاضات الحضرية بالمغرب. ص. 171.
[28] منار السليمي، عبد الرحيم (2014). الحركات الاحتجاجية في المغرب. ص. 140.
[29] مصباح، محمد (2015). ماذا تبقى من حركة 20 فبراير. مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 23 فبراير. تاريخ الاطلاع 18 أكتوبر 2024، https://bit.ly/3YtjIJ4.
[30]بومنير، كمال (2022). الاعتراف وسؤال الهوية عند أكسيل هونيث. مجلة تبين، العدد 41، ص. 96.
[31] فريزر، نانسي (2004). معضلات العدالة في عصر ما بعد الاشتراكية.
[32] تم استخلاص هذه العناصر من خلال مراجعة مجموعة من الخطابات والتصريحات التي أدلى بها ناصر الزفزافي منذ ليلة حادث «طحن محسن فكري»، 28/29 أكتوبر 2016 وصولًا إلى حادث المسجد بتاريخ 26 مايو 2017، وهي متاحة على اليوتيوب.
[33] زياني، عثمان (2017). رمزية قادة الحراك والتماهي الجماهيري: مقاربة في سلطة اللغة وتقنيات الجسد. جريدة المساء، 30 يوليو. العدد 3352، ص. 11.
[34] العطري، عبد الرحيم (2008). الحركات الاحتجاجية بالمغرب: مؤشرات الاحتقان ومقدمات السخط الشعبي. الدار البيضاء: منشورات دفاتر وجهة نظر، مطبعة النجاح الجديدة. الطبعة الأولى، ص. 171.
[35] أستاتي، الحبيب (2016/2017). الحركات الاحتجاجية بالمغرب: حالة حركة 20 فبراير. أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية، جامعة القاضي عياض، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، مراكش. السنة الجامعية: 2016/2017. ص. 359.
[36] لمراجعة وثيقة مطالب الحراك الشعبي بالريف، ينظر: جمعية أطاك المغرب (2018). حراك الريف: نضال شعبي بطولي من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية، منشورات جمعية أطاك المغرب، الطبعة الأولى. ص. 125 – 133.
[37] أستاتي، الحبيب (2016/2017). الحركات الاحتجاجية بالمغرب. ص 289 – 290.
[38] من حين لآخر كان يخرج أشخاص، بشكل فردي أو جماعي، لافتعال الفوضى، أو استفزاز المحتجين لدفعهم إلى العنف. وقد وصف المحتجون هؤلاء الأشخاص بـ «البلطجية». هذا الأمر تم استيراده من الثورة المصرية، وبات متداولًا في المغرب منذ حراك 20 فبراير. ورغم أن أحداث من هذا القبيل قد تمت في بني بوفراح، أيت قمرة، الناظور، والعروي؛ إلا أن غالبيتها فشلت في القضاء على الأشكال الاحتجاجية بشكل كلي.
[39] أستاتي، الحبيب (2016/2017). الحركات الاحتجاجية بالمغرب. ص. 361.
[40] عبد الكريم الخطابي، محمد (1960). رسالة محمد بن عبد الكريم الخطابي من منفاه بالقاهرة إلى محمد بلحسن الوزاني الأمين العام لحزب الشورى والاستقلال. الغربال أنفو، 27 يوليو. تاريخ الاطلاع 14 أكتوبر 2024، https://bit.ly/3NEyxlT.
[41] وصف الريفيين بالأوباش، جاء في خطاب للحسن الثاني، في أعقاب انتفاضة يناير 1984، تم بثه على القناة المغربية التلفزيونية، وعبر أثير الإذاعة، وخص منطقة الريف بهذا الوصف، رغم أن الاضطرابات كانت في مناطق أخرى مثل مراكش. ومن الجدير بالملاحظة أن استحضار هذا الوصف يكون مصحوبًا بالكثير من الألم حتى لدى شباب لم يعاصروا الحدث الذي مرت عليه قرابة 34 سنة حتى الآن.
[42] اعتمدت هيئة الإنصاف والمصالحة على مجموعة من البرامج فيما يخص جبر الضرر الجماعي للمناطق التي ثبت تعرضها لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وقد اعتبرت منطقة الريف من بينها. للمزيد يُنظر: هيا مبارك (2016). التجربة المغربية للعدالة الانتقالية ودمقرطة النظام السياسي المغربي، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في القانون العام، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة ابن زهر، أكادير، السنة الجامعية 2015/2016، ص. 121 وما بعدها.
[43] سعدي، محمد (2019). حراك الريف: ديناميات الهوية الاحتجاجية. طنجة: دار سيليكي أخوين، الطبعة الأولى. ص. 258.
[44] للمزيد من التفصيل، أنظر: اللوه، العربي (1982). المنهال في كفاح أبطال الشمال. تطوان: دون دار نشر، ص. 93 وما بعدها.
[45] أمزيان، محمد (2018). محنة الريف: من الانتفاضة إلى الحراك. تطوان: مطبعة الخليج العربي، الطبعة الأولى. ص. 46 – 47.
[46] بشارة، عزمي (2012). في الثورة والقابلية للثورة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. بيروت: الطبعة الأولى. ص. 14.
[47] رشيق، عبد الرحمن (2016). المجتمع ضد الدولة: الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع في المغرب (L La Société Contre L’État: Mouvements Sociaux Et Stratégie De La Rue Au Maroc). الدار البيضاء: دار لاكْروازي دي شومان. الطبعة الأولى، ص. 173.
[48] سعدي، محمد (2019). حراك الريف: ديناميات الهوية الاحتجاجية. ص. 63.
[49] المرجع السابق نفسه، ص. 16.
[50] حوكا، بن أحمد ودنان، حسن و النضر، محمد (2018). احتجاجات الريف المغربي: من الديمغرافيا السياسية إلى فنومنولوجيا الذاكرة، مجلة المستقبل العربي، العدد 467 في كانون الثاني/يناير 2018. ص. 84.
[51] رشيق، عبد الرحمن (2016). المجتمع ضد الدولة: الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع في المغرب. ص. 62.
[52] في 14 مايو 2017، عقد وزير الداخلية اجتماعًا مع أحزاب الأغلبية، أعقبته تصريحات لممثلي هذه الأحزاب اتهمت حراك الريف بالانفصال وتهديد ثوابت البلاد وتشكك في الوحدة الترابية للمملكة. للمزيد، انظر تصريحات ممثلي الأحزاب على اليوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=D4wzDxABk8o، تاريخ الاطلاع 19 أكتوبر 2024.
[53] الإدريسي، محمد (2017). الحراك الاحتجاجي بالريف المغربي: الأسباب والمآلات. مركز برق للأبحاث والدراسات، 1 يونيو. تاريخ الاطلاع 19 أكتوبر 2024، https://bit.ly/3BNHK8O.
[54] النحاس، بديعة (2018). الانتماء الوطني المنشق وتشكيل الدولة (Appartenance Nationale Dissidente Et Formation De L’État). مجلة الربيع، العدد 9، ص. 206.
[55] حوكا، بن أحمد ومسلاغي، محمد (2018). الديمغرافيا السياسية والغضب الجمعي في منطقة حرجة: دراسة في العتبة العمرية للاضطرابات الاجتماعية (إقليم الحسيمة نموذجا). مجلة الربيع، العدد 9، 2018، ص. 34.
[56]سعدي، محمد (2019). حراك الريف: ديناميات الهوية الاحتجاجية. ص. 70.
[57] شابنر، دومينيك وباشلييه، كريستيان (2000). ما هي المواطنة؟ (Qu’est-ce Que La Citoyenneté). باريس: دار غاليمار. ص. 95.
[58] تايلور، تشارلز (1994). التعددية الثقافية: الاختلاف والديمقراطية. ص 4.
[59] البوابة الرسمية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية (2004). نص خطاب الملك محمد السادس بالحسيمة في 25 مارس 2004. تاريخ الاطلاع 20 أكتوبر 2024، https://bit.ly/4haTqT7.
[60] أعراب، مصطفى (2019). الريف والسلطة المركزية: مقاربة تاريخية لأسباب التوتر. الرباط: مطابع الرباط نت، الطبعة الأولى. ص. 132.
[61] بورديو، بيير (1997). تأملات باسكالية (Méditations Pascaliennes). باريس: دار سوييل للنشر. ص. 200.
[62] هونيث، اكسيل (2012). التشيؤ: دراسة في نظرية الاعتراف. ترجمة بومنير، كمال. مؤسسة كنوز الحكمة للنشر والتوزيع. ص. 11.
[63] أعراب، مصطفى (2019). الريف والسلطة المركزية. ص. 133.
[64] سعدي، محمد (2018). حراك الريف بين الحاجة للدولة والريبة منها: جروح التاريخ وتصدعات الحاضر. في محمد الرضواني (محرر)، الدولة وحراك الريف: السلطة والسلطة المضادة وأزمة الوساطة. الرباط: مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الأولى. ص. 77.
[65] المجلس الوطني لحقوق الإنسان (2020). تقرير حول احتجاجات الحسيمة. ص. 10.
[66] الخطابي، أحمد (2019). الاحتجاج واستراتيجيات التعبئة في «حراك الريف» بالمغرب، نحو بناء هوية جماعية مؤنثة، مجلة علوم الإنسان والمجتمع، جامعة محمد خيدر، بسكرة، المجلد 8، العدد 1، ص. 44.
[67] زينتنر، مانفريد (2011). مشاركة الشباب في الحياة العامة في أوروبا (La Participation À La Vie Publique Des Jeunes En Europe). مجلة المعلومات الاجتماعية، العدد المزدوج 165/166، ص 46. تاريخ الاطلاع 14 يونيو 2024، https://bit.ly/4gPpJG7.
[68] المرجع السابق نفسه. ص. 47.
[69] حوكا، بن أحمد ومسلاغي، محمد (2018). الديمغرافيا السياسية والغضب الجمعي في منطقة حرجة: دراسة في العتبة العمرية للاضطرابات الاجتماعية (إقليم الحسيمة نموذجا). مجلة الربيع، العدد 9، 2018، ص. 38.
[70] معهد بروميثيوس للديمقراطية وحقوق الإنسان ومركز جنيف لحوكمة القطاع الأمني (DCAF) (2022). تصور الأمن الإنساني لدى الشباب المغاربة اليوم. ص. 17.
[71] زينتنر، مانفريد (2011). مشاركة الشباب في الحياة العامة في أوروبا. ص. 48.
[72] حمودي، إسماعيل (2019). “أمننة” حراك الريف ونتائجه السياسية. المعهد المغربي لتحليل السياسات. تاريخ الاطلاع 18 أكتوبر 2024، https://bit.ly/4hcoOAy.
[73] الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان (2017). تقرير لجنة تقصي الحقائق حول الأوضاع بالحسيمة. 21 يونيو. ص. 11.
[74] المبادرة المدنية من أجل الريف (2017). احتجاجات الريف 2017 -2016: تقرير أولي. ص. 11.
[75] المندوبية السامية للتخطيط (2023). مذكرة إخبارية للمندوبية السامية للتخطيط حول وضعية سوق الشغل خلال الفصل الثالث من سنة 2023. ص. 4.
[76] المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (2018). مبادرة وطنية جديدة مندمجة لفائدة الشباب المغربي. إحالة رقم 23/2018، ص. 26.
[77] سعدي، محمد (2018). حراك الريف بين الحاجة للدولة والريبة منها: جروح التاريخ وتصدعات الحاضر. ص. 78.
[78] المندوبية السامية للتخطيط (2017). الوضعية الديمغرافية والسوسيو اقتصادية بإقليم الحسيمة. فبراير. ص 3. تاريخ الاطلاع 24 يوليو 2024، https://www.hcp.ma/reg-alhoceima/attachment/981753.
[79] الخطابي، أحمد (2018). من حركة 20 فبراير إلى حراك الريف: الخوف من الديمقراطية أم الخوف من جيل الشباب بالمغرب؟. دورية سياسات عربية، العدد 32، مايو 2018، ص. 41.
[80] سعدي، محمد (2018). حراك الريف: بين الحاجة للدولة والريبة منها، جروح التاريخ وتصدعات الحاضر. في محمد الرضواني (محرر)، الدولة وحراك الريف: السلطة والسلطة المضادة وأزمة الوساطة (81). الرباط: مطبعة المعارف الجديدة، الطبعة الأولى.
[81] المرجع السابق نفسه.
[82] زينتنر، مانفريد (2011). مشاركة الشباب في الحياة العامة في أوروبا. ص. 48..
[83] رشيق، عبد الرحمن (2016). المجتمع ضد الدولة. ص. 209.
[84] فرهاد حسن، عبد الله (2019). الثورة في مصر: الحركات السياسية وتعبئة الموارد (Revolution in Egypt: Political Movements and Mobilisation of Resources). ص 8. تاريخ الاطلاع 28 يونيو 2024، https://journals.sagepub.com/doi/pdf/10.1177/0975087819848914.
[85] كاستلز، مانويل (2017). شبكات الغضب والأمل. ص. 225 – 226.
[86] رشيق، عبد الرحمن (2016). المجتمع ضد الدولة: الحركات الاجتماعية واستراتيجية الشارع في المغرب. ص. 20.
[87] كاستلز، مانويل (2017). شبكات الغضب والأمل. ص. 122 – 123.
[88] المندوبية السامية للتخطيط (2017). الوضعية الديمغرافية والسوسيو اقتصادية بإقليم الحسيمة. فبراير. ص. 10. تاريخ الاطلاع 24 يوليو 2024، https://www.hcp.ma/reg-alhoceima/attachment/981753.
[89] أستاتي، الحبيب (2016/2017). الحركات الاحتجاجية بالمغرب: حالة حركة 20 فبراير. ص. 332
[90] زعم نشطاء حضروا وقائع الحادثة أن أحد أفراد الأمن أمر سائق شاحنة ضغط النفايات بتشغيل آلة الضغط عندما صعد إليها «محسن فكري» محاولًا الحيلولة دون إتلاف بضاعته، وقد تم تشغيل الآلة فعلا وحدثت المأساة؛ إلا أن المديرية العامة للأمن الوطني في 29 أكتوبر 2023، أصدرت بيانًا فنّد تلك المزاعم، واعتبرها ادعاءات غير صحيحة، باعتبار أن زر التحكم في الآلة يوجد في الجهة اليمنى لمقطورة الشاحنة والتي لا يتحكم فيها السائق.
[91] أنوزلا، علي (2017). ظاهرة ناصَر الزفزافي.. أيقونة «حراك الريف». الجزيرة، 24 مايو. تاريخ الاطلاع 25 أكتوبر 2024، https://bit.ly/4fl6KlY.
[92] الغلبزوري، محمد (2020). الدولة وتدبير حراك الريف: تدبير أزمة أم أزمة تدبير. طنجة: مطبعة سليكي أخوين، الطبعة الأولى. ص. 296 – 297.
[93] خرباش، سكينة (2017). نشطاء يطالبون الهاكا بالتدخل بعد تهديد الدريبي للزفزافي بـ «القتل» و «القطع». جريدة العمق، 31 مايو. تاريخ الاطلاع 25 أكتوبر 2024، https://bit.ly/3UleOvi.
[94]الغلبزوري، محمد (2020). الدولة وتدبير حراك الريف. ص. 299.
[95] المرجع السابق نفسه. ص. 301 – 302.
[96] سعدي، محمد (2019). حراك الريف: ديناميات الهوية الاحتجاجية. طنجة: دار سيليكي أخوين، الطبعة الأولى. ص. 258.
Read this post in: English