دراسات

مستقبل الديمقراطية العربية في ظل هيمنة المنظومة الريعية: دراسة لحالة السودان

حمل هذا المقال كبي دي إف

الإشارة المرجعية: أعلوان ، فؤاد (2023). مستقبل الديمقراطية العربية في ظل هيمنة المنظومة الريعية: دراسة لحالة السودان. رواق عربي، 28 (1)، 63-75. DOI: 10.53833/IXQW9483

خلاصة

مَثّل الاقتصاد الريعي منذ زمن بعيد مصدرًا هامًا من مصادر قوة الأنظمة السياسية الأوتوقراطية، إذ كان دائمًا في خدمة السلطوية العربية وأحد أهم أدواتها، ولا تكمن خطورة الريع في عرقلة مسار التحرير الاقتصادي فحسب، وإنما تتعداه لتوجيه وتعطيل المسار الديمقراطي. واستنادًا إلى أدبيات الاقتصاد السياسي التي تثبت العلاقة العكسية التي تربط الديمقراطية بالريع، وتؤكد مسئولية الأنظمة السياسية في ظهور الممارسات الريعية، تبحث هذه الدراسة في كيفية توظيف النخب الحاكمة في الدول العربية للبنية الاقتصادية الريعية بما يتيح بقاء أنظمتها السلطوية ويعوق بناء مجتمع ديمقراطي. وبغرض البحث والتدقيق في العوامل التي تسهم في تشكل واستمرار المنظومة الاقتصادية الريعية، تم الاعتماد على منهج دراسة الحالة كمنهج رئيسي لهذه الدراسة مع اختيار السودان الذي يتسم بتغلغل الدولة الريعية العميقة نموذجًا للدراسة. تستجلي الورقة التحديات التي تعترض انتقال السلطة من المؤسسة العسكرية إلى النخب المدنية في ظل صلابة البنية الاقتصادية الريعية في هذا البلد، وانتشار مجموعة من الممارسات السلبية التي تعزز من بناء السلطوية كانتشار الزبائنية السياسية وتفشي الفساد بصورة وبائية، وتتوصل الدراسة إلى استحالة بناء نظام ديمقراطي في ظل استمرار البنية الريعية. كما تناقش الورقة سبل تفكيك المنظومة الاقتصادية الريعية في السودان بما يضمن بروز نموذج دولة الإنتاج من خلال الانتقال من عقد اجتماعي ريعي إلى عقد اجتماعي جديد.

مقدمة

لعب الاقتصاد الريعي دورًا هامًا في تثبيت دعائم الأنظمة السلطوية، وشكّل على الدوام آلية لضمان استقرارها واستمرارها. وبدلًا من مساهمة الريع في التأسيس لاقتصاد قوي والدفع بالعملية التنموية نحو الأمام؛ فإنه يتحول إلى آلية لتعزيز مكانة المؤسسات الاستبدادية في النظام السياسي وبسط هيمنة السلطة الحاكمة ونخبها بما يضمن لها الاستمرار في الحكم،[1] عن طريق توظيف الزبائنية وشراء الولاءات؛ بغرض احتواء الحركات الاحتجاجية ودفع المجتمع لعدم المطالبة بالحقوق الأساسية والحريات العامة.

وقد أثبتت العديد من الدراسات أن المنظومة الاقتصادية الريعية غالبًا ما تعوق الديمقراطية، التي يعتبرها فرانسيس فوكوياما بمثابة النظام الأكثر ملاءمة للطبيعة البشرية؛[2] ما يؤدي لتثبيت النظم الاستبدادية، وينعكس سلبًا على حقوق شعوبها الفردية والجماعية.[3] في هذا الإطار يرى مايكل روس أن البنية الريعية محيط غير خصب لزرع الديمقراطية، ويعتقد أن عائدات الريع النفطي سبب جشع الحكومات وفساد نخبها،[4] فكلما ارتفع مستوى الدخل في الدول النفطية تتراجع الديمقراطية وتتجه نحو الانكماش.

في هذا السياق، يرى كل من هيلينا سفالريد وجوناس فلاشوس أن المشكلة الأساسية في جميع الأنظمة السياسية –خاصة في أنظمة الحكم الفاسدة– هي أن النخب الحاكمة أو القريبة من دوائر السلطة تستفيد أحيانًا من عائدات الريع على حساب عامة الشعب، مما يساعدها على خدمة وتعزيز مصالحها الخاصة على حساب مصالح الأفراد والجماعات،[5] وهو ما يجعل من الريع مصدر تهديد دائم للديمقراطية. ينسجم هذا الأمر تمامًا مع نتائج الدراسة التي قام بها سيزار كالديرون ورفاقه، المعنونة بـ «هل تولد الديمقراطيات سلوك البحث عن الريع؟» فمن خلال الاعتماد على مجموعة من المؤشرات المرتبطة بخصائص العملية السياسية وطبيعة الاقتصاد الريعي، توصل الباحثون للعلاقة العكسية التي تربط الديمقراطية بالريع؛ فكلما ترسخت وانتشرت القيم الديمقراطية لمدة طويلة في بلد ما تراجعت الممارسات الريعية ومعها السلوكيات المرتبطة بالفساد، إيذانًا ببداية تفكك المنظومة الريعية. فالديمقراطية، حسب كالديرون، تساهم بشكل تدريجي في تحسين أداء مؤسسات الدولة عبر الارتقاء بجودة القوانين والحرص على شفافية العمليات السياسية والمشاركة في اتخاذ القرارات الإدارية، ما يقلل من فرص هيمنة بنية ريعية تسودها الرغبة في الاستحواذ على عائدات الريع.[6]

وارتباطًا بالدول النامية، يرى مهرزاد جوادي كوشكسراي ومحمد ريفاني بسطاني أن الدول الريعية التي تعتمد اقتصاداتها بشكل كبير على الموارد الطبيعية والثروات النفطية لا تفتقر فقط للتنمية الاقتصادية، حتى لو سعت إلى إظهار نوع من الاكتفاء الذاتي اعتمادًا على عائداتها المتراكمة من هذه الموارد، إنما كذلك إلى التنمية السياسية. ويؤكدان أن هيكلة «الحكومات الريعية» ورغبتها في السيطرة على مصادر الثروة يشكلان عقبة أمام تكوين مجتمع ديمقراطي، ما يشجع على بروز أنظمة غير ديمقراطية تحتضن وتوظف الفساد السياسي والاقتصادي.[7] وهو ما يتوافق مع خلاصات دراسة قام بها رباح أرزقي وثورفالدور جيلفاسون بعنوان «ريع الموارد والديمقراطية والفساد: أدلة من إفريقيا جنوب الصحراء»، وشملت تسع وعشرين دولة من دول إفريقيا جنوب الصحراء تحظى فيها الموارد النفطية والمعدنية بأهمية اقتصادية كبيرة. فمن خلال البحث في كيفية تأثير التفاعل بين الريع والمؤسسات السياسية في تحديد مستوى الفساد، توصل الباحثان لأن وجود بنية اقتصادية ريعية يكون أكبر وأوضح في الدول الأقل ديمقراطية، مؤكدان على مسئولية الأنظمة السياسية في ظهور الممارسات الريعية وبروز المزيد من مظاهر الفساد الناتجة عنها.[8]

ولقد ارتبط مفهوم الريع تاريخيًا بكتابات آدم سميث، كارل ماركس وآخرون. وإذا كان الاقتصادي آدم سميث أول من استخدم مصطلح الريع، فإن كارل ماركس يعد أول من استعمله كنمط اقتصادي حينما أشار إلى مفهوم «الرأسمالية الريعية». وإذا كان الاثنان قد اتفقا على أن الريع يمثل دخلًا غير ناتج عن العمل ولا يدخل في الدورة الإنتاجية، فإن الأدبيات الليبرالية اعتبرته بمثابة فائض الربح الناتج عن اختلال السوق التنافسية بسبب التفاهمات والكارتيلات والاحتكارات الناتجة عن تركز المداخيل عند قلة من الفاعلين وتحكمهم في مصادرها. فيما ربطت مجموعة من الأدبيات العربية، على غرار حازم الببلاوي، الريع بالدخل الناتج عن تصدير الموارد الطبيعة أو النادرة عمومًا، مثل البترول والغاز والفوسفات والذهب. وعلى هذا الأساس تُوصف عادة اقتصادات الدول النفطية بالريعية.[9]

لقد ارتبط مفهوم الدولة الريعة بالخصوص بكتابات المفكر الإيراني حسين مهداوي التي اعتبر خلالها الدول التي تتلقى وتستلم بشكل منتظم مواردًا مالية كبيرة من الريع الخارجي دولًا ريعية.[10] وتمتاز هذه الدول بقدرتها الكبيرة على إخضاع الإنتاج لمنطق الريع، وليس العكس؛ إذ يتحول الريع لمنظومة مؤسساتية متكاملة قادرة على «ترييع» أية عملية استثمارية أو إنتاجية وتحويلها لامتيازات تُمنح للأفراد والجماعات برعاية الدولة.[11] هكذا لا ينخرط في عملية توليد الريع إلا فئة قليلة تتمثل بالخصوص في النخبة المدنية أو العسكرية الحاكمة، التي تعد المستفيد الرئيسي من الريع، وهو ما يمنحها القدرة على الامتلاك الكامل للسلطة السياسية.

وقد تزايد الاهتمام بموضوع الريع النفطي بعد صعود أسعار النفط في سبعينيات القرن الماضي، فأصبح من بين القضايا التي تحوز اهتمامًا كبيرًا من جانب الباحثين في ميادين السياسة والاقتصاد. كما صارت مناهضة الاقتصاد الريعي موضوعًا محوريًا في الخطاب الاقتصادي والسياسي السائد، خاصةً وأن خطورة الريع لا تكمن في عرقلة مسار التحرير الاقتصادي فحسب، وإنما تتعداه لتعطيل الانتقال الديمقراطي. حتى أن الكثيرين يعتقدون أن الريع، الذي يعد ظاهرة عربية بامتياز، هو السبب الرئيسي للمشاكل الاقتصادية والسياسية في مجموعة من الدول العربية، بما فيها تلك التي لا تتوفر على موارد نفطية مثل تونس على سبيل المثال. وهي الفكرة التي لا تلقى دائمًا القبول من طرف البعض الذي يعتبر خطاب مناهضة الريع خطابًا أيديولوجيًا يفتقد للعقلانية الاقتصادية، ويتجاهل الصعوبات الاقتصادية الداخلية التي تعانيها الدول العربية.[12]

تبحث هذه الدراسة في كيفية توظيف النخب الحاكمة في الدول العربية للبنية الاقتصادية الريعية بما يتيح بقاء وتثبيت أنظمتها السلطوية. وقد تم اختيار السودان كنموذج لدراسة وتوضيح العلاقة القائمة بين الريع والديمقراطية. وهي الدولة التي لم تحظ بالاهتمام الأكاديمي اللازم رغم تسارع أحداثها السياسية، بدءً من ثورة أبريل عام 2019 ومرورًا بانقلاب أكتوبر عام 2021 وانتهاء بالنزاع المسلح الذي اندلع منذ منتصف أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بعد تعثر توقيع الاتفاق السياسي النهائي بين النخب العسكرية والمدنية بغرض تأسيس سلطة مدنية مستقلة. ورغم امتلاكها مجموعة من المقومات الجغرافية والبشرية المؤثرة في قوة الدولة،[13] وامتلاكها لموارد طبيعية مهمة تتمثل بالخصوص في الذهب والنفط الذي تنتج منه يوميا 74 ألف برميل،[14] تعاني السودان من أزمة اقتصادية وسياسية خانقة، تشكل البنية الاقتصادية الريعية الصلبة إحدى أهم مسبباتها.

ومن خلال دراسة حالة السودان التي تتسم بتغلغل الدولة الريعية العميقة، تستجلي الدراسة التحديات التي تواجهها الديمقراطية في ظل صلابة المنظومة الاقتصادية الريعية، وانتشار مجموعة من الممارسات السلبية التي تعزز من بناء السلطوية وتشكل تهديدًا حقيقيا للديمقراطية، كانتشار الزبائنية السياسية وتفشي الفساد بصورة وبائية. كما تناقش الدراسة إمكانية الحد من تغول الريع في المجال الاقتصادي وسبل تفكيك المنظومة الاقتصادية الريعية بما يضمن الانتقال من عقد اجتماعي ريعي لعقد اجتماعي جديد.

في ضوء ما سبق، يفترض هذا البحث أن تغلغل الدولة الريعية العميقة يعد سببًا رئيسيًا لتعثر المسار الديمقراطي في الدول العربية على وجه العموم، والسودان على وجه الخصوص، وعلى أن المنظومة الريعية في السودان تعيق الانتقال الفعلي للسلطة من المؤسسة العسكرية إلى النخب المدنية.

وفي سبيل تفكيك الإشكالية الرئيسية للورقة والتحقق من الفرضيات التي طرحناها تم اعتماد مجموعة من المناهج ذات الارتباط الوثيق بالدراسات السياسية؛ فبالإضافة إلى منهج دراسة الحالة الذي يعد منهجًا رئيسيًا لهذه الدراسة، يسمح بالإحاطة بجميع الجوانب المتعلقة بالبنية الاقتصادية الريعية في السودان، والبحث المعمق في العوامل التي تسهم في تشكلها، كان من المهم الاستناد إلى المنهج البنيوي لتحليل منظومة الاقتصاد الريعي، ودراسة طبيعة التفاعلات الكائنة بين الثالوث المتكون من الريع والفاعلين السياسيين والمؤسسات السياسية والعسكرية للدولة وحجم التأثير المتبادل القائم بين مكوناتها، بما يتيح فهم الظواهر المرضية المرتبطة بالممارسات الريعية، وعلى رأسها الفساد و الزبائنية السياسية. وللبحث والكشف عن أدوار الريع ووظائفه كان طبيعيًا الاعتماد على المنهج الوظيفي لإدراك كيفية استغلال النخب الحاكمة للمنظومة الريعية من أجل تثبيت دعائم أنظمتها السلطوية، عبر استخدام عائدات الموارد الطبيعية كآلية لضبط المجتمع واحتواء مطالبه.

لمعالجة هذا الموضوع والتطرق لمختلف حيثياته وتداعياته سنتناوله في أربعة محاور؛ إذ سنتعرض في البداية البنية الاقتصادية الريعية وانعكاساتها السلبية على الاقتصاد السوداني (المحور الأول)، ثم سنناقش كيف يتم توظيف الريع كآلية لتعزيز السلطوية واستمرار النظام السياسي (المحور الثاني)، وبعد ذلك سنتطرق للآثار السلبية للريع على الحقوق والحريات ووحدة الدولة وتماسكها (المحور الثالث)، ثم نتعرض أخيرًا لثنائية الديمقراطية والريع وإمكانية تصور ممارسة النخب المدنية للسلطة في ظل المنظومة الريعية (المحور الرابع).

المنظومة الاقتصادية الريعية وانعكاساتها على الاقتصاد السوداني

في البداية، لا بد من الإشارة لوجوب توفر معايير أساسية ليكون اقتصاد دولة ما ريعيًا؛ تتجلى بالخصوص في ضرورة مساهمة القطاعات غير الإنتاجية المرتبطة بالموارد الطبيعية بنسبة أكبر من مجموع مساهمات قطاعات الصناعة والزراعة في الناتج المحلي الإجمالي، على أن تمول العائدات الريعية غالبية العمليات الاستثمارية، بنسبة تزيد على %50 من مجموع الاستثمار الكلي، وأن تغطي أكثر من %50 من الإنفاق الحكومي، وأن تتجاوز قيمة الصادرات الريعية مجموع الصادرات بأكثر من %50.[15] ولا تحيد السودان عن هذه القاعدة ما يجعل من اقتصادها اقتصادًا ريعيًا بامتياز.

يتمتع السودان بموارد طبيعية هائلة، مثل الأراضي الزراعية والثروة الحيوانية والنفط والمعادن التي تتوفر بكثرة، إذ يمتلك السودان حوالي ثلاثة وعشرين نوعًا من المعادن، أهمها الذهب والفضة والبلاتين والنحاس، ومعادن أخرى ذات صبغة استراتيجية مثل المنجنيز والتيتانيوم، إضافة إلى الأحجار الكريمة مثل الزبرجد والزمرد.[16] إلا أن كل هذه الثروات لا تسخر بالشكل الصحيح لتحقيق النمو الاقتصادي، كما أن عائداتها المالية أقل بكثير من الإمكانيات التي توفرها الثروات الباطنية الهامة التي يزخر بها البلد، إذ يتم توليد أقل من 40٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي من رأس المال الطبيعي للسودان[17]. لسببين: الأول يرتبط بنمط الاقتصاد الريعي الذي يرفض الاستثمار المنتج في هذه الثروات. والثاني يعود إلى ضعف مؤسسات الدولة أمام نفوذ القوات المسلحة النظامية، والمليشيات التابعة لقيادات الجيش، وتلك الخارجة عن سيطرته، وهو الأمر الذي كان سببًا في ظهور اقتصاد موازي غير خاضع لمؤسسات الدولة، يتكون بالخصوص من ممتلكات الجيش من الأراضي السقوية، ومشاريع مؤطرة قانونًا كشركات المؤسسة العسكرية المعفاة من أداء الرسوم الجمركية والضريبية، والتي تشكل عاملًا أساسيًا في الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد السوداني. إلى جانب استثمارات مفروضة قسرًا بحكم الأمر الواقع من جانب الميليشيات المذكورة، كتلك المتعلقة بتجارة الذهب التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس مجلس السيادة، وتقدر مؤسسات ومنظمات دولية عائدات الذهب والنفط وباقي الثروات السودانية المهدرة والمهربة من خلال هذه المليشيات، بما يزيد عن سبعة مليارات دولار سنويًا، وهو المبلغ الذي يعد كافيًا لسد عجز الميزانية السنوية وسداد الدين العام.[18]

هكذا يتم إدارة واستغلال الموارد الطبيعية السودانية وتوزيع إيراداتها بشكل غير ديمقراطي، وبدلًا من استثمارها في قطاعات منتجة وذات أولوية –من خلال وضع الريع في خدمة الإنتاج إسوة بتجارب عالمية ناجحة؛ يتم تطويع الإنتاج ليكون في خدمة الريع. في ظل هذه الوضعية تزايدت معاناة السودانيين الاقتصادية والاجتماعية بعد رفع الدعم عن السلع الأساسية وتعويم قيمة الجنيه السوداني، مما فاقم التضخم، وزاد تكاليف المعيشة، ورفع نسبة الفقر بمعدلات قياسية، خاصة مع إثقال كاهل المواطنين بضرائب يتم فرضها لتوفير الخدمات العامة ودعم برامج التنمية، ولتعويض مداخيل الريع المهدرة بالأساس. وهو ما دفع بعض الأصوات للمطالبة بتحرير الاقتصاد كأولوية تسبق إعداد برامج التنمية.[19]

في ضوء ذلك، تراجع الاقتصاد السوداني وبلغ مرحلة خطيرة من التدهور، خاصة مع اقتراب معدل التضخم من 400%، وتسجيل نقص حاد في السلع الأساسية والخدمات، وتراجع الأمن الغذائي بشكل غير مسبوق.[20] ووفقًا لآخر إحصاء أجرته مفوضية الضمان الاجتماعي بالسودان عام 2020، يقبع 77% من السودانيين تحت خط الفقر، ولا يتجاوز الدخل اليومي للفرد دولارًا واحدًا وربع. وفي أعقاب انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، تدهورت الأوضاع نتيجة عمليات إصلاح الحوكمة التي باشرتها الحكومة الانتقالية، وبسبب تراجع الدول الغربية ومؤسسات تمويل التنمية ومجموعة أصدقاء السودان عن وعودها بتقديم مساعدات مالية للسودان كرد فعل على تعثر مسار الانتقال الديمقراطي، ناهيك عن تعليق صندوق النقد الدولي لحقوق السحب الخاصة بالسودان والمقدرة بحوالي 857 مليون دولار بغرض تكملة أصوله الاحتياطية.[21] وقد تفاقم الوضع مع المظاهرات التي تشهدها مدن السودان باستمرار للمطالبة برحيل الحكم العسكري وتسليم السلطة للنخب المدنية، إذ خسر السودان استثمارات تقدر بأكثر من 35 مليار دولار في مجالات الزراعة والصناعات المتكاملة وغيرها.[22] وهي الاستثمارات التي كانت الدولة في أمس الحاجة إليها، خاصةً وأن ناتجها المحلي الإجمالي السنوي لا يتجاوز 30 مليار دولار كمتوسط، كما تصل نسبة العجز في الميزانية قرابة 11% من مجموع ناتجها الداخلي،[23] فضلًا عن حجم الدين الخارجي والذي بلغ 56 مليار دولار عام 2020 (163٪ من إجمالي الناتج المحلي السنوي)، وكان من المتوقع أن يتم تخفيضه بمقدار النصف بحلول عام 2022، في إطار مبادرة إعفاء الدول الفقيرة المثقلة بالديون التي أطلقها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وهو ما لم يتم بعدما توقف التقدم نحو نقطة الإنجاز عقب استيلاء النخب العسكرية على الحكم في أكتوبر 2021.[24]

في هذا السياق، يُعتقد أن الاقتصاد السوداني، باعتباره اقتصادًا ريعيًا يعتمد بالأساس على تصدير المواد الخام، يعاني من اختلالات هيكلية مزمنة ناتجة عن سيطرة الأنظمة الشمولية على السلطة في البلاد لأكثر من نصف قرن منذ استقلال السودان عام 1956، إذ انصب تركيز تلك الأنظمة على الاستيلاء على الموارد الطبيعية وتبديد الأموال والإيرادات العامة. هكذا مثلًا، نجد أن نظام الرئيس السابق عمر البشير، الذي استمر زهاء 30 عامًا، استغل ثروات السودان وأهدر إمكاناته عبر حماية الفساد ودعم التهريب وإقامة منظومة اقتصادية ريعية.[25] فرغم أن السودان يعد من بين الثلاثة الكبار المنتجين للذهب في إفريقيا، فإن القطاع غير المهيكل للتنقيب والاستغلال يستحوذ على معظم الإنتاج، كما أن عمليات البيع والتهريب تتم بعيدًا عن القنوات الرسمية للدولة،[26] ما يحرم الدولة ومواطنيها من إيرادات هامة كان من الممكن توظيفها في تخفيف الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تمر بها البلاد.

الريع في خدمة السلطوية

في السودان، وباقي الدول العربية ذات البنية الاقتصادية الريعية، توظف النخب الحاكمة عائدات الريع –النفطي تحديدًا– من أجل تثبيت دعائم السلطة والاستمرار فيها لفترة طويلة من الزمن. وهي تستند في ذلك على عقد اجتماعي ريعي –ضمني– لا يمتلك الفرد فيه رأيًا أو دورًا في اختيار النخب الحاكمة ورسم معالم النظام السياسي، فهو يقبل بالوضع القائم مقابل استفادته من منافع تمثل ثمن قبوله بالأمر الواقع، والتي تكون في صورة تقلد مناصب المسئولية والتعيين في الوظائف الحكومية، والحصول على مساكن وأراض وهبات وامتيازات اقتصادية. يحدث هذا الأمر في السودان، ففي مقابل القمع الذي تتعرض له الجماعات القاطنة في الجنوب ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق؛ تسيطر نخب السودان الشمالي النيلي على مجموعة من مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية للدولة وتحظى بامتيازات كثيرة. بهذا الشكل، لا يشكل الريع أحد أهم الآليات التي تستخدمها الأنظمة الشمولية لضبط المجتمع؛ ولكنه يمهد الطريق أيضًا لظهور مجموعة من الممارسات التي تتنافى مع الديمقراطية من قبيل الفساد، و الزبائنية السياسية

الريع مصدرًا للفساد و الزبائنية

يمكن اعتبار الأنظمة السياسية في الدول الريعية أنظمة نيوبتريمونيالية (غنائمية)، تستغل بعض الممارسات السياسية المرتبطة بالتوظيف الدائم للريع لضمان الاستمرار في السلطة. ويشكل هذا الأمر تهديدًا حقيقيًا للديمقراطية، في ظل بروز مجموعة من الظواهر المرضية المرتبطة بالفساد و الزبائنية، والتي تحولت مع مرور الوقت من مجرد ظواهر سلبية ينبغي محاربتها من جانب الأنظمة السياسية الشمولية –في ظل وفرة العائدات النفطية– إلى آلية لامتلاك السلطة الحفاظ عليها.[27] واستنادًا إلى كتابات دانيال باش و مامودو غازيبو ، فإن هذا الأمر ينسجم بشكل تام مع مفهوم الأبوية الجديدة الذي يشير للارتباط الوثيق بين الاستمرار في السلطة و الزبائنية ، ويؤكد وجود علاقة وطيدة بين الفساد وبناء الشرعية.[28]

هكذا تسعى الأنظمة السياسية، بهدف ضمان بقائها في السلطة، للاعتماد على توسيع دائرة الاستقطاب الزبائني، وهو ما يؤدي بدوره لاتساع دائرة الفساد النخبوي، إذ تعمد النخب الحاكمة لتعيين الموالين لها في وظائف مهمة وحساسة، وإن كانوا يفتقدون للمؤهلات أو القدرة والكفاءة. كما تسعى أجهزة السلطة لتجنيد أكبر عدد ممكن من أتباعها، وحينها يتم الانتقال من مرحلة الفساد النخبوي لمرحلة الفساد المجتمعي، إذ تصبح سرقة وتبذير المال العام آفة معممة على جميع المستويات.[29]

ينطبق هذا الأمر على معظم الدول العربية، بما فيها السودان التي جنحت نخبها العسكرية نحو الزبائنية، فأضحت العنصر المحوري والمهيمن على النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم. وقد برز هذا الأمر بشكل كبير في عهد النظامين العسكريين الذين استمرا وقتًا طويلًا في السلطة، أي نظامي «مايو» و«الإنقاذ»، كما ظهر بصورة أوضح في بدايات ونهايات حكم البشير (1989-2019)، إذ عزز البشير بقا بقائه في السلطة اعتمادًا على بناء تحالفات مع جماعات ضاغطة وشخصيات نافذة، وممارسة ما اصطلح على تسميته بــ«التمكين»، إذ سيطر الإسلاميون والموالون للنظام العسكري على كل مفاصل الدولة بعدما تم فصل آلاف الموظفين ذوي الكفاءة والخبرة، وتعويضهم بعناصر الجبهة الإسلامية دون مراعاة معايير الكفاءة المهنية.[30] في هذا الصدد، يعتقد دوغلاس نورث أن توظيف النخب العسكرية –أو ما أطلق عليها «الأنظمة المقيدة»– لعائدات الريع؛ بغرض تأسيس منظومة سياسية واقتصادية واجتماعية قائمة على الزبائنية، تجعل مراكز القوى والنفوذ المهيمنة من الأفراد والجماعات تدرك أن بقاء المنظومة الحالية، التي تخدم مصالحهم، مرهون بإذعانهم وخضوعهم للنظام السياسي القائم.[31]

الريع وسيلة لضبط المجتمع

في الدول الريعية، تستخدم الأنظمة السياسية الموارد الطبيعية كألية لضبط المجتمع؛ إذ يتم توظيف الريع كوسيلة لاحتواء مطالب الجماعات المعارضة ومنع بروز الحركات الاحتجاجية، وذلك بزيادة الإنفاق على الأجهزة القمعية، ومنح الامتيازات وإغداق الهبات والعطايا وتوزيع الثروة وفقًا للولاءات والقرب من السلطة الحاكمة، ويصبح المحكوم بحاجة للحصول على رضا الحاكم لينال نصيبه من الإنفاق العام. وهو ما يضمن في النهاية تحكم النخب الحاكمة في المشهد السياسي والاستمرار في السلطة. وهو ما يحدث في السودان ومعظم الدول العربية؛ إذ سعت النخب الحاكمة لاحتواء الطموح السياسي لباقي الفاعلين السياسيين عبر تمكينهم من منافع وامتيازات مالية واقتصادية واجتماعية.

في هذا الإطار يؤكد مايكل روس على العلاقة السببية الموجودة بين الوفرة النفطية والسلطوية في الأنظمة الريعية، إذ تسعى النخبة الحاكمة لتوظيف الموارد النفطية التي تتحكم في ملكيتها؛ لدعم استقرار واستمرار أنظمتها السلطوية. [32]وإن ترتب عن ذلك انتهاك الحقوق الأساسية لمواطنيها أو الانتقاص من حرياتهم العامة. ويشكل هذا الأمر تهديدًا حقيقيًا للديمقراطية، في ضوء توظيف الأنظمة الشمولية للعائدات النفطية لزيادة الإنفاق على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية؛ بهدف إسكات الأصوات المعارضة، وتقييد ومراقبة عمل الفاعلين في المجتمع المدني لمنع بروز منظمات فاعلة ومستقلة. ويتحقق هذا الأمر من خلال الاعتماد على مجموعة من الآليات، من أهمها منع التمويل الخارجي وتقييد التمويل الذاتي للجمعيات، وتوزيع الدعم على مؤسسات المجتمع المدني حسب منطق الولاءات. بما يشكل تكريسًا واضحًا للعقد الريعي الذي يربط بين السلطة والمجتمع المدني.

فيما يتعلق بالأحزاب السياسية، فإن الأمر لا يختلف كثيرًا؛ إذ تبادر الأنظمة السلطوية العربية لتوظيف الريع بغرض التحكم فيها وضمان موالاتها. وهو ما دأبت مختلف النخب العسكرية الحاكمة في السودان على ممارسته، من خلال منح امتيازات مالية واقتصادية هامة لقادة بعض الأحزاب السياسية، خاصةً التي تأسست على أساس طائفي. إلى جانب دعم وحماية استثماراتهم ومشاريعهم الاقتصادية من خلال نهج سياسات المحاباة وتعطيل آليات السوق الحر الذي يعتمد على المنافسة. هذا الأمر جعل تلك القيادات الحزبية تراكم ثروات طائلة أهملت معها برامج التنمية الاقتصادية والبشرية وتخلت عن أهم مطالبها السياسية. في هذا السياق، تجدر الإشارة لأن تحصيل الضرائب وفرض الرسوم الجمركية يشكلان مصدرًا ثانيًا لزيادة ثراء القيادات الحزبية والموظفين الساميين؛ إذ أن أجهزة الدولة في السودان «تسرق» جهد المواطنين لتعيد توزيعه على الموالين للسلطة والمحسوبين عليها.[33] وبهذا الشكل تسعى الدولة السودانية، كما هو حال أغلب دول الجنوب، لتعويض الإمكانيات الاقتصادية المهدورة نتيجة هيمنة الفساد وصلابة البنية الريعية، بفرض المزيد من الضرائب والرسوم واستنزاف دخل المواطن. ودائمًا ما تستفيد النخب العسكرية والمحسوبين عليها والمقربين منها من هذا الأمر بشكل مزدوج –الريع النفطي وتحصيل الجبايات؛ ما يجعل الاقتصاد السوداني اقتصادًا ريعيًا وجبائيًا في الوقت ذاته.

البنية الريعية تهديد حقيقي للوحدة البشرية والوطنية

بينما تخدم المنظومة الاقتصادية الريعية مصالح النخب الحاكمة وأنظمتها الاستبدادية؛ فإن الانعكاسات المترتبة عن السياسات الريعية التمييزية تبدو خطيرة على الوحدة البشرية والاستقرار السياسي للدولة. فبينما تتبنى الأنظمة الديمقراطية مفهوم المواطنة ومبدأ المساواة، وتكفل تكافؤ الفرص والتوزيع العادل للثروة، كما تضمن للمواطنين احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير والرأي وحرية التجمع، التي تعد من بين العناصر الأساسية للديمقراطية؛[34] نادرًا ما ترقى الامتيازات أو المنافع التي تمنحها الدول الريعية لبعض «رعاياها»، إلى مستوى الحقوق. ورغم أن النخبة الحاكمة غير ملزمة قانونًا بتقديم امتيازات لأفراد أو جماعات معينة، إذ يمكن منحها أو سحبها متى ارتأت السلطة ذلك؛ إلا أن الأمر يعد مختلفًا فيما يتعلق بالحقوق المصانة، فلا تستطيع الدولة تجريد أي مواطن أو جماعة منها من دون سند قانوني. وبينما يتساوى المواطنون في الحقوق والواجبات؛ فإن الرعايا غير متساوين في الامتيازات، بل إن تباين وتفاوت هذه الامتيازات والمنافع هو الأساس الذي تستند عليه الدولة الريعية في دفع «الرعايا» للتنافس فيما بينهم لكسب ود النخبة الحاكمة.[35]

وفيما تُعد هذه الأخيرة الرابح الأكبر من استمرار هذا الوضع؛ فإن الخاسر الأكبر هو وحدة الدولة وتجانس مكوناتها. إذ تؤدي هذه الممارسات الريعية التمييزية –التي غالبًا ما تتأسس على معايير إثنية أو قبلية أو دينية– لانتشار الكراهية بين الأفراد والجماعات وتراجع الولاء الوطني، الأمر الذي يُشكل تهديدًا حقيقيًا على الاستقرار السياسي للدولة، كما هو الشأن بالنسبة للسودان. وهكذا، لا تكتفي الأنظمة الاستبدادية بارتكاب انتهاكات صارخة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لأفرادها بانتهاجها سياسات اقتصادية تمييزية وممارسات ريعية، وإنما تتسبب أيضًا في نشر العداء بين الجماعات المكونة للدولة، وتغليب الولاء المحلي لأفرادها على ولائهم الوطني، بعدما نجحت في تحويل الصراعات الاجتماعية، ذات الخلفيات الاقتصادية، لصراعات عرقية ودينية ولغوية، الأمر الذي يخدم مصالحها ويحول الأنظار عن خروقاتها وفساد مؤسساتها.[36]

على هذا المنوال، تسعى الأنظمة الشمولية –خاصة في الدول العربية ذات المجتمعات الانقسامية– لتوظيف القبيلة وعصبيتها لضمان الاستحواذ على السلطة.[37] الشأن نفسه في السودان، إذ تُقدَّر أعداد القبائل في دارفور وحدها بحوالي مائة قبيلة، تتنوع بين قبائل عربية وأفريقية.[38] وهو ما يمكنها من الحصول على المساندة اللازمة لممارساتها القمعية تجاه جماعاتها الإثنية،[39] مستغلةً في ذلك الجمود النابع من البنى الاقتصادية الريعية، الأمر الذي يعزز فرص بقاء القبيلة واستمراريتها وفرص خضوعها لرغبات النظام السياسي.[40] وهو ما يسفر في النهاية عن تحول الصراع الاجتماعي بين النظام السياسي والجماعات المكونة للدولة، إلى صراع إثني عواقبه وخيمة، المستفيد الوحيد منه هو النظام السياسي للدولة.

في هذا الإطار، ترى المدرسة الليبرالية أن الأسباب الرئيسية للنزاعات المسلحة لا تتعلق بالطبيعة «الشريرة» للبشر، وإنما بوجود مؤسسات فاسدة ونظام سياسي يدعم ويوظف الزبائنية؛ ضمانًا لاستمراريته وحفاظًا على مصالحه. الأمر الذي يؤثر سلبًا على السلوك الإنساني وسلوك الجماعات، ويُشكل مصدرًا أساسيًا لتغذية الصراعات. ينطبق هذا الأمر كثيرًا على النزاعات الداخلية التي شهدها السودان منذ خمسينيات القرن الماضي، بما في ذلك النزاع المسلح الذي اندلع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل 2023. فإلى جانب فشل حكام السودان في خلق إطار وطني جامع لكل أطياف المجتمع السوداني، بعدما ابتعدوا عن دورهم كممثل حقيقي لكافة مكونات المجتمع؛ فقد كانوا سببًا أساسيًا في إذكاء الصراعات بين الشمال والجنوب، والتي أدت في نهاية المطاف لتقسيم البلاد،[41] وذلك من خلال السياسات الريعية التي انتهجوها وأخطائهم المتراكمة بشأن سوء التوزيع العادل للثروات وغياب التنمية الاقتصادية المتوازنة داخل الدولة.

في وجهة نظر البعض، فإن أحد أهم أسباب انفصال جنوب السودان –نتيجة اندلاع الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب بين سنتي 1958 و1972 ثم بين 1983 و2005– يعود للهيمنة التجارية للسودانيين العرب في مختلف أنحاء السودان بما فيها مناطق الجنوب، وسيطرتهم على الحياة الاقتصادية بامتلاكهم معظم ثروات الدولة.[42] ويعد السودان من بين أكثر دول العالم غيابًا للمساواة والعدالة في توزيع الثروة.

من المفارقات الغريبة في السودان، ودول عربية أخرى تتسم بصلابة بنيتها الاقتصادية الريعية، تخبط بعض الجماعات الإثنية في الفقر وتهميشها وحرمانها من الاستفادة من مخططات التنمية الاقتصادية والبشرية؛ رغم احتواء المناطق التي تقطنها على مؤهلات وثروات وموارد طبيعية هائلة. الأمر الذي يؤدي لاندلاع صراعات تهدد وحدة الدولة، نتيجة إحساس هذه الجماعات بالظلم،[43] ويشكل سببًا رئيسيًا لاندلاع نزاعات مسلحة داخلية طويلة ومكلفة، مثلما يحدث في السودان حيث تحولت الموارد الطبيعية مع سوء استغلالها من نعمة إلى نقمة. على سبيل المثال، تسبب اكتشاف النفط سنة 1978 بشمال مدينة «بانتيو» –ضمن دولة جنوب السودان حاليًا– في مواصلة الحرب الأهلية في السودان رغم الهدنة التي أعقبت اتفاق أديس أبابا لسنة 1972؛ بعد زيادة حدة الخلاف حول أحقية امتلاك الموارد النفطية وكيفية توزيع عوائدها. كما انعكس اكتشاف النفط على زيادة حدة مشكلة الحدود الإدارية للأقاليم الشمالية والجنوبية، خاصةً في المناطق الاقتصادية والاستراتيجية التي تحتوي على موارد طبيعية مهمة، وهو ما ينطبق بشكل كبير على منطقة «أبيي».[44]

الريع والديمقراطية: الثنائية المستحيلة

يشكل الريع عائقًا حقيقيًا وتحديًا كبيرًا للديمقراطية في السودان وباقي الدول الريعية، والتي تتعمد إعاقة مسار الانتقال الديمقراطي بسبب الارتباط الوثيق بين وجود بنية اقتصادية ريعية واستمرار الاستبداد السياسي؛ فهما متلازمين يحصن كل منهما الآخر.[45] لذلك، يتعين اقتران القطيعة مع جميع أشكال الريع الاقتصادي والتحول نحو عقد اجتماعي جديد بتعزيز البناء الديمقراطي وتنفيذ بإصلاحات سياسية حقيقية. ولأن الديمقراطية تستند بالأساس على التعبير الحر للشعب، الذي يضطلع بتحديد شكل النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويمتلك الحق المطلق في المشاركة في جميع نواحي الحياة؛[46] فإنه من الضروري –انسجامًا مع الحق في المشاركة السياسية– انتقال السلطة من الجيش السوداني إلى سلطة مدنية، تعمل على تعزيز الحقوق الفردية والجماعية، وتمهد الطريق مستقبلًا لتنظيم انتخابات حرة مباشرة.

الانتقال من السلطة العسكرية إلى السلطة المدنية: نحو بروز عقد اجتماعي جديد
يمكن مناقشة الدور التدخلي للمؤسسة العسكرية وهيمنتها على السلطة السياسية في بعض الدول العربية في سياق مقترب الفوقية العسكرية لصامويل هنتنغتون، والذي يرى أن اضطلاع المؤسسة العسكرية بمكانة مركزية في الحياة السياسية هي خاصية تنفرد بها النخب العسكرية في الأنظمة السياسية للدول النامية، على خلاف ما هو سائد في الأنظمة الديمقراطية الغربية. كما يعتبر هنتنغتون أن الدور الحاسم التحديثي والتنموي الذي يمارسه الجيش في بناء الدولة الوطنية المستقلة يخول له الهيمنة على القرار السياسي، بل وفرض وصايته على كافة المؤسسات السياسية والبيروقراطية التي تفتقد للتنظيم الداخلي الحديث والبنية المتماسكة، إلى جانب عدم امتلاكها للقدرة والإرادة اللازمتين لإحداث التغيير والإصلاح الاجتماعي على غرار المؤسسة العسكرية.[47]

في المقابل، يدخل الانتقال إلى سلطة مدنية مستقلة في إطار العلاقة النموذجية التي تفترض الجمع بين المؤسسة العسكرية والنخب المدنية من خلال ضبط ثنائية الشرعية والقوة داخل الدولة؛ الشرعية التي تتجلى في النخب المدنية والقوة التي تحتكرها النخب العسكرية. وينسجم إخضاع النخب العسكرية للنخب المدنية انسجامًا مع نظرية التحكم المدني بالعسكري التي تجد أساسها الأيديولوجي في قيم الليبرالية الغربية، والتي يعود الفضل في ظهورها إلى مجموعة من المفكرين الأمريكيين، على غرار موريس جانويتس، الذين يتفقون على أن احترام المسار الديمقراطي في عمليات تفويض السلطة السياسية من الشعب –صاحب السيادة– للنخبة السياسية المدنية، يفرض اضطلاع هذه الأخيرة بمسئولياتها كاملة في إدارة كافة مرافق ومؤسسات الدولة بما في ذلك المؤسسة العسكرية.[48]

ويمثل ابتعاد النخب العسكرية عن المشهد السياسي في السودان والانتقال لسلطة مدنية حقيقية بداية الطريق لتأسيس دولة للجميع، أي «دولة متماهية مع الشعب» بكل فئاته وليس «دولة مفارقة للشعب»، تتيح لأفرادها إمكانية الحركية الاجتماعية بسبب تحقق مبدأ تكافؤ الفرص، ووجود «المجتمع المفتوح» الذي يسمح بانتقال الأفراد من طبقة إلى أخرى بناءً على مؤهلاتهم فقط، بعيدًا عن أي اعتبارات سياسية أو اقتصادية أو إثنية، ما يؤثر بشكل عميق وإيجابي على علاقتهم بالسلطة القائمة.[49] يُمثل هذا الأمر اللبنة الأساسية للانتقال من عقد ريعي قائم بين الحاكم والمحكوم إلى عقد اجتماعي جديد، في إطار دولة مدنية تتأسس تنمويًا على التحول من نموذج دولة الريع إلى نموذج دولة الإنتاج. وهو ما يتطلّب تغييرًا جذريًا في هياكل العلاقة التي تربط الدولة بالمجتمع بسبب تحول نظام الريع لمنظومة علاقات اقتصادية واجتماعية هيمنت على جميع نواحي الحياة. ومن المهم الإشارة إلى أن أهم عناصر العقد الاجتماعي الجديد هي الانتقال الديمقراطي، وهو ما يتعذر إتمامه سوى بتحكم جميع فئات المجتمع، من خلال ممثليه، في الثروات الوطنية. على أن يتضمن ذلك السيطرة على مصادر الريع وعائداته وإخضاعها للرقابة، وتحديد سبل إنفاقها والمستفيدين منها في سياق مفهوم العدالة الاجتماعية.[50]

الريع سبب رئيسي لتعثر انتقال السلطة للنخبة المدنية في السودان

 غالبًا ما ترفض النخب العسكرية في الدول الريعية تسليم السلطة السياسية للنخب المدنية لصعوبة إقناعها بالتخلي عن المنافع والامتيازات التي توفرها لها البنية الاقتصادية الريعية، والتي ستفقدها لا محالة في حالة الانتقال إلى سلطة مدنية حقيقية تؤسس لنظام حكم ديمقراطي. في هذا السياق، لا تحيد السودان عن غيرها من الدول العربية التي تسيطر عليها أنظمة حكم عسكرية، فرغم بذل جهود وطنية متعددة بهدف وضع خطط واقعية لإمكانية الانتقال إلى حكم مدني حقيقي –كما هو الحال بالنسبة للاتفاق النهائي للعملية السياسية الذي كان منتظرًا توقيعه في بداية أبريل 2023؛ تم تجاهل هذه الخطط لأن من شأن هذا الانتقال فقدان النظام الريعي الحالي لإحدى أهم أدواته، وهي بناء قواعد مجتمعية معتمدة على قدرة أذرع النظام العسكري في منحها وظائف وامتيازات وهبات انسجامًا مع المنظومة السياسية والاقتصادية السائدة، والتي تهيمن عليها الزبائنية.

ارتباطًا بهذا الموضوع، برزت نقط خلافية بين النخب المدنية والنخب العسكرية، بل داخل النخب العسكرية نفسها، أعاقت توقيع وثيقة الاتفاق الإطاري النهائي للعملية السياسية، والذي تتسلم النخب المدنية بموجبه مقاليد السلطة السياسية. تتعلق هذه الخلافات أساسًا بإخضاع جميع مصادر الريع للرقابة، كي لا يظل الإنفاق العسكري خارج دائرة الميزانية العامة، إذ أن هناك مجموعة من النفقات المرتبطة بالجيش غير معروفة ولا تخضع لأي رقابة تذكر. وبطبيعة الحال، يُعد هذا الأمر مدخلًا أساسيًا للفساد، والذي يأتي في الغالب من المشاريع والصفقات والاتفاقيات غير المتضمنة في الميزانية وغير الخاضعة للأجهزة الرقابية.

في هذا الإطار، تعد شركات الجيش التي تسيطر على موارد طبيعية هامة وتحظى بامتيازات ضريبية وجمركية كبيرة –والتي تمثل عاملًا رئيسيًا للأزمة الاقتصادية في السودان– من النقط الخلافية الرئيسية التي تعيق الانتقال إلى حكم مدني مستقل، إذ تطالب النخب المدنية بإخضاع شركات الجيش بشكل كامل لمراقبة وولاية وزارة المالية، انسجامًا مع مبدأ «المشروعية»، أو مبدأ سيادة القانون، ويُقصد به ضرورة «خضوع الدولة بكافة سلطاتها التشريعية والقضائية والتنفيذية للقانون».[51]

إلا أن إخضاع مصادر الريع المرتبطة بالمؤسسة العسكرية للرقابة لا يمكن أن يتحقق سوى بإخضاع الجيش السوداني بكافة مكوناته للسلطة المدنية، وهو ما يفترض قبل كل شيء الشروع في عملية الإصلاح الأمني والعسكري ودمج جميع التشكيلات العسكرية والميليشيات والكيانات العسكرية غير النظامية في الجيش السوداني، خاصةً قوات الدعم السريع التي تسيطر على مجموعة من مناجم الذهب. كانت هذه المسألة سببًا لتعطيل الاتفاق السياسي النهائي بين مجلس السيادة العسكري والقوى المدنية، بما أدى لاندلاع نزاع عسكري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الخامس عشر من أبريل 2023، لا شك أن عواقبه ستكون وخيمة على الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي.

فبعدما ألحت القوى المدنية على ضرورة تحديد توقيت لدمج قوات الدعم السريع وتحديث الجيش السوداني، والنص عليه ضمن وثيقة الاتفاق الإطاري النهائي للعملية السياسية،[52] برزت خلافات عميقة بين مكونات المؤسسة العسكرية. فبينما رأى قادة الجيش أن عملية الدمج والإصلاح العسكري ينبغي أن تتم في أسرع وقت وألا تتجاوز ستة أشهر؛ أصر الفريق أول محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع أن تستمر عملية الدمج لغاية عام 2045، أي لمدة اثنان وعشرون عامًا. وهو ما دفع قادة الجيش لعدم حضور مؤتمر «الإصلاح الأمني والعسكري» بالخرطوم، الذي يُعد آخر مؤتمرات المرحلة النهائية للاتفاق السياسي.[53] ثم تلاحقت الأحداث بعد ذلك لتتطور إلى نزاع مسلح حول من يمتلك السلطة، أو بالأحرى من يمتلك مصادر الريع. وربما كانت قوات الدعم السريع ستنخرط بسهولة في مخطط الإصلاح العسكري، وستقبل الاندماج ضمن الجيش السوداني في مدة أقل بكثير عما حددتها لو لم تكن تمتلك وتتحكم في مناجم الذهب وتستفيد من عائداتها دون سند قانوني.

لا بد من الإشارة أيضًا لمسئولية النخب المدنية في الوضع القائم، إذ تتحمل قسطًا من المسئولية في تدخل الجيش في الشأن السياسي واستيلائه على الحكم. فتزامنًا مع استقطاب الجيش لقيادات حزبية وشخصيات سياسية وإغرائها بامتيازات اقتصادية ومناصب حكومية، مارست النخب المدنية دورًا كبيرًا في تسييس المؤسسة العسكرية؛ بحيث أصبح العسكريون امتدادًا للمدنيين داخلها، وغدت الانقلابات العسكرية استمرارًا للعملية السياسية بوسائل أخرى، بل أن بعضها تم بالتواطؤ مع قوى سياسية مدنية –مثلما حدث في انقلاب عبود عام 1958، انقلاب نميري عام 1969، وانقلاب البشير عام 1989 حيث كان الانقلاب استمرارًا للعملية السياسية.[54] وينسجم هذا الأمر إلى حد بعيد مع دراسات إيفا بيلين بشأن العوامل المحددة لسلوك الجيوش، والتي اعتبرت خلالها أن استيلاء النخب العسكرية على السلطة رهين بقدرتها على بناء قاعدة موالية تتأسس على الزبائنية وتوظف خلالها الانتماءات القبلية والعرقية والطائفية.[55]

في النهاية، من المهم التأكيد على أن الممارسات الريعية لن تختفي في السودان، الذي عرف على مدى عقود من الزمن انقلابات عسكرية رسخت سيطرة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية، إلا بالتحكم الفعلي للسلطة المدنية في النخب العسكرية، مما يفضي لتأسيس حكومة مستقلة تتحكم في جميع مصادر الريع وتمارس سلطاتها كاملة في كل مجالات الحياة بما في ذلك الشأن العسكري. في هذا الإطار، يعتقد علي عسكوري رئيس حزب التحالف الديمقراطي للعدالة الاجتماعية أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لن يتغير في السودان، وأن أي حكومة جديدة ستنتهي للنتيجة نفسها بسبب الوضع الحالي للاقتصاد السوداني، الذي يعتمد على الريع في غياب قاعدة إنتاجية قوية ومؤثرة.[56] وبينما يرتبط التغيير في السودان بالضرورة بتشكيل حكومة فعالة تمارس اختصاصاتها بشكل فعلي وكامل؛ فإن ترسيخ حكم مدني يسيطر بشكل فعلي على جميع مجالات الحياة لن يتم سوى بتطوير استراتيجيات فعالة تندرج في إطار مأسسة هذه السيطرة. وهي الاستراتيجيات التي أشار إليها الباحثان أوريل كرواسون وديفيد كوهين صاحبا نظرية التنافس المدني/العسكري في الدول النامية، وأهمها تطوير جهاز المخابرات العسكرية لرصد وتتبع أنشطة وتحركات ضباط الجيش، وتطوير برامج ومقررات المدارس والأكاديميات العسكرية وعصرنة وتحديث طرق التكوين التي تعتمدها لضمان تنشئة سياسية لأفراد القوات المسلحة.[57]

خاتمة

إن فهم وتفسير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في السودان وتفكيك الإشكاليات المرتبطة بها يقتضي بالضرورة إدراك طبيعة المنظومة الاقتصادية الريعية السائدة، والتي تُشكل تحديًا مختلفًا لأية سلطة سياسية، وإن كانت منتخبة؛ إذ تُعرّضها لإغراءات احتكار السلطة وشراء الولاءات وانتشار الزبائنية، وإعادة إنتاج أنظمة استبدادية.

لذلك، فإنه إذا كان من المؤكد تعارض إحراز تقدم وتجاوز العوائق التنموية والارتقاء بوضعية حقوق الإنسان وتعزيز الحريات في ظل وجود الأنظمة السلطوية وسيطرة النخب العسكرية على الحكم، كما هو الشأن في السودان؛ فإن نجاح عملية الانتقال الديمقراطي وتأسيس سلطة مدنية مستقلة يرتهن أساسًا بالانتقال من اقتصاد الريع إلى اقتصاد الإنتاج، أي من اقتصاد يُوظف لخدمة مصالح فئة قليلة محصورة في النخب الحاكمة والمحسوبين عليها، إلى اقتصاد تستفيد منه غالبية الشعب. وهو ما يتحقق في ظل نظام سياسي ديمقراطي يحرص على مشاركة الشعب في إدارة شئون الحكم، ويعمل على حماية الثروات الوطنية وحفظ قيمتها للأجيال القادمة، كما يتحمل مسئوليته الكاملة في التقيد الصارم بقواعد المنافسة الحرة وتوفير الوسائل والآليات القانونية الضرورية لضمان احترامها.

في المقابل، تصطدم عملية الانتقال نحو اقتصاد صناعي منتج وتجفيف منابع الفساد والقطع مع أشكال الزبائنية بعوائق كثيرة تتمثل في مقاومة وعرقلة الأنظمة السلطوية لمسارات الانتقال الديمقراطي، ورفضها تمكين الشعب من حقه الطبيعي في المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية، فهو في النهاية صاحب السيادة التي يجب أن يمارسها عبر ممثليه، حسبما تؤكد دساتير مجموعة من الدول العربية. ففي السودان مثلًا، كان التحكم في الثروات الوطنية والموارد الطبيعية وإدارتها والاستفادة من عائداتها من الأسباب غير المباشرة التي أعاقت توقيع الاتفاق السياسي النهائي الذي كان من المفترض أن تنتقل السلطة بموجبه من المؤسسة العسكرية إلى النخبة المدنية. كما تطورت الخلافات بين النخب الحاكمة إلى نزاع مسلح، تأجلت معه عملية البناء الديمقراطي وممارسة السلطة من جانب نخبة مدنية تمارس صلاحياتها كاملة، وتمارس رقابة فعلية على جميع مصادر الريع، ومن بينها شركات الجيش ومناجم الذهب التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع.

بالإضافة لما سبق، يعترض إنهاء مظاهر الريع صعوبات أخرى ترتبط بغياب تصور واضح لدى حركات مناهضة الريع بشأن كيفية إدارة مرحلة ما بعد الريع، خاصةً وأن أغلبهم غير مدركين للإطار النظري الذي يندرج ضمنه مفهوم الريع. فمعظمهم يحملون خطابا أيديولوجيًا يعتبرون من خلاله أن الريع هو السبب الرئيسي للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما يدافعون عن إرساء شروط وقواعد المنافسة النزيهة ومحاربة الإثراء غير المشروع كغاية أخلاقية في حد ذاتها، لكنهم يفتقدون للعقلانية الاقتصادية ولا يحملون أي مشروع اقتصادي معين يرغبون في تكريسه.

مع كل المعوقات سالفة الذكر، يبدو من الضروري إنهاء وجود الريع الاقتصادي بجميع أشكاله؛ ففي ظل استمرار نموذج الدولة الريعية سيبقى السودان وبقية الدول العربية عاجزين عن تعزيز المسار الديمقراطي. فالبنية الاقتصادية الريعية الصلبة تدمر حوافز الإنتاج وتحد من القدرة على تنويع مصادر الدخل، كما تسهم في تحويل المجتمع لنموذج استهلاكي يتنافس للحصول على المنافع والامتيازات دون المشاركة الفعلية في عملية الإنتاج. كذا فإن تلك البنية الريعية ترسخ الاعتقاد بأن البقاء بعيدًا عن السلطة يعد مرادفًا للتهميش والإقصاء، في ظل سيطرة السلطة السياسية على الثروات الوطنية والموارد الطبيعية؛ ما يؤدي لاحتدام الصراع على السلطة، ويجعل الاستقرار السياسي مهددًا باستمرار. ولعل الأحداث التي يعرفها السودان منذ منتصف أبريل 2023 خير دليل على ذلك، وهي الوضعية التي لا يمكن تجاوزها سوى بتفكيك المنظومة الاقتصادية الريعية والانتقال لعقد اجتماعي جديد.

[1] نشيم، حسن وفوكة سفيان (2022). إشكالية الديمقراطية في الدول الريعية: حالة الجزائر. مجلة العلوم القانونية والسياسية، 59 (01)، 831. https://www.asjp.cerist.dz/en/article/182559
[2] الداوي، عبد الرزاق (2007). الخطاب عن حرب الثقافات في الفكر الغربي: نماذج من الفكر الأمريكي المعاصر. مجلة عالم الفكر، 2، 120.
[3] مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان (2023). بخصوص الديمقراطية وحقوق الإنسان (A propos de la démocratie et des droits de l’homme). تاريخ الاطلاع 10 أبريل 2023،https://bit.ly/3NzjB9V
[4] العربي، العربي (2020). الانتخابات في الدول الريعية وحدود الديمقراطية: حالة الجزائر. مجلة المستقبل العربي، 491، 47.
[5] سفالريد، هيلينا وفلاشوس جوناس (2008). الريع السياسي في ديمقراطية غير فاسدة (Political Rents in a Non-Corrupt Democracy). ستوكهولم: معهد بحوث الاقتصاد الصناعي، 1-2.
[6] كالديرون، سيزار وشونغ ألبرتو (2005). هل تولد الديمقراطيات سلوك البحث عن الريع؟ (Do Democracies Breed Rent-Seeking Behavior?). واشنطن: بنك التنمية للبلدان الأمريكية، 17،9،5.
[7] جوادي كوشكسراي، مهرزاد وريفاني بسطاني محمد (2012). المراجعة الهيكلية للحكومة الريعية وأثرها على العملية الديمقراطية (Structural Review of Rent Government and Its Effect on Democracy Process). مجلة كاناديان سوسيال سيونس، 8 (6)، 33.
[8] أرزقي، رباح وجيلفاسون ثورفالدور (2011). ريع الموارد والديمقراطية والفساد: أدلة من إفريقيا جنوب الصحراء (Resource Rents, Democracy and Corruption: Evidence from Sub-Saharan Africa ). مجلة سوسيال سيونس ريسيرش نيتوورك، 21 سبتمبر، 1-3. تاريخ الاطلاع 2 أغسطس 2023، https://ssrn.com/abstract=1931491
[9] نشيم، حسن وفوكة سفيان. مرجع سابق، 834-837.
[10] حسين مهداوي، حسين (1970). أنماط ومشكلات التنمية الاقتصادية في الدولة الريعية: حالة إيران (the Patterns and Problems of Economic Development in Rentier States: the Case of Iran). في: مايكل كوك (محرر)، دراسات في التاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط (Studies in Economic History of The Middle East). لندن: مطبعة جامعة أكسفورد، 428-432.
[11] الرزاز، عمر منيف (2018). الطريق الصعب نحو عقد اجتماعي جديد: من دولة الريع إلى دولة الإنتاج. العربي الجديد، 15 يونيو. تاريخ الاطلاع 22 مارس 2023، https://bit.ly/414n5F8
[12] إبراهيم، حمزة (2021). الاقتصاد الريعي شعار رنان وإيديولوجيا قديمة. مجلة المفكرة القانونية، ديسمبر(24)، 8-9.
[13] تمتلك السودان ساحلًا على البحر الأحمر يصل طوله إلى حوالي 700 كلم، وهي ثالث دولة عربية من حيث المساحة (1.882 مليون كلم مربع)، وثاني دولة عربية من حيث تعداد السكان إذ يقارب عدد السكان 46 مليون نسمة حسب إحصائيات البنك العالمي لسنة 2021. أنظر: البنك العالمي (2023). إجمالي عدد السكان-العالم العربي (Population, totale – Arabe World). تاريخ الاطلاع 22 أبريل 2023، https://bit.ly/3LvkgaP
[14] إدارة معلومات الطاقة الأمريكية (2023). إنتاج النفط الخام في السودان (Sudan Crude Oil Production). ترادينغ إيكونوميكس، يونيو. تاريخ الاطلاع 19 يونيو 2023،  https://tradingeconomics.com/sudan/crude-oil-production
[15] صالح، ياسر (2013). النظام الريعي وبناء الديمقراطية: الثنائية المستحيلة: حالة العراق. بغداد: مؤسسة فريدريش إيبرت، 05-04.
[16] الشاذلي، أشرف (2022). السودان غني بعشرات المعادن النفيسة والتقنيات الروسية تساعدنا في التنقيب عنها. سبوتنيك، 19 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 16 يونيو 2023، https://shorturl.at/efvHT
[17] البنك الإفريقي للتنمية (2023). توقعات السودان الاقتصادية (Sudan Economic Outlook). تاريخ الاطلاع 14 يونيو 2023، https://shorturl.at/xGRZ4
[18] حيان، جابر (2021). تظاهرات السودان وثورة الملح. العربي الجديد، 10 ديسمبر. تاريخ الاطلاع 26 مارس 2023، https://bit.ly/3KyjckH
[19] عبد العاطي، عادل (2007). البقرة العجفاء التي تحلب دمًا: الاقتصاد السوداني بين الدولة الجبائية واقتصاد السوق!. سودانيز أون لاين، 07 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 09 أبريل 2023، https://bit.ly/3LABRhK
[20] محمد علي، إسماعيل (2021). ماذا يعني انضمام السودان إلى مبادرة الدول المثقلة بالديون؟. إندبيندنت عربية، 29 يونيو. تاريخ الاطلاع 06 أبريل 2023، https://bit.ly/3zVorGo
[21] البنك الإفريقي للتنمية. مرجع سابق.
[22] حسن، عبد البصير (2022). ماذا خسر السودان اقتصاديًا بسبب انقلاب البرهان؟. بي بي سي نيوز عربي، 24 يناير. تاريخ الاطلاع 05 أبريل 2023، https://bbc.in/3AtOFQy
[23] حيان، جابر. مرجع سابق.
[24] البنك الإفريقي للتنمية. مرجع سابق.
[25] محمد علي، إسماعيل. مرجع سابق.
[26] المرجع السابق نفسه.
[27] نصار، وليم نجيب جورج (2016). مأزق الديمقراطية في الوطن العربي في ظل النظم «البتريمونيالية الجديدة»: الأردن نموذجًا. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 41-82.
[28] علي أحمد، حسن الحاج (2017). الانقلاب العسكري بمنزلة عملية سياسية: الجيش والسلطة في السودان. مجلة سياسات عربية، يناير (24)، 59-60. https://siyasatarabiya.dohainstitute.org/ar/issue024/Pages/art03.aspx
[29] العربي، العربي. مرجع سابق، 50.
[30] سنوات نظام الإنقاذ…أخطاء جسيمة وحروب وعزلة دولية. الشرق الأوسط، 17 أبريل 2019. تاريخ الاطلاع 18 يونيو 2023، https://shorturl.at/rtzY7
[31] علي أحمد، حسن الحاج. مرجع سابق، 59-60.
[32] روس، مايكل (2001). هل يعوق النفط الديمقراطية؟ (Does Oil Hinder Democracy?). السياسة العالمية، 53 (3)، 332-337.
[33] عبد العاطي، عادل. مرجع سابق.
[34] القرار رقم 46/2002 الذي أصدرته لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان (مجلس حقوق الإنسان حاليًا) عام 2002. وهو القرار الذي يحدد العناصر الأساسية للديمقراطية.
[35] الرزاز، عمر منيف. مرجع سابق.
[36] أعلوان، فؤاد (2019). مسئولية الأنظمة السياسية في بروز مشكلة الأقليات. مجلة قانون وأعمال، أكتوبر (14)، 251.[37] محمد البكري، سعد ياسين (2009). القبيلة في العراق. مجلة المستقبل العربي، 363، 99.
[38] بن أحمد، الطاهر (2011). حماية الأقليات في ظل النزاعات المسلحة: بين الفقه الجنائي الإسلامي والقانون الدولي الإسلامي. الجزائر: مؤسسة كنوز الحكمة للنشر والتوزيع، 216.
[39] تعد التركيبة الديموغرافية للسودان من أكثر التركيبات تنوعًا في العالم، إذ يصف المفكر الكيني علي مزروعي في كتابه «الهامشية المركبة» وضع السودان في محيطه الإقليمي بأنه «لا عربيًا خالصًا، ولا إفريقيًا خالصًا ولا مسلمًا خالصًا». ففي هذا البلد، هناك مناطق ساكنتها زنوج مسيحيون مثل قبائل «النوبة» في «كردفان»، كما أن هناك مسلمون من أصول إفريقية صافية غير مختلطة مع العرب مثل «الفور» و«الفونج» و«البرقو» و«التامة». أنظر: مولود سبع، سداد (2013). البعد العرقي والسياسي لمشكلة جنوب السودان: آيبي نموذجًا. مجلة دراسات دولية، 47، 132-133.
[40] يرى المفكر المغربي محمد عابد الجابري أن فكرة القبيلة –بمعناها المادي والمعنوي– تعد محددًا رئيسيًا للعقل السياسي العربي، وهو ما جعل الدولة العربية تفشل في تأسيس شكل سياسي تنصهر فيه كافة المكونات المجتمعية.
[41] بسيوني، محمد (2014). معضلات استدعاء السودان في خطاب تفكيك الدول. مجلة السياسة الدولية، أكتوبر (198)، 32.
[42] مولود سبع، سداد. مرجع سابق، 136.
[43] بالإضافة لاندلاع الصراعات والنزاعات المسلحة، ساهمت سياسات التهميش والإقصاء المتعمد الذي تعرضت لهما بعض الجماعات الإثنية في السودان، في توفير قوى بشرية رخيصة للمليشيات المنخرطة في النزاع الدائر، خاصةً مع تصاعد نسبة الفقر وتفشي البطالة التي بلغت نسبتها 18.70% عام 2022. عن: إدارة معلومات الطاقة الأمريكية. مرجع سابق.
[44] مولود سبع، سداد. مرجع سابق، 143.
[45] نشيم، حسن وفوكة سفيان. مرجع سابق، 852.
[46] إعلان وبرنامج عمل فيينا لعام 1993.
[47] العوفي، محمد (2023). جدلية العلاقات المدنية-العسكرية والانتقال الديمقراطي والتنموي في المغرب والجزائر: دراسة مقارنة. رسالة دكتوراه في القانون العام، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس، 58.
[48] المرجع السابق نفسه، 25-30.
[49] إبراهيم بغدادي، عبد السلام (2000). الوحدة الوطنية ومشكلة الأقليات في أفريقيا. بيروت: دون دار نشر، 252.
[50] الرزاز، عمر منيف. مرجع سابق.
[51] بن أحمد، الطاهر. مرجع سابق، 169-170.
[52] شبكة الجزيرة الإعلامية (2023). قوى مدنية تطرح إمكانية إحالة دمج قوات الدعم السريع إلى الحكومة القادمة. الجزيرة، 03 أبريل. تاريخ الاطلاع 06 أبريل 2023، https://bit.ly/3GEVFxu
[53] شبكة الجزيرة الإعلامية (2023). للمرة الثانية.. تأجيل توقيع الاتفاق النهائي بين القوى المدنية والمكوّن العسكري بالسودان. الجزيرة، 05 أبريل. تاريخ الاطلاع 06 أبريل 2023، https://bit.ly/3zShi9R
[54] علي أحمد، حسن الحاج. مرجع سابق، 53.
[55] المصطفى، حمزة (2021). متى تحصل الانقلابات العسكرية: هل الجيش التونسي انقلابي؟. تلفزيون سوريا، 28 أكتوبر. تاريخ الاطلاع 20 يونيو 2023، https://shorturl.at/ptKQ9
[56] حسن، عبد البصير. مرجع سابق.
[57] العوفي، محمد. مرجع سابق، 86-89.

Read this post in: English

اظهر المزيد

فؤاد أعلوان

أستاذ العلوم السياسية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، المغرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى