رؤى

رؤى: تشات جي بي تي كمدافع عن حقوق الإنسان

الإشارة المرجعية: عبد النعيم ، حكيم (2023). رؤى: تشات جي بي تي كمدافع عن حقوق الإنسان. رواق عربي، 28 (3)، 1-8. DOI: 10.53833/SWKY2092

حمل هذا المقال كبي دي إف

في ديسمبر 2015، تأسست منظمة (OpenAI – أوبن إيه آي) على يد مجموعة من الأشخاص منهم إيلون ماسك المؤسس المشارك والمدير التنفيذي للعديد من الشركات الأخرى إلى جانب سام ألتمان الرئيس التنفيذي الحالي لـ (أوبن إيه آي) وغيرهم/ن من المستثمرين/ات، وهي منظمة غير ربحية لأبحاث الذكاء الاصطناعي تأسست بهدف تعزيز وتطوير أنظمته، وتهدف المنظمة إلى «التعاون بحرية» مع المؤسسات والباحثين الآخرين من خلال جعل براءات الاختراع والبحوث مفتوحة المصدر للجمهور، بالإضافة لمعالجة مخاطر الذكاء الاصطناعي بشكل عام. في عام 2018 استقال ماسك من منصبه في مجلس الإدارة بعدما أشار لاحتمالية تعارض المصالح مع دوره كرئيس تنفيذي لـ تسلا موتورز بسبب تطوير الذكاء الاصطناعي للسيارات ذاتية القيادة، لكنه ظل ممولًا. في عام 2019 قبلت (أوبن إيه آي) استثمارًا بقيمة مليار دولار من مايكروسوفت إحدى أبرز شركات التكنولوجيا في العالم، وفي 23 يناير 2023 استثمرت مايكروسوفت 10 مليار دولار في المنظمة.

(تشات جي بي تي -ChatGPT)، هو أحد أهم إسهامات (أوبن إيه آي) وهو نموذج ذكاء اصطناعي لغوي معني بالأساس بتوليد النصوص بطريقة لغوية شائعة. وهو يستند إلى تقنية (GPT/Generative Pre-trained Transformer – محوَل توليد النصوص المُدرب مسبقًا) والتي تهدف لإنشاء نصوص ذات نسق طبيعي بأسلوب قريب للغاية من الطريقة البشرية في الكتابة. تتلقى تلك الأداة تدريبًا ضخمًا على مجموعة متنوعة من النصوص لتعلم قواعد اللغة والسياق والأساليب اللغوية المختلفة.

في مارس 2023 قدمت (أوبن إيه آي) إصدارها الأحدث حينها من نموذج الذكاء الاصطناعي اللغوي تشات جي بي تي وهو (جي بي تي 4)، والذي تم تطويره وحقق رواجًا هائلًا منذ بداية عام 2023، كما أحدث ثورة في التطبيقات التي تستند لتقنيات الذكاء الاصطناعي، وبينما تعمل النسخة المجانية من شات جي بي تي استنادًا للنموذج اللغوي GPT 3.5، فإن الإصدار الجديد الذي يتوفر الآن للمشتركين في شات جي تي بلس يقدم قدرات أكبر بكثير، مع القدرة على تحليل الصور والرد على الأسئلة المرتبطة بها. ومن الجدير بالذكر أنه في بعض الأحيان تكون نسبة من المعلومات الموجودة على تشات جي بي تي (النسخة العامة) قديمة؛ وذلك بناءً على تاريخ انقطاع المعرفة التي يمثلها النموذج، وهو يناير 2022. لذا فأن أغلب التطورات أو التغييرات بعد هذا التاريخ ليست مدرجة في ذاكرة التطبيق، ولكنه رغم ذلك لا يزال يمتلك قدرة هائلة على ممارسة كافة المهام التي يطلب منه تنفيذها.

في عام صدور (جي بي تي 4)، وتحديدًا في سبتمبر 2023، أطلقت وحدة تعليم حقوق الإنسان بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان،[1] والتي أعمل بها مسئولًا عن البرمجة، برنامجًا تدريبيًا جديدًا موجهًا للمدافعين عن حقوق الإنسان تحت اسم (تمكين – رؤى نقدية حول حقوق الإنسان).[2] يتيح البرنامج للمشاركين والمشاركات من المنطقة العربية تطوير المعرفة والمهارات المكتسبة من عملهم في مجال حقوق الإنسان، وذلك عبر الانغماس الفلسفي والسياسي والعملي في إشكاليات حقوق الإنسان في المنطقة. ومع فتح باب التقديم للبرنامج استقبلت وحدة التعليم مئات الاستمارات من مدافعات ومدافعين عن حقوق الإنسان من المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، مصر، السودان، فلسطين، سوريا، لبنان، العراق، واليمن.

في خضم عملية قراءة استمارات المشاركة ومراجعتها وتحضيرها لعملية التقييم والتصفية الأولى، لاحظ فريق العمل بوحدة تعليم حقوق الإنسان في مركز القاهرة، تكرار أنماط شكلية وتحريرية واحدة في إجابات عدد محدود من الاستمارات، بالإضافة لتطابق الإجابات في بعض الأحيان، رغم أن استمارات التقديم المتطابقة تلك لشخصين مختلفين تمامًا. لكن ما زاد الأمر ريبة هو ورود استمارات جديدة بها العنصريين السابقين نفسهما، وهو نمط شكلي وتحريري واحد للإجابات بالإضافة لتطابق الإجابات، والتطابق هنا كان على مستوى اللغة والطرح والأفكار والتي تتميز بخلوها من وجهة نظر واضحة لصاحب الإجابة، إلى جانب تميزها بالمعلوماتية والجمود؛ رغم أن السؤال المطروح تمت صياغته بطريقة تسمح للمجيب براحة تامة في طرح أفكاره. لكن مع ورود مجموعة أخرى من الاستمارات المشتركة مع سابقتها في الصفات السابق ذكرها، تأكد لأحد أعضاء فريق عمل وحدة التعليم أن تلك الاستمارات لم يتم فقط تحريرها عبر مولد النصوص (تشات جي بي تي)، وهو ما ليس به مشكلة إلى حد ما، بل أن تلك الاستمارات تم الإجابة على أسئلتها كاملة ماعدا البيانات الشخصية عبر تطبيق تشات جي بي تي نفسه. وبناء عليه، فإن هناك تساؤلًا جوهريًا يخص تلك المسألة أحاول استكشاف إجابة له من خلال هذا المقال، وهو: هل يمتلك المدافع الحقوقي القدرة على صياغة أفكاره تجاه التحديات السياسية المعقدة بدعم من الذكاء الاصطناعي؟

في سياق العمل على إجابة هذا السؤال الرئيسي، يتعين علينا محاولة إيجاد إطارًا مناسبًا لفهم تعقيدات التحديات السياسية التي يواجهها المدافعون عن حقوق الإنسان، انطلاقًا من السؤال السابق، فلعل أنسبها هو الإطار النظري المعروف بـ «تحليل الخطاب النقدي» (Critical Discourse Analysis: CDA)، والذي يركز على فهم اللغة والخطاب من خلال السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية والتاريخية التي يحدث فيها هذا الخطاب، مما يبرز تأثير هذه السياقات على استخدام اللغة وعلاقات السلطة.[3] فمن خلال تطبيق هذه النظرية على السؤال المطروح عاليه، سنحصل على رؤى حول طبيعة متعددة الأوجه لتلك العملية، كما سيساعدنا تحليل الخطاب النقدي في تحليل استراتيجيات الخطاب التي يستخدمها المدافعون عن حقوق الإنسان ضمن سياقات محددة، مما يسلط الضوء على كيفية تشكيل اللغة لفهمهم للتحديات السياسية، فضلًا عن تأثيرها على قدرتهم على الاستجابة بشكل فعال. وفي هذا الصدد، قدم عدد من العلماء البارزين دراسات حول تحليل الخطاب النقدي، ولعل أحد الأعمال المهمة الذي يعتبر مرجعًا في دراسات الخطاب والسلطة والسياق الاجتماعي هو الكتاب المشهور «الخطاب والتغيير الاجتماعي» (Discourse and Social Change) لنورمان فاركلوف. والذي قدّم فيه دراسة مكثفة حول كيفية تأثير اللغة والخطاب على تشكيل السلطة والقوة في المجتمعات والثقافات المختلفة، كما ناقش كيفية استخدام اللغة والخطاب لنقل المعاني وبناء الهويات الثقافية والاجتماعية. ويركز الكتاب على العلاقة بين اللغة والسلطة، وكيفية استخدام الخطاب لتحقيق التأثير في السياقات الاجتماعية المتنوعة.[4]

وعليه فإن تحليل الخطاب النقدي مع التركيز على السياق، سيسمح لنا بتقييم كيفية تأثير التقنيات التي يديرها الذكاء الاصطناعي على خطاب المدافعين عن حقوق الإنسان، فضلًا عن فهم التفاعل بين المحتوى الذي يتم إنتاجه بواسطة الذكاء الاصطناعي وخطاب حقوق الإنسان في سياقات بعينها، من خلال مراعاة المخاوف الأخلاقية وديناميات السلطة المرتبطة بدعم الذكاء الاصطناعي.

كيفية عمل «تشات جي بي تي» ودور السياق في صياغة المعنى

تشات جي بي تي يعتمد على تقنية «المحول» (Transformer) وهي عبارة عن نموذج لتوليد اللغة الشائعة، أو كما يشاع «اللغة الطبيعية»، يستخدم في تحليل وإنتاج النصوص، ويعمل عبر خمس مراحل أساسية، وعليه فقد وجهنا إليه سؤالًا حول كيفية عمله بشكل عام وتفاصيل المراحل، فأفاد بشكل دقيق بالتالي:

النقاط السابقة تشكل الإجابة النموذجية التي يوفرها تشات جي بي تي للمستخدم عند توجيه سؤال محدد. من المهم ملاحظة أن تشات جي بي تي قد ينتج أحيانًا استجابات غير دقيقة أو غير منطقية، ويعود ذلك للطريقة التي تم تدريبه بها؛ إذ يعتمد التدريب على البيانات المتاحة. ويمكن أن يكون هناك حاجة إلى مراقبة وتحسين مستمرين للنماذج المستخدمة لضمان أفضل أداء ممكن، إذ يُسهِّل فهم طبيعة الأخطاء المحتملة ضمان تطوير النظام بشكل دوري، وبالتالي ضمان تقديم تجربة استخدام أفضل.

على صعيد شخصي كانت تجربتي مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي مليئة بالاكتشافات التي كانت بمثابة محفزات كبيرة للانخراط بشكل أكبر في كل ما يتعلق بهذا المجال، خصوصًا فيما يتعلق بتطبيقات توليد النصوص والصور والأصوات وكل ماله علاقة بالإنتاج الرمزي. ورغم أن تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل تشات جي بي تي، لديها القدرة على إنتاج نصوص ومحتوى مرئي ومسموع إلى حد كبير من الدقة؛ إلا أنها لا تزال تعاني من قيود تجعل حلها محل الإنسان أمر صعبًا، وإن كان ليس مستحيلًا بالطبع. إذ أن ذلك التطبيق، أو التطبيقات المشابهة، يمكنه فهم النصوص إلى حد كبير، ولكنه لا يستطيع فهم السياق والمعنى فهمًا عميقًا بالطريقة نفسها التي يمتلكها الإنسان، الأمر الذي قد يؤدي أحيانًا لإنتاج محتوى غير دقيق. أضف إلى ذلك أن كل وأي إنتاج إبداعي يتطلب تأملًا عميقًا وقدرات إبداعية لا تزال خارج نطاق قدرات هذا النوع من التقنيات. وأظن أيضًا أن التواصل الفعّال مع البشر يتطلب القدرة على التفاعل والاستجابة بشكل ديناميكي وفقًا للسياق، ولا تزال تلك القدرة غير متوفرة بشكل كامل في أي من أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية.

وعليه أستبعد أن يستولى الذكاء الاصطناعي على عمل الفنانين والمبدعين والمفكرين والكتاب؛ لأنه مصمم بالأساس لتسهيل عمل كل المجالات السابق ذكرها، من خلال ممارسة دور المساعد الفعال الذي لن يتمكن من ممارسة عمله على أتم وجه إلا إذا تم تزويده بالمعلومات والتفاصيل الكافية، وإلا فإن النتائج ستكون غير مرضية. وهذا هو المكمن الرئيسي في عمل تشات جي بي تي حتى الآن، أو ما يمكن تلخيصه في كلمة واحدة وهي الـ (prompts) وترجمتها الأدق للعربية في ذلك السياق هي «المحفزات».

فوضى المحفزات وجدية الدقة

يجب إدراك أن بعض مما أُثير حول الذكاء الاصطناعي عمومًا، ونموذج توليد النصوص تشات جي بي تي خصوصًا، بشأن أن تلك التطبيقات ليست دقيقة بما يكفي وفي بعض الأحيان خاطئة وعشوائية تمامًا، يُعد صحيحًا نسبيًا. فكما ذكرت أستطيع القول بأن النقطة الفيصلية الرئيسية في استخدام تلك التطبيقات هي «المحفزات» أو بشكل أدق المدخلات المفصلة والمعلومات الدقيقة التي يدخلها المستخدم كي يحصل على نص مكتوب أو معلومة ما.

التطبيق ليس مصممًا لأن يقدم إجابات على أسئلة مجردة أو ممارسة مهام من الألف للياء، وبناء عليه فضرورة التحديد والدقة في التعامل مع التطبيق تعد ضرورة لن يستطيع المستخدم أن يستغنى عنها. ولعل ما يمكننا أن نسميه (فوضى المحفزات) هي السبب الرئيسي في خروج نتائج مخيبة لآمال الكثيرين. فالمستخدم لن يتمكن من الحصول على نتائج مرجوة إلا عبر عملية شديدة الدقة والجدية في التعامل مع تلك الآلة، فهي في النهاية يتم إدارتها عبر مستخدمها وليس العكس. فعلى سبيل المثال إذا ما قررنا طرح السؤال التالي «كيف تتأثر وضعية حقوق الإنسان في المنطقة العربية بتطورات الوضع الإقليمي والدولي؟» على تشات جي بي تي بصياغات مختلفة متدرجة في التركيب والتعقيد، كيف ستكون الإجابة؟ وهل ما سنحصل عليه من إجابات سيكون كافيًا، أم أن الأمر لن يستقيم سوى بعد إجراء عملية تحريرية دقيقة؟ في النموذج التالي أدخلت البيانات لتشات جي بي تي وحصلت على إجابات سأشاركها هنا بدون تحريرها.

السؤال الأول: كيف تتأثر وضعية حقوق الإنسان في المنطقة العربية بتطورات الوضع الإقليمي والدولي؟

الإجابة أدنها هي الإجابة الأولى التي قدمها تشات جي بي تي، ومن الجدير بالذكر أن تشات جي بي تي لم يتم تحديثه منذ العام 2021. كما أن النسخة العربية من التطبيق تعاني من مشاكل لغوية وسياقية أحيانًا. كما أن هناك مشكلة تزيد عمل الباحثين صعوبة، وهي أن نظام الذكاء الاصطناعي ربما في بعض الأحيان يستخدم مفاهيم ليست في متناول البشر تسميات أو فهم لها. «بل إنه بسببها لا تتوافر فرصة كبيرة لمعرفة التحيزات التي ربما تكون متضمنة في النظام الذكي، أو ما إذا كان الأخير يمدّ المستخدمين بمعلومات خاطئة، إذ ليس في جعبة الباحثين طريقة تشرح الكيفية التي خلص بها إلى الاستنتاجات التي قدمها».[5]

في الإجابة السابقة، نجد أن الإجابة شديدة التنظيم والترتيب، وهي تشبه، إلى حد كبير، ما قد يوصي به المعلم المدرسي في المنطقة العربية تلاميذه، وذلك عبر البدء بمقدمة تحتوي على النصف الثاني من السؤال ولكن في شكل جملة خبرية، ومن ثم طرح الإجابة في شكل نقاط ذات عناوين فرعية لكل عنوان فقرة مكونة من جملة واحدة تشرح العنوان. فقد لاحظت، مع تكرار استخدامي لتشات جي بي تي، أن هذا النمط في تقديم الإجابة هو نمط متكرر وثابت يقدم من خلاله الإجابات باللغة العربية. بالإضافة لذلك نلحظ في الإجابة وجود ملامح سياسة واضحة تم إضفاءها على المعلومات والتفاصيل المحفوظة في التطبيق حتى خرج نص الإجابة المحرر بتلك المصطلحات، مثل «النزاع الإسرائيلي الفلسطيني»، «اللاجئون والمهجرون»، «تدخلات الدول الكبرى في المنطقة تؤثر على وضعية حقوق الإنسان». ولكن تظل الإجابة سطحية تقريرية خالية من التحليل، ولا ترقى أن تكون إجابة مقدمة للمشاركة في برنامج تدريبي معني برفع كفاءة المدافعين/ات عن حقوق الإنسان التحليلية والسياسية المتقاطعة مع كافة المجالات ذات الصلة. ولكن ماذا لو حاولنا تطوير السؤال نفسه بأن نضفي عليه بعض التفاصيل السياقية المحددة والمعلومات الإضافية؟

السؤال الثاني: كيف تتأثر وضعية حقوق الإنسان في المنطقة العربية بتطورات الوضع الإقليمي والدولي في ظل إشكاليات التحول الديمقراطي في المنطقة وفشل الثورات العربية؟

الإجابة التالية تم توليدها في النافذة نفسها التي قمت بطرح السؤال الأول فيها، فتشات جي بي تي يمارس التعلم الذاتي، ويطور استجاباته بشكل مستمر معتمدًا على المعلومات التي يتم تزويده بها، ويرتبها بشكل سياقي ليقدم إجابات تتطور بتطور سياق الأسئلة وليست إجابات منفصلة السياق. ونلاحظ هنا توليد إجابتين، الإجابة الأولى كما ستلاحظون مشابهة للإجابة السابقة باختلاف العناوين الفرعية وصياغات الجمل والتي بالضرورة استفادت مما أضفته لسؤالي، أما الإجابة الثانية فهي أكثر دقة.


 في المثال السابق ومع إضافة جملة واحدة توضح السياق الموضوعي والموقع الجغرافي بالإضافة لأحد الملامح الرئيسية للحظة الحالية بالمنطقة العربية، نحصل على إجابة أكثر دقة وانضباطًا، تحاول إيجاد مساحة ما لتحليل المعلومات المطروحة وليس فقط سردها. وعليه فمع تكرار العملية يبدأ تشات جي بي تي عبر معالجة المعلومات المزودة له باستمرار ببلورة أسلوب يعبر عن جودة ودقة المدخلات/المحفزات المعلوماتية التي يتلقاها، بالإضافة لتعبيره الذي يزداد عمقًا عن سياقية المعلومات المدخلة له عبر تكرار العملية، فهو أقرب للمساعد الموسوعي الموهوب سريع التعلم من أن يقود عملية البحث والكتابة كاملة.

أخيرًا وبعد الانتهاء من هذه التجربة مع تشات جي بي تي، يتضح لي أن تحليل الخطاب النقدي يمارس دورًا بارزًا في تعزيز فهم المحادثات والمعلومات المقدمة، وهنا يحاول تشات جي بي تي بشكل ملحوظ إبراز القدرة على استيعاب السياق النقدي بدقة ومرونة، مما يجعله أداة جيدة لفهم التفاصيل والمضامين الخطابية العميقة. ولعل الاستفادة من فهم «تحليل الخطاب النقدي» قد تُمكِّن المستخدمين من استخلاص الأفكار الرئيسية والنقاط الحيوية، مما يسهم في تعزيز الاستفادة القصوى من تبادل المعلومات. بالإضافة إلى ذلك، يظهر تشات جي بي تي أيضًا قدرة على التكيف مع سياقات مختلفة وفهم الرموز اللغوية والثقافية، مما يزيد من قيمته كأداة تحليلية قوية ومفيدة في التواصل البيني، ولكن بالتأكيد لا تزال بحاجة للكثير من البحث. لكن على الأقل يتعين علينا الوعي بأن التطورات التكنولوجية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي تقدم فرصًا جديدة لدعم المدافعين عن حقوق الإنسان في تحليل وفهم السياقات السياسية. ومع ذلك، لا يمكننا، حتى الآن، القول بأن الذكاء الاصطناعي سيحل محل الإنسان في هذا المضمار؛ إذ أن القدرة على التفاعل مع السياق وفهم التحديات الاجتماعية والسياسية بشكل عميق تبقى مهارة لا يستطيع الذكاء الاصطناعي مجاراة العقل البشري فيها، ولكن على الأقل، عبر مزج الجهود بين المدافعين عن حقوق الإنسان والتكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، أرى أن هنالك أفق واضح لاستفادة أكبر واستجابة أفضل للتحديات المعقدة في العالم السياسي المعاصر.

[1] مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان هو منظمة غير حكومية إقليمية مستقلة تأسست عام 1993. https://cihrs.org
[2] برنامج تمكين، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان https://cihrs.org/tamkeen-critical-insights-on-human-rights/
[3] بالتريدج، براين (2006). تحليل الخطاب (Discourse Analysis: An Introduction). لندن: دار نشر كونتينيوم.
[4] فاركلوف، نورمان (1992). الخطاب والتغيير الاجتماعي (Discourse and Social Change). كامبريدج: دار نشر بوليتي بريس.
[5] غريفين، أندرو (2023). معضلة «شات جي بي تي»: لا يستطيع شرح نفسه. انديبندنت عربية، 13 مايو. تاريخ الاطلاع 5 نوفمبر 2023، https://shorturl.at/qBFKN

Read this post in: English

اظهر المزيد

حكيم عبد النعيم

مسئول البرامج بوحدة التعليم بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، فنان متعدد التخصصات، وكاتب مهتم بقضايا التقاطعية بين الفنون والثقافة من ناحية والعلوم الاجتماعية والإنسانيات من ناحية أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى