رؤى

رؤى: استعصاء مستدام أم مؤقت؟ التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان في العالم العربي

حمل هذا المقال كبي دي إف

الإشارة المرجعية: حسن، بهي الدين (2024). رؤى: استعصاء مستدام أم مؤقت؟ التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان في العالم العربي. رواق عربي، 28 (3). 20-28. DOI: 10.53833/UOJW1627

يشهد العالم تراجعًا متواصلًا عن تبني النظام الديمقراطي وعن احترام حقوق الإنسان، وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته في التناقص التدريجي في عدد الدول المصنفة حرة أو شبه حرة، والصعود المتزايد للأنظمة الاستبدادية التي صارت تحكم نحو 72٪ من سكان العالم عام 2022.[1] وإلى جانب التراجع، فإن العالم العربي يعاني أيضًا من ديمومة الاستعصاء على التحول للديمقراطية، الأمر الذي يتمثل في عجز جميع الدول العربية عن الالتحاق بثلاث موجات عالمية متتالية للديمقراطية أثناء القرن العشرين، إلى جانب التدهور المتواصل لوضعية حقوق الإنسان، فضلًا عن تمكّن النظم الحاكمة من الإفلات من إعصار انتفاضات وثورات الربيع العربي الذي اجتاح المنطقة خلال العقد الثاني من القرن الحالي. لم يكن الثمن باهظًا فقط، بل صارت بعض هذه النظم أكثر سلطوية ووحشية.

حينما حل الربيع العربي سارع محللون للتبشير بأن الاستعصاء كان أمرًا مؤقتًا، وأن العالم العربي قد كفَّ عن كونه استثناءً من التاريخ والجغرافيا. لكن في المقابل، وعندما انكسرت موجات الربيع، قال آخرون بأن ذلك يغلق باب الجدال حول مدى احتمالية حدوث التحول الديمقراطي في أي وقت لاحق.

خصوصية إشكالية الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي

تُصدر المنظمات الحقوقية العربية والدولية تقاريرًا متواترة وموثقة لانتهاكات وجرائم حقوق الإنسان في العالم العربي، وهي تحتوي تقريبًا على جميع أنماط الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وفقًا للقانون الدولي. لكن ذلك لن يختصر الطريق لإدراك خصوصية المشكلة، فبين هذه الانتهاكات نوعية من أبشع الجرائم المحظور ارتكابها في مواجهات حربية بين جيوش دول متصارعة في حالة حرب. رغم ذلك ارتكبت جيوش وأجهزة أمنية عربية هذه الجرائم، المحظور ارتكابها في الحروب، مع شعوبها. الأسوأ أن رؤساء الدول التي ارتكبت هذه الجرائم أكثر من مرة،[2] في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي لم تجر محاسبتهم، بل مازال يُنظر إليهم باعتبارهم أبطالًا قوميين من قطاعات شعبية عريضة في العالم العربي، بمن في ذلك قيادات أحزاب سياسية معارضة وحقوقيين وقادة نقابيين في المنطقة،[3] لا يتورعون عن تلقين الدروس كل يوم لشعوب المنطقة وحكامها والمجتمع الدولي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، وعن ضرورة نبذ ازدواجية المعايير.

لذلك، ليس مثيرًا للدهشة أن ينظر كثير من المحللين والخبراء المتخصصين العرب وغير العرب للمنطقة العربية باعتبارها «استثناءً»[4] من العالم فيما يتصل بإمكانية التحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان، خاصةً وأنه لا تتوافر منذ عدة عقود طليعة ديمقراطية متماسكة تضطلع بهذه المهمة. من ثم، فإنها منطقة لا ينطبق في تحليلها القواعد والمناهج التي تطبق عند النظر لمناطق أخرى، وبالتالي لا تنطبق عليها المقاربات المتعارف عليها عالميًا للدفع للأمام بعملية التحول الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان. فهل ذلك صحيح؟ ماهي جذور هذا الاستثناء؟

المدخل المشترك للقائلين بالطابع الاستثنائي للعالم العربي المانع للديمقراطية وحقوق الإنسان هو ثقافي يرتكز لدي كثيرين على مكون ديني، أي الدين الذي يعتنقه غالبية مواطني المنطقة. فالإسلام «في رأيهم يختلف اختلافًا عضويًا عن كل الأديان الأخرى في أنه يريد أن يكون دينًا ودولة في آن معًا، وأن نبي الإسلام تلقى الوحي بدين وأسس دولة في الوقت نفسه، ولا يملك خلفاؤه أن يعزلوا أحد هذين العنصرين المتحدي الجوهر منذ البدء عن الآخر، دون أن يخونوا رسالته».[5] لمونتسكيو (الفيلسوف السياسي الفرنسي واضع نظام الفصل بين السلطات في القرن الثامن عشر) رأي قاطع في هذا السياق، إذ يقول بأن «الحكومة المعتدلة هي أصلح ما يكون للعالم المسيحي، والحكومة المستبدة هي أصلح ما يكون للعالم الإسلامي».[6] ويجادل آخرون في الاتجاه ذاته بأن «التقليد العربي–الإسلامي لم يألف تقليديًا مفهوم «الحرية»، ولا قام بتطوير مفهوم للفردانية»،[7] خاصةً وأن «النصوص مقدسة وصريحة معًا… فيكون من العسير جدًا التوصل إلى حل وسط براجماتي».[8] ويضيف نزيه الأيوبي في أهم أعماله؛ بأن «الإسلام السني عمل، شأنه شأن جميع أيدولوجيات الهيمنة، على حث المحكومين على الرضي … وأن النظرية القانونية للعلماء السنة كانت دولتية في توجهها أكثر من كونها تجارية أو حتى اجتماعية بالمعنى الأوسع للكلمة».[9] لذا فإن المؤرخ المغربي عبد الله العروي يرى –وفقًا لتلخيص الأيوبي لأفكاره– «أن الدولة العربية لم تقترن قط، في ظهورها ونموها، بفكرة الحرية (بمعناها الغربي). فللحرية في الفكر الإسلامي معني نفسي/غيبي، بينما هي في الفكر الغربي تحمل بصورة رئيسية معنى سياسي واجتماعي».[10] لذلك فإن الدولة العربية في نظر الأيوبي «تتكون بمجملها من جسد وعضلات، ولكن ليس فيها سوى قدر ضئيل من الروح والعقل، ولا وجود لنظرية في الحرية لديها… دولة من هذا النوع وبهذه الصورة لابد أن تقوم في النهاية على أساس من اغتصاب ما للغير والقسر: معرضة أبدًا لتهديد طامع في السلطة يتمتع بقوة أكبر، ومبعدة دائمًا عن ميدان القيم الأخلاقية، إلا في حالة اليوتوبيا الإسلامية غير الواقعية».[11] قد يظن البعض أن نقد الأيوبي الحاد للدولة العربية يستخلص منه أنها دولة قوية، غير أنها بتعبيره هي دولة «ضاربة»، أي أن كل قوتها تتجلى في مواجهة المجتمع. يضيف إتش إيه آر. جيب مظهرًا آخر مهمًا، وهو «عدم استحداث أية مؤسسات اجتماعية متطورة يمكن من خلالها توجيه الإرادة العامة وترجمتها وتحديدها وتحريكها… باختصار؛ لا يوجد جهاز وظيفي للديمقراطية الاجتماعية إطلاقًا».[12]

بإيجاز؛ يخبرنا هؤلاء المفكرون والباحثون، العرب وغير العرب منهم، أن العالم العربي يعاني حالة استعصاء عنيد على التحول للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وأن هذا الاستعصاء يستند لجذور راسخة تنبع من نصوص دينية مقدسة بالإضافة إلى الهياكل الاجتماعية والثقافات المواكبة عبر التاريخ. فهل نحن إزاء استعصاء أبدي، وبمعنى ما «عرقي»، أي غير قابل للعلاج؟

تأمل تاريخ تطور المجتمعات البشرية عبر التاريخ قد يساعدنا في إدراك أفق الاستعصاء الراهن في العالم العربي على التحول للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. فالنظام الديمقراطي والمبادئ العالمية لاحترام حقوق الإنسان لم يولدا مع ميلاد الإنسان البدائي، وإنما توصلت البشرية لاستنباطهما بالتدريج عبر مخاض مضني صعودًا وهبوطًا تواصل لآلاف السنين، ومرَّ عبر حروب دينية وغير دينية دامية وبثمن بشري فادح، ولم تعرف طريقها للتبلور سوى مع القرن الثامن عشر وفي أوروبا. ثم تواصل تطورها التدريجي لنحو قرنين حتى منتصف القرن العشرين، ولكن بعد معاناة إنسانية هائلة خلال حربين عالميتين، جرى في نهاية الثانية منهما قصف مدينتين بقنابل ذرية لأول مرة في التاريخ، قبل3٣ سنوات فقط من التوصل لأول إعلان عالمي لحقوق الإنسان.

العالم العربي هو بصدد لحظة متخلفة ممتدة من مسيرته نحو التطور السياسي والاجتماعي، وقد ساهمت عوامل محددة في إبقائه متخلفًا، خاصة فيما يتعلق بتطور النظم السياسية واحترام حقوق الإنسان، عن غيره من مناطق العالم، وخاصة المنطقة التي تُعرف بــ«الشمال العالمي».

على مدار مسيرة التطور الإنساني في العالم خضعت التفسيرات البشرية السائدة في زمانها للنصوص المقدسة للأديان لمراجعات متواصلة ومتغيرة وفقًا للزمان، وللمكان أيضا. ولم يكن الإسلام استثناءً من هذه المراجعات؛ بل إن فتاوى الإمام الشافعي –إمام أحد المذاهب الأربعة الكبرى للإسلام السني– للمسلمين في مصر قد تغيرت عما كان يفتي به للمسلمين في العراق قبل رحيله منها. يحذر الأكاديمي الكويتي خلدون حسن النقيب بأنه «ليست هناك ثقافة في المطلق مجردة في التاريخ ومن معاناة التجربة الإنسانية والمقاصد الإنسانية، فإذا كانت الحضارة العربية الإسلامية هي فعلًا حضارة فقه (مثلما يقول الأكاديمي المغربي محمد عابد الجابري)، فإن مجمل الإنتاج الثقافي في المشرق منذ مطلع القرن [العشرين]، ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولي بشكل خاص، ما هو إلا محاولات للانفكاك من قيود الفقه وجعله منحصرًا في أمور الدين».[13] المدخل التقليدي السائد للبحث عن التحرر من قيود الفقه يتجه مباشرة لعلمانية الدولة، لكن من المثير تأمل مسيرة هذا التحرر في التطور التاريخي للمجتمعات الإسلامية، خاصة أنه يقدم لنا دروسًا تتعلق بالحاضر ومستقبل التطور الثقافي والاجتماعي والسياسي. وحسبما يعتقد أحمد كورو فإن طبيعة هيكل علاقة علماء الدين مع النخبة الحاكمة كان لها تأثير حيوي على طبيعة التطور التاريخي للمجتمعات الإسلامية. ويُلاحَظ في هذا السياق أن الانفصال بينهما هو أحد أهم الملامح الأساسية التي أدت لازدهار الدولة الإسلامية خلال عصرها الذهبي بين القرنين الثامن والحادي عشر الميلادي. بينما يلاحظ كورو –في المقابل– أن التحالف بينهما قد تسبب في «تهميش المفكرين والمثقفين والتجار»، كما أنه «يتحمل مسئولية الركود العلمي والاجتماعي والاقتصادي، وأيضًا السلطوية التي تشهدها اليوم معظم البلدان ذات الأغلبية المسلمة» منذ القرن الثاني عشر الميلادي.[14]

وبينما يعتقد المؤرخ المغربي علي أومليل أن «الثقافة الإسلامية تحتوي على عناصر قد تكون متناغمة أو متناشزة مع الديمقراطية في آن واحد، اعتمادًا على المجتمع الخاص وعلى المفصل التشريحي»[15] (يقصد تأويل النص الديني)؛ فإن الأكاديمي السوداني عبد الله النعيم (في خلاصاته لندوة عن الأبعاد الثقافية لحقوق الإنسان) يلح على الأهمية الحاسمة للعوامل السياسية (وليس الدينية)، وبشكل خاص السلطة السياسية في الدولة العربية، في ترجيح مدرسة ما أو أكثر على غيرها في تأويل النصوص الدينية الإسلامية المقدسة.[16] كذا فإن المؤرخ المصري خالد فهمي يؤكد أيضًا، من خلال دراسته لتطور القانون والعدالة في مصر خلال القرن التاسع عشر، على الدور الحيوي للسياسة فيما يسميه «علمنة الشريعة»؛ إذ يلاحظ أن «الشريعة اكتسبت –كما طبقت في النظام القانوني المصري في القرن التاسع عشر– مرونتها وقدرتها على التكيف من المزاوجة بين نظامي الفقه والسياسة. وقد تحقق ذلك من خلال إنشاء مجالس السياسة جنبًا إلى جنب مع المحاكم الشرعية». ثم يعود ليؤكد أن «علمنة الشريعة في مصر لم تحدث بسبب الحد من اختصاصها وقصرها على الأحوال الشخصية وحدها، وإنما لأن عنصرًا أساسيًا فيها، وهو السياسة، قد نجح في اعتماد الأساليب البيروقراطية والطبية التي مثلت ركيزة أساسية لجهود التحديث التي قامت بها الدولة المركزية».[17]

العقبات التي تعترض طريق تعزيز احترام حقوق الإنسان في العالم العربي ليست في نص ديني ما أو أكثر، وإنما في طبيعة علاقات القوي السياسية وانعكاسها على المجال الديني. يلفت لاري دايموند الانتباه إلى بحث ذي طبيعة مسحية، توصل لأنه عند مقارنة المسلمين بالمسيحيين في 9 دول نامية بدا «أن المسلمين أقل ليبرالية وتسامحًا على مستوى القضايا الاجتماعية. أما فيما يتعلق بقضايا الثقافة الديمقراطية، مثل التسامح السياسي، والمشاركة، ودعم حرية التعبير، ومعارضة البدائل غير الديمقراطية، فإن المسلمين عادة لا يختلفون بشكل ملحوظ عن غير المسلمين». ومن ثم يستنتج «إنه من غير الممكن القول أن الثقافة الإسلامية أقل أو أكثر دعمًا لنظام ديمقراطي للحكومة من الثقافات المسيحية أو ثقافات أخرى».[18] وينوه دايموند في السياق ذاته بما توصل إليه بيبا نوريس ورونالد إنغلهارت في بحثهما (ذي الطبيعة المسحية أيضًا) عن «الثقافة الإسلامية والديمقراطية»، من أن «دعم الديمقراطية منتشر على نحو مذهل وسط الشعوب الإسلامية، بل حتى وسط أولئك الذين يعيشون في مجتمعات استبدادية».[19] يخطئ كثيرون عندما يُرجعون الاستناد للأديان في تفسير التطور الاجتماعي للبشرية إلى انحيازات دينية بعينها لأصحاب هذه التفسيرات؛ فواقع الأمر أن ذلك راجع لتبني هؤلاء لتصورات نظرية خاطئة خاصة بالثقافة السياسية للشعوب والمجتمعات، سواء إسلامية وغير إسلامية.

يجادل الأكاديمي الفلسطيني عزمي بشارة بأن تصور «وجود جوهر ثابت لثقافات الشعوب هي مقاربة غير تاريخية»، وأن «القول بوجود ثقافة ديمقراطية سابقة على نشوء نظام ديمقراطي مجرد فكرة متخيلة يدحضها التاريخ»، موضحًا «أن ما يسمى الثقافة الديمقراطية السائدة التي تسهم في التزام سيادة القانون وحقوق المواطن والتعددية السياسية، هي نتاج تطور تدريجي للنظام الديمقراطي».[20] أما ميلاد النظام الديمقراطي ذاته، فهو وفقًا لبارينجتون مور جونيور، نتاج «تطور البنى الاجتماعية والصراعات السياسية التي ترافقها.. وغير مرتبط بجوهر ثقافي، دينيًا كان أو غيره».[21]

ربما يقدم التطور التاريخي للديمقراطية وقيمها في الولايات المتحدة الأمريكية إجابة مدهشة لأصحاب التفسير الديني والثقافي. إذ يعرض بشارة (في دراسة أخرى له) وجهة نظر بارينجتون مور من خلال الدراسة ذاتها التي سبق أن أشار لها، قائلًا: «فالحرب الأهلية (الأمريكية) التي دارت حول قضية ذات بعد قيمي وثقافي خطير، أي قضية العبودية، وقعت بين سكان مسيحيين بيض من أصل أوروبي تبنوا أنظمة اقتصادية مختلفة، ونشأت ثقافتان سياسيتان على الرغم من الاشتراك في الدين والأصل، وذلك نتيجة للظروف التاريخية والاقتصادية المختلفة. ثم جرى فرض التغيير سياسيًا على الجنوب وتغيرت ثقافته تدريجيًا».[22] رغم ذلك، لا يزال التمايز في الثقافة السياسية بين شمال وجنوب الولايات المتحدة الأمريكية حاضرًا حتى اليوم.

وإذا كان مور يؤكد بأن «التفسير الثقافي يقود في النهاية إلى مغالطة دائرية»،[23] فإن الأكاديمي الحقوقي المصري محمد السيد سعيد يعتبره يقود «لمغالطة تاريخانية «Fallacy of Historicity». فالثقافة الديمقراطية الحديثة لا يمكن اشتقاقها من تقاليد تاريخية سابقة على الحداثة. كما لا يمكن معارضتها بتقاليد معاكسة في التاريخ القديم أو الوسيط».[24] ويضع سعيد في السلة ذاتها ما أسماه «الحتميات الثقافية «Cultural Determinism»، ورفيقاتها التقليديات، وخاصة الحتميات الجغرافية… مثل نظريات الاستبداد الشرقي، والفرعونية السياسية، والمجتمع النهري، وتقديس العنف لدي القبائل ونظريات المجتمع التقليدي والشخصية القومية والثقافة الدينية كمصدر للعنف … الخ».[25]

النظم السلطوية هي أكبر مستفيد من تفسير تأخر التحول الديمقراطي وتدهور حقوق الإنسان بثقافة الشعوب، حتى في الدول التي تقع في أدنى درجات سلم التصنيف العالمي لاحترام حقوق الإنسان، مثل مصر. ففي وثيقتها المسماة «الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان»، تعزو الحكومة المصرية التدهور غير المسبوق في حقوق الإنسان في مصر لضعف وعي المواطنين والأحزاب السياسية والمجتمع المدني، ولذلك فإن المهمة الرئيسية للاستراتيجية الموعودة هي اضطلاع الحكومة بتوعية هذه الأطراف بحقوق الإنسان!.[26] جدير بالذكر أن مصر تحتل المرتبة 140 من بين 142 دولة في احترام الحقوق الأساسية، فيما تتذيل القائمة فيما يتصل بانفتاح الحكومة على الشعب.[27]

اختراقات في جدار الاستثناء العربي

جدير بالملاحظة أن الحكم اليقيني المستند على تفسير ثقافي لامتناع إمكانية التحول الديمقراطي في العالم العربي، لا يفسر لنا لماذا انخرطت عدة دول عربية لنحو قرن من الزمان في مسارات ديمقراطية جزئية منذ نحو منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وكيف أدركت مبكرًا الترابط الوثيق بين متطلبات التحرر من الاستعمار وامتلاك أسلحة النضال الديمقراطي، مثل حرية الصحافة والاتحادات الطلابية والنقابات والأحزاب السياسية وبرلمان منتخب، ووضع دستور يجسد هذه المبادئ ويحمي هذه المنابر. يستلفت الانتباه أيضًا أن رجال دين (إسلامي) مارسوا دورًا تاريخيًا فكريًا وسياسيًا متميزًا في هذا السياق، وخاصة في مصر،[28] على رأسهم الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي والشيخ محمد عبده إمام الأزهر وغيرهم. ويلاحظ بشارة أن «السودان عاش ستًا من أكثر التجارب البرلمانية الديمقراطية أهمية في التاريخ العربي الحديث وفي تاريخ العالم الثالث 1953–1958، ثلاثًا منها تحت حكم أجنبي، وثلاثًا في ظل الاستقلال».[29] لكن هذا التلازم بين مساري التحرر الوطني والديمقراطي كان أبرز ضحايا نظم الاستقلال الوطني التي بدأت تحكم في العالم العربي منذ منتصف القرن العشرين.

مع تفاقم أزمة هذه النظم سياسيًا واقتصاديًا، خاصةً بعد الهزيمة العسكرية التاريخية أمام إسرائيل عام 1967، بدأ العالم العربي يعرف قدرًا من الانفتاح السياسي، الأمر الذي دفع جون ووتربوري للقول بأن «هناك استثناء للاستثنائية. فقد جرت في تركيا ولبنان والسودان ومصر والأردن واليمن محاولات في التجربة الديمقراطية بين حين وآخر وعلى نحو حذر».[30] سعيد يعتبر هذه المحاولات «إصلاحات ليبرالية» بمبادرة من النظم الحاكمة ذاتها. بالطبع لم يحدث ذلك نتيجة تطور مفاجئ في الثقافة السياسية للشعوب. وهو الأمر الذي قد يفسر نبذ سعيد تفسير هذه الإصلاحات باعتبارها «استجابة لضغوط شعبية»، إذ يراها «تكتيك يستهدف وقف أزمة شاملة لعدم الاستقرار والتفسخ في نظام سياسي كان يعاني بالفعل من تدهور قدراته وطاقاته الاستيعابية في الميدانين الأخلاقي والاقتصادي». وهو يرى أن هذا التفسير ينطبق على عدة دول عربية: منها مصر خلال عامي 1975/1976، والجزائر خلال عامي 1988/1989، والأردن في عامي 1988/1989، واليمن خلال السنوات 1991/1993، والمغرب خلال الفترة 1991/1993.[31]

الرسوخ الممتد لنظم الحكم السلطوية في العالم العربي بعد الاستقلال الوطني، وحتى بعد انفتاح بعضها سياسيًا، يثير أسئلة تجدد العودة لسؤال: إذا لم يكن العالم العربي يعاني من استثناء أبدي من التحول الديمقراطي وأنه مجرد استعصاء مؤقت، فلماذا لم تمتد فترات الانفتاح السياسي وتتطور «الإصلاحات الليبرالية»؟ يجيب سعيد بأنها كانت مجرد «حزمة إصلاحات سياسية داخلية لا تتفق مع مفهوم الديمقراطية، وإنما هي في أفضل الأحوال انفتاح أو استرخاء ليبرالي في مجال السياسة»، ويسميها سعيد «نموذج الإصلاح الليبرالي بلا دمقرطة – Liberalization without democratization».[32]

هل بذلك أجاب سعيد مسبقًا على سؤال «لماذا انتكس الربيع العربي؟» الذي تردد على نطاق واسع بعد نحو 20 عامًا من مناقشة ورقته؟ أظن أن إجابته تشكل نقطة انطلاق فيما يتعلق بفهم تطور الوضع في مصر، خاصة بعد تنحي الرئيس حسني مبارك في 11 فبراير 2011 وتولي الجيش زمام الأمور.

فقد شهدت عدة دول عربية أشكالًا متنوعة من الانفتاح السياسي في سياق الموجتين الأولى والثانية للربيع العربي، ولكن دونما تتحول لنظام ديمقراطي، ربما باستثناء تونس ما قبل الانقلاب الدستوري المدعوم بالجيش في 25 يوليو 2021. هذا «الاسترخاء الليبرالي» هو ما بدأت تشهده مصر في 11 فبراير 2011، وحتى الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013. هو نفسه في اليمن خلال الفترة التالية لعزل الرئيس علي عبد الله صالح، وقبل الانقضاض الحوثي المسلح المدعوم بإيران على السلطة ثم التدخل العسكري السعودي الإماراتي. وفي الجزائر أثناء سنوات الحراك الشعبي حتى الانتخابات البرلمانية. وكذا السودان بعد الانتفاضة وحتى الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021. هكذا أفلتت النظم السلطوية العربية من الربيع العربي بأقل الخسائر؛ بل أنها صارت أكثر سلطوية ووحشية كما في مصر. فيما خسرت الشعوب ملايين المواطنين في حروب أهلية ونزاعات مسلحة وموجات من اللجوء القسري والهجرة غير النظامية والنزوح الداخلي وأعمال القمع الداخلي الدامي، سواءً باستخدام الأسلحة الكيماوية (سوريا)، والمذابح الجماعية المنظمة (مصر والسودان)، والاغتيال المستهدف (اليمن والعراق ولبنان وليبيا).

في بعض الأحيان، تؤدي المقارنات التي تفتقر لأسس منهجية سليمة إلى استنتاجات خاطئة. فرانسيس فوكوياما يتوقف أمام واحدة منها. فرغم ملاحظته وجود «اختلافات واضحة بين الشرق الأوسط ومناطق أخرى مثل أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية، بدءً بالثقافة وتأثير الإسلام»؛ إلا أنه لا ينطلق من الأديان والثقافة كركيزة لتفسير التقدم أو التخلف عن التحول الديمقراطي، وإنما يتوقف عند مستوى التطور الاجتماعي؛ إذ أنه يعتقد أن «الموجة الثالثة من التحولات الديمقراطية في هاتين المنطقتين هي سوابق مضللة للربيع العربي». ومن أجل استخلاص الدروس المفيدة يحث فوكوياما على مقارنة الربيع العربي بثورات أوروبا 1848، «حيث كانت الطبقة الوسطي هي الفاعل المفتاحي»، وحيث «لم يتوافر الأساس الاجتماعي لديمقراطية مستقرة، وقد لا يكون متوافرًا بعد في أجزاء عديدة من الشرق الأوسط».[33]

في السياق نفسه، تجنح كثير من التحليلات العربية وغير العربية لتفسير فشل الربيع العربي بمنح مكانة مبالغ فيها لعوامل مثل ضعف القدرات والهياكل التنظيمية للحركة الشعبية؛ الافتقار للثقة بين الحركات السياسية العلمانية والإسلامية وانعكاس ذلك على مدى الحرص على التنسيق والعمل المشترك في مقابل أوهام الطرفين عن الجيوش العربية؛ التدخلات الإقليمية العسكرية والسياسية والمالية (المحور السعودي/الإماراتي، إيران، وتركيا)، بالإضافة إلى ضعف المساندة الدولية.

وباستثناء البحرين، (التي جرى قمع انتفاضتها المتواصلة لعدة شهور عام 2011، بتدخل عسكري حاسم مشترك من السعودية والإمارات)، وسوريا (إذ تم إنقاذ نظام بشار الأسد بتدخل عسكري روسي وإيراني كثيفين، مدعوم بميلشيات حزب الله اللبناني وأحزاب شيعية عراقية)؛ فإن العوامل الداخلية هي التي مارست الدور الحاسم في فشل الربيع العربي؛ وعلى رأسها طبيعة النظام السلطوي في العالم العربي؛ والذي يعد أيضًا المدخل الرئيسي لتفسير خصوصية الاستثناء العربي من التحول الديمقراطي في العالم، قبل وبعد الربيع العربي.

الخصوصية الاستثنائية للنظام السلطوي العربي

تكمن خصوصية وقوة النظم السلطوية العربية في تمكنها من الجمع بين هيمنة احتكارية على الاقتصاد، وقدرتها على نسج شبكة تحالفات عريضة تجمع بين قوي اجتماعية تقليدية (عشائرية وعائلية ودينية) وبين أطراف حداثية علمانية من الطبقة الوسطى. غير أن صمودها لزمن طويل في مواجهة أزمات سياسية وإقليمية مزلزلة لم يكن ممكنًا بدون قدرتها الفريدة على نسج وتسويق خطاب أيديولوجي ملفق ومتعدد الوجوه (ديني وعلماني)، قادر على تجنيد أقسام متخاصمة من معارضيها (بما في ذلك بعض الحقوقيين أحيانا) لحسابها في صراعاتها اليومية مع أطراف دولية أو إقليمية أو محلية، وبشكل يسفر دائمًا عن تعزيز سلطتها المهيمنة وإضعاف خصومها المحليين، وحمايتها من السقوط تحت ضغوط محلية أو إقليمية أو دولية، وكذلك في إقناع القوي الدولية الكبرى بأنه لا بديل لهذه النظم السلطوية في المحافظة على استقرار المنطقة وصيانة مصالح تلك القوى. بعد الربيع العربي أضيفت قناعات جديدة على جدول الأعمال تتعلق بالتسويق الدولي لقدرة هذه الأنظمة على كبح مشاعر الغضب الفلسطيني و/أو العربي ضد وحشية الاحتلال الإسرائيلي، ولجم موجات الهجرة غير النظامية عبر المتوسط إلى أوروبا.

في هذا السياق لعب العامل الاقتصادي دورًا حاسمًا كركيزة في تمكين النظم السلطوية العربية. يقول بشارة أن «الاقتصاد الريعي يشكل قاعدة الدولة السلطوية الاقتصادية في العالم العربي (في الأنظمة التقليدية السلطوية والأنظمة الجمهورية السلطوية)… مما يمنح الدولة مجالًا واسعًا للمناورة في علاقاتها مع المجتمع».[34] ويؤكد حازم الببلاوي على الطبيعة التلازمية بين احتكار الاقتصاد والسلطوية السياسية، موضحًا أنه «في الدولة الريعية تكون الدولة هي الطرف المستفيد والمتلقي الرئيسي، ويتمركز فيها بدرجة عالية احتكار الاقتصاد والسلطة السياسية… ويعتمد الاقتصاد الريعي بشكل أساسي على الريع الذي يأتيه من الخارج».[35] بحسب بشارة فإن مصادر هذا الريع لا تقتصر على تصدير النفط والغاز، وإنما يضاف إليها عوائد العمالة العربية في الخارج والمعونات الأجنبية، بل والدعم المالي الذي قدمته الدول الخليجية لبعض الدول العربية بعد انهيار المشروع القومي العربي. كما تتضمن أيضًا عوائد السياحة، إلى جانب عوائد مالية جغرافية كقناة السويس باعتبارها ممرًا ملاحيًا. في السياق نفسه يشير سعيد أيضًا الى أن تأثير الدخل الريعي «يمكن مشاهدته أيضًا، وإن كان بتناسبات مختلفة، في عدد من الأقطار العربية التي تمتعت بتدفقات كبيرة نسبيًا من مصادر هذا الدخل على نحو غير مباشر، مثل مصر والأردن وسوريا واليمن والجزائر، وإلى حد أقل تونس والسودان وغيرها».[36] الأمر الذي مكّن حكومات هذه الدول من مقايضة بعض حقوق المواطنة الأساسية.

ماذا يترتب سياسيًا على هيمنة الطابع الريعي للاقتصاد؟ يقول بشارة «لا يتعامل المواطن بلغة الحقوق، ليس لأنها غير متوفرة، بل لأن لديه امتيازات بدلا من الحقوق».[37] بالطبع هذا الاستنتاج ينطبق بشكل مثالي على الدول العربية المصدرة للنفط، ولكنه أيضًا ينطبق بدرجة أقل، على أغلبية الدول العربية الأخرى حتى نهاية ثمانينيات القرن الماضي. فبعدها بدأ التطلع لعقد اجتماعي جديد،[38] وبدأت فورات الاحتجاج السياسي تتصاعد في عدة دول عربية خلال العقد الأول من القرن الجديد، وصولًا للربيع العربي مع بداية العقد الثاني.

يتمتع نظام الحكم السلطوي في العالم العربي بسمات خاصة مارست دورًا حيويًا في تخليق الاستثناء العربي وترسيخه. أبرز هذه الملامح يلخصها بشارة وسعيد في ثلاث نقاط. أولًا: أن السلطة بحد ذاتها هي المدخل الرئيسي للثروة والمكانة. ثانيًا: تكوين هامش اجتماعي طفيلي واسع حول النظام السلطوي، ورأسي، بمعني أنه يضم عناصر من كافة الطبقات الاجتماعية يتعيش على وظائف وعطايا الدولة دون مساهمة في الإنتاج الاجتماعي، وبالتالي يرتبط مصيره بالنظام السلطوي. ثالثًا: تحالف البنية السلطوية البيروقراطية للحكم مع الهياكل البطريركية: العشائرية والقبلية والطائفية.[39]

يعتقد سعيد أن «الشكل السلطوي العنيف الذي اتخذته الدولة في ظل هذا النموذج (يمكن تفسيره) بعلاقات الملكية، وتحديدًا في التضخم الهائل للقطاع العام، وميل الدولة للسيطرة على كافة المؤشرات والعلاقات الاقتصادية».[40] ويقدم لنا الأكاديمي العراقي فالح عبد الجبار مثالًا ملموسًا لكيف استحالت الديمقراطية في وطنه بعدما «تحولت الدولة العراقية إلى أكبر رب عمل منفرد في المجتمع (تستوعب 21٪ من قوة العمل) بما ينطوي عليه ذلك من أبعاد اجتماعية وسياسية. وبخاصة تحول الدولة إلى مجال وحيد للحراك الاجتماعي بالنسبة لفئات واسعة».[41]

المقارنة بالسلطويات في مناطق أخرى قد يساعدنا على فهم ملموس لخصوصية السلطوية العربية، ويقترب بنا بدرجة أكبر من إدراك خصوصية الاستثناء العربي. للمقارنة بأمريكا اللاتينية هوى خاص في أوساط الأكاديميين والنشطاء السياسيين، –خاصة اليساريين منهم– في العالم العربي. فالمنطقتان مصنفتان سياسيًا ضمن ما يعرف بالجنوب العالمي؛ خضعتا للاستعمار الأوروبي ثم للتدخل الأمريكي العسكري لاحقًا؛ حصلت دول المنطقتين على الاستقلال في فترات متباعدة زمنيًا، ثم تولت نظم سلطوية الحكم في أغلبية دول المنطقتين، وبالتالي تخلف كلاهما عن اللحاق بالموجتين العالميتين الأولى والثانية للديمقراطية. هذا التشابه لا يعني تماثلًا، ولا يؤدي لتفسير متطابق لهذه المراحل من التطور التاريخي، والتي تمتلك سمات تبدو كما لو كانت متماثلة. وبالتالي؛ لا تفسر أوجه التشابه بينهما أسباب التحاق إحداهما (أمريكا اللاتينية) بالموجة الثالثة للديمقراطية وعدم التحاق الأخرى بها. مرة أخرى؛ الإجابة لا يمكن استخلاصها سوى بتحليل ومقارنة التطور السياسي الاقتصادي الاجتماعي بشكل ملموس، بالطبع ليس انطلاقًا من اختلاف الدين/الأديان والمعتقدات والثقافات السائدة في المنطقتين.

رغم أننا إذا انتقلنا إلى حقل الاقتصاد سنجد أيضًا متشابهات هامة؛ فإن سعيد يحذر من المقارنات السطحية بين التجارب الشعبوية/التنموية في العالم العربي وأمريكا اللاتينية، لمجرد تأسيس الصناعة الحديثة في المنطقتين على أساس القطاع العام. ففي أمريكا اللاتينية

لم يمد القطاع العام هيمنته على جميع فروع الاقتصاد ومجالاته. ولم تحاول النظم الإصلاحية/الشعبوية تحطيم طبقة كبار الملاك الزراعيين وامتداداتها في الصناعة والخدمات والتجارة الخارجية، وهو ما حتم الإبقاء على التعددية السياسية ولو شكليًا. وتمتعت الطبقة الوسطي أيضا بحرية كبيرة في التملك، وهو ما قسمها بين جناحين راديكالي وليبرالي، مما عزز من التعددية السياسية. وعلى العكس اتسمت التجارب الشعبوية التنموية العربية بهيمنة كاملة للدولة على النشاط الاقتصادي. وترافق تأسيس تلك الهيمنة الاقتصادية مع تحطيم الطبقات المالكة القديمة، وجنوح القطاع الأساسي للطبقة الوسطي لدعم الواحدية الاقتصادية.[42] وأفضى هذا كله لبروز هيكل سياسي واحد، سواء من الناحية القانونية أو من الناحية الفعلية. ومن ناحية ثانية لم تُفرض النزعة الإصلاحية/الشعبوية في التجارب الأمريكية اللاتينية من أعلى، مثلما حدث في التجارب العربية؛ وإنما نشأت وتطورت كإفراز تاريخي لموجات متعاقبة من النضالات السياسية والنقابية، شغلت عقودًا من التاريخ السياسي الحديث.[43]

لكل ذلك يؤكد سعيد أن السلطوية في أمريكا اللاتينية، بل أيضًا في أفريقيا الاستوائية، «تبدو ظاهرة سطحية» مقارنةً «بعمق ونفاذ السلطوية العربية الواسع في الفضاء السياسي والثقافي العربي».[44]

في هذا الطابع الاستثنائي الخاص للحكم السلطوي في العالم العربي يتلخص جوهر الاستثناء الممتد للمنطقة من التحول الديمقراطي ومن إنفاذ المعايير العالمية لحقوق الإنسان. خاصة أن هذه السلطوية تواصلت زمنيًا في الحكم لأكثر من نصف قرن، تمكنت خلالها من تحطيم الأحزاب السياسية والخلايا الحية لمجتمع مدني مستقل، أو تهميشها تمامًا. «لقد انطوى ذلك حتمًا على ضمان موت السياسة في التكوين الثقافي السياسي العربي لفترة طويلة».[45]

يثير ذلك الواقع البائس أسئلة حيوية متعددة، حول أفق انزياح ركائز هذا الاستثناء العربي. كما يثير بشكل خاص طبيعة دور الحركات السياسية والمجتمع المدني والحركة الحقوقية في سياق هذه المهمة التاريخية. استمرار العمل بالمفاهيم ذاتها والاستراتيجيات وأساليب العمل لن يؤدى لنتائج مختلفة. الأمر المؤكد أن مجرد الرهان على تغير الزمان والأجيال مع استمرار اضطلاع كل الأطراف بالأدوار ذاتها والمفاهيم نفسها لن يتقدم بالمنطقة خطوة للأمام. استكشاف آفاق تطور هذه الأدوار؛ هو ما آمل أن أساهم في تناوله في مقال لاحق.

[1] ويبريخت، فيليكس، يوكو ساتو، مارينا نورد، مارتن لوندستدت، فابيو أنجيوليلو، وستافان إ. ليندبرغ (2023). حالة العالم 2022: تحدٍّ أمام الاستبداد. (State of the World 2022: Defiance in the Face of Autocratisation) الديمقراطية، 5 (30) ، 769 – 793Top of Form.
[2] رئيس العراق الراحل صدام حسين، ورئيس سوريا الحالي بشار الأسد.
[3] أنظر: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان (2022). المنتدى الإقليمي الـ 26 لمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان: مسئولية حركة حقوق الإنسان في العالم العربي في سياق دولي متغير. https://cihrs.org/the-cairo-institute-for-human-rights-studies-26th-regional-forum/؛ أيضًا مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان (2018). المنتدى الإقليمي الواحد والعشرون للحركة العربية لحقوق الإنسان: الإعلان النهائي والتوصيات. https://rb.gy/f1qv2e؛ فشير، عز الدين شكري (2023). رؤى: من الملتزمون حقًا بحقوق الإنسان؟ المعوقات الأيديولوجية والسياسية في المنطقة العربية. رواق عربي، 28 (2)، 46-54. DOI: 10.53833/HULK2604؛رضوان زيادة (2018). رؤى: الكيل بمكيالين، مواقف منظمات حقوق الإنسان العربية من الكارثة الإنسانية في سوريا. رواق عربي، 23 (1)، 11-18. https://cihrs-rowaq.org/views-double-standards-positions-of-arab-human-rights-organizations-on-the-humanitarian-catastrophe-in-syria/
[4] أنظر غسان سلامة في تقديم الطبعتين الأولي والثانية من كتابه: سلامة، غسان (2011). نحو عقد اجتماعي عربي جديد. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. وكذلك ليكا, جان (2000). إستثنائية عربية؟ و وووتربوري، جون (2000). إلي أي مدى يعتبر الشرق الأوسط استثنائيًا؟. في غسان سلامة (محرر)، ديمقراطية من دون ديمقراطيين: سياسات الانفتاح في العالم العربي-الإسلامي: بحوث الندوة الفكرية التي نظمها المعهد الإيطالي «فونداسيوني إيني أنريكو ماتيي». بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية.
[5] غسان سلامة: المصدر السابق.
[6] ذكره إمام عبد الفتاح إمام في كتابه: عبد الفتاح، إمام. (1994). الطاغية: دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي. الكويت: عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
[7] الأيوبي، نزيه. (2010). تضخيم الدولة العربية – السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط. بيروت: المنظمة العربية للترجمة.
[8] جون ووتربوري في غسان سلامة (محررًا)، مصدر سابق.
[9] الأيوبي، مصدر سابق.
[10] الأيوبي، مصدر سابق.
[11] الأيوبي، المصدر السابق.
[12] جيب، هاملتون أ. آر. (1959). إصلاح اجتماعي: العامل إكس: البحث عن ديمقراطية إسلامية. (Social Reform: Factor X: The Search for an Islamic Democracy)، ذكره هنتنجتون في كتابه هنتنجتون، صمويل (2017). النظام السياسي في المجتمعات المتغيرة. ترجمة: حسام نايل، القاهرة: دار التنوير للنشر، الطبعة الأولى.Top of Form
[13] حسن النقيب، خلدون (1996). الدولة السلطوية في المشرق العربي المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
[14] ت. كورو ، أحمد (2022). تحالف العلماء والدولة: عقبة أمام الديمقراطية والتنمية في العالم الإسلامي، معهد توني بلير. وهو ملخص تنفيذي بالعربية لكتاب كورو (2021). الإسلام والاستبداد والتخلف: مقارنة عالمية وتاريخة (Islam, Authoritarianism, and Underdevelopment: A Global and Historical Comparison ). كامبريدج: دار النشر الجامعية في كامبريدج.Top of Form
[15] ذكره الأيوبي، مصدر سابق.
[16] النعيم، عبد الله (محرر) (1993). الأبعاد الثقافية لحقوق الإنسان في الوطن العربي. الكويت: دار سعاد الصباح.
[17] فهمي، خالد (2022). السعي للعدالة. ترجمة: حسام فخر. بيروت والقاهرة: دار الشروق.
[18] دايموند، لاري (2014). روح الديمقراطية: الكفاح من أجل بناء مجتمعات حرة. الشبكة العربية للأبحاث والنشر. وهو يشير هنا إلى بحث أجراه إسمر، يلماز (2002). هل هناك حضارة إسلامية؟ (Is There an Islamic Civilization?). السوسيولوجيا المقارنة 1 (3). 265-298. doi: 10.1163/156913302100418600.Top of Form
[19] لاري دايموند، المرجع السابق.
[20] بشارة، عزمي (2023). الثقافة السياسية: ملاحظات عامة. تبين، معهد الدوحة للدراسات العليا الرئيسية، العدد 45. https://doi.org/10.31430/QIDT9752
[21] أورده عزمي بشارة في المرجع السابق نقلًا عن دراسة لبارينجتون مور عن الجذور الاجتماعية للديكتاتورية والديمقراطية: مور، بارينغتون (1993). الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية، الأرض والفلاحون في صنع العالم الحديث (Social Origins of Dictatorship and Democracy; Land and Peasants in the Making of the Modern World). بوسطن: بيكون بريس.Top of Form
[22] بشارة، عزمي (2020). الانتقال الديمقراطي وإشكالياته – دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 17 يوليو. https://www.dohainstitute.org/ar/BooksAndJournals/Pages/Problems-of-Democratization-A-Comparative-Theoretical-and-Applied-Study.aspx
[23] عزمي بشارة نقلًا عن بارينجتون مور، المرجع السابق.
[24] سعيد، محمد السيد (1996). إشكاليات تعثر الديمقراطية في العالم العربي. في عزمي بشارة ومحمد السيد سعيد (محررين)، إشكاليات تعثر التحول الديمقراطي في الوطن العربي – وقائع المؤتمر السنوي الثاني لمؤسسة مواطن. مجلة السياسة الدولية، مواطن، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان. https://muwatin.birzeit.edu/en/node/1275
[25] محمد السيد سعيد، المصدر السابق.
[26] مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان (2021). مصر: تحليل لمنهجية الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان. 15 نوفمبر.https://cihrs.org/egypt-national-strategy-for-human-rights-a-ruse-to-show-international-community-and-donor-states-that-political-reform-is-underway/
[27] مشروع العدالة العالمي (2013). مصر تحتل المرتبة 136 من بين 142 في مؤشر حكم القانون (Egypt Ranks 136th out of 142 in Rule of Law Index). 25 أكتوبر. https://worldjusticeproject.org/sites/default/files/documents/Egypt_1.pdf
[28] أنظر على سبيل المثال: عوض، لويس (2022). تاريخ الفكر المصري الحديث. القاهرة: دار المحروسة، الطبعة الكاملة الأولي (3 مجلدات). أيضًا: فرج، نبيل (2007). الديمقراطية في فكر رواد النهضة المصرية. مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
[29] عزمي بشارة، المرجع السابق.
[30] ووتربري، جون (2000). إمكانية التحرك نحو الليبرالية السياسية في الشرق الأوسط. في غسان سلامة (محرر). ديمقراطية من غير ديمقراطيين، مرجع سابق.
[31] محمد السيد سعيد، مرجع سابق.
[32] محمد السيد سعيد، مرجع سابق.
[33] فوكو ياما، فرانسيس (2016). النظام السياسي والانحطاط السياسي (المجلد الثاني). دوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية. في مقارنة الربيع العربي بثورات 1848 في أوروبا، أنظر: كرامر، إس. بي.، ويافي، ج. إس. (2014). الربيع الأوروبي عام 1848 والربيع العربي عام 2011: دروس يمكن استخلاصهاThe European Spring of 1848 and the Arab Spring of)  2011: Lessons to Be Learned) الميدترانيان كوارترلي 25(4)، 45-63. https://www.muse.jhu.edu/article/566693
[34] عزمي بشارة، واقع وفكر المجتمع المدني. في عزمي بشارة ومحمد السيد سعيد محررين، مرجع سابق.
[35] ببلاوي، حازم (1987). الدولة الإيجارية في العالم العربي (The Rentier State in the Arab World). الدراسات العربية كوارتيرلي، المجلد 9، العدد 4، ص. 383-398.Top of Form أورده عزمي بشارة في المرجع السابق (1996).
[36] محمد سيد سعيد، مصدر سابق.
[37] عزمي بشارة، المصدر السابق (1996).
[38] أنظر في ذلك غسان سلامة «نحو عقد اجتماعي عربي جديد»، مرجع سابق.
[39] عزمي بشارة ومحمد السيد سعيد (محرران)، مقدمة «إشكاليات التحول الديمقراطي في الوطن العربي»، مرجع سابق.
[40] محمد السيد سعيد، مرجع سابق.
[41] فالح عبد الجبار، الديمقراطية المستحيلة والديمقراطية الممكنة، في عزمي بشارة ومحمد السيد سعيد محررين، مصدر سابق.
[42] أظن أن سعيد يقصد بذلك الهيمنة الاحتكارية للدولة على الاقتصاد.
[43] محمد السيد سعيد، مرجع سابق.
ربما يكون سعيد قد قدم بذلك تفسيرًا لنصيحة فوكوياما السالف الإشارة إليها (الصادرة عنه بعد ورقة سعيد ب20 عاما) بعدم مقارنة الربيع العربي بالموجة الثالثة للديمقراطية في أمريكا اللاتينية.
[44] محمد السيد سعيد، مرجع سابق.
[45] محمد السيد سعيد، مرجع سابق.

Read this post in: English

اظهر المزيد

بهي الدين حسن

مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى