رؤى

رؤى: كيف يرى السجناء السياسيون في مصر الحياة خلف القضبان؟

حمل هذا المقال كبي دي إف

الإشارة المرجعية: عبد الحليم، أحمد (2024). رؤى: كيف يرى السجناء السياسيون في مصر الحياة خلف القضبان؟. رواق عربي، 29 (1)، 72-78. DOI: 10.53833/BUKL8444.

منذ اليوم الأول لانقلاب الثالث من يوليو عام 2013 في مصر، بدأت السُلطة الجديدة عبر أجهزتها الأمنية في اعتقال من يعارضها. في البداية، ركزت على اعتقال القوى الإسلامية؛ بما أنها شكلت المعارضة الأولى لوجودها، كونها السُلطة القديمة المُنقلب عليها. بعد ذلك، ومع مرور الشهور والسنوات، وترسيخ القمع كممارسة أساسية لسُلطوية ما بعد 3 يوليو، دخل السجون عشرات الآلاف من المواطنين من جميع التوجهات الفكرية والسياسية والتنظيمية والمهنية والمستقلة أيضًا، بما في ذلك مواطنين غير منتمين لأية أيديولوجيات أو تنظيمات سياسية.

حتى وقت كتابة هذه السُطور، ومع تمديد فترة سلطة الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي إلى ست سنوات أُخرى، من خلال مشهد انتخابي مسرحي صنعته السُلطوية، يبتعد عن آليات الشفافية والنزاهة؛ يقبع آلاف السجناء السياسيين داخل السجون المصرية، ضمن ظروف معيشية صعبة.[1] ورغم اختلاف فترة السجن من شخص لآخر، ومن قضية لأخرى؛ لكن بلا شك، هناك بعض السجناء قد تخطوا عشر سنوات في السجن، وآخرين أقل من ذلك بعام أو عامين. هذه السنوات الضائعة في ظروف احتجاز غير آدمية وبدون محاكمات عادلة، تركت السجناء في حالة مزرية على المستوى النفسي والفكري، ونحن هنا لا نفصل بين تمثلات الحالتين؛ وإنما ننظر في تداخل دوافعهما وأسبابهما. في هذا المقال نحاول تتبع هذه التمثلات، وتبيان تفاصيلها، وكيف وصل السجناء إليها.

اعتمد المقال على أربع مقابلات مع سجناء سابقين، تم ذكرهم بأسماء مستعارة، وفقًا لطلبهم وحرصًا على سلامتهم وأمنهم الشخصي. جميعهم غادروا السجون على مدار الأعوام الثلاث الأخيرة من وقت كتابة هذه السطور، وتحديدًا خلال الفترة بين 2021 و2023. في السياق نفسه، كنت قد حاولت التواصل مع بضعة سجينات سابقات لإجراء مقابلات معهن، إلا أنهن رفضن بحجة الحالة النفسية السيئة التي تعتريهن حين تتذكُّرن السجن وآلامه، بالإضافة إلى الحالة النفسية العامة نتيجة الأحداث المأساوية الجارية في قطاع غزة.[2] لا يسعى هذا المقال لرصد وإحصاء الحالة النفسية العامة لكافة السجناء السياسيين في مصر، في مختلف السجون؛ نظرًا لصعوبة هذا الأمر، وإنما يحاول إعطاء نظرة موجزة عن هذه الحالة، وأهم تَمثلاتها النفسية والفكرية. كذا فإن المقال لم يستبعد السجين الجنائي في النص، استبعادًا مقصودًا، أو تهميشًا له، وكأنه غير موجود ضمن المنظومة السجنّية؛ إلا أن السياق السجنِّي ذاته فرض أسباب الاعتقال والخروج، وغير ذلك من زوايا بحثية، تختص بالسجين السياسي دون غيره.

أثناء المقابلات، ناقشت الأسئلة المطروحة السجناء بشأن فترة سجنهم، وتوقيتات اعتقالهم وخروجهم، إلى جانب الحالة النفسية الشخصية داخل السجن، فضلًا عن الحالة العامة. بالإضافة للتعمق في التفاصيل اليومية، خاصةً للسجناء الأطول فترة سجنّية، والذين قد استنفذوا كل درجات التقاضي، وكيف كانوا يعيشون أو يمضون أوقاتهم. وكذا ماهية التمثلات التي تدل على الحالة النفسية المزرية، مثل محاولات الانتحار، أو حالات الاكتئاب، أو الإصابة بأمراض نفسية وعقلية، وكيفية التعرف على الممارسات غير «العاقلة». ومن خلال إجاباتهم، نحاول معرفة مدى وجود سردية عامة، حول التفاؤل أو التشاؤم حيال إمكانية الخروج من السجن، قبل انقضاء مدة الحكم، إلى جانب كيفية تفاعل السجناء مع الأخبار والأحداث السياسية. الأمر الذي يأخذنا لتمثلات الحالة الفكرية العامة، من حيث السردية الأيديولوجية والتنظيمية داخل السجن. بمعنى، هل ظل السجناء متمسكون بأفكارهم وتنظيماتهم أم أنهم تخلوا عنها؟

تمثلات الحالة النفسية

على مدار السنوات الثلاث الأولى عقب الانقلاب العسكري في مصر، في الفترة بين يوليو 2013 ومنتصف عام 2016، لم يكن في بال المعتقلين السياسيين -تحديدًا الإسلاميين منهم، وبشكل خاص من يتبعون جماعة الإخوان المُسلمين بشكل تنظيمي أو غير تنظيمي- أن أزمة السجناء السياسيين سيطول أمدها عبر سنوات كثيرة، وأنها ستظل عصية على الحلَّ في سنوات قليلة قريبة. كان غالب الظن لديهم، أن هذه الأزمة ستنتهي في أي وقت؛ إما عن طريق إنهاء الانقلاب العسكري بشكل أو بآخر، أو من خلال عقد مصالحة بين الجماعة والسلطة السياسية الجديدة في مصر، والتي كان، وما زال، يترأسها عبد الفتاح السيسي. هذا التفاؤل حول خروج السجناء السياسيين دُعم بفعل تكرار سردية قيادات عُليا، وكذا قيادات وسيطة من الجماعة داخل وخارج السجون، بشأن إمكانية إنهاء الانقلاب، أو «ترنح الانقلاب» حسبما كان مُتعارف وقتها، أو المصالحة مع النظام.

لكن مع مرور السنوات، لاسيما بعد موت الرئيس المُنقلب عليه محمد مرسي في منتصف عام 2019، تبخرت هذه السردية في أذهان الكثير من السجناء السياسيين، وحلّت مكانها سردية مفادُها أن النظام الحالي لا نهاية له، بمعنى أنّه ليس هناك عودة للثاني من يوليو لعام 2013. ويفسر إبراهيم (اسم مستعار) الوضع قائلًا:

منذ عامي 2016 و2017، بدأت الناس في السجن تختلف مع سردية الإخوان. وتردد مقولات مثل «خلاص اللي أخد حُكم هايقضِيه»، و«الناس مش هتخرج من السجن»، و«نظام عبد الفتاح السيسي لن يسقط». تسبب هذه المقولات في شعور قيادات كثيرة من الإخوان بالضيق، كما أشعل خلافات عديدة بين الشباب والقيادات. لكن بعد عام 2019 وموت الرئيس مرسي، أصبحت السردية المتفق عليها هي أن «الناس خلاص عمرها ما هتخرج من السجن إلّا بعد ما تقضي مدة الحكم.

على مرِّ السنوات الماضية، لم يرغب النظام السياسي في حل أزمة السجناء السياسيين بشكل جاد وحقيقي، متجاهلًا كل المبادرات المطروحة عليه لحلها، مثل مبادرة زياد بهاء الدين، نائب رئيس الوزراء في حكومة حازم الببلاوي عام 2013،[3] ومبادرة السفير معصوم مرزوق عام 2018 قبلما يتم اعتقاله،[4] والمبادرة التي قدمتها بضعة منظمات حقوقية عام 2021، فيما تعرف بمبادرة «أول سبع خطوات»،[5] ومبادرات أخرى طُرحت من جانب شخصيات سياسية وحقوقية مصرية وغير مصرية.[6] في المقابل، تجاوز النظام المصري هذه المبادرات، مكتفيًا بخروج مئات السجناء من خلال طرق متعارف عليها، مثل العفو الرئاسي عن أعداد بسيطة للغاية، أو تقضية السجين مدة الحكم الصادرة بحقه، أو إخلاء سبيل بقرار من النيابة العامة، في قضايا تضم اتهامات بنشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة محظورة. شكلت هذه الطرق حلًا جزئيًا للأزمة، في ظل انتهاج العقلية الأمنية في مصر استراتيجية إعادة اعتقال آلاف المواطنين الأخرين، ومن بينهم من سبق اعتقاله. وفي أحيان أخرى، فإنها قد تُعيد تدوير من أُخليَ سبيله أو قضى مدة حكمه على ذمّة قضية أُخرى، قبلما يخرج من السجن، وهو ما يعرف بـاستراتيجية «التدوير الأمني».

وهذا ما تعرَّض له إبراهيم؛ إذ يقول: «قضيت مدة حكمي في السجن، وكانت 7 سنوات، ما بين التفاؤل واليأس، ثم حين جاء ميعاد خروجي، تعمد جهاز الأمن الوطني إخفائي لمدة ثلاثة أشهر. بعد ذلك، تم تدويري على قضية جديدة، قضيت فيها قرابة عام ثم خرجت من السجن».

الأمر نفسه حدث مع مصطفى (اسم مستعار): «ضابط الأمن الوطني قال لي إنت مش هتدور. بعدها اتدورت على قضية جديدة. كنت يائسًا، قبلها بأيام مات أحد أصدقاء الزنزانة.. لذلك فترة اختفائي أكثر من أسبوعين، ثم تدويري على قضية اُخرى. لقد كانت صدمة لي، وكنت يائسًا بشكل كبيرة»، هكذا يتذكر حالته النفسية شديدة السوء، حينما واجه التدوير.

هول تأثير هذه الاستراتيجية لا يؤدي فقط ليأس وصدمة السجين، وإنما قد يؤدي في بعض الأحيان لوفاته. ففي أغسطس من عام 2023، توفى السجين السياسي صهيب عمارة الذي كان يبلغ من العمر واحد وأربعين عامًا، إذ أخفاه جهاز الأمن الوطني لمدة أسبوعين حين جاء ميعاد خروجه، بعد انقضاء الحكم الصادر بحقه بعشر سنوات. وحين علم صهيب أنه سيُدوّر على قضية جديدة، فارق الحياة إثر صدمته. وهذه رواية أحد المطلعين على حادثة الوفاة.[7] هكذا يبقى السجين السياسي رهين ممارسات غير قانونية ينتهجها جهاز الأمن الوطني، تتحكم بخروجه من عدمه، حسب رؤيتها لا حسب القانون وأحكام القضاء.[8]

في السادس والعشرين من يونيو عام 2023، أصدرت المفوضية المصرية للحقوق والحريات تقريرها المعنون «ما لا يمكن تحمله: عن الانتحار في أماكن الاحتجاز في مصر»، ورصدت فيه عشرات حالات الانتحار في سجون مصرية مُختلفة.[9] ويشكل الانتحار إحدى أهم التمثلات النفسية الناتجة عن الظروف المعيشية شديدة السوء التي يجابهها السجناء داخل السجن، بما في ذلك حرمانهم من أبسط حقوقهم المنصوص عليها في لائحة مصلحة السجون، مثل المنع من الزيارات، أو منع دخول الأطعمة والملابس، وعدم السماح للسجناء بفترات التريض. ناهيك عن الحبس الانفرادي، وتجريد السجناء من متعلقاتهم، ومعاقبتهم بالضرب والإهانة والسجن في زنازين التأديب، بالإضافة لأشكال أخرى من التعذيب النفسي والجسدي.

تلاشي أمل الخروج من السجن، مع هذه الظروف شديدة السوء، يُنتجان سجينًا مدمرًا جسديًا ونفسيًا، منعزلًا عما حوله داخل السجن. إذ يُصاب السجناء في مثل تلك الحالات بأمراض نفسية حادة، تتمثل نتائجها في محاولات انتحارٍ جادة، والعديد من الممارسات الانعزالية الناتجة عن الخلل النفسي. على سبيل المثال يقول إبراهيم: «كان معانا سجين، يدّعي أنه أمير المؤمنين، عندما يرى الضباط يسبهم ويقول أنا خليفة المؤمنين في الأرض»، هذا على سبيل الممارسات الجنونية بحسب وصفه. فيما يخبرنا عن محاولات الانتحار بقوله: «رأيت العديد من محاولات الانتحار، كان ما يفشلها هو كشف السجناء الآخرين السجين المُنتحر، وإفشال محاولته. وبعدها تعاقبه إدارة السجن، بالضرب والحبس في زنزانة التأديب».

وحيال الانهزام النفسي الناتج عن ممارسات الإذلال المُمنهجة، يرى السجين نفسه، كذات وجسد، وكأن بدون قيمة؛ بسبب هذه الممارسات التي تعكس، حسب أستاذ علم الاجتماع الفرنسي دافيد لو بروتون «مرآة ذاتية واجتماعية» للإنسان، يرى نفسه من خلالها كإنسان ذليل مستباح.[10] وحول هذا يتذكر فتحي (اسم مستعار)، قائلًا: «كان هناك دكتور يحاول الانتحار في مقرات الأمن الوطني، بسبب تعمد إذلاله من رجال الأمن. فكان يبحث دائمًا عن أية آلة حادة لقتل نفسه. كما رأيت شخصًا آخر غير متزن، كان يُعرِّف نفسه كمريض نفسي وعقلي، بسبب ما حدث له في مقرات أمن الدولة». هذه الممارسات لا تجعل من السجين إنسانًا مستباحًا فحسب، وإنما في أحايين عدّة تُشكّل عنده ممارسات سُلطوية يمارسها بدوره على الأضعف منه؛ بهدف استعادة شيء من الذات. وفي دراسته حول سيكولوجية الإنسان المقهور، يفسر أستاذ الاجتماع اللبناني مصطفى حجازي، هذا الوضع بقوله «ذاب الإنسان المقهور في عالم المتسلط، بالتقرب من أسلوبه الحياتي، وتبني قيمه ومُثله العليا، وهو يرى من خلال هذا التقرب وهذا التبني، حلًا لمأزقه الوجودي وارتقاءً لكيانه إلى مرتبة تُرضيه، وتبث في نفسه الكبرياء».[11]

يتفق مصطفى مع كل من إبراهيم وفتحي حيال سوء الحالة النفسية العامة، والمُتباين نسبتها من سجين لآخر، طبقًا لاختلاف الظروف الحياتية الخاصة والعامة لكل سجين، إذ يقول: «شهدت حالات اكتئاب حادة، وممارسات غير سوية، وحالات انفصام عقلية بين الناس. أيضًا شهدت محاولات انتحار. كان معانا سجين حاول يشنق نفسه في الحمام، وآخر أخذ حبوب تؤدي للموت، وسجناء حاولوا قطع شرايين الجسد بواسطة الآلات الحادة». هذه هي أكثر الطرق المُتعارف عليها للانتحار داخل السجن، إذ يُجرّد السجين من أية أدوات قد تساعده على قتل نفسه، وبالتالي يحاول اختراع أدوات تساعده، مثل تهريب آلات حادة (معالق حديدية – شفرات حلاقة)، أو تهريب حبوب تؤدي إلى الوفاة، تقطيع أقمشة الملابس بشكل عمودي رفيع، أو حتى القفز من أماكن عالية، إن كان تصميم السجن العمراني يسمح بذلك.[12]

كل هذه الممارسات والحالات الفردية، خلقت حالة عامة من الاضطراب واليأس وفقدان الأمل لدى معظم السجناء، ليس فقط في السياسة والحديث عن أحوالها، وإنما في الحياة وأمورها بشكل عام. فلم يعد السجناء كما كانوا في بدايات سجنهم، يمارسون أي نشاط مهما كان بسيطًا يدل على ذواتهم وأمالهم في الخروج من السجن؛ إذ قلت الأنشطة الترفيهية التي يبتدعها السجناء للتخفيف من حدة اليوم السجنِّي، مثل صناعة لعبة الشطرنج أو الدومينو، أو تمثيل الأفلام وغير ذلك من الألعاب البسيطة، التي يمكن ابتكارها ولعبها داخل الزنزانة بهدف التسلية. كذلك قلّت أنشطة القراءة والتعلم وتثقيف الذات وممارسة المواهب (الشعر والرسم مثلًا) مقارنةً بفترات سابقة؛ بسبب يأس البعض، ونتيجة لظروف السجن التي تمنع دخول المجلات والكتب والأقلام والورق.

ويصف إبراهيم الوضع قائلًا: «الزناين كلها، والعنبر كله، بقى فيه نوم كثير، وهدوء أكثر، وانعزال أكثر، وكمان خناقات ومشاكل أكثر. في ناس رفضت مجرد الخروج من الزنزانة، حتى في ساعات التريض، وبالذات الناس اللي أهلها غير قادرين على زيارتهم. الناس فقدت الأمل في الخروج من السجن، وده أدى بدوره لفقدان جدوى الحياة أصلًا». لكن في أحايين أُخرى، تُكسر هذه الحالة، بسبب أي حدث سياسي خارجي، يتعلق نوعا ما، براهن ومستقبل السجناء السياسيين في مصر.

تمثلات الحالة الفكرية

تدريجيًا، وبمرور العام تلو الأخر، ومع تردي الحالة النفسية شديدة السوء للسجناء، تقلصت الأحاديث الفكرية والسياسية بين السجناء داخل السجون المصرية، بعدما كانت الشاغل الأهم والأكبر بينهم في سنوات السجن الأولى. وهو ما يعد أمرًا منطقيًا؛ إذ أن اعتقالهم من الأساس كان بسبب مشاركتهم السياسية المستندة على أيديولوجيات مُختلفة، مثل الإسلام السياسي -فيما يخص جماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية والجبهة السلفية، فضلًا عن الجماعات الإسلامية المُسلحة- أو حتى أفكار يسارية بمختلف تنوعاتها وتداخلاتها من حيث الفكر والممارسة والتنظيم، أو حتى المشاركة المبنية على التقاطع بين السياسة والفكر من ناحية، والتقاطع المهني من ناحية أُخرى، مثل الصحفيين والباحثين والمصورين والكتاب والحقوقيين، وغير ذلك من المهن التي يتداخل عملها بشكل مباشر مع السياسة والسُلطة.

وترسخ لدى غالبية السجناء اعتقاد أن النظام الحالي باقٍ في الحكم، مثلما هم مترسّخون في السجن. وبات الحديث عن الفكر والسياسة بالنسبة لهم غير مُجدي ومثل عدمه، بل إنّه صار يجلب الخلافات بين سجناء الزنزانة الواحدة. وهذا الأمر عكس وارتبط بالحدث الفكري والسياسي خارج السجن؛ إذ صَّحرت السُلطوية السياسية في مصر كل الفضاءات الفكرية والسياسية، وحتى الثقافية والفنّية، من خلال القمع والتهديد والمنع والسجن والإخفاء والقتل، سواء بمنع عمل الأحزاب والجماعات، وإدراجها ككيانات محظور عملها، مثلما تم إدراج الإخوان المسلمين و6 أبريل والاشتراكيين الثوريين وروابط الأولتراس ككيانات محظورة. وكذلك منع الأفراد بشكل مستقل من العمل، باعتقالهم وإخفائِهم وقتلهم وترهيبهم، مثلما حدث مع الباحث الاقتصادي أيمن هدهود، الذي توفي في أبريل من عام 2022، بعدما اعتقله جهاز الأمن الوطني، ومات إثر التعذيب، بحسب إحدى الروايات.[13]

لكن مرة أُخرى داخل السجون، تحيَّا أحاديث الفكر والسياسة حينما يظهر في المشهد السياسي الخارجي حدث ما، مثل تظاهرات 20 سبتمبر من عام 2019، وانتخاب رئيس أمريكي جديد (انتخاب جو بادين عام 2020)، وإطلاق الحوار الوطني في أبريل من عام 2022. كذا فإن الانتخابات الرئاسية لعام 2024، وتصدَّر السياسي والمعارض المصري أحمد الطنطاوي مشهد الانتخابات، وخلق حراك سياسي اجتماعي شارعي التف الكثيرون حوله، ما تسبب في إزعاج كبير للسُلطوية، وهدد المشهد الانتخابي الهزلي التي ترغب السُلطوية في صناعته للداخل والخارج، بواسطة ممُثليها من داخل السُلطوية أو حتى من خارجها.

هذه الأحداث وغيرها، تُعيد مشهد الأمل المتعلق بالحدث السياسي، وحول هذا يحكي مصطفى قائلًا:

أيام أحداث محمد علي [تظاهرات سبتمبر 2019]، كان هناك سجناء تقف على باب الزنزانة في انتظار أن تُفتح السجون ويخرجوا. أيضًا كان هناك سجناء تتخيل أصوات متظاهرين قادمين نحو السجن لتحريرهم. وبعد ذلك ببضعة شهور، حينما فاز جو بايدن في الانتخابات الأمريكية، ردد بعض السجناء أن بايدن سيخرجهم من السجن بما إنه ينتمي للحزب الديمقراطي على عكس دونالد ترامب اليميني اللي قال على السيسي ديكتاتوري المفضل. أي حدث سياسي خارجي بيعطي آمال كبيرة إن نظام الحكم يتغير، والناس تخرج من السجن.

هكذا في السنوات الأخيرة داخل السجون، تكون الحالة الفكرية والسياسية صامتة، إلى أن تخرج من صمتها وفقًا للمشهد السياسي في الخارج، والذي بدوره لا يتحرك سوى مرة كل بضعة سنين، من خلال احتجاجات في الشارع، أو استراتيجية سُلطوية، أو مشهد سياسي خاص بحدثٍ كبير مثل الانتخابات الرئاسية.

على جانب أخر، وفيما يتعلق بالتخلي عن الأفكار والانتماءات التنظيمية لدى السجناء، فإن البعض منهم مع طول فترة سجنهم وفقدانهم أمل الانعتاق من السجن، وفي ظلِّ تخليهم عن أفكار السياسة والإصلاح والتغيير؛ إلا أنهم ظلوا محتفظين بفكرة الانتماء إلى التنظيم. ويخص فتحي بالحديث هنا أعضاء جماعة الإخوان المُسلمين؛ مفسرًا «بعض المنتمين للإخوان لا يتحدثون عن السياسة أو الأفكار، أو حتى أخطاء الجماعة في إدارة الحكم، لكنهم مرتبطون بالجماعة، ويدافعون عنها في النقاشات، ولا ينفكون عن الانتماء لها. فالجماعة بالنسبة لهم كالأسرة، وليس جماعة فكرية أو سياسية تنتمي لها وربما تنشق عنها عندما تريد».

يتفق مصطفى مع فتحي حول مدى تمسك السجناء السياسيين بالتنظيم، لكنه يخص الأعضاء الأكبر عمرًا، كما أنّه يحكي عن مدى ديناميّة الفكر والتنظيم الإسلامي من حيث التحول داخل السجن، إذ يقول: «في ناس انفكت تمامًا عن أي أفكار وتنظيمات. السجناء المُنتمون للأيديولوجيات الإسلامية ينتقلون بينها في فترة السجن. يكون منتميًا للإخوان ثم يلتحق بتنظيم الدولة ثم يعود مرة أخرى للإخوان، أو يتخلى عن كل الأفكار التنظيمية، أو عن الإسلام ككل. لكن الشباب المنتمي للتنظيمات الإسلامية كان أكثر انفكاكًا وتخليًا عن التنظيمات مقارنةً بالأكبر سنًا». الأمر نفسه تتناوله دراسات عديدة، بشأن مدى رسوخ ارتباط عضو الجماعة الإخوان بالتنظيم ذاته، لا بأفكاره أو ممارساته؛ لأن التنظيم ليس تنظيمًا فكريًا أو سياسيًا فحسب، إنما هو أكثر من ذلك، إذ يحتل مكانة اجتماعية واقتصادية لدى معظم أعضائه.[14]

ويفرّق مصطفى في حديثه حيال التمسك بالأفكار قائلًا: «كان في ناس بالفعل ما زالت متمسكة، لكن مش بالأفكار بمعناها الأيديولوجي والتنظيمي، وإنما بمعناها القيمي والمهني، مثل مفاهيم المهنية وكشف الحقيقة والحرية والديمقراطية، مثل الصحفيين والباحثين والحقوقيين». والتخلّي عن الأفكار والتنظيمات من جانب الكثيرين لا ينحصر داخل السجن فحسب، وإنما يمتد خارجه؛ إذ يبتعد السجناء السابقين عن كل ما له علاقة بالسياسة والأفكار والتنظيم بدافع الخوف. إذ يصبح مفهوم الخوف سياسة في حد ذاته، أو ما يُعرف بـ«تسييس الخوف»، وهو الخوف المستثار من وعلى الذات/ الجسد، من تكرار تجربة السجن مرة أخرى.[15]

وحول حالة خوف ما بعد السجن، يحكي محمود قائلًا:

بعد الخروج من السجن. لا توجد فرصة للتفكير سوى في عدم دخول السجن مرة أُخرى. الأمن لا يترك السجين السابق، وإنما يعتقله مرة أُخرى، وهذا ما حدث معي شخصيًا. بالإضافة إلى الاستدعاء الدائم للتحقيق والتواجد في مبان الأمن، فيما يعرف بالمتابعة. لذلك يفضل غالبية السجناء السابقين عدم ممارسة أي نشاط سياسي أو فكري، يخافون جدًا، ويبحثون بكل الطرق عن السفر خارج مصر.[16]

وهكذا تتسلط استراتيجية المتابعة الأمنية على حياة السجناء السابقين، كما تجعل منهم مراقبين ذاتيين على أنفسهم، خوفًا من تكرار تجربة السجن وآلامها، لهم ولأهاليهم، مرة أُخرى.[17]

نهايةً، تتحطم ذوات السجناء السياسيين في مصر، نتيجة القمع السلطوي الذي انتهجه نظام ما بعد يوليو 2013. فالمحتجزون داخل السجن الآن يتعرضون، منذ سنوات كثيرة، لتدمير ذواتهم وأجسادهم بطريقة عقابية وإذلالية ممنهجة، في ظل منظومة لا تلتزم بلائحة تنظيم السجون، ولا تقدم أقل درجات العيش الآدمي. كذا فإن مَن تمكّنوا مِن الانفلات من السجن، وخرجوا لإكمال حياتهم، وجدوا أنفسهم تحت رحمة منظومة أمنية، تراقبهم وتستدعيهم وتُعيد اعتقالهم مرة أُخرى. منظومة تمثل «شرًا لا يُقهر» بوصف عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان، ولا يمكن مقاومتها.[18] بل أنها، من خلال استراتيجية المتابعة (الاستدعاء الدوري للسجناء السابقين)، تُدربهم حسب وصف الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر، على «إعادة إنتاج الاستعباد الذاتي»؛ إذ تطلب السلطة منهم الذهاب إلى مبان الأمن، بهدف الاحتجاز لساعات أو بضعة أيام غير القانوني، فيتولّد الاستسلام/ الخضوع الذاتي لقمع السُلطة.[19]

كل ذلك في ظل مجتمع يمر بأزمات اقتصادية وثقافية، يصعب عيش السجناء السياسيين فيه على نحو سوي، كما يستحيل علاج أو بناء ما تشوَّه أو تحطَّم داخل السجن. فلا يصبح أمامهم سوى طريقين، أولهم تكملة العيش في ظل مفردات الاكتئاب والانعزال والقمع، أو السفر خارج مصر بهدف الخلاص من السجن. لكن السفر أو المنفى، سواء أكان اختياريًا أم إجباريًا، ومن تجارب من سافروا من مصر نتيجة للقمع الأمني، لم تكن كلها تجارب أتاحت للمسافرين العيش بشكل آمن ومريح، أو حتى إعادة بناء ما تحطم داخل السجن أو داخل مصر؛ وإنما كانت استكمالًا للعيش في ظل مفردات الخوف والاغتراب والانعزال.[20]

[1] هيومان رايتس ووتش (2023). مصر: الانتهاكات والقمع تطغى على الانتخابات الرئاسية. 18 ديسمبر. تاريخ الاطلاع 18 يناير 2024، https://www.hrw.org/ar/news/2023/12/18/egypt-violations-repression-upstage-presidential-vote.
[2] تمت جميع المقابلات في شهر نوفمبر من عام 2023، عن بعد، من خلال برامج الاجتماعات المرئية (zoom meeting).
[3] فرانس 24 (2013). نائب رئيس الوزراء المصري يدعو حكومة بلاده و«الإخوان» إلى المصالحة. فرانس 24، 29 أكتوبر. تاريخ الاطلاع 18 يناير 2024، https://rb.gy/dimo7t.
[4] طه عيسوي (2018). «عربي21» تنفرد بنشر نص مبادرة «مرزوق» لإنهاء الأزمة المصرية. عربي21، 5 أغسطس. تاريخ الاطلاع 18 يناير 2024، https://t.ly/go4Pf.
[5] المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (2021). أول سبع خطوات قبل الحديث عن انفراجة في أوضاع الحقوق والحريات في مصر. 4 مايو. تاريخ الاطلاع 18 يناير 2024، https://t.ly/k88a4.
[6] عربي 21 (2018). 11 مبادرة للمصالحة بين نظام السيسي والإخوان.. هذا مصيرها. 7 مايو. تاريخ الاطلاع 18 يناير 2024، https://rb.gy/gjl3dk.
[7] العربي الجديد (2023). مصر: وفاة شاب بسجن الوادي الجديد في ظروف غامضة. 30 أغسطس. تاريخ الاطلاع 18 يناير 2024، https://rb.gy/4jzvlg.
[8] للمزيد حول سياسة التدوير. يرجى مراجعة نشرة التدوير (ربع السنوية) التي تصدر عن الجبهة المصرية لحقوق الإنسان. https://cutt.ly/ZwLOYzwv.
[9] المفوضية المصرية للحقوق والحريات (2023). «لا تسقط بالتقادم» تصدر تقريرها «ما لا يمكن تحمله: عن الانتحار في أماكن الاحتجاز في مصر». 26 يونيو. تاريخ الاطلاع 15 نوفمبر 2023، https://cutt.ly/6wLOUeSY.
[10] لوبروتون، دافيد (2014). سوسيولوجيا الجسد ترجمة عياد أبلال وإدريس المحمدي. (القاهرة)، روافد للنشر والتوزيع. ص 146.
[11] حجازي، مصطفى (2005). التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور (الطبعة التاسعة). الرباط: المركز الثقافي العربي. ص 132.
[12] للمزيد حول كواليس الانتحار داخل السجن أنظر: عبد الحليم، أحمد (2002). من يمتلك حق الجسد: قراءة في الحياة السجنية. بيروت: أمم للتوثيق والأبحاث. ص 70، ص 176.
[13] المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (2022). قرائن على وفاة غير طبيعية للباحث الاقتصادي أيمن هدهود والتورط يطال الأمن الوطني والنيابة العامة ومستشفى الصحة النفسية بالعباسية. 13 أبريل. تاريخ الاطلاع 25 نوفمبر 2023، https://cutt.ly/SwLOUDjk.
[14] للمزيد أنظر: عياش، عبد الرحمن، عفيفي، عمرو، عزت، نهى (2023). الأواصر الممزقة: الأزمة الوجودية للإخوان المسلمين في مصر 2013 – 2022 ترجمة حسان حساني. واشنطن: مؤسسة القرن العشرين.
أنظر أيضًا: عبد الحليم، أحمد (2019). شباب الإخوان المسلمين: الجيل الثاني من المنشقين. المعهد المصري للدراسات، 25 نوفمبر. تاريخ الاطلاع 15 نوفمبر 2023، https://t.ly/R-uCq.
[15] جيجك، سلافوي (2017). العنف: تأملات في وجوهه الستة ترجمة فاضل جتكر. بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. ص47.
[16] محمود هو سجين سابق لمدة خمس سنوات في بضعة سجون بالقاهرة، اعتقل أكثر من مرة، وخرج في عام 2021.
[17] أحمد حسن (2020). استراتيجية «المتابعة»… كيف يراقب الأمن المصري المعتقلين السابقين؟. رصيف 22، 1 ديسمبر. تاريخ الاطلاع 15 نوفمبر 2023، https://t.ly/XUKeR.
[18] باومان، زيجمونت (2017). الخوف السائل ترجمة حجاج أبو جبر. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر. ص 107.
[19] بتلر، جوديث (2021). الحياة النفسية للسُلطة، نظريات في الإخضاع ترجمة نور حريري. دمشق: دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع. ص 44.
[20] عبد الحليم، أحمد (2023). ما بعد السجن في مصر. مجلة الجمهورية، 12 يناير. تاريخ الاطلاع 15 نوفمبر 2023، https://t.ly/OY39q.

Read this post in: English

اظهر المزيد

أحمد عبد الحليم

كاتب وباحث مصري، يكتب في موضوعات الاجتماع السياسي والجسد وعلاقته بالسُّلطوية، والسياسات العقابية في السجون المصرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى