رؤى

رؤى: الإسلاميون في السلطة وصعوبة استيعاب مبادئ حقوق الإنسان

حمل هذا المقال كبي دي إف

الإشارة المرجعية: الرمضاني، مسعود (2023). رؤى: الإسلاميون في السلطة وصعوبة استيعاب مبادئ حقوق الإنسان. رواق عربي، 28 (2)، 20-26. DOI:10.53833/DEDV1266

عند الحديث عن العلاقة بين الإسلام السياسي من جهة، وقيم حقوق الإنسان المثبتة في مواثيق وصكوك عالمية والتي لها هيئات رقابية تحرص على تطبيقها بين كل البشر على اختلاف جنسياتهم وأديانهم وقومياتهم من جهة أخرى، تعترضنا تناقضات عدّة، أهمها سيولة خطاب الإسلام السياسي، ومراوحته بين الأصول وبين قيم الحداثة. فتارة هو صارم في حرصه على مرجعياته الأصولية، بينما في تارة أخرى هو مرن، يستحضر النص الديني أحيانًا، بينما يتعامل ببراغماتية واستعداد للتفاوض وتقديم التنازلات أحيانًا أخرى، حتى وإن احتكت «الاجتهادات» بمرجعياته المقدسة.

شكلت الانتفاضات العربية، بما حملته من شعارات تحاكي قيم الحداثة، امتحانًا حقيقيًا لمدى تكيّف الإسلام السياسي مع هذه القيم، وقدرته على المراوحة بين النص الديني والفعل السياسي، وبين الأصول الدينية وقيم حقوق الإنسان. كما أن نجاح الإخوان المسلمين في مصر (2012) وحركة النهضة في تونس في الانتخابات الأولى (2011) بأغلبية ساحقة، والدور الذي عهد لهما في صياغة دستور ما بعد الثورة، وضعهما في تحدي ومواجهة حقيقيتين مع منظمات المجتمع المدني والقوى الليبرالية والعلمانية، وكذلك مع البلدان الغربية التي راهنت على التحولات الديمقراطية التي ستحدث في المنطقة العربية، والتي كانت تضغط –أحيانا– حتى يقدم الإسلام السياسي مزيدًا من التنازلات ويقطع مع المجموعات المتطرفة وأطروحاتها المتشددة.

يتناول هذا المقال تجربتين مهمتين لقياس قدرة الإسلام السياسي على القبول بحقوق الإنسان، الأولى تجربة حركة النهضة في تونس والثانية تجربة الإخوان المسلمين في مصر، وذلك لاعتبارات عدة، من بينها أن الحركتين جاءتا إلى الحكم بعد انتخابات ديمقراطية هي الأولى في البلدين بعد عقود من الاستبداد والتزوير وانتهاك حقوق الإنسان. وكذلك، بحكم وجودهما في أغلبية مريحة بالبرلمان؛ إذ أنهما مارستا دورًا أساسيًا في صياغة الدستور (دستور 2012 في مصر، ودستور 2014 في تونس)، وهو دستور يُفترض أن يعكس طموحات المتظاهرين في شارع الحبيب بورقيبة (14 يناير 2011) وميدان التحرير (25 يناير2011)، والشعارات المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة. في هذا السياق، سأحاول استقراء العوائق التي واجهت الحركتين في إدارة الحكم والدولة، خاصةً صعوبة تقلبهما بين النص الديني وبين متطلبات الحداثة.

بين الإسلام وحقوق الإنسان

هل يقبل الإسلام بحقوق الإنسان بمفهومها الحديث؟ تبدو الإجابة بالنفي بديهية، إذ أن الإسلام له مرجعيته الخاصة وتشريعاته الموجودة في القرآن والسنة واجتهادات المذاهب، وكان الإسلام السياسي في وقت ما يرى في الإسلام أيديولوجيا ثابتة وفي النص القرآني دستورًا. بينما في المقابل، تتمثل مرجعيات الدولة الحديثة في الديمقراطية وترسيخ الطابع المدني وإقرار المساواة واحترام الحقوق الفردية، وفصل الدين عن الدولة.

إلا أن بعض الأكاديميين لا يعتقدون بوجود تناقض بين الإسلام وحقوق الإنسان، ويرون ضرورة التركيز على فهم كنه الدين ومقاصده عبر قراءة عصرية للنص القرآني عوضًا عن قراءة تأويلاته. عياض بن عاشور، القانوني والحقوقي التونسي، يرى أن الإشكال يتمثل في القراءات التقليدية المحافظة التي تضر بصورة الإسلام، فهي قراءات تتمسك بحرفية القواعد التشريعية، «بينما الإسلام هو «أكبر وأعظم من المسلمين»… يحمل في طياته طريقة منفتحة تمكننا من التوليف بين الدين وحقوق الإنسان».[1]

ويوضح بن عاشور هذا التوافق في كتابه «الفاتحة الأخرى: الإسلام وفكر حقوق الإنسان»، [2] مشيرًا على سبيل المثال لأن عشرات الآيات في سورة الإسراء تتضمن ركائز أساسية لحقوق الإنسان، مؤكدًا على أن هذه الآيات تتناسق تمامًا مع حقوق الإنسان الحديثة. إذن، فالمشكلة الأساسية في التناقض تتمثل في القراءة الأصولية للنص الديني، قراءة يراها بن عاشور سطحية عاجزة عن الغوص في محتوى النص القرآني وفهم مقاربته وأبعاده الإنسانية، رغم اعتراف الكاتب نفسه بأن «الديانات القائمة على فكر الاله المشرّع تجد بعض الصعوبات مع حقوق الإنسان».[3]

يبدو أن قراءة بن عاشور –على أهميتها– لم تخرج عن سيرورة الإرهاصات المستنيرة التي عبر عنها العديد من الكتاب والمفكرين منذ أواخر القرن التاسع عشر، والتي بدأت تعي أن أحد أسباب الفجوة بين الإسلام والغرب هي ثقافية بالأساس، وأن التفسير الديني المتزمت الذي لم يخرج عن التأويلات الأصولية يظل حاجزًا أمام تحقيق أي تقدم حضاري أو ثقافي، لذلك يجب تكييف الدين مع متطلبات الحداثة، دون القطع معه نهائيًا.

تظل محاولات المزاوجة بين الإسلام والحداثة مجرد نظرية ما لم تُختبر فعليًا على أرض الواقع؛ فعلاقة الدولة الوطنية بالدين في ستينيات القرن الماضي كانت مرتبكة ونفعية، لا تتجاوز استغلال الفضاء الديني لتبرير سلطتها، فاستولت على الفضاء العام، ممثلًا في دور الإفتاء والمساجد، وراقبت محتوياتها وأملت خطابها السياسي الرسمي على الأئمة. مما تسبب في حدوث ارتباك في المجال الديني، استغله الإسلام السياسي الاحتجاجي، الذي خرج عن سيطرة الدولة قبل الثورات العربية ليؤسس لأيدولوجيا إسلامية مغايرة ويلتحم في فترات عديدة مع قوى سياسية معارضة –ليبرالية أو يسارية– مثل مشاركة الإخوان في حركة كفاية، قبيل سقوط مبارك، ومشاركة حركة النهضة في حركة 18 أكتوبر 2005.

أتاحت الانتفاضات العربية مجالًا لم يكن إخوان مصر أو أنصار حركة النهضة يحلمون به؛ فبعد عقود الملاحقة والسجون والمنع، ها هم الآن يتولون مقاليد السلطة عن جدارة، عبر انتخابات حرة، تعطيهم شرعية، وتتيح لهم إمكانية صياغة القوانين والمصادقة عليها بالأغلبية المريحة، ولهم الآن الاختيار بين «أسلمة المجتمع» وتطبيق الشريعة، وبين تجسيد شعارات الثورة.

الإسلام السياسي واستحقاقات الثورة

في الحقيقة، هناك فجوة كبرى بين الأيديولوجيا الإسلامية، حسبما يستبطنها الإسلام السياسي والذي حاول في فترات عديدة أن تكون دستورًا لحكمه، وبين توقعات ما بعد الثورة في مصر وتونس. مما أسفر عن وجود تحديات ساهمت في إضعافه وانحسار مصداقيته؛ فالتوقعات الشعبية في فترة ما بعد الثورة لم تكن تهتم بتطبيق الشريعة أو بأسلمة المجتمع، وإنما كان مصب اهتمامها حقوقها الاجتماعية التي حُرمت منها لعقود، ومن بينها العمل كضامن للكرامة. كما أن الأحزاب الليبرالية –ومعها منظمات المجتمع المدني– كانت حريصة على دمقرطة الحياة السياسية؛ لذا وجدت حركة النهضة نفسها، في مراحل عديدة، عالقة بين تحديات متعددة، من بينها شباب يتظاهر ويحتج بشكل شبه يومي من أجل ما يعتبره استحقاقاته «الثورية والدستورية» في العمل، إلى جانب مجتمع مدني وحركة نسوية تطالب بدولة مدنية ومساواة جندرية وتدعو لإطلاق كل الحريات التي جاءت بها المواثيق الدولية، كحرية المعتقد وحرية الضمير، بالإضافة للتوقيع على كل الصكوك الدولية المتعلقة بالمساواة. في مقابل تنامي تيار «أنصار الشريعة» العنيف، خطابًا وممارسة، والذي كان يتوقع تسامحًا أكبر من حركة تسيطر على أجهزة الدولة، وتستند مثله على مرجعية إسلامية.

في مصر، خاضت حركة الإخوان المسلمين تجربة مهمة في العمل السياسي في سنوات ما قبل ثورة 2011، إذ شاركت في الانتخابات التشريعية سنة 2005، رغم مقاطعة المعارضة، وفازت بعدة مقاعد، الأمر الذي هيأها للانتخابات الرئاسية والتشريعية في مصر سنة 2012. إلا أن المشاركة في الانتخابات تختلف عن استيعاب الديمقراطية باعتبارها ثقافة سياسية ترتبط بالتنوع الفكري والتعدد والحوار، فالإخوان وجدوا صعوبة في هضم الديمقراطية، لأن أدبياتهم وممارستهم تركز على مفاهيم الكتلة المتجانسة والوحدة والانصهار ونبذ الخلافات، عوضًا عن التركيز على حرية النقد وحرية الرأي وقبول الرأي المخالف.[4] وفي واقع الأمر، فإن جماعة الإخوان ظلت تراوح بين «رؤية تقليدية ارتبطت بأفكار مؤسس الحركة، حسن البنا، الداعي لقيام دولة إسلامية… ورؤية حديثة أسست لها المراجعات الفكرية للجماعة في ضرورة قبول القواعد العامة للديمقراطية».[5]

امتحان حقوق الإنسان في دستور الإخوان

 خلال شهر أكتوبر 2012، قدمت الجمعية العامة التأسيسية الثانية النسخة النهائية من الدستور المصري إلى الرئيس المصري محمد مرسي، غير عابئة برفض وانتقادات المجتمع المدني التي طالبت بطرحه لنقاش مجتمعي قبل الاستفتاء. وقد علق العديد من المراقبين علي صيغته النهائية، التي خلت من الإشارة إلى مدنية الدولة واحترام الأقليات الدينية، أو التزام مصر بالمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.[6]

في واقع الأمر، هناك الكثير من المآخذ بشأن مدى احترام دستور الإخوان (2012) لحقوق الإنسان في عموميتها، وبشأن الغموض الذي طبع العديد من الفصول. ويمكن الإشارة فقط لعدم احترام حقوق الأقليات في المادة الرابعة التي جعلت من الأزهر مصدرًا «للدعوة الإسلامية وعلوم الدين واللغة العربية»، في حين كانت المادة الثانية واضحة في إشارتها إلى مبادئ الشريعة الإسلامية «كمصدر للتشريع». وكذلك الخلط المتعمد بين الديمقراطية والشورى، وكأنهما الشيء نفسه رغم البون الشاسع بينهما. الحصيلة إننا هنا إزاء تناقض شبه أزلي طبع جل حركات الإسلام السياسي، وهو القبول «بديمقراطية نفعية» ترى في الانتخابات وسيلة للوصول إلى السلطة، ولكنها تظل على مبادئها المحافظة وتتلكأ في القبول بكامل أركان الحكم الديمقراطي، أي احترام التعدد الثقافي والديني والأقليات الدينية والجنسية والفصل بين الدين والدولة والمساواة الجندرية.

حركة النهضة وإكراهات الواقع

عرفت حركة النهضة مسارًا مختلفًا، ليس فقط بسبب استمرارها في الحكم لقرابة عقد من الزمن، وإنما أيضًا لعدة اعتبارات أخرى، من بينها مسارها التاريخي، واحتكاكها بالقوى الأخرى. إلى جانب الضغط الكبير الذي مارسه المجتمع المدني والأحزاب الليبرالية داخل المجلس الوطني التأسيسي وخارجه، والذي اضطرها للتنازل عن العديد من الأسس التي طبعت رؤيتها الإسلامية عند صياغة الدستور، مثل التخلي عن صيغة التكامل بين الرجل والمرأة وتعويضه بالمساواة التامة، والتراجع عن الإشارة إلى دور الشريعة في سنّ القوانين، والقبول بحرية المعتقد والضمير والموافقة على مبدأ تجريم التكفير. وهي تنازلات اعتبرها راشد الغنوشي، رئيس الحركة، ضرورية لأن الحركة ترى أن «أسلوب الحكم يجب أن يتم عبر إقناع الشعب التونسي وليس إكراهه».[7] والحقيقة أن النهضة غيّرت العديد من مواقفها، مقارنةً بعامها الأولى في الحكم، إذ أصبحت الحركة على استعداد للتخفيف من أهدافها الأولى في نشر ثقافة إسلامية، وحتى تعليقها، وذلك بحسب موازين القوى الداخلية والخارجية أي «بضغط المجتمع المدني والمجتمع الدولي والخبراء المحليين… رغم أن ضرورة ضخ قيم «الإسلام التونسي» في المجتمع لازالت قائمة»[8] لدى العديد من قياداتها.

تردد إسلام ما بعد الانتفاضات العربية

يقول المفكر والسياسي حمادي الرديسي، في مقدمة كتابه «الإسلام المتردد، الثورات وإسلام ما بعد الاستبداد»[9] أن الاستبداد قد استنفد كل إمكانياته مع الثورات العربية، وأن إسلام ما بعد الاستبداد هو «أولًا وقبل كل شيء رفض للنظام الاستبدادي»،[10] وأن الاستثناء الإسلامي الذي جعل هذا الفكر الديني خارج التاريخ قد أظهر قابليته للتعايش مع الحداثة وقدرته على استبدال «الاستثناء الأصولي بأصولية تنويرية مدنية»،[11] وأن صناديق الاقتراع بإمكانها إذابة «الإسلام الاستبدادي» إذا توفرت عدة شروط منها «فكر توافقي يحرك الفاعلين في الساحة السياسية وشرائح اجتماعية مؤمنة بالديمقراطية…. تعيش وسط مجتمع مدني منظم بدولة القانون».[12] ربما ينطبق هذا الكلام على حركة النهضة التي شهدت تطورات مهمة، من بينها قبولها بدستور يضمن العديد من الحقوق والحريات، وقرار مؤتمرها العاشر بالفصل بين العمل الدعوي والنشاط السياسي.

في المقابل، لم تبشر تجربة الإخوان في مصر، خلال فترة حكمهم القصيرة، بتغيير يذكر على مستوى التخلي عن «الأصولية» والقبول بأفكار تنويرية مدنية. فبعد مرور مائة يوم من حكم محمد مرسي، أصدر مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان تقريرًا حول أوضاع حقوق الإنسان في مصر، كشف غياب قضايا حقوق الإنسان عن سياسات وممارسات الرئيس المصري، رغم ما يحظى به من سلطات تشريعية وتنفيذية. مرجعًا ذلك لعدة أسباب، من بينها افتقاده لتصور واضح بشأن مفهوم حقوق الإنسان، وعدم استفادته من المبادرات الإيجابية المطروحة حول هذا الموضوع، بل أن الخطوات المحدودة المتخذة في هذا الاتجاه، قد جاءت تحت ضغوط شعبية.[13]

الإخوان في مصر: سقوط بدون تعاطف

كانت قراءة الإخوان المسلمين في مصر للواقع السياسي خاطئة، إذ اعتبروا نجاحهم الانتخابي بمثابة تفويض شعبي لا رجعة فيه،[14] ما دفعهم لتجاهل أصوات القوى الليبرالية والمجتمع المدني المطالبة باحترام مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. ما يعني أن ما عاشته مصر أثناء تلك الفترة القصيرة «يدحض الفكرة التي مفادها أن حركات الإسلام السياسي، إذا ما وُجدت في محيط ديمقراطي فإنها ستُعدِّل من [غلو] أفكارها وتقبل بالممارسة الديمقراطية».[15]

قبل الانقلاب العسكري على الديمقراطية بأسبوع تقريبًا، أصدرت عشرون منظمة حقوقية مصرية بيانًا رسم صورة قاتمة للغاية عن الوضع الحقوقي، بدايةً بإحالة المئات من المدنيين إلى المحاكم العسكرية، مرورًا بتفشي «جرائم التعذيب داخل السجون ومراكز الاحتجاز»، وصولًا إلى «إخضاع النساء إلى فحوص طبية إجبارية للكشف عن عذريتهن»، ليخلص البيان إلى أن «هذا العام اقتُرفت فيه جرائم حقوق الإنسان على نطاق أوسع مما عرفه مبارك».[16] هل هذه التصرفات كانت أحد أسباب سقوطهم المدوي على يد العسكر، إذ أن الإخوان فشلوا أيديولوجيًا وسياسيًا وتنظيميًا قبل الانقلاب العسكري؟ ذلك ما يعتقده عدد من المتابعين الذين رأوا أن الإخوان لم يجدوا مساندة كبيرة حينما تعرضوا للقمع.[17]

الأكيد أن مصر لم تكن في حاجة إلى انقلاب عسكري، يُعقِّد الأزمة ويضاعف القمع ويقطع مع الديمقراطية نهائيًا، ولكن الإخوان –أثناء فترة حكمهم القصيرة– كانوا بحاجة للتكيّف مع مرحلة الانتقال الديمقراطي واستيعاب مفاهيم الحداثة، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، مفاهيم كانت حركة النهضة أقرب إلى استيعابها والتعامل معها، رغم انزلاقاتها المتعددة.

حركة النهضة: من التردد إلى الحسم

كانت الفترة التي تلت الثورة مرحلة ضعف وتفكك أجهزة الدولة، وقد استغلت التيارات الدينية –منظمات وأحزاب وحركات دعوية– هذا الضعف لتبزغ كبديل لكل الحركات المدنية. فالثورة، التي نادت بالحقوق والحريات والعدالة، أشبعت المجال الديني كما قال حمادي الرديسي، إذ تكاثر الفاعلون الدينيون «واستولى كل واحد على قطعة من الإسلام».[18]

ولم يقتصر الأمر على محاولة أسلمة الفضاء العام؛ وإنما وصل إلى حد استعمال العنف، وهدم الزوايا والاعتداء على الأضرحة الصوفية والاعتصامات في الكليات لفرض النقاب. وظلت حركة النهضة مترددة لفترة، عسى أن تروّض «أنصار الشريعة» العنيفة، إلى أن انتقلت الجماعة من العمل الدعوي إلى الجهاد، وارتكاب الاغتيالات، وتهديد الحقوقيين والسياسيين والنقابيين، والهجوم على السفارة الأمريكية وتخريب محتوياتها؛ حينها قرر وزير الداخلية علي العريض، منعهم –أي أنصار الشريعة– من ممارسة أنشطتهم.

فصل العمل الدعوي عن الفعل السياسي: غموض المفاهيم

بعد دستور 2014، الذي نصّ على حرية المعتقد وحرية الضمير والمساواة بين الرجل والمرأة والتأكيد على حقوق الإنسان، بمرجعيتها المدنية والعالمية وتجريم التكفير، عرفت حركة النهضة بعض التململ؛ إذ لم تستطع قيادات تاريخية من حركة النهضة عرفت السجون لعقود، مثل الحبيب اللوز والصادق شورو اللذان كانا عضوين بالمجلس الوطني التأسيسي، استساغة الابتعاد «كلّيًا» عن أصول الشريعة ومقاصدها.

وكان المؤتمر العاشر للحركة[19] قد رسم مسارًا جديدًا يحاول القطع مع الماضي الإسلامي الصرف، فالحركة التي بدأت «بنموذج مستلهم من حركة الإخوان المسلمين» قررت التحوّل إلى «حزب ديمقراطي» يهضم مقومات الحداثة.[20] وقد رسم الغنوشي في افتتاح المؤتمر الرؤية الجديدة للحركة حين أشار لأن الحركة كانت منشغلة بالهوية حينما كانت الهوية مهددة في سبعينيات القرن الماضي، والآن الحركة تريد أن تتحول إلى «حزب ديمقراطي وطني مسلم متفرغ للعمل السياسي». لكن عبارة الغنوشي تحمل عدة أوجه؛ إذ يظل الغموض يسيطر حول معنى «حزب ديمقراطي وطني مسلم» فما هي مواصفات «الديمقراطية المسلمة»، بعبارة أخرى ما هي الخيوط التي تربط الإسلام بالديمقراطية، وهل هذا يعني «دمقرطة الإسلام» أم «أسلمة الديمقراطية»؟

مهما يكن، فإن الفصل بين الدعوة والسياسة لا يمثل منعرجًا كبيرًا في مسار حركة النهضة، ولا يجب اعتباره قطيعة مع ماضي الحركة، أي أن تصبح حزبًا قادرًا على استيعاب كل قيم الحداثة وقاطعًا مع الأصول نهائيًا، بل يجب اعتباره كتغيير داخل المشروع الإسلامي، يحقق ثلاثة أهداف رئيسية، أولها: إبعاد الوجوه المتشددة التي رفضت التأقلم مع الواقع الجديد والقبول بالسياقات التي فرضتها الأوضاع بعد الثورة، وثانيها: رسم الخط الفاصل مع الإسلام المتشدد بعد فترة من التردد والمخاتلة، وأخيرًا الاقتراب اكثر من الأحزاب الليبرالية التي ظلت مستنكفة من التعامل مع النهضة.

ختامًا، كانت تجربة السلطة بالنسبة لجماعة الإخوان المسلمين في مصر وحركة النهضة في تونس اختبارًا لمدى تفاعلهما مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفرصة للتخلص تدريجيًا من إرث أصولي محافظ. وقد هيأ زخم الحراك الثوري والشعارات التي رافقته الظروف لنقلة نوعية نحو الحداثة بكل أبعادها. ورغم الارتباك الذي ساد التجربتين في بداية تسلم السلطة؛ فإن حركات الإسلام السياسي، بصفة عامة، لا تشكل وحدات متجانسة، فالنهضة التي ظلّت أطول مدة في الحكم، قد تفاعلت مع الخطاب المدني والديمقراطي والحقوقي، ليس فقط بسبب تأثير الإرث البورقيبي «العلماني» الذي ترك بصماته في المجتمع التونسي،وإنما أيضًا بسبب تفاعل الحركة مع أطراف حقوقية وليبرالية ويسارية في فترات عديدة قبل الثورة وبعدها، خاصةً مع حركة 18 أكتوبر.[21] ما يعني أن حوار الإسلام السياسي مع القوى المدنية والحداثية قادر على دفعه باتجاه التخفيف من غلو التطرف والتمسك بالشريعة والتقوقع داخل مرجعياته الأصولية. في المقابل لم تعمّر حركة الإخوان المسلمين طويلًا في الحكم حتى تدرك أن الديمقراطية ليست فقط مغالبة، وأن الحوار مع بقية مكونات المجتمع المدني والسياسي هو السبيل الوحيد القادر على ضمان سيرورة التعايش السلمي داخل المجتمع، وأن عجلة التاريخ لا يمكنها العودة إلى الوراء.

أما الأن، وقد أغلق الانقلاب العسكري قوس برعم الديمقراطية الناشئة في مصر، على هناتها وارتداداتها، وانقلب قيس سعيد على الدستور الذي أوصله إلى السلطة وبدأ في استهداف حركة النهضة واتباعها بالملاحقات والسجون؛ فإن أبواب الحوار مع الإسلام السياسي قد أُغلقت ومعها ضعفت القوى السياسية والمدنية، لتترك مكانها لأطراف أكثر تشددًا، مما يهدد الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان ويعيد المنطقة إلى مربع الاستبداد.

[1] الجورشي، صلاح الدين (2014). عياض بن عاشور: الإسلام مظلوم من أهله. ضفة ثالثة، 1 ديسمبر. تاريخ الاطلاع 14 أغسطس 2023،https://shorturl.at/iprxy
[2] بن عاشور، عياض (2012). الفاتحة الأخرى: الإسلام وفكر حقوق الإنسان. تونس: دار الجنوب للنشر.
[3] المصدر السابق، ص 153
[4] محفوظ، عيسى (2021). تطور استيعاب مفهومي الديمقراطية والدولة الحديثة عند جماعة الإخوان المسلمين في مصر. دفاتر السياسة والقانون، 13(2)، 475-486. https://www.asjp.cerist.dz/en/article/151483
[5] المصدر السابق.
[6] عمارة، حسين (2012). الحريات وحقوق الإنسان في الدستور المصري الجديد بين الليبراليين والإسلاميين. فرانس 24، 25 ديسمبر. تاريخ الاطلاع 14 أغسطس 2023، https://shorturl.at/jpzNV
[7] ماركس، مونيكا (2014). أي أسلوب اعتمدته النهضة أثناء عملية صياغة الدستور التونسي. مركز بروكنجز الدوحة، فبراير. https://shorturl.at/acoG7
[8] المصدر السابق.
[9] الرديسي، حمادي (2020). الإسلام المتردد الثورات وإسلام ما بعد الاستبداد. ترجمة السيد العلاني. لبنان: منشورات دار الجمل.
[10] المصدر السابق، ص 9
[11] المصدر السابق، ص 11
[12] المصدر السابق، ص 12
[13] مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان (2012). ما بعد المائة يوم للرئيس محمد مرسي مؤشرات سلبية على مستقبل حقوق الإنسان، وأزمات كبرى مفتوحة، 15 أكتوبر. https://docs.google.com/viewerng/viewer?url=https://manshurat.org/sites/default/files/docs/pdf/004408.pdf
[14] الشريف، أشرف (2014). إخفاقات الإخوان المسلمين في مصر (The Egyptian Muslim Brotherhood’s Failures). مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، 1 يوليو. https://shorturl.at/iABQZ
[15] المصدر السابق.
[16] المبادرة المصرية للحقوق الشخصية (2013). بيان صحفي مشترك من 20 منظمة: عام من حكم محمد مرسي، سجل حافل من الانتهاكات وتقويض منهجي لدولة القانون، 27 يونيو. https://shorturl.at/tAHQ7
[17] الشريف، أشرف. مصدر سابق
[18] الرديسي، حمادي. مصدر سابق، ص 72.
[19] خلال الفترة بين 20 و23 مايو 2016.
[20] التليدي، بلال (2018). النهضة التونسية…قراءة في الفصل بين الدعوي والسياسي. عربي 21، 2 نوفمبر. تاريخ الاطلاع 14 أغسطس 2023، https://shorturl.at/psAK1
[21] وهي الحركة التي تشكلت بعد الإضراب الذي خاضته مجموعة من القوى السياسية والحقوقية في تونس، في 18 أكتوبر 2005، لتنفيذ ثلاثة مطالب: إطلاق سراح المساجين السياسيين والعفو العام وحرية الإعلام. أعقب الإضراب نقاش مع الإسلاميين حول المساواة بين الجنسين والعلاقة بين الدولة والدين. للمزيد أنظر: وثائق هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات في تونس، تحقيقات نشاز. https://shorturl.at/dJMQ5

Read this post in: English

اظهر المزيد

مسعود الرمضاني

عضو سابق باللجنة التنفيذية الأورومتوسطية للحقوق، والرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى