حمل هذا المقال كبي دي إف
خلاصة
شهد الريف المغربي في عام 2016 حشود شعبية وسياسية، استمرت تلك التجمعات لفترة تجاوزت ستة أشهر، قادت بعدها الدولة المغربية حملة أمنية، أدت بدورها إلى اعتقال أكثر من450 ناشطًا. في أعقاب رد الفعل الاستبدادي والعنيف؛ تحتم على النشطاء السياسيين ومجموعات حقوق الإنسان في المغرب التأقلم مع هذا المناخ التقييدي والقمعي. في هذا الإطار، يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل معمق، من خلال المقابلات والملاحظات التشاركية، للكيفية التي استطاعت بها هذه المجموعات استعادة حقوق الإنسان كسياسة للمقاومة. من خلال تتبع نشاط لجنة دعم معتقلي الحراك في الدار البيضاء ومجموعة حقوقية دولية؛ سيقوم المقال بتحليل انخراط النشطاء السياسيين ومجموعات حقوق الإنسان الدولية في ظل نظام سلطوي وقمعي. ويجادل المقال بأن استخدام خطاب حقوق الإنسان كان بمثابة أرضية مشتركة لمختلف الفاعلين السياسيين والحقوقيين؛ لخدمة النضال من أجل تحرير معتقلي الحراك.
مقدمة
تسبب مقتل محسن فكري –بائع أسماك تم سحقه في شاحنة لجمع القمامة في 28 أكتوبر 2016 بينما كان يحاول استرداد بضاعته التي صادرتها السلطات المحلية– في إشعال فتيل “الحراك”، وهو الاسم الذي بات يُطلق على نضال منطقة الريف من أجل العدالة الاجتماعية والحقوق السياسية والاقتصادية. منذ ذلك الحين شهد شمال المغرب، حيث تقع منطقة الريف، مستوى متزايدًا وتاريخيًا من النضال. وعلى الرغم من قمع الدولة ومناوراتها من أجل تشويه سمعة الحراك؛ استطاعت الحركة بناء وعي سياسي وتمكنت من حشد عدة آلاف[1] في الشوارع في تحد للدولة المغربية وأجهزتها.
قوبل الحشد الشعبي بقمع عنيف من الدولة المغربية؛ كان من شأنه سحق الحراك وإسكات سكان الريف. وكان السجن الجماعي أحد التكتيكات الرئيسية التي لجأت إليها الدولة، وسقط نشطاء الحراك ضحية لها. بحلول مايو 2017، كان المئات من السكان قد تعرضوا للاعتقال، وتم نقل 53 منهم، من بينهم قادة الحراك، من الحسيمة إلى الدار البيضاء. بناءً على ذلك، وإدراكًا للمعاناة التي تواجهها أسر المعتقلين، تم تشكيل لجنة دعم معتقلي الحراك في الحادي والثلاثين من مايو 2017. وبعد اعتقالهم ببضعة شهور، شرعت منظمة هيومن رايتس ووتش في حشد مواردها؛ من أجل توثيق الاعتقالات غير المبررة والقمع العنيف للاحتجاجات في منطقة الريف.
في هذا المقال، نسعى لتحليل إعادة إدماج خطاب حقوق الإنسان كجزء من التعبئة السياسية والاجتماعية في المغرب في سياق ما بعد عام 2011، و”الانتقال الديمقراطي”، وتصاعد تجريم الحركات الاجتماعية. كذا سيسلّط هذا المقال الضوء –من خلال الملاحظة التشاركية– على كيفية استعادة خطاب حقوق الإنسان كسياسة للمقاومة، وسيقدم فحصًا شاملًا لأدوار ومشاركة النشطاء السياسيين ومجموعات حقوق الإنسان الدولية في ظل نظام حكم قمعي وسلطوي. قمنا بذلك عبر النظر في كيفية توظيف خطاب حقوق الإنسان، من قِبَل مجموعتين مختلفتين انخرطتا في النضال من أجل إطلاق سراح السجناء السياسيين المحتجزين في سجون النظام الاستبدادية. إن خيار التركيز على لجنة دعم معتقلي الحراك ومنظمة هيومن رايتس ووتش لم ينجم عن أسباب اعتباطية؛ فكلتا المؤلفتين كانتا مشتركتان في هاتين المنظمتين. إذ كانت صوريا الكحلاوي عضوة بلجنة دعم معتقلي الحراك، وكانت فيروز يوسفي تعمل كمساعد باحث في منظمة هيومن رايتس ووتش، خلال الفترة بين فبراير وديسمبر 2018، وتولت أثناء تلك الفترة تغطية ومراقبة أحداث الحراك عن كثب.
أولاً، سنعرض بإيجاز الخطوط العريضة لسياسات واستراتيجيات حكم الملك محمد السادس عندما اعتلى العرش في يوليو 1999. ثم سنقدم باختصار لمحة عامة عن نشأة الحراك في منطقة شمال المغرب. وأخيرًا، سنقدم تحليلًا مقارنًا لكيفية قيام مختلف الأطراف بتوظيف خطاب حقوق الإنسان لخدمة أهدافهم.
اللامساواة الاجتماعية و”توظيف حقوق الإنسان”
اتسم اعتلاء الملك محمد السادس للعرش برسالتين سياسيتين. كان الملك “الجديد” يرغب في أن يغدو ديمقراطيًا وأن يولي العناية لرخاء شعبه. هكذا، في وقت مبكر من القرن الحادي والعشرين، كان التحرير الديمقراطي مصحوبًا بصناعة شخصية ملكية قريبة من الشعب. وقد لُقِب محمد الخامس في مستهل حكمه بـ “ملك الفقراء”، وكثيرًا ما كان يظهر منغمسًا في مشاهد أعمال الخير وسط حشود من المعوزين. على شاشات التلفاز الوطني، تمت إزاحة شخصية المستبد الحسن الثاني فيما بدا كقطيعة مع الماضي، واستبدالها بشخصية الملك الشاب وهو يقوم بتوزيع الحريرة (حساء مغربي) على الفقراء في رمضان، وتقديم الكراسي المتحركة لغير القادرين على الحركة، وافتتاح مجموعة من المشروعات الاجتماعية. باختصار، تمكن الملك محمد السادس من تأطير صورته كرمز سياسي من خلال توظيف المسألة الاجتماعية. هكذا، فإنه لم يمنح الانفتاح السياسي للمعارضين التاريخيين فحسب، بل أيضًا انهمك في إجراء “مصالحة اجتماعية” مع الشعب.[2] وهي مصالحة إذا ما وضعت في سياق العديد من الثورات فإنها تعكس الأزمة العميقة للنيوليبرالية والسلطوية.
بفضل ترسيخ التسويق السياسي الجديد خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ نال الملك محمد السادس الكثير من الثناء على مبادرته المزعومة للانتقال الديمقراطي. بالطبع لم يظل هذا المشروع الملكي حبيسًا لجهود (إعادة) تشكيل صورة الملك. ومن أجل أن يكون الملك ملكًا؛ كان ضروريًا أن يبادر بإجراء تغييرات للشروع في “الانتقال الديمقراطي”. إبان ذروة فترة “الحكم الرشيد”، التي تم تدشينها في بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قدم إصلاح الدولة المغربية ملاحظات مثيرة للتأمل فيما يتعلق بآليات الإصلاح السياسي في سياق سلطوي. كمثال، هناك الإصلاحين الرئيسيين في 2003: إصلاح قانون العمل وإصلاح قانون الأحوال الشخصية (المدونة) الذي أصبح قانون الأسرة، وهو الأمر الملائم نسبيًا لمطالب الحركة النسوية. علاوةً على ذلك، شهد عهد الملك محمد السادس إنشاء لجنة الحقيقة والمصالحة بهدف معالجة جرائم الدولة التي ارتكبتها في “سنوات الرصاص” (في إشارة إلى إطلاق الرصاص على المدنيين. وكان ذلك خلال فترة حكم الملك الحسن الثاني منذ بدايات الستينيات وحتى التسعينيات من القرن العشرين، وتميزت بعنف الدولة وإرهاب وقمع المعارضين السياسيين والمناضلين).[3]
تمت هذه التغييرات في النظام والترتيبات المؤسسية في سياق بنيوي، اتسم بالتدهور الاجتماعي وانعدام الأمن ومعاناة العديد من المواطنين؛ وهو ما أسفر عن تصاعد وتيرة النضال السياسي والاجتماعي. في الواقع، شهد العقد الأول من القرن الحالي أشكالًا متعددة من الاحتجاج الاجتماعي –حركات حقوق الإنسان والحركات النسوية والحركات الإسلامية أو حركات العولمة البديلة– لمجابهة التحديات التي تطرحها المطالب الاجتماعية التي غالبًا ما يتم تأطيرها بواسطة الحراك النقابي.[4] وهكذا، كما أوضحت مريم كاتوس وفريدريك فيريل:
“على الرغم من سلطوية النظام المغربي؛ فإن العمل العام لا يمكن اختزاله في عملية من أعلى إلى أسفل، حيث يمسك القصر الملكي بزمام المبادرة منفردًا، ويكون الحَكَم ومدير المشروع (…) في حدود السياسات المؤسسية والسياسات غير الرسمية؛ يبدو أن استقلالية الدولة المغربية حيال القوى الاجتماعية هو أمر نسبي”.
خلال الانتفاضات التي انتشرت في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2011، ميّزت الدولة المغربية نفسها بأنها بلد يمر بمرحلة “انتقال سلمي”. وهكذا استطاع المغرب أن يُظهر للهيئات الدولية قدرته، كنموذج انتقالي، على “إدارة الأزمة”، عبر دمقرطة البلاد من أعلى: إجراء تغيير دستوري وأول انتخابات حرة تضع حزب المعارضة الرئيسي –حزب العدالة والتنمية– في السلطة.[5]
برغم ذلك، فخلف هذه الواجهة الديمقراطية كانت هوة اللامساواة تتفاقم اتساعًا وعمقًا؛ حيث لم يتم تعزيز دولة الرفاه، كما لاحظت مريم كاتوس على نحو صحيح، وأدت الإصلاحات إلى تفريغ الدولة من الفاعلين أو المؤسسات الخاصة.[6] في الواقع، بعد ثمانينيات القرن الماضي، تبنت الدولة المغربية النيوليبرالية الخصخصة، باعتبارها ترياقًا للوضع الاقتصادي المتدهور، وجعلتها طابعها الرئيس.[7] بعد ذلك تحولت السياسات في اتجاه “تمكين” روابط الأسواق، وإزالة الحواجز التجارية وخفض الإنفاق الحكومي من خلال التخلص من الشركات المملوكة للدولة وتحوليها للقطاع الخاص.[8] فقد هيمنت على عمليات إعادة الهيكلة الاقتصادية في المغرب، والدول العربية الأخرى، فكرة مفادها أن عملية التنمية وتحسين النمو الاقتصادي غير قابلين للإنجاز دون وجود قطاع خاص قوى. في الواقع، تبرز سياسات المؤسسات المالية الدولية أهمية اليد الخفية للسوق؛ لضمان دولة أكثر كفاءة ونموًا أفضل.[9]
وبالتالي، لم تعترف الدولة المغربية قط بالقضايا الاجتماعية الناجمة عن الفقر وعدم المساواة، كقضايا سياسية بطبيعتها؛ وهو ما قد يقتضي إجراء إصلاحات هيكلية ومؤسسية للدولة.[10] في الحقيقة، منذ عام 2011، يعيش المغرب حالة من الاضطراب. منذ نشأة حركة عشرين فبراير، التي ظهرت خلال انتفاضات 2011 وكانت المنظم الرئيس للحشود الضخمة، وحتى ميلاد حراك الريف في 2017، ثارت العديد من الحشود عبر الإقليم؛ وهو ما فرض ضغطًا على سياسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة نتيجة تزايد المطالب بالحق في الموارد والخدمات العامة للمجتمعات المحلية. وبالرغم من الطموح السياسي لهذه المشروعات، لا يزال المغرب يعاني من تفاوتات كبيرة في الثروة وعدم المساواة[11] في التنمية بين المناطق[12]، برغم الجهود التي بذلتها الحكومة في الماضي، خاصةً مع إطلاق برامج كبيرة مثل المبادرة الوطنية للتنمية الإنسانية[13] أو برنامج مدن بدون أحياء فقيرة[14]. وقد أسفر تنفيذ استراتيجية المشروعات الكبرى –على الرغم من إسهامها في تخفيض نسبة الفقر رسميًا (من 15.3% في 2001 إلى 4.8% في 2014) – عن خلق مجالات تنمية لا تفيد التنمية المحلية، بل وأحيانًا ما تبرز اختلال التوازن بين الأقاليم على المستوى الوطني.
وبالتالي، بينما لا تؤدي تلك المشروعات التنموية الكبرى إلى تطوير استراتيجية تنموية وطنية شاملة من شأنها خلق توازن بين المناطق المهمشة والعاصمة[15]؛ فإنها أيضًا تسفر عن صراعات بين المجتمعات المحلية والدولة.[16] ونتيجة لهذا، ومنذ عام 2016، انتشرت الحركات الاجتماعية الكبيرة مثل حراك الريف أو الحركات الأخرى عبر البلاد، للمطالبة بالعدالة الاجتماعية والحق في الوصول للموارد؛ وهو ما أدى إلى وضع سياسة الدولة التنموية في مأزق، كما كشف عن تناقض سياسات المشروعات الكبرى. بالإضافة إلى ذلك، أدى الإجهاد المائي وإفراط الاستغلال لموارد التعدين وصيد الأسماك، وتآكل الأراضي جزئيًا؛ بسبب تسارع وتيرة التعمير في المغرب، إلى طفرة في التعبئة الاجتماعية التي تناهض تهميش الدولة للسكان.
المقاربة الأمنية لحراك الريف
في هذا السياق، نشأ حراك الريف في أبريل 2017. مع صعود موجة غير مسبوقة من السخط؛ باتت مدينة الحسيمة، التي جاء منها محسن فكري، مسرحًا للحشود القوية، التي سرعان ما انتشرت عبر البلاد. وتم تنظيم العديد من المسيرات لإحياء ذكراه، وللتنديد بتفاقم اللامساواة الاجتماعية في البلاد. مع ذلك، وبالرغم من ضخامة الحشود الأولى؛ بدا لوهلة أن الغضب قد تم إخماده سريعًا. في الواقع، فإن وسائل الإعلام صرفت انتباهها عن أحداث الريف، وركزت على تغطية مؤتمر الأمم المتحدة بشأن التغير المناخي (COP 22) الذي عُقد بمراكش في نوفمبر 2016.
خلال تلك الآونة، كان يتم تنظيم الحراك في صمت.[17] لكن فيما يتعلق بتاريخ الصراع؛ ينبغي القول أنها لم تكن المرة الأولى التي ينتفض فيها الريف ضد تهميش الدولة. فخلال الحقبة الاستعمارية، عُرف الريف بشكل خاص بمقاومته للاستعمار الفرنسي والإسباني، وبمشاركته الجماهيرية في النضال التحرري إبان الاستقلال. وخلال تلك الفترة التاريخية ظهر الرمز التاريخي عبد الكريم الخطابي (1882-1963)، وهو المعارض المستقل الذي أصبح خصمًا للنظام الملكي المغربي، وكان يرى أن مصالح النظام ترتبط بشكل وثيق بالقوى الاستعمارية. عوقب عبد الكريم الخطابي بالنفي إلى مصر، لكنه واصل التأكيد دون كلل على ضرورة تحرير المغرب وتحقيق الاستقلال الفعلي لمنطقة المغرب العربي. توفي الخطابي عام 1963 في القاهرة، لكن أصداء كلماته ظلت تتردد في منطقة الريف، معقل المقاومة لاستبداد الملك الحسن الثاني. في عام 1984، وفي أوج سنوات الرصاص، ألقى الملك الحسن الثاني خطابًا قاسيًا وجهه لمعارضيه، ووصف سكان الريف، بشكل خاص، بأنهم أوباش. وقال الملك في خطابه “الأوباش: الناظور، الحسيمة، تطوان، القصر الكبير. الأوباش العاطلين اللي عايشين بالتهريب والسرقة”.[18] ويمكن القول أن هذه العبارة مثلّت بداية عهد طويل من القمع والتهميش الاقتصادي لمنطقة الريف.
اليوم، وبعد مرور أكثر من ثلاثين عام، لا يزال سكان الريف يتذكرون تاريخهم في النضال ضد القمع، لكن السياق السياسي والاقتصادي قد تغير بالطبع. إذ بدأ الملك محمد السادس عهده بعملية مصالحة مع منطقة الريف، وتم خلالها ضخ العديد من الاستثمارات، لكنها لم تكن كافية، ولم “تتدفق” الثروة على سكان الريف. وكان المغرب، اتباعًا للنهج النيوليبرالي، قد انخرط في اتجاه تنموي ركز على الاستثمار الأجنبي والخصخصة، وهما مسارين للتنمية ساهما في تفاقم اللامساواة وحرمان السكان المحليين من الموارد.[19] وهكذا شهد الريف، المجاور للبحر الأبيض المتوسط، غالبية موارد الصيد التي بحوزته وهي تخضع لاستغلال الشركات الأجنبية. لقد اختفى الآن، بشكل شبه تام، نشاط حرفة صيد الأسماك. ونتيجة لذلك؛ لم تعد الأسماك المحلية متاحة لسكان المنطقة. وفي المقابل، لم يتم توفير فرص عمل بديلة؛ وهو ما أدى لارتفاع لمعدلات البطالة بين الشباب.
في السادس والعشرين من مايو 2017، وكنقطة تحول في حملة قمع “الحراك” وأنشطته، اعتقلت السلطات المغربية ناصر الزفزافي بعد أن قاطع خطيب صلاة الجمعة في مسجد بالحسيمة؛ احتجاجًا على تلاعب الدولة بالدين وعلى الدعاية المناهضة للحراك التي يروج لها الخطيب. خلال ثورة الحراك، كان ناصر الزفزافي، المولود في الحسيمة، يبلغ من العمر 39 عامًا وعاطلا عن العمل. ووصف نفسه في مقابلة مع صحيفة اللوموند بأنه “ريفي بسيط من أصل متواضع، يعاني من سياسة التهميش التي تتبعها الدولة”.[20]
استتبع اعتقال قائد الحراك موجة غير مسبوقة من الاعتقالات ضد النشطاء والمدونين والصحفيين والمحتجين المنتمين للحراك. وخلال الفترة بين السادس والعشرين إلى الحادي والثلاثين من مايو 2017، اعتقلت السلطات المغربية أكثر من أحد وسبعين شخصًا من منطقة الريف. وفقًا لمنظمة العفو الدولية[21] ومنظمة هيومن رايتس ووتش[22]، فإن الحملة الأمنية أدت إلى اعتقال أكثر من 400 شخص، بينهم قُصَّر ونساء. وهكذا، وفي سياق تصاعد القمع ضد “الحراك”، فإن أكثر من خمسين مسجون سياسي، من بينهم قادة الحراك، تم نقلهم إلى سجن عكاشة في الدار البيضاء في انتظار محاكمة جماعية.
وفقًا لتقرير صادر عن هيومن رايتس ووتش،[23] فإن مجموعة من النشطاء وُضعوا في طائرة مروحية معصوبي الأعين، وقد أبلغ بعض النشطاء محاميهم أن قوات الشرطة قد هددتهم، أثناء الرحلة، بإلقائهم من المروحية إن لم يتعاونوا. وبمجرد وصولهم الدار البيضاء؛ تم إرسال النشطاء إلى المقر الرئيسي للواء الشرطة الجنائية الوطنية لاستجوابهم. وكما ذكرت منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش؛ خلال تلك الموجة من الاعتقالات، تعرض المعتقلون للضرب، والتهديد بالاغتصاب، وإخضاعهم لعنف الشرطة. علاوة على ذلك، تم إيداع ناصر الزفزافي الحبس الانفرادي لأكثر من عام في جناح فارغ في سجن عين السبع 1 بالدار البيضاء، مع منحه نصف ساعة فقط، مرتين يوميًا، للتريض في ساحة السجن. وفقًا لقواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء (قواعد نيلسون مانديلا) يُعد ذلك تعذيبًا ومن ضروب إساءة المعاملة.
في سبتمبر 2017، بدأت محاكمة ثلاثة وخمسين ناشطًا ممن تم نقلهم إلى الدار البيضاء، بعد أربعة شهور من اعتقالهم. وتم تسليط الضوء على محاكمتهم؛ حيث حضر جلسات المحاكمة ممثلين للمنظمات الدولية، والمجموعات الحقوقية، ووسائل الإعلام الوطنية والدولية، والبرلمانيين الأوروبيين، وأعضاء المجتمع المدني المغربي والسياسيين. وقد لاحظنا خلال مراقبة المحاكمة، أن قاعة المحكمة شهدت حضورًا مكثفًا لقوات الشرطة فيما تم إيداع جميع معتقلي الحراك قفصًا زجاجيًا، وهو إجراء مهين يقوّض فرضية البراءة.
لنحو تسعة شهور، قام القاضي والنيابة باستجواب المحتجزين بشأن آرائهم ومعتقداتهم السياسية، بالإضافة إلى الأسباب الكامنة خلف مشاركتهم في الاحتجاجات، وانخراطهم في مجموعات سياسية وحضور اجتماعات سياسية. كانت غالبية الأدلة المقدمة خلال المحاكمة، ضد قادة الحراك، بعض المنشورات على موقع فيسبوك، ومقالات كتبها بعض الصحفيين المقبوض عليهم، ومقاطع فيديو وصور لهم خلال المظاهرات. تم تقديم منشورات فيسبوك كدليل ضد السجناء بما تتضمنه من انتقاد للسياسات التنموية التمييزية للدولة وتهميش الريف، والتنديد بقمع الدولة والعسكرة واعتقال النشطاء، أو دعوة سكان الريف للمشاركة في الاحتجاجات.
احتجاجًا على المحاكمة الجائرة وعلى الانحياز السياسي للمحكمة؛ قاطع النشطاء الثلاثة وخمسون قاعة المحكمة، وطلبوا من محاميهم رفض الترافع أمامها. في يونيو 2017، أيدت المحكمة الابتدائية في الدار البيضاء عقوبات صارمة ضد جميع المعتقلين؛ وتراوحت الأحكام بين السجن لمدد تتراوح بين عام وعشرين عام، فضلًا عن الغرامات. وشملت الاتهامات التي وُجهت لهم، الإضرار بالأمن الداخلي للدولة، التخريب، التمرد، والاعتداء على ضباط الشرطة خلال تأدية وظيفتهم، وتدمير الممتلكات العامة، وتنظيم مظاهرات غير مرخص بها.
كان قمع الدولة القاسي والمكثف للحراك بمثابة نقطة تحول في المشهد السياسي المغربي. حيث بدأ عدد من الفاعلين المنتمين للمجتمع المدني ولأحزاب سياسية مختلفة في الحشد والمطالبة بالإفراج الفوري عن كل النشطاء السياسيين، الذين اعتقلوا خلال انتفاضة الريف، وإنهاء عسكرة المنطقة. علاوةً على ذلك، قادت هذه الموجة غير المسبوقة من الاعتقالات لنشأة حركة تضامن دولية مع معتقلي الحراك ومطالب العدالة. في القسم التالي، سنقوم باختبار نموذجين في الحشد للتضامن؛ عبر دراسة حالة لجنة دعم معتقلي الحراك في الدار البيضاء، والدور الذي لعبته هيومن رايتس ووتش في هذه القضية.
توثيق الانتهاكات في سياق سلطوي
كمنظمة دولية غير حكومية، تقوم هيومن رايتس ووتش بمراقبة الانتهاكات وتدافع عن تطبيق حقوق الإنسان. ومن خلال الأبحاث ورصد انتهاكات حقوق الإنسان؛ تدعو المنظمة الدول والحكومات وصانعي السياسات إلى دعم حقوق الإنسان. أدى هذا العمل إلى أن تقوم الدولة المغربية بتعليق نشاط المنظمة رسميًا في المغرب في 2015. كان للحظر تأثيرًا وخيمًا على قدرة المنظمة على العمل بشكل رسمي في المغرب. وأدى تنامي هجمات الدولة على النشطاء السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان إلى الحد من قدرة المنظمة على إصدار تقارير وتحليلات حول وضع حقوق الإنسان في البلاد، فيما تخلت عن أعمال المناصرة على المستوى المحلي.
وكما أعلن مدير الدعم والمناصرة في هيومن رايتس ووتش “هناك ثلاثة عناصر لا بد من توافرها من أجل التحقيق في قضية؛ انتهاك واضح لحقوق الإنسان، إمكانية الوصول للبيانات، والتغطية الإعلامية. وكلها متوافرة في قضية الحراك”. وهكذا، بدأت هيومن رايتس ووتش في السعي إلى التوثيق والتيقن من احترام حقوق السجناء السياسيين. وفقًا لمدير الدعم والمناصرة في هيومن رايتش ووتش “إنها المرة الأولى التي تقوم فيها الدولة المغربية بحملة اعتقال واسعة النطاق لمتظاهرين ونشطاء وصحفيين، في غضون بضعة أيام فحسب”. وأضاف “هذه الاعتقالات غير مسبوقة منذ العشرين من فبراير (في إشارة للحركة الاحتجاجية التي شهدتها المغرب في عام 2011)”.
وفقًا لذلك، قامت هيومن رايتس ووتش بالعمل عن كثب مع محامي المعتقلين؛ لضمان أنه لم يتم إجبارهم أو إكراههم أو خداعهم للتوقيع على محاضر تدينهم خلال جلسات استجوابهم، فضلًا عن التأكد من عدم تعرضهم لعنف الشرطة. منذ بداية حملة الاعتقالات وحتى محاكمة نشطاء الحراك، أصدرت هيومن رايتس ووتش سبعة تقارير توثق وتدين بقوة اعتقال نشطاء الحراك، وإخضاعهم لعنف الشرطة واستخدام العنف لإجبارهم على التوقيع على محاضر استماع الشرطة التي تدينهم.[24] هذه التقارير أيضًا وثقت واستنكرت الإدانة غير الشرعية للنشطاء والصحفيين، بالإضافة إلى تجاهل المحكمة لتعذيب الشرطة لنشطاء الحراك.
في هذا الإطار، أصدرت هيومن رايتس ووتش تقريرها الأول بشأن الحراك في سبتمبر 2017.[25] ووثّق التقرير استخدام الشرطة للعنف خلال الاعتقالات، وطالبت الدولة المغربية بفتح تحقيقات حول التعذيب. بعد مرور عام تقريبًا، نشرت هيومن رايتس ووتش تقريرًا تفصيليًا عن محاكمة ثلاثة وخمسين من نشطاء الحراك المسجونين في الدار البيضاء. وذكر التقرير أن “على محكمة الاستئناف رفض أي اعترافات مشبوهة، وضمان عدم إدانة أي شخص، إلا لجرائم حقيقية”. هذا التقرير استند إلى مراجعة “الأجزاء ذات الصلة من الحكم القضائي، كما راجعت أحد وأربعين تقريرًا للطب الشرعي، منها تسعة عشر تقريرًا من إنجاز طبيبين كلفهما المجلس الوطني لحقوق الإنسان، واثنين وعشرين تقريرًا من إنجاز طبيب كلفته المحكمة الابتدائية للدار البيضاء. وحضرت هيومن رايتس ووتش سبع عشرة جلسة للمحاكمة، والتي بلغت ست وثمانين جلسة. كما راجعت خمس وخمسين وثيقة من وثائق المحاكمة، وأجرت مقابلات مع عشر من محاميي الدفاع و ستة من أقارب النشطاء المسجونين”.
في المغرب، ونتيجة لالتزام المجموعات الحقوقية بتغطية تلك الانتهاكات ومراقبتها عن كثب؛ لاحظنا أن النضال من أجل حقوق الإنسان، لا سيما النضال من أجل المعتقلين السياسيين، يعاود الظهور كنضال وطني جماعي. وبهذا المعنى، فإن عمل هيومن رايتس ووتش في المغرب يُعد جزءً من مقاربة قانونية أشمل تصبح فيها حقوق الإنسان بمثابة لغة مشتركة lingua franca عالمية من أجل العدالة. هذه البنية القانونية تعتمد على مجموعة من اتفاقيات وإعلانات حقوق الإنسان الدولية، وما تبع ذلك من نشأة المؤسسات الدولية، وهيئات المراقبة وصناعة السياسات. في هذا الصدد، فإن كل هذه الإصلاحات حظيت بتشجيع الفاعلين في المجتمع المدني العالمي بما حفّز صياغة معايير جديدة، وتنفيذ مهام تقصي الحقائق، وتشجيع الضحايا على استخدام الآليات الدولية. لكن في سياق يشهد اعتداءً عالميًا على حقوق الإنسان، خاصةً مع عودة السلطوية، فإن خطاب حقوق الإنسان والتعبئة من أجلها يتم قمعهما بلا هوادة.
إن التزام المجموعات الحقوقية تجاه قضية معتقلي الحراك ساعد أيضًا في أن ينال الحراك دعمًا دوليًا. في الواقع، عبر تغطية ومراقبة المحاكمة، ونشر العديد من التقارير وممارسة الضغط؛ ساهمت هيومن رايتس ووتش في كشف انتهاكات النظام المستمرة لحقوق الإنسان، بما في ذلك انتهاك القانون الدولي والاتفاقيات الدولية وعدم احترام الحق في المحاكمات العادلة. علاوةً على ذلك، فبالنسبة لأسر الضحايا؛ ساهم الدعم الذي وفرته المنظمات الدولية البارزة في إضفاء الشرعية على نضال أبنائهم. كما تم استخدام التقارير الصادرة عن المنظمة داخل لجان الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة للتعريف بالانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان. ناهيك عن أن منظمات حقوق الإنسان المحلية والفاعلين في المجتمع المدني، استخدموا هذه المنشورات لدعم تذرعهم بسياسة المقاومة والدعوة لاحترام حقوق الإنسان. هذه المنشورات تم استخدامها كأدوات تخدم مساعي نزع الشرعية عن النظام والدولة أمام منصات دولية متعددة. وقد ساعدت سمعة هيومن رايتس ووتش المحامين في الدفاع عن قضيتهم خلال المحاكمة، خاصةً عندما نشرت المنظمة تقارير حول مزاعم استخدام الشرطة للعنف أو المحاكمات الجائرة. في الواقع، استخدم محامو النشطاء السياسيين للحراك هذه التقارير في المحكمة؛ لتبرير عدالة قضيتهم، ولإجبار المحكمة على اتخاذ مواقف بشأن استخدام القوة والتحيز السياسي لنظام المحكمة.
توحيد صف المعارضة السياسية من أجل إطلاق سراح المعتقلين
وفقًا لمنسق لجنة دعم معتقلي الحراك، فإن اللجنة في الدار البيضاء هي تجمع مستقل يضم جنبًا إلى جنب ممثلين للعديد من التنظيمات السياسية، والنقابات، والجمعيات، التي تقف جميعها ضد تجريم الحركات الاجتماعية. لدى اللجنة هدفين رئيسين: الأول، العمل من أجل التحرير الفوري لكافة معتقلي الحراك، والثاني هو تقديم الدعم المعنوي واللوجيستي للمعتقلين الثلاثة وخمسين الذين نقلوا للدار البيضاء، فضلًا عن أسرهم.
منذ البداية، لاحظنا أن اللجنة كانت على اتصال بكل من أسر معتقلي الحراك ومحامي الدفاع حتى تتمكن من فهم احتياجات المعتقلين. في الأسابيع الأولى، تولت اللجنة مهمة الترحيب بأسر المعتقلين في الدار البيضاء، تدشينًا لجهود التضامن التي تؤكد للمحتجزين وأسرهم أن لديهم الدعم المعنوي واللوجستي اللازمين. وفي الوقت ذاته، قامت أسر المعتقلين بتشكيل لجنتهم الخاصة؛ من أجل تنسيق مطالبهم لتحسين ظروف الاحتجاز للمعتقلين. وقد ساهمت لجنة عائلات معتقلي الحراك في تسهيل التواصل مع الأسر وحققت عددًا من المطالب، بما في ذلك تحسين ظروف احتجاز معتقلي الحراك. بالإضافة إلى ذلك، استطاعت لجنة عائلات المعتقلين تنسيق الزيارات العائلية، بما في ذلك تنظيم زيارة جماعية أسبوعية، وهو ما يعني أنه بإمكان الأسر أن تسافر سويًا من الحسيمة إلى الدار البيضاء.
على رأس إجراءات الدعم اللوجستي، قامت اللجنة بتدشين سلسلة من الإجراءات التضامنية مع أسر معتقلي الحراك، وذلك على كلا المستويين الوطني والدولي. على المستوى الوطني؛ قامت اللجنة بتنظيم العديد من المظاهرات والمسيرات في مدن مختلفة. كما أطلقت اللجنة حملات مثل “مغربيون ضد الاعتقال السياسي” و”نساء مغربيات ضد الاعتقال السياسي”، ونظمت مظاهرة من أجل إطلاق سراح سيليا الزياني (من معتقلي الحراك السابقين) وذلك بالتنسيق مع لجان أخرى في الرباط. وقد أطلقت اللجنة حملة أخرى في أغسطس 2017 “الثقافة في خدمة تحرير معتقلي الحراك”. خلال هذه الحملة، أنتجت اللجنة قمصان تحمل نداء لإطلاق سراح جميع المعتقلين، كما نظمت احتفالًا في الخامس من أغسطس، جمعت فيه العديد من الفنانين الذين يطالبوا بالإفراج عن معتقلي الحراك.
على المستوى الدولي، تعمل اللجنة بشكل حثيث على رفع الوعي بشأن محنة وظروف معتقلي الحراك، لاسيما عبر إطلاق نداء دولي يحمل توقيعات شخصيات مرموقة مثل نعوم تشومسكي، كين لوش، وأرونداتي روي. وما زالت اللجنة تواصل نشاطها حتى اليوم، وتستمر في التأكيد على ضرورة تكوين جبهة موحدة قادرة على الضغط على الدولة المغربية؛ من أجل تحرير كافة معتقلي الحراك.
بالرغم من أن اللجنة لم تكن المنظمة الوحيدة الناشطة في مجال التضامن مع معتقلي الحراك، إلا أن تجربتها تدعو للتأمل بسبب نقطة جوهرية؛ وهي استراتيجيتها في الحشد المتأني للقوى التي لم يكن حضورها مألوفًا بين المنخرطين عادةً في مسألة حقوق الإنسان في المغرب. وهو ما أكده أحد أعضاء اللجنة “لم تتألف بنية اللجنة من تجمع للمنظمات السياسية، أو الجمعيات المعنية بمسألة حقوق الإنسان، كما هو الحال في التجمعات التنظيمية الأخرى لدعم النشطاء المحتجزين من بين صفوف حركة عشرين فبراير 2011 على سبيل المثال”. وأضاف العضو “تأتي خصوصية لجنة الدعم من خلقها هامش معين من الاستقلال عن التحزبات التنظيمية وذلك عبر قبولها الأعضاء من كافة الأطراف سواء كانوا حزبيين أو مستقلين”.
وهكذا؛ واحترامًا للتنظيم العفوي لحراك الريف، كان النموذج التنظيمي الذي اعتمدته اللجنة قائمًا على عدم التحزب. وفي هذا الإطار؛ استطاعت اللجنة أن تجمع في صفوفها نشطاء من الحركة الإسلامية (العدل والإحسان) بالإضافة إلى نشطاء من مختلف أطياف اليسار، والحركة الأمازيغية. بما لا يزيد عددها عن دزينة من الأشخاص، تمكنت اللجنة من تكوين اتحاد تجاوز النزاعات بين مختلف الأطراف. علاوةً على ذلك، نجحت اللجنة في توحيد مختلف القوى السياسية حول مطلب واحد: إطلاق سراح معتقلي الحراك.
كما شهدنا، فإن الشكل التنظيمي للجنة وتركيزها في التواصل الإعلامي على خطاب حقوق الإنسان؛ سمح للجنة –بينما كان معتقلي الحراك لا يزالون في الدار البيضاء– بتوحيد مشهد المعارضة السياسية حول رسالة واحدة مفادها اعتبار السجن السياسي لنشطاء الحراك انتهاكًا خطيرًا واعتداءً على الحقوق الأساسية لكل مواطن. من اللافت أنه في ظل ظروف خاصة، مثل تفاقم القمع واللجوء للحلول الأمنية، فإن استخدام خطاب حقوق الإنسان، الذي يركز بشكل خاص على الحق في التظاهر، أو الحق في حرية التعبير؛ يجعل من الممكن تشكيل جبهة من شأنها تجاوز التشظي المستحكم في الساحة السياسية.
في المغرب، وفي هذه الحالة بشكل خاص، فإن الاتحاد بين القوى الإسلامية والتقدمية هو ما شكّل نقطة تحول في أنماط العمل الجماعي لمشهد المعارضة المغربي. وقد استطاعت اللجنة أن تنال تعاطفًا واسعًا من المجتمع المدني النشط في الدار البيضاء؛ عبر وصف نفسها بأنها تجمع من المواطنين، وبتركيز نشاطها على جهود دعم أسر المعتقلين. ونظرًا لأن أنشطتها الأولى لم تنطو على رسالة سياسية، ولم تكتس كذلك بصبغة أيديولوجية سياسية بعينها؛ كانت اللجنة قادرة على صياغة سرد متماسك حول الجانب “الإنساني” و”الاجتماعي” الذي يتوارى خلف قضية “سياسية” كقضية الحراك. كان ذلك خيارًا واعيًا، فكما قال المنسق السابق للجنة “اتسم هذا الخيار منذ البداية برغبة واعية من المؤسسين لإدراج اللجنة في المنطق التنظيمي للحراك، كحركة تصف نفسها بأنها “شعبية”؛ وهو ما يعني أنها غير حزبية”.
كما ساهم هذا الخيار في بناء الثقة اللازمة مع أسر المعتقلين. فقط بعد هذه الفترة الأولى من النشاط “الاجتماعي”، والتي تمحورت بشكل أساسي حول تحسين ظروف الاحتجاز للمعتقلين وتقديم الدعم اللوجستي لأسرهم (بما في ذلك زيارتهم الأسبوعية)؛ شرعت اللجنة في تسييس هذه الأنشطة عبر تنظيم المسيرات. لكن مجددًا، ينبغي إيلاء عناية خاصة إزاء عدم “تسييس” اللجنة بالمعنى الحزبي للمصطلح؛ فالمغزى من أنشطتها هو تقديم الدعم لمعتقلي حراك الريف. على الجانب الآخر؛ كان ذلك بسبب أن المعتقلين أنفسهم ظلوا متشككين للغاية في التنظيمات السياسية التقليدية، لاسيما بسبب الخطر المحتمل في حال شاركت في الحراك. أيضًا، ولأن تماسك اللجنة اعتمد على التوازن بين النشطاء القادمين من آفاق سياسية مختلفة؛ فإن تلك المعادلة لا يمكن تحقيقها إلا عبر استخدام خطاب حقوق الإنسان. وهكذا، بينما يؤدي استخدام خطاب حقوق الإنسان، في سياق سلطوي، إلى تشكيل أداة مقاومة للدفاع عن حقوق المواطنين الذين يحشدون من أجل كرامتهم وتحقيق العدالة الاجتماعية؛ فكذلك من المهم ملاحظة أن خطاب حقوق الإنسان يمكنه أيضًا –في بعض الحالات المعينة– المساهمة في تشكيل جبهات موحدة تهدف إلى دعم القضايا التي تقوّض انتهاك الأنظمة السلطوية للحرية.
خاتمة
من خلال تحليل نوعين من التنظيمات التي استنفرت جهودها من أجل قضية معتقلي حراك الريف؛ توضح نتائج البحث كيف أن استخدام خطاب حقوق الإنسان في المغرب كان بمثابة أداة مقاومة، في مواجهة الحملة الأمنية للدولة المغربية السلطوية. من المثير للتأمل، في تحليل كلتا الحالتين اللتين خضعتا للدراسة، الإمكانية التي وفرها استخدام خطاب حقوق الإنسان لاجتذاب مختلف الفاعلين السياسيين والحقوقيين للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين. حيث وجدنا كيف أن نشاط إصدار التقارير الذي تقوم به منظمات مثل هيومن رايتس ووتش، حول انتهاكات حقوق الإنسان، لم يسهم فقط في توفير تغطية إعلامية دولية لقضية معتقلي الحراك، لكنه نجح أيضًا في فضح النظام بسبب انتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان. بينما يوضح نموذج لجنة دعم معتقلي الحراك أن الطبيعة العالمية لخطاب حقوق الإنسان قد ساعدت في خلق جبهة موحدة حول قضية إطلاق سراح المعتقلين، وسمح –في بعض الأحيان– باستقطاب النشطاء القادمين من أطياف سياسية مختلفة فيما بينها بشكل جذري. وبالتالي، يتضح أن خطاب حقوق الإنسان يمكن أن يستخدم من تنظيمات محلية مختلفة، من خلفيات سياسية متباينة، لدعم قضية سياسية تُنتهك فيها الحقوق الأساسية من قِبَل دولة سلطوية.
[1] المالكي، فاطمة الزهراء (2017). حراك الريف المغربي: الشعب في مواجهة المخزن. آخر زيارة للرابط في 17 ديسمبر 2019. (بالإنجليزية)
https://www.jadaliyya.com/Details/34330
[2] Catusse, M., 2011, Le “social”: une affaire d’Etat dans le Maroc de Mohammed VI, Confluences Méditerranée, 78(3), 63-76.
[3] أمين، خالد (2016). بعد “سنوات الرصاص” في المغرب: إحياء الذاكرة، فصلية المسرح الجديد،32(2)، 121-141. (باللغة الإنجليزية).
[4] Catusse, M., Vairel, F., 2010. Question sociale et développement : les territoires de l’action publique de la contestation au Maroc. Politique africaine 5–23.
[5] Desrues, T., 2012, Le Mouvement du 20 février et le régime marocain : contestation, révision constitutionnelle et élections, L’Année du Maghreb, VIII, 359-389, accessed February 3rd, 2020,
https://journals.openedition.org/anneemaghreb/1537?lang=fr#quotation
[6] Catusse, M., 2011. Le “social”: une affaire d’Etat dans le Maroc de Mohamed VI, Confluences Méditerranée 63–76.
[7] Zeroual, A., 2014. Modernisation néolibérale et transformation du profil des dirigeants des entreprises publiques au Maroc. Cas de la Caisse de Dépôt et de Gestion (CDG) : 1959-2009. Africa Focus, 27(2), pp. 23-47.
[8] هنية، آدم. 2013. تغيير الأولويات أم العمل كالمعتاد؟ الاستمرار والتغيير في اتفاقيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مع تونس والمغرب ومصر بعد 2011. الدورية البريطانية لدراسات الشرق الأوسط، 42(1)، ص 1469-3542. (باللغة الإنجليزية)
[9] أشقر، جلبير. 2013. الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضات العربية. لندن. دار الساقي (باللغة الإنجليزية)
[10] Catusse, M., 2011. Le “social”: une affaire d’Etat dans le Maroc de Mohamed VI, Confluences Méditerranée 63–76.
[11] Oxfam, 2019, Un Maroc égalitaire, une taxation juste, accessed 29 April 2019,
https://www.oxfam.org/fr/publications/un-maroc-egalitaire-une-taxation-juste
[12]المنتدى الاقتصادي العالمي. 2018. التقرير العالمي للفجوة بين الجنسين. (باللغة الإنجليزية). آخر زيارة للرابط في 17 ديسمبر 2019.
https://www.weforum.org/reports/the-global-gender-gap-report-2018
[13] بريان، ياسمين. 2010. تعقيدات الحكومة التشاركية الشاملة. دراسة حالة العمل الجمعياتي المغربي في سياق المبادرة الوطنية للتنمية الإنسانية. مجلة البحوث الاقتصادية والاجتماعية 12، 89-111. (باللغة الإنجليزية).
[14] بوهارت، كزنراد. 2013. مدن بدون عشوائيات في المغرب؟ نماذج جديدة للحكومة الحضرية والقرية البدوية كتجمع نيوليبرالي، في كتاب إيجاد حق المدينة في الجنوب العالمي (ص. 41-59). نيويورك: روتليدج.
[15] بوهارت، كونراد. 2015. نماذج مفقودة في المغرب: كيف يجب أن تزعج مشروعات التعمير الكبرى فهمنا للسياسات العربية. موقع جدلية. (باللغة الإنجليزية).
[16] عايب، حبيب. وبوش، راي. 2014. انتفاضات صغار المزارعين والإهمال الريفي في مصر وتونس. تقرير صادر عن مشروع بحوث ومعلومات الشرق الأوسط MERIP. 271. 2-11. (باللغة الإنجليزية)
[17] Esmili, H., 2018. Faire communauté. Tumultes 131–149.
[18] Yabiladi, 2019, Maroc : Les émeutes de 1984, quand Hassan II qualifait les manifestants de «Awbach»
https://www.yabiladi.com/articles/details/73556/maroc-emeutes-1984-quand-hassan.html, Accessed February 3rd, 2020.
[19] كولادو، آنجيلا.2015. الضغوط المحلية في المغرب: من الديمقراطية إلى مطالب الاستقلال في الاحتجاجات الشعبية في الريف. سياسات المتوسط 20. 217-234. (باللغة الإنجليزية)
[20] Ait Akdim, Y., 2017, Nasser Zefzafi, l’insurgé du Rif marocain, Le monde Afrique,
https://www.lemonde.fr/afrique/article/2017/04/28/nasser-zefzafi-l-insurge-du-rif-marocain_5119611_3212.html accessed February 3rd, 2020.
[21] Amnesty International, 2017, Maroc: Il Faut Libérer les manifestants, les militants et les militants et les journalistes placés en détention dans le cadre des manifestations du Rif. Accessed 8 December 2019
https://www.amnesty.be/infos/actualites/article/maroc-il-faut-liberer-les-manifestants-les-militants-et-les-journalistes-places
[22] هيومن رايتس ووتش. 2017. المغرب: الملك يتجاهل أدلّة على انتهاكات الشرطة. آخر زيارة في 8 ديسمبر 2019.
https://www.hrw.org/ar/news/2017/09/05/308453
[23] المصدر السابق.
[24] هيومن رايتس ووتش. 2018. المغرب: شبهات التعذيب تشوّه محاكمة جماعية. آخرة زيارة للرابط في 8 ديسمبر 2019.
https://www.hrw.org/ar/news/2018/11/30/324664
[25] هيومن رايتس ووتش. 2017. المغرب: الملك يتجاهل أدلّة على انتهاكات الشرطة. مصدر سابق.
Read this post in: English