حمل هذا المقال كبي دي إف
على مدار القرن العشرين، تميزت المنطقة العربية بنمو سكاني كبير؛ كنتيجة مباشرة لارتفاع معدلات الولادة، بالإضافة للزيادة الكبيرة في معدلات البقاء على الحياة ومتوسطات الأعمار، وهو ما جعلها تتمتع بأكبر كتلة سكانية شهدتها المنطقة على الإطلاق، والأكثر تعليمًا أيضًا. إلا أن دول المنطقة لم تستفد من تلك الكتلة الجبارة؛ نتيجة لمزيج من العوامل الداخلية والخارجية، ما أدى بدوره إلى مضاعفة معاناة ملايين المواطنين من التهميش والتضرر. ومع تراجع معدلات توفر فرص العمل والوظائف، والافراط في القمع، أحس الناس عبر أنحاء المنطقة بالسخط والإحباط والغضب. ومن هنا يستكشف هذا المقال الأدوار المباشرة وغير المباشرة للديناميكيات الديموغرافية بالمنطقة في الموجتين الرئيسيتين للانتفاضات العربية التي اكتسحت المنطقة، وما تلاها من ثورات مضادة شرسة. ويؤكد المقال على أنه بالرغم من تباطؤ معدل النمو السكاني، فإن تعداد سكان المنطقة آخذ في التزايد، وسوف يستمر في التأثير على المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية في المنطقة.
قوة السكان
على مدار العقود الأخيرة تعرضت المنطقة العربية لنمو سكاني غير مسبوق، ما كان له بالغ الأثر على البنى الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والسياسية في تلك المجتمعات، فضلًا عن دوره في الموجة الثورية والانتفاضات التي زلزلت المنطقة، وفي أعمال القمع التي أعقبت تلك الانتفاضات وسبقتها.
لا يعني ذلك أن التغيرات الديموغرافية هي العامل الوحيد والأساسي في قيام الثورات في المنطقة العربية، كما لا يعد استدلالًا بالنظرية المبسطة والحتمية القائلة بأن الثورات تحدث نتيجة “لتزايد أعداد الشباب”، أو أن “الفقراء هم المتحكمون بمصائرهم”.
فالثورات هي أحداث معقدة تحدث أثناء فترات من الارتباك الهائل، ويعد فهم العوامل المحركة لها صعبًا، سواءً بين المشاركين فيها، أو حتى بين من يراقبونها عن كثب وقت حدوثها. فهي تشتعل في أماكن وأوقات مختلفة، ونتيجة لأسباب عدة، قد تتشابك أحيانًا وتتعارض أحيانًا أخرى. كما قد تشتعل شرارة الثورة على يد مجموعات وفئات مختلفة ومتباينة، ويشارك فيها عدد هائل من الفاعلين المختلفين في الآراء والأهواء.
بعد الإقرار بالتعقيد البالغ للحركات الثورية والانتفاضات الجماهيرية، فإنني قد توصلت لقناعة –بناءً على الأدلة المتوفرة– بأن التطور الديموغرافي للمنطقة كان عاملًا حاسمًا في إشعال شرارة الثورات الجماهيرية التي بدأت نهايات عام 2010، فضلًا عن الموجة الثانية الجارية حاليًا، إلا إن الدور الذي لعبه التطور الديموغرافي كان متباينًا من بلد إلى بلد.
وقود للغضب
يمكن النظر إلى الشعارات التي رفعها المتظاهرون خلال الانتفاضات، كدليل على دور النمو السكاني في إزكاء نار الغضب الشعبي. فكلمات “الخبز” أو “العيش” وما شابهها، كانت شعارات جامعة للناس في شتى أنحاء المنطقة، من تونس إلى مصر ودول أخرى، حتى أن الثورة الجارية في السودان وصفت في البداية بأنها “ثورة الخبز”.
شكلت هذه الشعارات، على أحد مستوياتها، دعوة مباشرة وحرفية للحصول على الخبز. فالأمن الغذائي للفقراء بالمنطقة العربية تدهور كثيرًا خلال السنوات الأخيرة. في عاميّ 2007 و2008، ثم في 2010 إلى 2020، اندلعت المظاهرات وأعمال الشغب في الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم؛ احتجاجًا على ارتفاع أسعار الطعام، وهو الأمر الذي حوّل التغذية الأساسية للشرائح الأكثر فقرًا بمثابة رفاهية.
وتداخلت عدة عوامل في زيادة معدل تدهور الأمن الغذائي منها ما هو خارجي عن حدود وقدرات الدول مثل الجفاف بالدول المُصدّرة للحبوب، وارتفاع أسعار الوقود، وتزايد الطلب العالمي على الأغذية الأعلى قيمة، والمضاربة بأسواق السلع الغذائية، بالإضافة إلى تزايد الطلب على الوقود الحيوي.[1]
إلا أن العامل الرئيسي، والداخلي كذلك، تمثل في تضائل قدرة دول المنطقة على إطعام نفسها؛ فاقتران النمو السكاني المتسارع بندرة المياه والأراضي الزراعية، فضلًا عن الخسائر الكبيرة في الأراضي المروية –بسبب كارثتي الاحتباس الحراري وتزايد انتشار المدن والحضر– جعل الدول العربية من بين الدول الأكثر اعتمادًا على الواردات في تغطية احتياجاتها. الاستثناء الوحيد من تلك الفرضية هو السودان، فالدولة تمتلك أراضي زراعية كافية لإطعام شعبها، إلا أن هذه الأرض غير مستغلة على النحو الأمثل، خاصةً مع تزايد إقبال المستثمرين الأجانب عليها، لاسيما من دول الخليج، لكفالة الأمن الغذائي الخاص بها.
فالمنطقة العربية تستورد ما يقارب 60% من القمح الذي تستهلكه، وتعتمد بعض دول المنطقة على الاستيراد بشكل أساسي لتغطية كامل احتياجاتها من القمح.[2] ورغم أن الدراسات تشير إلى تراجع معدلات سوء التغذية مقارنة بمثيلاتها في الدول النامية، إلا أن معدلات الجوع تتزايد، وهو ما يمكن إرجاعه إلى النزاعات، وتزايد معدلات الفقر.[3]
في التاريخ القديم، تمكنت مصر من تحقيق الاكتفاء الغذائي، مع إنتاج فائض حقق لها الازدهار بشكل لم تقاربه أية حضارة أخرى في ذلك الحين. إلا أن ذلك الوضع تبدل في أواسط القرن العشرين، مع بداية الانفجار السكاني، حيث أصبحت تعتمد بشكل متزايد على الواردات الغذائية، لاسيما القمح. في الوقت الحالي، تستورد مصر نسبة كبيرة من الاحتياجات الغذائية للسكان، ما أدى إلى تعرضها –كباقي دول المنطقة– لمخاطر تقلبات الطقس والظروف المناخية والمتغيرات الجيوسياسية التي تتجاوز حدودها، في عالم يشهد تضاؤل الفوائض الغذائية التي رأيناها تتحقق في العقود السابقة، مع استمرار النمو السكاني العالمي على الوتيرة ذاتها.
كل العوامل السابقة دفعت بملايين المواطنين إلى حدود مستوى الكفاف، في مواجهة ارتفاع الأسعار وانحسار الإمدادات، لاسيما مع استمرار تفكيك الخدمات الاجتماعية وإلغاء أغلب برامج الدعم. ولا يعد من قبيل الصدفة أن صدمتين من صدمات أسعار الغذاء في تتابع سريع، بمنطقة تعتمد على الواردات الغذائية، قد لعبتا دورًا كبيرًا في إشعال شرارة الاحتجاجات والانتفاضات الجماهيرية.
اليأس الديموغرافي
إن إشعال محمد البوعزيزي النار في نفسه، في واقعة اليأس الرمزية التي أشعلت شرارة الثورة في تونس في عام 2010 وتردد صداها في شتى أنحاء المنطقة، يشير إلى طريقة أخرى هيأ من خلالها النمو السكاني الساحة للثورة.
صحيح أن النمو السكاني في تونس متباطئ، حيث لا يتجاوز 1.1% سنويًا، مقارنةً بباقي دول المنطقة العربية، والفضل في هذا يرجع إلى ارتفاع مستويات التعليم، لاسيما في أوساط النساء، والتمكين الكبير الذي حظت به النساء التونسيات في العقود الأخيرة، بالإضافة إلى نجاح برامج تنظيم الأسرة وبرامج الصحة الإنجابية.[4] إلا أن التعداد السكاني في تونس ازداد بدرجة كبيرة على مدار العقود الأخيرة، ويمكن إرجاع ذلك –بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الولادة– إلى زيادة معدلات البقاء ومتوسط الأعمار، التي زادت كثيرًا على مدار القرن الماضي في تونس وفي سائر أنحاء المنطقة. فالشخص التونسي المولود في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، كان متوسط عمره المتوقع 37 عامًا فقط.[5] بينما تضاعف هذا الرقم في الوقت الحالي، حيث يبلغ متوسط الأعمار حاليًا 74 عامًا للرجال، و78 عامًا للنساء، بحسب منظمة الصحة العالمية.
هذا التحول في معدل الأعمار أدى إلى تضاعف عدد السكان في تونس من 4.5 مليون نسمة خلال الفترة بين 1921 و1966 إلى أكثر من 11 مليون نسمة في الوقت الحالي. وبالرغم من النمو السريع الذي اتسمت به فترة ما بعد الاستقلال، والذي مكّن الدولة من استيعاب هذه الزيادة السكانية الطارئة والسريعة، إلا أن التباطؤ التدريجي لعجلة التنمية، مع تزايد العاطلين عن العمل ومن يحصلون على أجور زهيدة، دفع بالأمور إلى حد الانفجار.
بطبيعة الحال، لم يكن النمو السكاني هو السبب الوحيد لعدم تمكن تونس من توفير فرص كافية لمواطنيها. فهناك عوامل أخرى منها سوء الإدارة والفساد وعملية التصنيع غير الفعالة، وإهمال القطاع الزراعي، وإصلاحات الليبرالية الجديدة، فضلًا عن التحول السريع للاقتصادين المحلي والعالمي للاعتماد على أنظمة التشغيل الألية. فاقم من هذه العوامل حركة المنافسة من الأطراف الكبرى في الغرب، التي تهيمن على القطاعات عالية القيمة، والعمالقة الجدد في آسيا، الذين هيمنوا على القطاعات كثيفة العمالة، وهو ما كانت المنطقة تعتمد عليه قديمًا.
رغم التحسن النسبي للخدمات الاجتماعية والرفاهية إلا أن ذلك الركود الاقتصادي وتباطؤ عجلة التنمية قد خلق إحساسًا بالحرمان النسبي، تزامن مع التزايد الهائل وغير المسبوق في سقف المطامح المادية للمواطنين؛ حيث لم يعد الأمر يقتصر على اتساع نطاق الأسس المادية للحياة بصورة سريعة، إنما اطلع الناس أيضًا على ثقافة الاستهلاك بشكل غير مسبوق، من خلال شاشات التلفاز، والأفلام، وعبر الإنترنت وفي الشوارع، مع اتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء.
كل تلك العوامل تضافرت لتشكل مزيجًا ملتهبًا ومعرضًا للانفجار، فالعاطل عن العمل عندما يضطر للبقاء في البيت أو يجلس على مقهى، يشاهد مستقبله يتلاشى أمام عينيه، وراء سحابات دخان التبغ. والفقراء الذين تعثروا –رغم عملهم– وسقطوا تحت وطأة الاحتياجات المتزايدة أصبح عليهم وضع أحلامهم جانبًا، وعيش حياتهم في حالة من الثبات، حالة من تأخير الحياة ومتطلباتها الأساسية –مثل الزواج والإنجاب، أو حتى توفير مكان للعيش فيه– لفترات طويلة، وأحيانًا دون أجل مسمى.
عمال الثورة
بحسب منظمة العمل الدولية، مع انطلاق الثورة التونسية في عام 2010، كانت نسبة البطالة تقارب 13%، احتل الشباب المقدمة منها بنسبة 30%، يليهم الشرائح المتعلمة تعليمًا جيدًا والنساء بنسبتي 23% و19% على التوالي.[6] هذه القدرات والطاقات الكبيرة المهدرة، مقترنةً بتزايد التوجه الليبرالي الجديد في تونس، ما أدى بدوره إلى انحسار متوسط الأجور للعامل، وهو ما يتمثل في صورة تدني الحد الأدنى الرسمي للدخل بواقع نحو 235 دينار تونسي شهريًا.[7] الوضع في السودان كان أشد وطأة من ذلك، فحتى نهاية العام الماضي، كانت أعداد العاطلين قد تضاعفت ثلاث مرات تقريبًا، خلال فترة لا تتجاوز السبعة أعوام، حيث ازداد عددهم من 3 ملايين إلى 8 ملايين عاطل، غالبيتهم من الشباب.[8]
كذا، فإن النظام التونسي قد انتهج القمع الوحشي في مقابل السخط الشعبي المتزايد، مع إتاحة بعض الإغراءات الاجتماعية والاقتصادية من حين لأخر، خاصةً مع عدم قدرة النخب السياسية والتجارية التونسية على تهيئة وظائف كافية لقوة العمل الآخذة في التزايد، وعدم رغبتها في توزيع ثمار التنمية الاقتصادية بشكل أكثر عدالة.
ورغم ارتفاع معدلات القمع خلال سنوات حكم الحبيب بورقيبة، إلا أن بعض الإغراءات التي أتاحها النظام، مثل السلع المدعمة، والتعليم الجيد المجاني، والقطاع العام المزدحم بالموظفين الذي استوعب بعضًا من فائض قوة العمل، قد خلقت بدورها فترة من الهدوء النسبي. بينما في عهد زين العابدين بن علي، ظل القمع على مستوياته، إلا أن عوامل التشجيع انحسرت تدريجيًا، ليحل محلها محاولة الموائمة مع النظام طمعًا في أخذ نصيب من كعكة الرأسمالية المخصصة للموالين.
اقترن تراجع عوامل التشجيع والتحفيز من الدولة، بتزايد وغليان الغضب واليأس من المتعلمين والطامحين للصعود، ما أدى –كما نرى الآن– إلى مشهد يمكن وصفه ببلوغ الدولة البوليسية ذروتها، إحساس الخوف والمهانة والغضب، وهو ما أقام بدوره الركيزة الثالثة للثورة: السعي للحرية والكرامة.
تضاؤل المساحة للفرد
انتشرت في مصر آلية مشابهة، في سياق أشدّ وطأة. منذ نهاية القرن التاسع عشر، تضاعف عدد السكان بمعدل بلغ عشرة أمثال. غالبية ذلك النمو الهائل حدثت منذ أواسط القرن العشرين، حيث يبلغ تعداد السكان حاليًا نحو 100 مليون نسمة، أي أكثر من خمسة أمثال تعداد مصر في عام 1947، وفي خلال الفترة بين 2006 و 2016 ازداد تعداد السكان 20 مليون نسمة. أدى النمو السكاني المتسارع في مصر، إلى تقدم مركزها بين الدول الأكثر ازدحامًا بالسكان، فبعد أن كانت تحتل المركز العشرين في 1950، أصبحت في المركز الخامس عشر في 2014. ومثل تونس، لا يُعزى ارتفاع معدلات السكان في مصر إلى زيادة معدل الولادات، إنما يعود إلى الانحسار الهائل في معدلات الوفيات مع تضاعف متوسط الأعمار منذ عام 1937. انعكس هذا النمو السكاني على كثافة السكان المتصاعدة في مصر، حيث أصبحت الكثافة السكانية في 2016 بمعدل 1137 نسمة للكيلومتر المربع، وإذا استثنينا الصحاري المصرية غير المأهولة، فستحتل مصر المركز الرابع عشر من حيث ترتيب الكثافة السكانية في العالم.[9]
تك الكثافة السكانية الهائلة، تسببت في أثار بيئية بالغة الخطورة، فبغض النظر عن حالة التصحر التي تسببت بها حالة الاحتباس الحراري، فإن التحول الحضري في مصر ساهم في زيادة تلك النسبة. بحلول أواسط التسعينيات، فقدت مصر مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة، وقدرت تلك المساحات بحوالي 912 ألف فدان من الأراضي الزراعية (أكثر من 383 ألف هكتار)، [10] كما توصلت دراسة إلى أنه خلال الفترة بين 1992 و2015 دُمر 74,600 هكتار من الأراضي الخصبة للغاية في دلتا النيل فقط بسبب زحف الحضر.[11]
الكثافة السكانية العالية تفرض أيضًا ضغوطًا هائلة على الموارد المائية المصرية، والتي تعاني بالفعل من الضغوط. في الماضي، ورغم أن مصر واحدة من أكثر مناطق العالم جفافًا، إلا أنها وصفت بهبة النيل، كما عُرفت بكونها أكبر واحة في العالم؛ بسبب وفرة مياه نهر النيل، التي كانت أكثر من كافية للحفاظ على الخصوبة والغذاء. بينما في الوقت الحالي، فإن النيل –الذي يحذر الخبراء من موته– أصبح لعنة لمصر. فبرغم الأهمية المتزايدة لسد أسوان حيث يخزن وينظم تدفق المياه، ويُمكّن السكان المتزايدين من إطفاء ظمأهم حتى في أوقات الجفاف؛ إلا أنه تسبب في ضرر بيئي بالغ؛ فالتربة الطينية شديدة الخصوبة التي تأتي من أثيوبيا –وكانت تتجدد بشكل موسمي في وادي النيل بمصر– أصبحت عالقة وراء السد. يتطلب تعويض هذه الخسارة كميات كبيرة من الأسمدة الكيميائية، التي تلوث الأرض والنهر معًا. فضلًا عن هذا، فإن غياب الطمي لعقود مقترنًا بارتفاع مستوى سطح البحر بسبب الاحتباس الحراري، قد أديا إلى تملّح مناطق كثيرة قريبة من الساحل كانت مخصصة للزراعة، وهو العامل الذي يهدد تماسك دلتا النيل ذاتها، ويؤدي إلى انهيارها ببطء باتجاه البحر المتوسط.
بالرغم من أن المساحة المأهولة في مصر أصغر من مساحة سويسرا كاملة –من أصغر قراها إلى أكبر مدنها، فإن هذه المساحة المأهولة لا تتمتع بالقدر الكافي من البنية التحتية، بالإضافة إلى عدم وجود القدرة أو الإرادة للتعامل مع النفايات التي يولدها وجود عشرات الملايين من الناس، ما أدى بدوره إلى تدهور جودة الهواء حتى أصبح سامًا، فضلًا عن كثرة القمامة التي تلوث المساحات العامة والطبيعية، من الأراضي الخاوية إلى المزارع والحقول، بينما تحولت الترع والمصارف الزراعية إلى مجارير مفتوحة.
وبعيدًا عن اعتبارات الصحة العامة والدمار البيئي، فإن هذه الكثافة الشديدة في السكان كان لها آثار اجتماعية ونفسية كثيرة، لاسيما في المناطق الحضرية. ففي القاهرة، يعيش الناس حرفيًا متلاصقين، ورغم ما لهذا الأمر من مزايا ثقافية واجتماعية لا شك فيها، إلا أن الشوارع نتيجة لذلك الازدحام قد أصبحت مزيجًا خانقًا من الدخان والتراب والضوضاء الشديدة والناس. ويختلف تكيف المصريين مع ذلك الازدحام عن اليابانيين مثلًا، فآليات التكيف القائمة في اليابان هي النظام والقواعد الدقيقة للمساحة الشخصية والتعاملات بين الناس. بينما على النقيض، ينزع المصريون إلى الحميمية غير الطوعية التي يفرضها الزحام، فيتعاملون ببساطة وبشكل اجتماعي في الأماكن العامة، وكثيرًا ما يحاولون تخفيف التوترات التي تنتج من الضغط المادي من خلال استعانتهم بحس الفكاهة.
إن العيش في مدينة مكتظة بالأشخاص، في ظل محفزات عصبية دائمة لا تتوقف، هو أمر يؤدي إلى ضغوط هائلة، ويحد من المساحة الشخصية للمرء، ويجعل الخصوصية مسألة غير محتملة الحدوث، خصوصًا بالنسبة إلى الفقراء، والذين لا يجدون متنفسًا من كل هذا الصخب. وفي حين كانت القاهرة قبل جيلين فحسب مليئة بالحدائق الجميلة والمنتزهات، فإنها اليوم تفتقد المساحات الخضراء للهروب إليها من الحشود الغفيرة والتوتر. وبعدما أصبحت مسألة السكن صعبة على قطاع كبير من الشباب، فقد أصبح من عادة المصريين الإقامة في بيوت الأسرة حتى أواخر العشرينيات أو حتى الثلاثينيات، مع كل ما يصاحب هذا من مشاعر إحباط وضيق.
إن احتواء هذا الإحباط والسخط قد تطلب، كما في تونس، قمعًا غاشمًا ممتزجًا بعوامل تحفيز وتشجيع. لكن هجر هذا العقد الاجتماعي غير المكتوب في مصر، جاء بوتيرة أسرع وأكبر من تونس، حيث أصبحت كل مناحي الحياة عرضة للخصخصة، بما يشمل خدمات الرعاية الصحية والتعليم، في حين أصبحت الخدمات الحكومية، لاسيما المدارس والمستشفيات الحكومية، مهملة حد الموت. اقترن هذا بالنمو السكاني المتسارع، ما يعني معاناة الطبقة المتوسطة الأمرين، في حين راحت صفوف الفقراء والمعدمين تتكاثر وتتزايد بلا هوادة.
ورغم أن معدل البطالة المصري الرسمي في الربع الأخير من 2010 كان 9%، إلا أن المعدل الحقيقي أعلى بكثير، ناهيك عن العاملين بوظائف وأشغال متواضعة للغاية ذات أجور زهيدة. السبب في ذلك هو أن الحكومة المصرية تحسب من يعملون بأعمال غير ثابتة بصفتهم موظفين بدوام كامل. لكن الإحصاءات الرسمية لا يمكنها أن تغيب حقيقة أن 40% من العاطلين عن العمل من خريجي الجامعات، ونصف العاطلين في مصر تتراوح أعمارهم بين 20 و24 عامًا.[12]
وفي أثناء المرحلة السابقة على الثورة في 2011، كان في مصر هامش أكبر للمعارضة والانتقاد مقارنةً بتونس. ورغم هذا، فإن تونس وفي ظرف فترة زمنية وجيزة للغاية، تمكنت من بناء ديمقراطية حية. على النقيض، فإن مصر ورغم الحراك الكبير والدائم للمظاهرات لفترات مطولة، قد انزلقت مرة أخرى إلى نظام ديكتاتوري وعسكري أشد وطأة، لا يقبل بأي معارضة، ويعمل بالأساس من خلال الإكراه والعنف المتطرف.
كيف حدث هذا؟
هناك عاملان أساسيان هنا: دور الجيش ودور الإسلاميين. تونس من بين الدول القليلة بالمنطقة التي ليس لديها جيش كبير ومسيس، وهو ما ساعدها في أعقاب خروج بن علي. فالجيش التونسي لم يسع لاستغلال فرصة الفوضى للسيطرة على السلطة، ولم تكن لديه هذه الثقافة ولا السبل اللازمة لها. بينما في مصر، فإن الجيش المسيس الذي تمتع بنفوذ سياسي هائل منذ الانقلاب العسكري للضباط الأحرار في 1952، كان لديه الكثير ليخسره، واعتبر الدعوات للحرية بمثابة تهديد وجودي لاقتصاده ومجتمعه الموازيان.
هناك عامل آخر، هو طبيعة الحركة الإسلامية في الدولتين. في مصر حركة إسلامية كبيرة لا تقبل بالحلول الوسط. في تونس يتسم الإسلاميون الوسطيون بطابع براجماتي وعلماني أكثر، وهم أقل نفوذًا مقارنةً بنظرائهم في مصر. أدى هذا بحزب النهضة في تونس إلى الاعتماد على سياسة الحلول الوسط والإجماع، ما ساعد على سلاسة الانتقال للديمقراطية هناك.
بالإضافة إلى العاملين السابقين، فإن العوامل الديموغرافية لها تأثيرها المختلف، فكما أن الكثافة السكانية في تونس أقل من مثيلتها في مصر، فإن معدلات الولادة بها انحسرت أسرع مقارنة بمصر أيضًا. فعلى الرغم من النمو السكاني المصري المتسارع، فإن معدل إنجاب النساء تراجع كثيرًا على مدار العقود الأخيرة، فبلغ أقل من نصف معدله في 1960، ليصل إلى 3.4 طفلا للمرأة في 2017.[13] إلا أن معدل الإنجاب في مصر مقسومًا على عدد المواطنين يصل إلى الضعف مقارنة بتونس.
إن الاستقرار النسبي لنمو السكان في تونس، فضلًا عن ارتفاع معدلات التعليم وانخفاض معدلات الفقر هناك، جعل تونس أرضًا خصبة للتغيير الإيجابي. في واقع الأمر، فإن المختصين بالديموغرافية السياسية تنبأوا بهذا بالفعل في عام 2011، على النقيض من التنبؤات الكئيبة للعديد من المراقبين السياسيين، فقال الديموغرافيون إن تونس لديها “فرصة طيبة” لأن تصبح دولة ديمقراطية في خلال خمس سنوات.[14] تمكنت القيادة الرشيدة في المجتمع المدني، والنقابات والعمل السياسي والثقافة الحريصة على الإجماع والحلول الوسط، من الاستفادة من هذه الظروف المواتية ووصلت إلى الديمقراطية أسرع من التقديرات المذكورة، إلا أن تونس لم تخرج من الأزمة تمامًا بعد، فإذا ما أخفقت الدولة التونسية في تحقيق الرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، فقد ينتكس التقدم الذي تم إحرازه على مدار السنوات الأخيرة سريعًا.
ديموغرافيا ما سنواجهه في المستقبل
يوضح المذكور أعلاه أن التغيرات الديموغرافية الكبيرة في العقود الأخيرة كان لها أثر عميق –مباشر وغير مباشر– على الواقع الاجتماعي الاقتصادي والسياسي للمنطقة العربية.
من المرجح أن يستمر التغير الديموغرافي في لعب دور قوي في مستقبل المنطقة. من يحدوهم التفاؤل إزاء التغيرات السكانية يشيرون إلى التوجه العالمي الخاص بانخفاض معدلات النمو السكاني، وقدرة البشر على الابتكار، فقالوا إننا سنتمكن من التكيف مع تحديات التوسع الديموغرافي حتى نصل إلى ذروة النمو السكاني في الكوكب بحلول منتصف القرن.[15]
على أن هذه ليست نتيجة حتمية مقررة مسبقًا لكل من في العالم، بما يشمل الشرق الأوسط. فالكثير من الدول ذات الأغلبية العربية مستمرة في ارتفاع مستويات النمو السكاني فوق المتوسط العالمي. وفي تحليلي، فإن سبب ذلك أنه برغم تزايد عدد من انتبهوا لمزايا الأسرة الصغيرة، إلا أن الضغوط جراء العادات والتقاليد، والضغوط العائلية، والتقاليد الدينية تجعل من العائلات الكبيرة مسألة صعبة المقاومة للبعض.
فضلًا عما سبق، فإن جفاف المنطقة يجعلها هشة في مواجهة صدمات الغذاء التي تحدث في مناطق أخرى من العالم، وهي الأزمات التي قد يزيد عددها ويطول مداها بسبب مزيج من الاحتباس الحراري واستمرار النمو السكاني بصورة مطردة. كما أن أوجه عدم المساواة العالمية والمحلية على الصعيد الاقتصادي يُرجح أن يضاعف من شدة أية أزمة تطرأ، ويفاقم من هذا التنافس العابر للحدود على الموارد المائية الشحيحة، مثل التنازع بين دول حوض النيل على مياه النهر، لاسيما بين مصر والسودان وأثيوبيا، التي يتجاوز تعدادها السكاني الحالي التعداد في مصر.
مثلما حدثت مجاعة البطاطس في أوروبا في القرن التاسع عشر، لاسيما في أيرلندا، وتحولت إلى مجاعة لا مجرد أزمة بسبب أوجه عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية الهائلة حينئذ، مقترنة بالنزوع المالتوسي إلى لوم الفقراء على مصاب الأغنياء، فمن الممكن لأزمات الغذاء في المستقبل أن تشتد وتتضاعف؛ جراء التوزيع المحلي والعالمي غير العادل، وبسبب أنماط الاستهلاك غير المتساوية السائدة.
يمكن أن يؤدي التغيير الديموغرافي والتغيير البيئي إلى عاصفة هائلة، تتسبب في كوارث إنسانية وسياسية واجتماعية في أجزاء كثيرة من المنطقة العربية. لكن في المقابل، يمكن أن تستمر المنطقة في نضالها وكفاحها إلى أن يصل النمو السكاني فيها إلى ذروته، وبعدها تتحسن الرفاهية الاقتصادية. في الوقت الحالي، الأمل الأكبر ينصب على تونس كنموذج للمستقبل في المنطقة، وكذلك في لبنان، التي تمتلك آليات ديموغرافية تشبه تلك القائمة في تونس، هذا إذا أسفرت الاحتجاجات الحالية هناك عن النوع السليم من زخم التغيير، وإذا لم تدفع الحرب القائمة في سوريا المجاورة هذه الدولة الهشة والمتنوعة إلى الفوضى.
إن السيناريو الأفضل للمنطقة من حيث السكان هو أن يزيد تمكين ووعي المواطنين، بحيث يقبلوا طوعًا بتنظيم الأسرة، ما سيمكّن من الخروج من المنحنى الصاعد للنمو السكاني في وقت أسرع من المتوقع، مع استبدال النخب الفاسدة والقمعية بقيادات سياسية واقتصادية واجتماعية أكثر تنورًا، تساعد على إحياء فرص التنمية بالمنطقة من خلال الاستفادة من سكانها من الشباب والموهوبين، من أجل الخير الأوفر على المستويين العام والفردي للجميع.
[1] الأمم المتحدة، إدارة الشئون الاقتصادية والاجتماعية، “الأزمة الاجتماعية العالمية: تقرير حول الوضع الاجتماعي العالمي”، فصل 4،United Nations Department of Economic and Social Affairs (2011), The global social crisis: Report on the world social situation, ‘Chapter 4: The global food crises’, (New York: UN)
[2] الفاو والأمم المتحدة، “سلسلة الغلال: الأمن الغذائي وإدارة واردات القمح بالدول العربية”،United Nations Department of Economic and Social Affairs (2011), The global social crisis: Report on the world social situation, ‘Chapter 4: The global food crises’, (New York: UN)
[3] تقرير إقليمي عن الأمن الغذائي والتغذية 2018 (2019) (أكرا: الفاو).
[4] مشروع زيادة السكان، (يوليو/تموز 2019)، “تنفيذ أول سياسات السكان في أفريقيا: حالة تونس”، The Overpopulation Project (July 2019), ‘The first population policies implemented in Africa: the case of Tunisia’, accessed 26 November 2019, https://overpopulation-project.com/the-first-population-policies-implemented-in-africa-the-case-of-tunisia
[5] جون كلارك (1969)، دراسة عن السياسات السكانية في تونس،Clark, John (1969), ‘Population Policies and Dynamics in Tunisia’, The Journal of Developing Areas, Vol. 4, No. 1, October 1969, pp. 45-58, Tennessee State University.
[6] االبنك الدولي، نسب البطالة من قوة العمل – تونس: البنك الدولي، ‘Unemployment, total (% of total labor force) (modeled ILO estimate) – Tunisia’, World Bank, accessed 19 November 2019, https://data.worldbank.org/indicator/SL.UEM.TOTL.ZS?locations=TN
[7] وزارة الشئون الاجتماعية والتضامن والتونسيون بالخارج (2010) قرار عدد 2010-1746، في 18 يوليو/تموز 2010.
[8] سيف اليزل بابكير (2019)، “البطالة المتزايدة بقوة تعيق السودان”، الشرق الأوسط (بالإنجليزية): Seifyazal Babekir (2019), ‘Skyrocketing unemployment ails Sudan’, Asharq al-Awsat, accessed accesses 26 November 2019, https://aawsat.com/english/home/article/1886561/skyrocketing-unemployment-ails-sudan%C2%A0
[9] عثمان ماجد وآخرون (2016) “تحليل الوضع السكاني – مصر 2016″، Osman Magued, et al. (2016), Population Situation Analysis – Egypt 2016, (Cairo: UNFPA)
[10] محمد رسمي وآخرون (2010)، “نموذج محاكاة ديناميكي للتصحر في مصر”، “الدورية المصرية للاستشعار عن بعد وعلوم الفضاء”، Mohamed Rasmy, et al. (2010), ‘A dynamic simulation model of desertification in Egypt’, The Egyptian Journal of Remote Sensing and Space Science, (Cairo: Elsevier)
[11] طاهر رضوان وآخرون (2019)، “فقدان الكثير من الأراضي الزراعية بسبب التوسع الحضري يهدد الأمن الغذائي في وادي النيل، مصر”، Taher Radwan, et al. (2019), ‘Dramatic Loss of Agricultural Land Due to Urban Expansion Threatens Food Security in the Nile Delta, Egypt’, Remote Sensing, (UK: University of Southampton)
[12] الأهرام (2011)، “البطالة في مصر تنحسر إلى 8.92 بالمئة في 2010″، Al Ahram staff (2011), ‘Egypt’s unemployment falls to 8.92 per cent in 2010: statistics body’, Ahram Online, accessed 19 November 2019, http://english.ahram.org.eg/NewsContent/3/12/11176/Business/Economy/Egypt%E2%80%99s-unemployment-falls-to–per-cent-in–statis.aspx
[13] البنك الدولي، إحصاءات معدل الولادات، “مصر: البنك الدولي، ‘Fertility rate, total (births per woman) – Egypt, Arab Rep.’, World Bank, accessed 20/11/2019, https://data.worldbank.org/indicator/SP.DYN.TFRT.IN?locations=EG
[14] ريتشارد كونكوتا (2011)، “فرصة تونس في الديمقراطية: ما تخبرنا به الديموغرافيا في التاريخ الحديث”، Richard Cincotta (2011), ‘Tunisia’s shot at democracy: What demographics and recent history tell us’, New Security Beat, Wilson Centre, accessed on 22 November 2019, https://www.newsecuritybeat.org/2011/01/tunisias-shot-at-democracy-what-demographics-and-recent-history-tell-us/
[15] فريد بيرس (2010) “الزلزال السكاني”، Fred Pearce (2010), Peoplequake (London: Penguin)
الترجمة: عمرو خيري
Read this post in: English