في خريف العام الماضي بعثت جماعة الإخوان المسلمون في مصر بمشروع برنامج حزبها السياسي “”برنامج الحزب-القراءة الأولى””، إلى مجموعة من السياسيين والمثقفين والأكاديميين بهدف التشاور والاطلاع على رأيهم في البرنامج، لإعداد نسخة نهائية منه أو مسودة ثانية. وكانت الأسابيع السابقة قد شهدت تسربا لأكثر من مسودة مختلفة من البرنامج، جرى تداولها ونشرها بوسائل مختلفة في الصحافة ومواقع الإنترنت، وأثارت جدلا كبيرا في أوساط الرأي العام، بينما قالت قيادات الجماعة أن ما جرى تداوله لم يكن سوى نسخة أو نسخ غير نهائية وغير معتمدة. وتأكيدا لهذا المعنى، بادرت الجماعة في وقت لاحق بإصدار نسختها المعتمدة من البرنامج، ولكنها في صورة “”قراءة أولى””، وبالتالي قد تتلوها نسخة نهائية أو قراءات ثانية وثالثة و……..و …….
وقد وعدت الجماعة بتنقيح برنامجها على ضوء ما ستتلقاه من تعليقات الخبراء، ولكن أغلب هؤلاء الخبراء –وفقا لتصريحات قيادات الجماعة- إما لم يقدموا ملاحظات، أو أنهم لم يخاطبوا الجماعة بملاحظاتهم، وفضلوا التوجه بها إلى الرأي العام مباشرة.
لغة وسلوك عصريين
يعرف الجميع أن جماعة الإخوان المسلمين هى جماعة دينية مغلقة، ومحظورة قانونا -وبالدستور منذ العام الماضي- وتمارس نشاطا سياسيا، الشطر الأكبر منه بطريقة سرية. وهى تتعرض بشكل دائم لتحرشات أمنية وضغوط سياسية وإعلامية، ومحاكمات تفتقر إلى أدنى معايير العدالة. إن إقدام جماعة بهذه المواصفات على طرح مسودة برنامجها على فعاليات الرأي العام للاستنارة بملاحظاته، هى دون شك ذات دلالة إيجابية كبيرة، وربما ليست لها سابقة في ممارسات الأحزاب السياسية التي تتمتع بالشرعية القانونية، ولا تعيش تحت نفس أشكال الملاحقة والضغوط.
ولا يقلل من المغزى الإيجابي الكبير لهذه المبادرة، تداخل اعتبارات أخرى، خاصة حاجة الإخوان الماسة لترميم علاقتهم بالمثقفين وبالمجتمع الدولي بعد صدمة العرض “”الميليشياوي”” الذي قام به جناحهم الطلابي في جامعة الأزهر، والتبريرات الساذجة التي قدمتها قيادات الجماعة حينذاك.
على نفس النحو العصري سارت لغة البرنامج، حيث جرى تبني أبرز مفردات لغة الخطاب الديمقراطي والحقوقي العصري، بدرجة تفوق برامج بعض الأحزاب السياسية “”غير الدينية””.
فالبرنامج ينص على أن: “”الحرية والعدالة والمساواة منح من الله للإنسان، لذا فهى حقوق أصيلة لكل مواطن بغير تمييز بسبب المعتقد أو الجنس أو اللون”” ص9. “”تحقيق العدل والمساواة هو الهدف النهائي للديمقراطية في النظام السياسي الذي نطالب به”” ص9. “”كفالة حق المواطن في الحياة والصحة والعمل والتعليم والسكن وحرية الرأي والاعتقاد”” ص9. “”تحقيق الإصلاح السياسي والدستوري وإطلاق الحريات العامة، وخاصة حرية تكوين الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، وإقرار مبدأ تداول السلطة طبقا للدستور الذي يقره الشعب بحرية وشفافية، واعتبار الأمة مصدر السلطات، وأن الشعب هو صاحب الحق الأصيل في اختيار حاكمه ونوابه والبرنامج الذي يعبر عن طموحاته وأشواقه”” ص10. “”مصر دولة لكل المواطنين الذين يتمتعون بجنسيتها، وجميع المواطنين يتمتعون بحقوق وواجبات متساوية، يكفلها القانون وفق مبدأي المساواة تكافؤ الفرص”” ص15. “”يجب أن تعزز النصوص القانونية معاملة كل المواطنين على قدم المساواة دون تمييز”” ص15. “”الشورى التي نؤمن بها ونسعى إلى تحقيقها وتأسيس نظام الحكم عليها ليست قالبا جامدا، ولكنها تعني إرساء مبدأ تداول السلطة وحق الشعب في تقرير شئونه واختيار نوابه وحكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم، وضمان التزامهم -فيما يصدر عنهم من قرارات أو تصرفات، لتسيير الشئون العامة- برأي الشعب مباشرة أو عن طريق نوابه، حتى لا يستبد بالأمر فرد أو ينفرد به حزب أو تستأثر به فئة، وهى إلى جانب ذلك مصدرا لتحديد القواعد التي يقوم عليها نظام الحكم ودستور الدولة”” ص16. “”التوافق الديمقراطي حول القواعد الأساسية للنظام السياسي، والتي تمثل قاسما مشتركا بين كل القوى السياسية، والحفاظ على المصالح الأساسية لكل فئات وشرائح المجتمع المصري”” ص19. “”الحرية كأصل إسلامي وتراث إنساني ركن أصيل في العلاقة التعاقدية بين المواطن أو مؤسسات المجتمع المختلفة من جهة، وبين السلطة الحاكمة من جهة أخرى، بما يوفر عدالة تساوي بين الأفراد، وتضمن حرياتهم في الاعتقاد، والتصرف والتملك، وإبداء الرأي والتعبير والتنقل والاجتماع وتكوين الأحزاب والجمعيات وإصدار الصحف”” ص19. “”إن ضمان الحرية، وصيانة الحقوق للمواطن، وفئات المجتمع المختلفة، يتحملها النظام السياسي بكل مفرداته، من نظم ومؤسسات وإجراءات وتوجهات إدارية وعملية، ولا تقتصر الحرية على الحريات الدينية والسياسية فحسب، ولكنها تشمل التحرر من كل أنواع وأشكال القهر والاستبداد، والنيل من الكرامة الإنسانية”” ص20. “”يتبنى البرنامج نظام الحكم المحلي”” و””اختيار المحافظ بالانتخاب الحر المباشر”” و””تبعية أجهزة الأمن على مستوى المحافظة للمحافظ المنتخب وليس للإدارة المركزية”” ص22. “”إتاحة البيانات والمعلومات ضرورة لازمة لتفعيل المشاركة السياسية والمجتمعية”” ص22. “”إلغاء تبعية المؤسسات والهيئات الرقابية للسلطة التنفيذية وضمها للسلطة التشريعية”” ص23. “”التعددية السياسية تعكس اختلاف المصالح والاهتمامات والأولويات في المجتمع، وهذا الاختلاف يمكن التعبير عنه بواسطة الأحزاب السياسية، والتجمعات الاقتصادية والثقافية، والجمعيات الأهلية والنقابات المهنية والعمالية، بما يحقق الدفاع عن مصالح الأطراف المتنوعة”” ص23. “”إطلاق حرية تكوين الأحزاب دون تدخل من السلطة التنفيذية، وأن تنشأ الأحزاب بمجرد الإخطار”” ص23. “”تقوية دور الجمعيات الأهلية والنقابات المهنية والعمالية وكافة مؤسسات العمل الأهلي”” ص23. “”يعد احترام العهود والمواثيق الخاصة بحقوق الإنسان في القانون الدولي، ضمانة مهمة لرعاية حقوق الإنسان وحمايته من التعذيب والتمييز، فيجب الالتزام بالاتفاقيات المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية، والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، والعمل على وضعها حيز التطبيق”” ص29.
هذه مجرد أمثلة، وغيرها كثير.
هناك سمة إيجابية ثالثة تستلفت الانتباه، وهى أن برنامج الجماعة لم يضع أي تحفظ من أي نوع على مبدأ مرجعية المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وهذا في حد ذاته يعتبر طفرة في موقف الإسلاميين بشكل عام، والإخوان المسلمين في مصر بشكل خاص. كما يلاحظ أيضا في هذا السياق أنه لم يتم إيراد التحفظ التقليدي “”بشرط عدم التعارض مع الشريعة الإسلامية””، أو اعتبار أي من الإعلانات الإسلامية لحقوق الإنسان مرجعا للبرنامج.
تسعى هذه الورقة التحليلية إلى تجنب ما اتهمت به قيادات الجماعة بعض نقاد برنامجها، بأنهم يحاكمون البرنامج من منطلقاتهم الأيديولوجية الخاصة (ليبرالية/ علمانية/ يسارية… الخ) ولا ينطلقون من الأرضية الإسلامية أو منطلقات البرنامج ذاته. ورغم أن الكاتب لا يشارك الجماعة هذا التقييم، فإن هذه الورقة تنحصر مهمتها بتقييم مدى التزام البرنامج بالمبادئ الرئيسية التي ضمنها قادة الجماعة برنامجهم، وعلى وجه أخص مدنية الدولة، واحترام حقوق الإنسان بمقتضى المواثيق الدولية.
“”دولة”” الإخوان المسلمين
إذا استطعنا التحرر من اللغة الآسرة لمقدمات البرنامج، وانتقلنا إلى مضامينه التطبيقية ومفاصله الرئيسية، فإننا للأسف لا نجد أرضا صلبة تقف عليها العبارات الجميلة التي استعرضناها للتو. بل سنجد أنفسنا أمام بنيان وتصور راسخ لنظام حكم ديني شمولي يستحيل معه أن تتحول تلك العبارات الجميلة إلى واقع حي.
المقصود بدولة دينية شمولية أنها الدولة التي يستمد نظام الحكم فيها مشروعيته من الدين، ويمارس الحكم فيها من خلال ممثلي المؤسسة الدينية، ومن خلال قوانين مستنبطة من دين معين، باعتبار أن هذا الدين هو المرجع الوحيد للأخلاقيات والقيم في المجتمع. وتقوم هذه الدولة على نظام ذي طبيعة تدخلية مفرطة في المجالين العام والفردي، يسعى لتنظيم كل مفردات السلوك الفردي والعام، وهيمنة أيديولوجية الدولة على المجتمع، بحيث تصبح العامل الموجه لسلوك أغلبية المواطنين.
يرسم البرنامج الملامح الأساسية للدولة التي تسعى جماعة الإخوان المسلمين إلى تشييد أواصرها بوصفها دولة شمولية دينية، ولكن البرنامج لا يقول ذلك على الإطلاق، بل يسميها “”دولة مدنية””!.
فتحت عنوان فرعي: “”دولة مدنية””، يُعرِّف البرنامج الدولة التي يحلم بها الإخوان المسلمون بأنها: “”دولة إسلامية”” ذات “”وظائف دينية أساسية””! ص17، وهى “”مسئولة عن حماية وحراسة الدين””
ص17 -الإسلامي بالطبع-، فهى عليها “”حراسة الإسلام وحماية شئونه والتأكيد على عدم وجود ما يعترض الممارسة الإسلامية من العبادة والدعوة والحج وغيرها”” ص17. بل حتى الحروب التي قد تخوضها هذه الدولة، هى حروبا ذات صبغة دينية، ولذا فـ “”قرار الحرب يمثل قرارا شرعيا”” ص17، وبالتالي لا ينطلق من الاعتبارات والمصالح الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية وحسابات القوة العسكرية، بل “”يقوم على القواعد والأسس التي حددتها الشريعة الإسلامية”” ص17!، ولذا من تحصيل الحاصل أن يقطع البرنامج بأن “”رئيس الدولة أو رئيس الوزراء”” يجب أن يكونا مسلمين “”طبقا للشريعة الإسلامية”” ص17. بنفس المنطق من الطبيعي توقع أن يكون وزير الدفاع وعلى الأرجح رئيس الأركان وكبار قادة الأسلحة والألوية والكتائب وغيرها من المسلمين فقط؟! بل إنه في هذا السياق، لن يكون كافيا أن يشترط في رئيس الدولة ووزير الدفاع وكبار القادة العسكريين أن يكونوا من المسلمين، بل يجب أيضا أن يكونوا متفقهين في الشريعة الإسلامية، حتى يكون بإمكانهم اتخاذ قرارات مصيرية ترتكز عليها.
ومع ذلك يعد البرنامج قراءه “”بدولة مدنية””!
يرفع البرنامج الشريعة الإسلامية إلى مستوى النصوص الإلهية المقدسة”” فقد صاغها العليم الخبير(1)*. على نحو يكفل لها الصلاحية والاستدامة على امتداد الزمان والمكان وتعدد البيئات والحضارات”” ص11. بعد أن يضفي البرنامج هذه القداسة الإلهية على الشريعة، تصير إطارا أيديولوجيا قدسيا للحكم، فـ “”مقاصد الشريعة الإسلامية تمثل السياسة الحاكمة في تحديد أولويات الأهداف والسياسات والاستراتيجيات”” ص11.
موقع الشريعة الإسلامية في دولة الإخوان المسلمين يتجاوز ما تنص عليه المادة الثانية للدستور في مصر -والقائلة بأن “”مبادئ الشريعة الإسلامية تشكل المصدر الرئيسي للتشريع””- لتصبح هى الدستور ذاته، أو “”المرجع الأول بالنسبة للدستور””(2)**. علينا أن نتذكر في هذا السياق الهتاف التقليدي الشائع لأعضاء ولأنصار الإخوان المسلمون حاملو المصاحف في بعض المظاهرات العامة: “”القرآن دستورنا””. فالشريعة الإسلامية في البرنامج هى أقرب للمرجع الأيديولوجي “”الشمولي”” للدولة وللنظام السياسي ككل، ولا يقتصر تأثيرها على التشريع –مثلما ينص الدستور المصري بالفعل- أو أحكام القضاء، كما توضح الممارسات القضائية في مصر خاصة في السنوات الأخيرة، أو قرار الحرب أو السلم، مثلما يشير البرنامج ذاته، بل يمتد أثرها لتصير “”مرجعية لكل ما يصدر عن رئيس الدولة من قرارات أو سياسات داخلية وخارجية””! أيضا ص13.
وفي هذا السياق يتطور دور المحكمة الدستورية العليا في دولة الإخوان المسلمين، ليصبح من حق “”كل ذي مصلحة”” –المقصود بالطبع المواطن المسلم- “”الطعن أمام المحكمة الدستورية””، ليس على دستورية القوانين المخالفة لمبادئ الشريعة فحسب –كما هو الحال الآن، بل أيضا حق الطعن على “”القرارات والسياسات المخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية”” ص13. وهو تحوير جوهري في دور المحكمة الدستورية العليا، يمر عليه البرنامج ببساطة، كما لو أنه استطرادا مكملا لدورها التقليدي، في حين أنه يؤدي في واقع الأمر إلى تقويض دورها، من خلال عملية التسييس والتديين المزدوجة التي ستتعرض لها، بتكليفها بهذه الأمور اليومية السياسية والدينية. فضلا عن أن ذلك سيؤدي إلى تعديل جوهري في تكوينها وقوامها، ليهيمن عليها القضاة “”المشايخ”” (المسلمون فقط بالطبع) المتفقهون في أمور الشريعة.
ومع ذلك ما زال البرنامج يعدنا “”بدولة مدنية””!.
لقد سبق أن عقد بعض نقاد البرنامج مقارنة بين نمط الدولة التي يحلم بها البرنامج، وبين نظام ولاية الفقيه في إيران، وذلك انطلاقا من الدور المركزي الذي يمنحه البرنامج لما يسميه “”بهيئة كبار علماء الدين”” في النظام السياسي. ولكن واقع الأمر أن الموقع المركزي المهيمن الذي تحتله الشريعة الإسلامية في دولة الإخوان المسلمين، تجعلها في جوانب جوهرية أقرب للنمط السعودي منها للإيراني.
هياكل الحكم في “”دولة الإخوان المسلمين””
يتبنى البرنامج الإبقاء على ما يسمى بـ النظام الرئاسي-البرلماني الحالي ص19(3)، الذي عرف طريقه إلى مصر وعدد من الدول الاستبدادية الأخرى في العالم الثالث بعد يوليو 1952. يمركز هذا النظام كل السلطات في يد رئيس الدولة غير الخاضع لأي محاسبة برلمانية أو قضائية، ويبقي على برلمان ذي طابع ديكوري يناسب مقتضيات التسويق مع الرأي العام المحلي والمجتمع الدولي، إلى جانب نظم قضائية لا تتمتع بالاستقلال، بل يجري توظيفها لتكريس هذا الطابع التسلطي.
يقوم البرنامج –اتساقا مع الطابع الشمولي الديني لدولة الإخوان المسلمين- بإضافة عدة هياكل للحكم تجسد خصوصية دولتهم، على رأسها مؤسسة جديدة، تلعب دور المؤسسة الحارسة على اتساق الممارسة اليومية للدولة مع الأيديولوجية الشمولية الدينية المهيمنة، وهى “”هيئة كبار علماء الدين””. وهى “”هيئة مستقلة استقلالا تاما عن السلطة التنفيذية””ص13. ولها هياكلها الخاصة وجهازها الوظيفي والفني الخاص. وهى تبدو هيئة كبيرة جدا، حيث “”يعاونها لجان ومستشارون من ذوي الخبرة والعلم الأكفاء في سائر التخصصات العلمية الدنيوية”” ص13. أي أنها على الرغم من تشكيلها من علماء الدين، إلا أن دورها سيكون توجيه مجالات الحياة غير الدينية. وهو أمر سيفصله البرنامج لاحقا.
يجري انتخاب أعضاء هذه الهيئة بشكل مباشر من علماء الدين ص12/13. وتقوم بدور مركزي حاكم يضعها فوق كل سلطات الدولة، بما فيها السلطتين التنفيذية والتشريعية.
ورغم أن البرلمان ملزم –وفقا للبرنامج- “”بتطبيق مرجعية الشريعة الإسلامية””ص12، إلا أن هذا لا يبدو كافيا بنظر واضعو البرنامج، ولذا فإن البرلمان ملزم أيضا بطلب رأي هذه الهيئة فيما يتصل بسلامة تطبيقه لهذه المرجعية ص12. وكذلك الحال بالنسبة لرئيس الدولة ص13. وبرغم أن البرنامج يحدد التزام رئيس الدولة بطلب الرأي من هذه الهيئة، بحالات “”إصداره قرارات بقوة القانون””ص13، إلا أن البرنامج ينص فيما بعد على توسيع صلاحيات المحكمة الدستورية العليا، لتشمل أيضا النظر في مدى انسجام ما يصدر عن رئيس الدولة من “”قرارات أو سياسات داخلية وخارجية”” مع أحكام الشريعة الإسلامية ص13. الأمر الذي يستوجب بالضرورة من رئيس الدولة أن يحيل إلى هيئة كبار علماء الدين مسودة كل ما سيصدر عنه من قرارات وسياسات داخلية وخارجية أيضا، ولا يحصرها فقط بالقرارات التي لها قوة القانون، وإلا خاطر بتعريض نفسه من حين لآخر لحرج بالغ أمام الرأي العام، نتيجة إجباره على التراجع عن قرارات أصدرها بالفعل.
رغم أن بعض العبارات التي يستخدمها البرنامج، توحي بأن دور هيئة كبار علماء الدين استشاري “”طلب رأي””، إلا أن البرنامج يحسم ذلك الالتباس بقوله “”إن رأي هذه الهيئة يمثل الرأي الراجح المتفق مع المصلحة العامة”” ص13، أي أنه ليس فحسب الرأي المرجح الملزم للبرلمان ورئيس الدولة، بل إنه يعبر عن رأي الدين أيضا ويجسد “”المصلحة العامة”” أيضا، التي قد لا يدركها رئيس الدولة أو السلطة التشريعية. ذلك لأن مفهوم البرنامج للمصلحة العامة للبلاد لا ينطلق من واقع الحياة ومتغيراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والروحية والقيمية، بقدر ما ينطلق من الاعتبارات الدينية الاستاتيكية، التي لا يحيط بها سوى العلماء المتفقهون في الدين.
والواقع أنه بصرف النظر عن الصياغات المراوغة المستخدمة في وضع البرنامج، فإن منطقه الداخلي، وطبيعة بنيان الدولة وهياكل الحكم في الدولة التي يحلم بها برنامج الإخوان المسلمون، فضلا عن عدد من التصريحات التي صدرت عن القيادات الرئيسية للإخوان المسلمين قبل أو بعد نشر البرنامج، لا تترك مجالا لهذا الالتباس، حول طبيعة سلطات “”هيئة كبار علماء الدين””، وموقعها في هياكل وسلم الحكم، ومكانتها السامية الأدبية والسياسية والتشريعية، بل والتنفيذية أيضا فوق كل الهياكل.
ورغم أن البرنامج يتحدث عن حكومة إسلامية(4)، مسئوليتها “”وضع السياسات اللازمة لتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية…..، وإقامة المؤسسات والهيئات اللازمة لتتولى تحقيق كل ذلك في المجتمع”” ص72، إلا أن قادة جماعة الإخوان المسلمين لا يكتفون بذلك، فقد سبق أن صرح المرشد العام للجماعة –قبل إصدار البرنامج- بأنه ستشكل لجنة استشارية متخصصة من كبار علماء الدين في كل وزارة، لتوجيه النصح والإرشاد لعملها.
لقد بالغ كثيرا بعض نقاد برنامج الإخوان المسلمون، في تقييم دلالة مطالبة البرنامج بهيئة كبار علماء الدين وحرمان المسيحي والمرأة من الترشح لمناصب رئيس الدولة، واعتبروا أنها “”بيت الداء””، لأنها تشرعن للدولة الدينية. ولكن مزيدا من تأمل البرنامج، يوضح أنه يفضي إلى دولة دينية حتى بدون الهيئة، وحتى بالسماح بترشح المسيحي والمرأة.
ففي سياق مثل هذا البرنامج يصبح من المستحيل الحديث عن استقلال السلطات الثلاث! بل سنكون إزاء هياكل لسلطات منفصلة شكلا، ولكنها منصهرة فعلا في بوتقة أيديولوجية واحدة، تشكل المرجع المقدس للبرلمان ولرئيس الدولة والحكومة الإسلامية والمؤسسة العسكرية والمحكمة الدستورية والمصلحة العامة للأمة.
المناصب الرئيسية في هذه الهيئات هى –بنص البرنامج أو بمنطقه- محجوزة سلفا للمسلمين فقط، بل بالضرورة لمتفقهين في الدين الإسلامي، حتى يكونوا مؤهلين لسن التشريعات ولاتخاذ القرارات -بما في ذلك قرار الحرب أو السلم- ولوضع الأهداف والاستراتيجيات والسياسات الداخلية والخارجية، بما يكفل اتساقها جميعا مع أحكام الشريعة الإسلامية، ولاستبعاد ما لا يتسق معها بوصفه غير دستوري.
في هذا السياق تصبح الدولة بسلطاتها الثلاث وهياكل الحكم والتشريع والقضاء فيها أقرب إلى “”المشيخة الكبرى””، حتى بدون تنصيب ما يسمى بـ””هيئة كبار علماء الدين”” فوق هذه الهياكل. فعلى رأس هذه الهياكل سيقف “”رجال”” أبرز مؤهلاتهم أنهم “”مسلمين مؤدين للفرائض”” ومتفقهين في الشريعة الإسلامية. ومع ذلك فإن البرنامج يضيف هذه الهيئة، ويكلفها بمهمة السهر على مراقبة التزام هذه المؤسسات وغيرها بأحكام الشريعة، ومدى اتساق تصرفاتها مع المصلحة العامة. ويضع تحت تصرف الهيئة شبكة لا نهائية من لجان ومجالس للضبط القيمي في مجالات الحياة اليومية غير الدينية.
يقدم البرنامج أمثلة لمهمات هذه الشبكة العنكبوتية، التي يقف على رأسها أو في مركزها “”هيئة كبار علماء الدين””، والتي تتفرع إلى اللجان الموازية للوزارات، وتنتهي في الأطراف بلجان ومجموعات عمل ومجالس متنوعة، تسهر على تكريس الطابع الشمولي الديني للدولة. مثل مراجعة وإصلاح المواد الإعلامية في كافة وسائل الإعلام، بحيث “”تنطلق من المبادئ والقيم الإسلامية”” ص98، “”ومجلس أعلى للإعلام الإلكتروني….. لرسم وتنفيذ خطة إعلام إلكتروني بروح إسلامية”” ص108، والتأكد من أن “”حرية الإبداع مضبوطة بأخلاقيات المجتمع وقيمه وآدابه”” ص98، و””توجيه مسارات الإبداع الأدبي لخدمة قضايا المجتمع”” ص100، وإعداد “”ميثاق للشرف الإبداعي طبقا لقيم المجتمع وأخلاقياته وآدابه”” ص101، و””غرس القيم والأخلاق والمعاني الفاضلة في النصوص المسرحية”” ص101. و””توجيه الأغنية المصرية إلى أفق أكثر أخلاقية وإبداعا واتساقا مع قيم المجتمع وهويته”” ص102، وتخصيص الموارد المالية اللازمة للدولة، “”لدعم شركات الإنتاج التي تلتزم بهذا التوجيه”” ص102، مع “”الاهتمام بالأغاني الدينية”” ص102.
ومع ذلك علينا أن نصدق برنامج الإخوان المسلمين حين يعدنا بدولة “”مدنية””! برغم أن البرنامج لا يترك فرصة للمجتمع للتنفس والنمو بشكل حر، بل يدس أنفه –ويقحم الدين معه- في كافة مفردات الحياة اليومية للأفراد والجماعات. وهو الأمر الذي انتقده أحد الرموز السابقين للإخوان المسلمين، فيما اعتبره تبنيا لـ “”نموذج الدولة المتداخلة كلية السيطرة””(5) -وهو تعبير مخفف مرادف للطابع “”الشمولي”” للدولة- “”وليس نموذج الدولة الحارس أو البستاني، أي دور الدولة التنسيقي. ففي المسودة -يقصد البرنامج- تبدو الدولة شاملة كلية، ومتعددة المهام والأدوار… الخ. مع أن الدولة من هذا النمط يتم التخلي عنها في العالم كله لصالح الدور المتزايد الذي تقوم به مؤسسات المجتمع والأمة””.(6)
عن أي “”حقوق إنسان”” يتحدث برنامج الإخوان المسلمون؟
هذه الازدواجية المعيبة، لا تنحصر فقط بالجمع بين برنامج يحلم بدولة شمولية دينية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، والوعد في الوقت نفسه بدولة “”مدنية””، ولكنها تشكل القاسم الأعظم في فلسفة البرنامج ومضامينه. فمثلما يخجل البرنامج من أن يقول باستقامة أنه يدعو لدولة دينية، ولذا يخاطبنا من خلف ستارة رقيقة “”دولة مدنية””، تشف عن أيديولوجية وهياكل “”دولة دينية”” أكثر مما تغطي قبحها. فإن البرنامج يسير على نفس خطى الخطاب المراوغ، لكثير من مفكري وقيادات جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي، فيما يتعلق بحقوق الإنسان، أي بالجمع المزدوج بين الاعتراف قولا بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان ومبادئها وقيمها العالمية، والخجل من التنكر لها علنا، وبين عدم الالتزام بها فعليا في الممارسة والتطبيق.
فالبرنامج مثلما عرضنا له في بداية هذه الورقة يحتفي بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ولا يشير إلى أي تحفظ تجاهها، بل يتفوق على خطاب الحكومات العربية، في عدم إبداء تحفظ واحد صريح فيما يتعلق باحتمال تعارض هذه المواثيق والمبادئ مع التفسيرات السائدة في العالم العربي لأحكام الشريعة الإسلامية، وخاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة ووضعية غير المسلمين والعقوبات البدنية والحريات الدينية.
ولكن عندما يهبط البرنامج من سماء المبادئ العامة إلى حقل التطبيق، تتبين مدى الهوة التي تفصله عن مبادئ حقوق الإنسان، برغم اللغة شديدة المراوغة التي يستخدمها البرنامج.
على سبيل المثال، فإن البرنامج يعد بتطبيق الحدود في دولة الإخوان المسلمين، بما تنص عليه من عقوبات بتر الأطراف والرجم حتى الموت، لأنه “”تتوافر فيها صفة الحسم والردع”” ص81، و””هى أكثر الأدوات فاعلية في السيطرة على الجريمة وردعها في مختلف المجتمعات، بما في ذلك المجتمعات غير المسلمة”” ص82. ولكن البرنامج يصمت عن القول بأنه بذلك يتحفظ أو يجمد ما يتعلق بذلك في المواثيق الدولية، رغم أن ذلك يتعارض بشكل جوهري مع روح ونصوص هذه المواثيق، التي يحتفي بها البرنامج دون تحفظ، وخاصة مع الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب. كما سبق لعدد من أبرز خبراء حقوق الإنسان العرب وغير العرب أن اعتبروا في مناسبات متعددة، أن هذه العقوبات تتناقض مع مبادئ حقوق الإنسان، لأنها تتسم بقسوة بالغة وتحط بكرامة ضحاياها.
والواقع أن المسكوت عنه في برنامج حزب الإخوان المسلمين، لا يقل أهمية عن المصرح به، بل قد يفوقه أهمية، وخاصة فيما يتصل بالمواطن التي قد تخجل الجماعة من إبداء الرأي فيها بشكل صريح. وعلى رأسها الأسئلة الكبرى الملموسة المطروحة في المجتمع المصري فيما يتعلق بموقف الإخوان المسلمين من قضايا حقوق المرأة وغير المسلمين، وخاصة غير المؤمنين منهم بالأديان السماوية. وحرية الاعتقاد في نطاق الإسلام ذاته بشكل عام والمذهب السني بشكل خاص.
تعتبر عبارة “”القيم الأساسية للمجتمع”” أو بصياغة أخرى “”القيم الإسلامية””، هى “”كلمة السر”” في برنامج حزب الإخوان المسلمين، وهى المفتاح الذي يمكن من خلاله إزاحة الستار عن الكثير من الأمور الجوهرية المسكوت عنها في البرنامج. ولكن الجماعة لا تقدم في البرنامج تعريفا واضحا لتلك العبارة السحرية الناعمة، والتي تضعها سقفا لكل الحقوق والحريات الأساسية التي يمنحها البرنامج في مقدماته بسخاء وكرم شديدين.
لنحاول أن نقترب بشكل عملي من تعريف تلك القيم، ذلك السقف الذي يجثم فوق كل الحقوق والحريات الأساسية، ولننظر فيما إذا كان ذلك يعني أن تلك الحقوق والحريات في ظل هذا السقف تتسق مع المبادئ العالمية لحقوق الإنسان، أم أن البرنامج يقدم مفهوما أدنى لحقوق الإنسان يخجل من أن يعلنه باستقامة، حتى لا يفتقد المساندة المرجوة من الرأي العام المحلي والعالمي.
لا يفرد البرنامج قسما خاصا بحقوق المرأة، وعندما يتناولها، فهو يدرجها في إطار عنوان أوسع ذي دلالة “”الأسرة والمرأة””. ورغم أن القضية المركزية بالنسبة لحقوق المرأة عالميا ومحليا وفي المواثيق الدولية التي ينطلق منها البرنامج، هى التمتع بالحق في المساواة، إلا أن البرنامج لا يستخدم هذه الكلمة “”المساواة”” فيما يتعلق بحقوق المرأة، التي تناولها في أكثر من ثلاث صفحات ص88-91. وعندما يطالب بحقوقها فهو يضعها تحت سقف القيمْ: “”تمكين المرأة من كافة حقوقها، وتكون ممارسة هذه الحقوق بما لا يتعارض مع القيم الأساسية للمجتمع”” ص24. من ذلك قد يحق لنا أن نستنتج أن مفهوم واضعو البرنامج للقيم الأساسية، يستبعد بالضرورة تمتع المرأة بالحق في المساواة. ويرجح هذا الاستنتاج، أنه عندما يستخدم البرنامج كلمة المساواة مرة واحدة، فإنه لا يربطها بحقوق المرأة، بل يذكرها في سياق إطلاق حملة توعية “”لنشر ثقافة المساواة بين الجنسين””، ولكن –مرة أخرى- شريطة أن “”تستند تلك الحملة إلى المبادئ والقيم الأخلاقية المستمدة من التعاليم الإسلامية”” ص89.
عدم التمتع بالمساواة أمر لا يقتصر على حرمان المرأة من الترشح لمنصب رئاسة الدولة ص24، 88 التي “”اتفق الفقهاء على عدم جواز توليها لها”” ص24. من هنا قد يمكن لنا أن نستنتج أن الفقهاء هم الذين يحددون “”القيم الأساسية للمجتمع”” وهذا بحد ذاته مؤشر على مدى عمق الهوة التي تفصل البرنامج ليس فقط عن حقوق الإنسان، بل عن طبيعة العصر ذاته. غير أن وجود شبهة موقف ذي طبيعة عنصرية يحط من شأن المرأة المصرية مقارنة بغيرها من النساء، لا يستوقف واضعو البرنامج. فمن المعروف أن المرأة تتولى بالانتخاب رئاسات الدولة والوزراء والبرلمان، ليس فقط في الدول غير الإسلامية، بل في دول إسلامية كبرى كثيفة السكان، مثل إندونيسيا وباكستان وبنجلاديش، بل تتعاقب النساء على قيادة أحزاب المعارضة الرئيسية في بنجلاديش إلى جانب رئاسة الوزراء في نفس الوقت. الأمر الذي يثير سؤالا حيويا: هل هى مشكلة تتعلق بـ “”الإسلام العربي”” مقابل “”الإسلام الآسيوي””؟، أم هى مشكلة عنصرية تتعلق بالأصل العرقي للمرأة المصرية؟
لقد ركز بعض نقاد برنامج الإخوان المسلمين نقدهم فيما يتعلق بموقف البرنامج من التمييز الديني، في حصر البرنامج الحق في الترشح أو تولي منصب رئاسة الدولة بالمسلمين ص23/24. غير أن مشكلة شرعنة التمييز على أساس الدين أعمق وأوسع نطاقا من مشكلة منصب رئيس الدولة، أو حتى مناصب الوزراء “”في حكومة إسلامية”” وخاصة وزير الدفاع وكبار القادة العسكريين بمقتضى فلسفة البرنامج ومنطقه.
وعندما يتناول البرنامج مسألة عدم التمييز، فإنه يتجنب أن يقول صراحة أنه لا يلتزم في هذا المجال الحيوي من حقوق الإنسان بالمواثيق الدولية، ولكنه مرة أخرى يضعه تحت سقف القيم، إذ يطالب البرنامج بتحقيق “”عدم التمييز بين المواطنين في الحقوق والواجبات على أساس الدين أو الجنس أو اللون….. في ظل الحفاظ على القيم الأساسية للمجتمع”” ص23.
ومن هذا قد يجوز لنا أن نستنتج أن قيم المجتمع -وفقا لمفهوم البرنامج- تتعارض مع المفهوم العالمي للحق في التمتع بعدم التمييز، خاصة وأن البرنامج يحصر مجالات عدم التمييز، بالحق فقط في “”التملك والتنقل والتعلم والعمل وممارسة العمل السياسي والتعبير عن الرأي”” ص23. ولا يشير بكلمة واحدة إلى الحق وثيق الصلة بهذا المجال، والذي تنتظر كل الأطراف الاستماع لرأي جماعة الإخوان فيه، أي الحق في التمتع بالحرية الدينية دون تمييز، وعلى رأسها بالطبع المساواة في التمتع بحرية ممارسة الشعائر الدينية، بما يتطلبه ذلك من المساواة في الحق في إنشاء الكنائس وغيرها من المعابد الدينية.
وحتى عندما يتناول البرنامج بإسهاب (في صفحة ونصف) دور الكنائس تحت عنوان ذي دلالة ولا يتصل بالدين: “”الكنيسة المصرية ركيزة اجتماعية”” ص75/76، فإنه يقصره على واجبات الكنيسة، ولا يشير بكلمة واحدة إلى حقوقها، وخاصة فيما يتصل بتلك المشكلة المزمنة والمتفجرة، أي التمييز بالقانون والممارسة ضد غير المسلمين، في تمتعهم بالحق في المساواة في إنشاء مقار العبادة وصيانتها.
كما لا يحدد البرنامج موقفا من مشكلة أخرى لا تقل سخونة، وتتصل بالتمييز ضد المواطنين المصريين غير المنتمين للديانات السماوية، وحرمانهم من الحصول على الوثائق القانونية اللازمة، بالمخالفة للحق المنصوص عليه في المواثيق الدولية -التي يحتفي بها البرنامج- أي الحق في التمتع بشخصية قانونية.
غير أن بعض المسكوت عنه في البرنامج، يمكن الاستدلال عليه أيضا من الممارسة اليومية السياسية والإعلامية والميدانية لجماعة الإخوان المسلمين. ومن أبرز المواقف الأخيرة التي توضح بشكل ملموس حقيقة الموقف الفعلي للجماعة من الحق في التمتع بعدم التعرض للتمييز الديني، هو السلوك الذي اتبعه بعض أعضائها في مجلس نقابة الصحفيين، لمنع انعقاد ندوة في النقابة تتناول هذه المشكلة، ونجاحهم في ذلك بالتعاون مع آخرين، برغم أن مجلس النقابة كان قد وافق على عقد الندوة، ودفع منظموها إيجار القاعة مقدما. كما يمكن لمن يزور الموقع الرسمي للإخوان المسلمين على الإنترنت أن يعرف المزيد عن موقف الإخوان المسلمين من حق المواطنين في مناقشة هذه المشكلة في ندوة، مجرد مناقشة! في ضوء ذلك قد يمكن الاستنتاج بأن “”القيم الأساسية للمجتمع”” لا تسمح بمناقشة هذه الأمور! ولذا ربما كان من الضروري إعادة قراءة وتفسير عدد من مقاطع البرنامج التي تحتفي دون تحفظ بالحق في التمتع بالمواطنة، في نفس الوقت الذي يطالب فيه ممثلو الإخوان في البرلمان “”بقتل”” المواطنين المصريين من البهائيين!، باعتبارهم كفرة(7). وهو أمر بالطبع قد يطول فئات أخرى من المواطنين، وفقا للكيفية التي يجري بها تفسير “”القيم الأساسية للمجتمع””.
والواقع أن القيام بجولة في موقع الإخوان الرسمي على مدار عدة أعوام أو شهور يكشف بوضوح أكبر الازدواجية بين الخطاب الذي يبثه البرنامج، والخطاب اليومي الواقعي –غير المقيد باعتبارات التساوق مع المجتمع الدولي- سواء من خلال التقارير الصحفية، أو بعض مداخلات نواب الإخوان المسلمين في البرلمان، فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان، وخاصة فيما يتصل بحرية الفكر والإبداع الأدبي والفني.
هذا المجال الأخير كان دائما على رأس جدول اهتمامات نواب الإخوان المسلمين في البرلمان في كافة الدورات البرلمانية، وبالتالي كان دائما من أبرز ضحايا هذا الاهتمام، لأنه يقع أيضا في مرمى نيران المؤسسة الدينية الإسلامية الرسمية للدولة والتابعة للحكومة المصرية.
بالطبع لا ينتقد أو يراجع برنامج حزب الإخوان المسلمين ممارسات نواب الجماعة في البرلمان، أو موقعها الرسمي على الإنترنت، ويكتفي البرنامج بالإيحاء من خلال الصياغات العامة الناعمة حول حقوق الإنسان، بأن هذه الحريات ستكون مصانة، ولكن مرة أخرى تحت سقف القيم “”الأساسية للمجتمع””. الأمر الذي يمكن استيضاح أبعاده الحقيقية من خلال الممارسة اليومية للكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين، ولموقع الجماعة على الإنترنت.
وفقا للبرنامج، فإن حرية الإبداع يجب أن تكون “”مضبوطة بأخلاقيات المجتمع وقيمه”” ص98، و””المواد الإعلامية في الصحافة والإذاعة والتليفزيون يجب أن تنطلق من المبادئ والقيم الإسلامية”” ص98. جدير بالذكر أن الأخذ بعين الاعتبار هذه التوجهات في ظل نظام الحكم الحالي في مصر، قد أدى فعليا إلى مصادرة عدد هائل من الأعمال الفكرية والأدبية والفنية، على رأسها رواية نجيب محفوظ الفائزة بجائزة نوبل للآداب، وصدور أحكام بالسجن لبعض المؤلفين، أو انتقالهم لخارج البلاد.
وعندما يتعرض البرنامج للشريك الحكومي الحالي في الهجوم على حرية الفكر والإبداع، أي مجمع البحوث الإسلامية، فإنه لا يتوجه له بالطبع بكلمة نقد واحدة، بل على النقيض، يطالب بالمزيد من تفعيل دوره وتنفيذ توصياته الخاصة بمصادرة الأعمال الإبداعية، وذلك من خلال مطالبة البرنامج بضرورة “”التزام كافة المؤسسات الرسمية والأهلية بآرائه”” ص73. وحتى الحرية الأكاديمية فهى أيضا تخضع لسقف القيم، فالبحث العلمي يجب أن يجري “”في ضوء القيم الإسلامية”” ص36، وهذه القيم هى أيضا من أبرز عناصر تكوين الباحثين ص36.
غير أن أهداف الجماعة –في حال تولي السلطة- يبدو أنها لا تنحصر بممارسة أعمال الضبط والرقابة والمصادرة، بل ستتطور إلى مرحلة التدخل في الأعمال الإبداعية ذاتها. “”فالقيم يجب غرسها في النصوص المسرحية”” ص101، مثلما هو الحال أيضا مع الأغنية المصرية التي ستطغى عليها “”الأغنية الدينية”” ص102، و””الثقافة المصرية تتشكل في الهوية الإسلامية والثقافة الإسلامية”” ص97، والمثقف بشكل عام يجب أن يكون ملتزما “”بأن يعبر عن شمولية الفكرة وعمقها وإسلاميتها”” ص97. أما الإنترنت، فسيجري “”خلق شبكة من المواقع تدعم الثقافة البناءة والقيم المجتمعية والدينية”” ص108. وذلك في إطار “”خطة إعلام إلكتروني بروح إسلامية”” ص108.
تعدنا مقدمات البرنامج باحترام حرية الرأي والتعددية السياسية والكرامة الإنسانية، ولكنها تنتهي في التطبيق إلى وحدانية مصادر الثقافة المصرية، والأيديولوجية الواحدة المهيمنة، والرأي الواحد، وصولا إلى القالب الفني الواحد، والنغمة الواحدة. ومن المنطقي أن يصب كل ذلك في صناعة إنسان معلب ذي بعد واحد.
فطموح البرنامج لا تحده حدود فيما يتعلق بالدور الرقابي للدولة وأجهزتها، والشبكة العنكبوتية الهائلة من هيئات ولجان ومجالس “”الضبط القيمي””. لذا فإن مثاله الأعلى “”للمواطن””، هو للأسف، المثال النموذج لكل دولة فاشية، أي خلق المواطن الرقيب على ذاته وعلى الآخرين، وذلك من خلال “”غرس وتعميق ثقافة المناعة الشخصية والرقابة الذاتية للمواطن، بدلا من ثقافة المنع والرقابة الفوقية، بحيث يكون هناك نوع من الرقابة الذاتية لدى المواطن، تتركز في أعماقه، من خلال منظومة القيم والأخلاقيات التي تم تدعيمها في وجدانه، ليرفض عن قناعة خاصة، وليس بأوامر من السلطة أو حجرا عليه من أي طرف كان””! ص98.
هذا هو نمط الإنسان المثالي الذي يسعى برنامج الإخوان المسلمين لإعادة تشكيله، ليصير على هذا المثال.
أخيرا، وبصرف النظر عن أية تفاصيل تتعلق بطبيعة توجهات برنامج حزب الإخوان المسلمين من هذا الحق أو ذاك، فإنه لم يحدث في التاريخ أن أمكن التوفيق بين مقتضيات نظام حكم شمولي -فضلا أن يكون ديني- وبين احترام الحقوق الأساسية للإنسان.
خاتمــة
لعل هذا يفسر لنا الصدمة الهائلة التي أصابت الرأي العام في أعقاب ظهور البرنامج للعلن، بما في ذلك أبرز المثقفين المتعاطفين مع حق جماعة الإخوان المسلمين في الاعتراف القانوني بها كجماعة أو كحزب سياسي. ويفسر أيضا الانتقادات المريرة التي وجهوها للبرنامج، عبر الصحف ووسائل الإعلام الأخرى. بل لعل هذا يفسر أيضا امتناع كثيرين منهم عن حصر انتقادهم للبرنامج بقنوات التواصل مع الجماعة، ومبادرتهم بنشر وجهات نظرهم النقدية للبرنامج على الرأي العام.
يمكن القول إن إعداد البرنامج على هذا النحو، قد أفاد أكثر النظام الحاكم مما أفاد الإخوان، وساهم بالتالي بشكل غير مباشر في تقديم غطاء أفضل لتكثيف الضربات الأمنية المتوالية لهم، على أرضية تراجع التعاطف معهم، الذي أخذ دفعته الأولى بعد العرض “”الميليشياوي”” في جامعة الأزهر، ثم ساهم البرنامج في منحه دفعة إضافية. بل من المثير للدهشة أن البرنامج، قد ساعد على توسيع القاعدة السياسية للنظام الحاكم! فإذا اضطر الناس للاختيار بين نظام شمولي ديني، وبين نظام تسلطي شبه ديني، فإنهم سيختارون الأقل مرارة، أي الثاني.
هناك عاملين رئيسيين متناقضين قد يفسران انزلاق البرنامج إلى هذه الهوة والازدواجية. الأول: هو الطابع المتشدد شديد المحافظة لدى الجماعة، وتمسكها الحرفي بشكليات الدين -بما يصنفها في موقع متخلف حتى عن عدد من الجماعات الإسلامية في العالم العربي، التي تنتمي تاريخيا إلى مدرسة الإخوان المسلمين- وذلك نتيجة افتقار قيادة الجماعة إلى الشجاعة اللازمة للقيام باجتهاد خلاق، يستند إلى تراث من الاجتهاد المستنير في إطار الإسلام والالتزام بمقدساته، وكذلك إلى اجتهادات معاصرة متعددة(8)، أسهمت في تجديد شباب جماعات وتيارات مماثلة داخل العالم العربي وخارجه. إن تراث الفكر الإسلامي أوسع وأكثر غنى وثراء من الهامش المحدود الذي خنق البرنامج.
العامل الثاني: هو الإدراك المتعاظم لدى جماعة الإخوان المسلمين بأن النجاح في كسب الشعبية والنفوذ الأدبي والسياسي في مصر ليس كافيا وحده، ليس فقط للوصول للحكم، بل حتى لوضع حد للقمع الأمني المتواصل لها. وأنه بدون كسب المجتمع الدولي إلى جانبها، أو تحييده على الأقل –كهدف أكثر واقعية- فإن الجماعة قد تخسر كل التراكم الهائل الذي بدأت في إعادة تشييده من جديد في سبعينيات القرن الماضي، وتعود لنقطة الصفر من جديد.
في هذا السياق فإن إقدام واضعو برنامج حزب الإخوان المسلمين على الإعلان عن موقف صريح -أو متحفظ- ضد فلسفة أو منطق أو نصوص المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، قد يكون بمثابة انتحار مجاني، ويمنح حطبا ووقودا ودفعات أكبر قوة لحملة النظام الحاكم –دون قيد- من أجل إنهاء الموقع التنافسي للجماعة على الحكم، ومساواتها بباقي أحزاب المعارضة، التي لا قيمة لها سوى الإيحاء بوجود تعددية سياسية لا أساس لها.
وللتوفيق بين هذه الاعتبارين –أي الوجه المحافظ المتشدد في الواقع المحلي، والوجه المبتسم تجاه المجتمع الدولي- قام واضعو البرنامج بالجمع المتجاور بين الاحتفاء المبالغ فيه دون أدنى تحفظ بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وبين التعهد الفعلي في نفس الوقت لقواعدهم بعدم احترامها.
في هذا السياق، من المنطقي ألا يلجأ واضعو البرنامج “”للتدرع”” بالإعلانات الإسلامية المتعددة لحقوق الإنسان، أو بما يسمى “”الميثاق العربي لحقوق الإنسان””، برغم أنها تتسق تماما مع فلسفة ومنطق ونصوص برنامج حزب الإخوان المسلمين. ولكن مع ذلك يخلو البرنامج لإشارة واحدة لأي من هذه الإعلانات. ليس بالطبع لأنها لا تتسق مع المعايير العالمية لحقوق الإنسان –فتلك هى أيضا فلسفة برنامج حزب الإخوان المسلمين- ولكن لأنها لهذا السبب بالذات ستسبب أضرارا فادحة في مسألة مصيرية بالنسبة للجماعة، وهى تأمين تحييد المجتمع الدولي.
لم يكن بإمكان قيادة جماعة الإخوان المسلمين التخلي عن الطابع المحافظ المتشدد، وإلا خسروا أغلبية قواعدهم الأكثر محافظة وتشددا وحرفية من القيادة، كما لم يكن بإمكان القيادة الانزلاق لاستعداء المجتمع الدولي، وإلا دفعوا ثمنا باهظا لا يقل عن خسارة قواعدهم. وفي السعي للسير في طريقين متوازيين لا يلتقيان، سقط سهوا “”برنامج الحزب-القراءة الأولى””، ومعه الأقلية البراجماتية الأقل تشددا داخل قيادة الجماعة.
إن أحد أهم الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها من هذا البرنامج، هو مدى هامشية تأثير هذه الأقلية في عملية اتخاذ القرار داخل الجماعة. رغم أن رموز هذه الأقلية لعبت دورا نشيطا في الحوار العام في المجتمع المصري، ومن خلال ذلك لعبت دورا حيويا في تعزيز مكانة الجماعة في أوساط المثقفين، وخاصة اليساريين والليبراليين منهم، إلا أنه عندما انتقلت الجماعة إلى طور وضع وثيقة برنامجية، طفت إلى السطح حقيقة ضآلة وزن وتأثير هذه الأقلية داخل الجماعة وقيادتها. هذه الحقيقة المؤسفة جرى اعتمادها رسميا من قيادة الجماعة، والتي “”انتخبت””، أو صعدت مؤخرا خمسة أعضاء جدد لمكتب الإرشاد، ليس من بينهم أبرز رموز هذه الأقلية، التي كان الرأي العام يتوقع أن يكونوا بداهة على رأس الذين جرى “”انتخابهم””. يبدو أن الجماعة تتعامل مع هذه الرموز، باعتبارها “”للتصدير الخارجي”” فقط، للمثقفين وللمجتمع المدني والدولي، وللحوار مع الصحفيين والضيوف الأجانب، ولكنها ليست أبدا للانتفاع بها داخل الجماعة، سواء كان برنامجها أم مكتب إرشاده
Read this post in: English