خلال أحداث الثورة السودانية، بادرت القوى السياسية المعارضة بتكوين تحالف، عُرف لاحقًا باسم “قوى إعلان الحرية والتغيير”. ضم هذا التحالف خمس كتل كبيرة كانت متواجدة على الساحة، وهي تجمع المهنيين، وتحالف نداء السودان، وتحالف قوى الإجماع، والتحالف المدني، والتجمع الاتحادي الموحد. تجمع المهنيين هو تحالف نقابي أبرز أعضائه نقابة الأطباء وشبكة الصحفيين وتحالف المحامين الديمقراطيين ولجنة المعلمين. يُمثل تجمع المهنيين قلب تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير؛ بصفته الجهة التي بادرت بقيادة المظاهرات. تم الاتفاق بين أعضاء “قوى أعضاء الحرية والتغيير” على أن تُتَّخذَ القرارات بالتوافق، وفي حالة تعذره بالأغلبية. هذه الكتل تمثل جميع القوى السياسية المعارضة ما عدا مجموعات الإسلاميين وحلفائهم. انطلقت المفاوضات بين هذه القوى وبين المجلس العسكري الانتقالي بعد أن تبين للعسكر أن الشارع يدعم هذا التحالف بقوة.
ظل العسكر يرزحون تحت إحساسهم بعدم شرعيتهم فحاولوا صنع قاعدة جماهيرية تعطيهم بعض الشرعية المفقودة. وكذا تعرضوا لضغوط ومحاولات احتواء من الإسلاميين الذين حشدوا لهم الإدارات الأهلية وقادة القبائل وبقايا النظام البائد. وأخذ العسكر يخاطبون حشودًا مصنوعة بالطريقة ذاتها التي كان يمارسها البشير. ولكن سرعان ما انتبه الثوار لذلك فصاروا يغمرون تلك الحشود ويواجهون العسكر بشعار الثورة الأساسي “مدنية.. مدنية”، وغيرها من شعارات الثورة الأخرى.
في الوقت ذاته خرج الملايين في جميع المدن السودانية استجابةً لدعوة قوى إعلان الحرية والتغيير. اتضح للعسكر أنهم لا يملكون أي شرعية غير شرعية القوة والبندقية. كذلك أصبح واضحًا أن الشعب في جانب، والقوى العسكرية من جيش وقوات الدعم السريع ومليشيات الإسلاميين وأجهزة الأمن والشرطة في جانب أخر. لقد استثمر النظام البائد في بناء هذه الأجهزة استثمارًا ضخمًا حتى حوّلها إلى قوى معادية للشعب.
انطلقت المفاوضات، وكان واضحًا أنها بين طرف يمثل تطلعات الشعب في الحرية والعدل والكرامة، وبين طرف يمثل أداة قمع لهذه التطلعات. أي أنها مفاوضات بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة.
توصل الطرفان في الثامن عشر من أبريل ٢٠١٩ لاتفاق على تشكيل مجلس عسكري مدني مشترك يمثل مجلسًا للسيادة. كذلك اتفق الطرفان على النظام البرلماني، على أن تشكل قوى إعلان الحرية والتغيير الحكومة كاملةً عدا وزيري الدفاع والداخلية اللذين يختارهما العسكر. كما نص الاتفاق على أن يتألف المجلس التشريعي من ثلاثمائة عضو تشكل قوى إعلان الحرية والتغيير ثلثيه على أن يمثل الثلث المتبقي القوى التي شاركت في الثورة ولكنها لم تنضم لقوى الحرية والتغيير بسبب أنه ليس لها أجسام منظمة، مثل قطاعات المرأة والشباب. ولكن من الجانب الآخر لم تتوقف محاولات إجهاض الثورة، ورد عقارب الساعة إلى الوراء.
المجزرة والانقلاب والعصيان
في فجر الثالث من يونيو 2019 والذي يوافق التاسع والعشرين من رمضان، ألقت قوى الثورة المضادة بآخر أوراق رهاناتها، وقررت أن تُلحِق ضربة قاصمة بقوى الثورة؛ حيث هاجمت القوات الأمنية ساحة الاعتصام، أمام القيادة العامة للجيش السوداني، بالأسلحة الثقيلة والخفيفة، فضلًا عن الهراوات والسياط. وبحلول التاسعة صباحًا خلفت المجزرة أكثر من مائة قتيل، ومئات الجرحى وعشرات المفقودين، ودُمِّرت الساحة التي كانت تعج بالنشاط تدميرًا كاملًا وأُحيلت إلى رماد. اغتصبت القوات المهاجمة العشرات من الفتيات والنساء والرجال، وألقت العشرات من جثث الشهداء في النيل بعد ربطها بالحجارة الثقيلة لضمان عدم طفوها إلى السطح.
في اليوم التالي أمر المجلس العسكري بقطع خدمة الإنترنت عن الخطوط الهاتفية المحمولة والأرضية في سائر أنحاء السودان، في خطوة هدفت، في نظر الثوار؛ إلى منع الشعب من الاطلاع على الصور والفيديوهات التي تصور المجزرة وتظهر بشاعاتها، ووحشيتها، وكذلك لِشَلِّ قدرة الثوار على تنظيم المزيد من التظاهرات الاحتجاجية.
أذاع الفريق البرهان، رئيس المجلس العسكري الانتقالي، بيانًا انقلب فيه على كل الاتفاقات السابقة مع قوى الثورة، وأعلن فيه عدم الاعتراف بقوى إعلان الحرية والتغيير، وعزمه على تشكيل حكومة تسيير أعمال لحين قيام انتخابات عامة. انتشر العسكر وقوات الدعم السريع في الشوارع الرئيسية، حتى بدت العاصمة وكأنها ثكنة عسكرية، وسط تقارير عن اقتحام للبيوت في أنحاء متفرقة من العاصمة، وتوقيف المواطنين في الشوارع، وجرائم قتل واختطاف واغتصاب.[1] وبدا وكأن عهدًا من الرعب قد بدأ.
الدور الإقليمي
لعبت كل من مصر والسعودية ودولة الأمارات العربية دورًا كبيرًا في هذا الانقلاب. وأعلنت الدولتان الأخيرتان عن دعمهما للسودان بمبلغ ثلاثة مليارات دولار. قابل الثوار السودانيين هذا الدعم السعودي الإماراتي للمجلس العسكري الانتقالي بشك كبير، واتهامات بأن رئيس المجلس ونائبه مرتهنون لهاتين الدولتين. فقد اعترف رئيس المجلس العسكري الفريق أول عبد الفتاح البرهان بأنه تولى عملية تنسيق إرسال الجنود السودانيين إلى اليمن ضمن تحالف تقوده السعودية ضد الحوثيين منذ مارس 2015. كما أعلن نائبه محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي، قائد قوات الدعم السريع، أنه أرسل ثلاثين ألفًا من قواته للحرب في اليمن.[2]
وكانت القاهرة هي الوجهة الأولى للفريق البرهان في أول زيارة خارجية له بعد توليه لمنصبه الجديد. جاءت تلك الزيارة قبل أيام من مجزرة الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم. وكانت التكهنات تدور حول تلقيه نصائح من السيسي حول الكيفية التي يمكن للعسكر فض الاعتصام من خلالها. من القاهرة اتجه الفريق البرهان إلى أبو ظبي في الوقت ذاته الذي كان فيه نائبه يزور السعودية. وبعد أيام من تلك الزيارات ارتكبت القوات مجزرة الاعتصام.[3]
اعتبر قادة الثورة السودانية تلكم الجولة بمثابة الضوء الأخضر من دول المحور الثلاثي بإخماد الثورة. وكانت النيويورك تايمز كشفت النقاب عن حملة إليكترونية سرية تديرها شركة مصرية تُدعى “نيو ويفز” يترأسها ضابط سابق بالجيش المصري، لدعم عسكر السودان، وتحسين صورتهم. وقالت إن الشركة دفعت ما يعادل مائة وثمانين دولارًا شهريًا للفرد، لمجموعات من المجندين وذلك بغرض فتح حسابات وهمية في الفيس بوك وتويتر وانستغرام لتمجيد عسكر السودان وإعلاء شأنهم. بدأت الحملة بعد أيام من المجزرة التي ارتكبتها قوات الجيش والدعم السريع والأمن. وأن هناك موجهين يوفروا لهؤلاء المجندين نقاطًا للحديث من نوعية أن العسكر هم الأقدر على حفظ الأمن، وأن ذلك مقدم على ما سواه، بالإضافة إلى أن السودان ليس مهيئًا للديمقراطية بعد.[4]
رد الفعل الشعبي
حل عيد الفطر على شعب السودان وهو في حالة حزن وصدمة وغضب شديد. من جانبها أعلنت قوى إعلان الحرية والتغيير العصيان المدني في التاسع من يونيو.
نجح العصيان بصورة كبيرة، حتى أن صحيفة الجارديان وصفته في عنوانها بـ”ملايين ينضمون للعصيان المدني الساعي لإزاحة الجيش في السودان”. وأورد موقع هيئة الإذاعة البريطانية تقريرًا أشار فيه لتنامي “أعداد المستجيبين للعصيان المدني الشامل… الذي دعا إليه تحالف قوى الحرية والتغيير المعارض”. كذلك أشار التقرير لقيام “بعض المحتجين بوضع متاريس وحواجز في الشوارع الرئيسية والجانبية لمنع حركة السير، بينما تقوم قوات الأمن، وقوات الدعم السريع (التي كانت تُعرف سابقًا باسم ميليشيا الجنجويد) بإزالة تلك الحواجز. وأُغلقت أغلبية الشركات ومكاتب الأعمال في العاصمة الخرطوم لليوم الثاني من حملة عصيان مدني تستهدف إجبار جنرالات البلاد على تسليم السلطة لهيئة مدنية. ورصدت تقارير إغلاق أماكن للعمل خارج العاصمة الخرطوم أيضًا، وتوقف شبه كامل لحركة المواصلات العامة باستثناء عدد ضئيل من السيارات الخاصة تنقل مسافرين، وعدم تعامل الأطباء إلا مع حالات الطوارئ”.[5]
من جهته، قلل المجلس العسكري الانتقالي من آثار العصيان، في بيان صدر مساء اليوم الثاني، زاعمًا أن المواطنين “لم يستجيبوا لدعوات العصيان وأصروا على الوصول إلى مواقع عملهم رغم المعوقات والحواجز”. وأعرب البيان عن أسف المجلس العسكري لممارسة قوى التغيير “لهذا السلوك المتصاعد الذي تعدى في ممارساته حدود السلمية وأفرغ شعارات الثورة من مضامينها وأصبحت تشكل عبئًا أمنيًا كبيرًا على البلاد”. وأشار البيان إلى أن “أسلوب إغلاق الطرق وبناء الحواجز الذي تمارسه قوى إعلان الحرية والتغيير عمل يتعارض مع القانون والأعراف والدين، ويتعدى حدود ممارسة العمل السياسي، ويمثِّل جريمة كاملة الأركان”.[6]وصل الاستقطاب بين العسكر والشعب مداه، وبات واضحًا أن الجميع يسيرون باتجاه مواجهة شاملة، ومعادلة صفرية.
الدور الأثيوبي
في تلك الأيام وصل رئيس الوزراء الإثيوبي إلى الخرطوم يحمل وساطة بين العسكر وقوى الثورة.[7] تجاهل العسكر الوساطة، بينما وضعت قوى إعلان الحرية والتغيير شروط أهمها إجراء تحقيق دولي في المجزرة، وتقديم المسئولين عنها للعدالة، وإبعاد مليشيات الدعم السريع عن المدن.[8]
في هذه الأثناء دعت قوى إعلان الحرية والتغيير لمظاهرات مليونية في الثلاثين من يونيو في جميع أنحاء السودان، وعبأت لها بالرغم من انقطاع الإنترنت. خرج الشعب في الثلاثين من يونيو، وهو يوافق الذكرى الثلاثين لحكم البشير، بأعداد ضخمة غير مسبوقة، كأنه لم يبق أحد في بيته. خرجت الأسر تحمل أطفالها، وخرج المعاقون جسديًا، وكأنهم يجسدون العبارة السودانية الشهيرة “الأعمى جاء شايل المكسر”. وكان ملفتًا جدًا خروج مظاهرات الصم والبكم. حدث ذلك بالرغم من الانتشار الكثيف للقوات الأمنية وقوات الدعم السريع، الذي قُصد منه بث الرعب في قلوب الناس؛ للحد من مشاركتهم. كانت تلك المظاهرات هي الأكبر منذ أن بدأت الثورة، بل هي الأكبر في تاريخ السودان. كان الشعب يعي تمامًا حجم التحدي. فشمر عن ساعده وتهيأ لتقديم الآلاف من الشهداء إن استدعى الأمر. كان العزم كبيرًا، كان الشعار الأساسي للمظاهرات ينم عن هذا العزم الكبير؛ حيث رددت الجماهير شعار “جهِّز معاك كفنك.. يا إنت يا وطنك” أي احمل معك كفنك لأن المعادلة هي بين ضياع حياتك وضياع وطنك. وشعار “يا نجيب حقهم.. يا نموت زيهم” أي إما أن ننتصر ونقتص للشهداء أو نموت مثلهم.
الرسالة وصلت
وصلت الرسالة للعسكر، رأوا تصميم الشعب واستعداده للتضحية، ولمسوا بأيديهم استحالة هزيمته. فأعلنوا في اليوم ذاته جاهزيتهم لاستئناف التفاوض وفق مقترحات الوساطة الإثيوبية.[9] وبالفعل استؤنفت المفاوضات في الرابع من يوليو وأدت للتوقيع على الوثيقة الدستورية في الرابع من أغسطس ٢٠١٩ بحضور الوسيط الإثيوبي والإفريقي ومجموعة من ممثلي الدول العربية والأفريقية والأوروبية.[10] دشنت احتفالية التوقيع على الوثيقة الدستورية بداية الفترة الانتقالية في السودان. وكانت الحفاوة التي استقبل بها الشعب السوداني رئيس الوزراء الإثيوبي دليلًا على الدور الإيجابي الذي لعبته وساطته ووساطة الاتحاد الأفريقي. بطبيعة الحال أثَّرَت هذه المواقف على المزاج الشعبي والرأي العام الذي بات مائلًا للانفتاح على أفريقيا، وداعيًا للخروج من جامعة الدول العربية.
النوم مع العدو
فرض توازن القوة بين العسكر الذين يملكون شرعية البندقية من جهة، وقوى إعلان الحرية والتغيير التي تملك الشرعية السياسية التي أعطاها لها الشارع السوداني من جهة أخرى نوعًا من التعايش بين القاتل والقتيل، أشبه بحالة مشاركة الفراش مع العدو. بالنسبة لقوى إعلان لحرية والتغيير لابد من دفع هذا الثمن الفادح لتفادي المزيد من القتل والدماء، وتفادي انزلاق البلاد لحالة الفوضى والعنف. الحالة التي حاول العسكر وقوات الأمن والمليشيات المختلفة جر الثوار إليها بشتى الطرق طيلة أشهر الثورة، بينما نجح الثوار في تفاديها وإبطال مفعولها. إن شراكة مثل هذه لابد أن تراعى مصالح العسكر والمليشيات، وأقسام من الدولة القديمة. وهي بالضرورة تُعطِّل أو تُؤخر من إنجاز مهام الانتقال نحو الديمقراطية.
تحديات الانتقال
حددت المادة ٧ من الوثيقة الدستورية مهام المرحلة الانتقالية في ستة عشر هدفًا تعالج في مجموعها الخراب الذي أحدثته حكومة البشير على مدار ثلاثين عامًا. تبدأ المهام بتحقيق السلام، وتشتمل على معالجة الاختلالات في الخدمة المدنية والمؤسسات العسكرية واستعادة صفتها الوطنية أو القومية بعد أن ظلت حزبية. كما تشتمل على إلغاء القوانين المقيدة للحريات، وبناء جهاز قضائي مستقل.
تتمثل تحديات الانتقال فيما اصطلح على تسميته بالدولة العميقة في شقيها المدني والعسكري. بالإضافة إلى تدخل دول المحور الإقليمي في شئون البلاد، وتأثيرهم الشديد على العسكر، مع الحاجة الملحة لدعمهم الاقتصادي في هذه المرحلة. كذا التردي العام في الاقتصاد ومستوى المعيشة، وفي تردي النظام الصحي والتعليمي، فضلًا عن التردي في البنية التحتية، وفي البيئة الطبيعية والفكرية والثقافية.
الأجهزة الأمنية
تُعتبر الأجهزة الأمنية المتعددة والجيش “المؤدلج” وقوات الدعم السريع، دول المحور الإقليمي من أكبر مهددات الانتقال في السودان. أولًا، تُعتَبَر نقطة الضعف الأساسية في الوثيقة الدستورية أنها تركت أمر إصلاح الأجهزة العسكرية والأمنية في يد العسكر، وهم أصحاب مصلحة في استمرار الأوضاع الراهنة. جميع هذه المؤسسات الأمنية تمتلك إمبراطوريات مالية ضخمة أدت لتحويل كبار الجنرالات لمجموعة من القطط السمان، وتحويل هذه المؤسسات لبؤر فساد وإفساد كبيرة. هذه الإمبراطوريات المالية مستقلة استقلالًا كاملًا عن وزارة المالية وبنك السودان المركزي ولا تخضع للمراجع العام. كما تنعدم فيها الشفافية ويكتنفها الغموض، ولا يُعرف عنها إلا النذر اليسير من المعلومات. المعروف أن هذه الإمبراطوريات المالية تمتعت بإعفاءات جمركية وضريبية واحتكار لبعض الموارد القومية كالذهب، وميزات تفضيلية أفقدت الخزينة العامة مليارات الدولارات. كما تمتعت بحرية مطلقة في تجنيب الأموال وتحريكها لخارج السودان. هذا بالإضافة إلى أن هذه الأجهزة تكلف الدولة حوالي ٧٠٪ من ميزانيتها.[11]
جاء في تقرير منظمة كفاية الأمريكية “إن سيطرة (الشركات الرمادية) على الاقتصاد في السودان أمر قد سبق وأن أكده أحد الشخصيات النافذة داخل النظام، وهو الدكتور موسى كرامة –يتولى حاليًا منصب وزير التجارة والصناعة، وهو أحد الإسلاميين الصرحاء– في لقاء مع المسئول الاقتصادي بالسفارة الأمريكية في الخرطوم، والذي وَثَّق الخبر في مذكرة سِرِّيَّة قام بإعدادها وتقديمها في مارس 2008. وهي المذكرة التي كشفت عنها تسريبات ويكيليكس، وأضافت المذكرة أن هذه الشركات ممولة بأموال حكومية، إلا أن إدارتها “يعهد بها” إلى أشخاص من الإسلاميين لصالح حزب المؤتمر الوطني الحاكم، أو إلى المنظمات الشعبية للشباب والطلاب والنساء، أو إدارتها كأداة لجني الأموال للجمعيات الخيرية الإسلامية. مكّنت آلية الشركات الرمادية جهاز الأمن والمخابرات الوطني السوداني والقوات المسلحة السودانية ووزارة الداخلية من لعب أدوار محورية في الأسواق السودانية، مثل الاتصالات والإعلام والأعمال المصرفية والتعدين”.[12]
قوات الدعم السريع
ولعل من أكبر هذه الإمبراطوريات المالية هذه المليشيا التي عرفت بمليشيا “الجنجويد” التي أُعيد تسميتها بقوات الدعم السريع، وأُلحقت بقوات الشعب المسلحة بقانون عجيب جعلها تابعة للقائد لأعلى للقوات المسلحة، وفي الوقت نفسه محتفظة باستقلالية كاملة. هذه القوات يقودها تاجر الجمال السابق محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي، والذي مُنح رتبة الجنرال، أو الفريق أول.[13] ومن ضمن مصادر ثروة هذه القوات التنقيب عن الذهب حيث تحتكر “جبل عامر” في شمال دارفور، أحد أكبر مناجم الذهب في البلاد، وتنقب شركاتها في أجزاء أخرى من البلاد ضمنها جنوب وشرق كردفان، كما تتضمن أعمالها أيضًا شركة لبناء الطرق وشركة ليموزين، بالإضافة لتوفير المقاتلين في حرب اليمن.[14] مارست هذه القوات الارتزاق في رأس المال البشري، بمباركة الحكم البائد، فجنَّدت عشرات الآلاف من الشباب السودانيين في حرب اليمن لقاء مليارات الدولارات.[15] ومن أكبر الأدلة على الإمكانات الهائلة لهذه القوات تصريح قائدها حميدتي في السابع والعشرين من إبريل 2019، في مؤتمر صحفي نقله التلفزيون السوداني وعدد من القنوات المحلية، من أنه استطاع من خلال إمبراطوريته المالية تأمين حاجات الناس ودفع بعض ديون السودان وأنه دفع “مليار و27 مليون دولار للحكومة”.[16]هذه القوات أصبحت دولة داخل الدولة، وأصبحت وضعيتها شديدة الشبه بحزب الله في لبنان، وهي عبارة عن قنبلة موقوتة يستدعي التعامل معها حكمة سياسية كبيرة.
خطوات ضرورية قبل المعالجة
إن تفويض العسكريين في أمر إصلاح الأجهزة الأمنية لن يؤدي لإصلاحها، رغم أن سيطرة الحكومة المدنية على الأجهزة الأمنية فضلًا عن إصلاحها هي أحد أهم شروط رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بالإضافة إلى توحيد القناة المالية وسيطرة وزارة المالية والبنك المركزي على حركة الأموال، والقضاء على إمكانية غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
وقبل ذلك فإن تضخم الأجهزة الأمنية واستحواذها على ٧٠٪ من الدخل القومي للبلاد، يشكل عبئًا ثقيلًا على ميزانية الدولة؛ مما يشل بدوره من قدرة الحكومة الانتقالية على معالجة الأزمة الاقتصادية، وإنفاذ البرنامج الإسعافي الرامي لإعادة العافية للاقتصاد السوداني، وتخفيف أعباء المعيشة على المواطن. إن تقليص ميزانية الجيش والأجهزة الأمنية أمر لا يمكن أن يتحقق دون موافقة وتعاون القادة العسكريين. والسؤال الكبير الذي يمثل الفيل في قلب الغرفة هو كيف يحدث هذا بدون مواجهة بين الشق المدني والشق العسكري في الحكومة.
إن معالجة هذه المعضلة الخطيرة تقتضي مخاطبتها بشكل كلي، كمشكلة قومية، تخص المجتمع بكل أطيافه، ولا يترك أمر حلها للحكومة وحدها. يجب أولًا إدارة حوار وطني شامل حولها، يسلح فيه المواطن بالمعلومة ويعبئ المجتمع لتتم محاصرة هذه الأجهزة الأمنية بالوعي. ثانيًا، لابد من النظر لتجارب الدول المشابهة، ولا بد من إشراك المجتمع الدولي في معالجة هذه القضية. ثالثًا، هناك ضرورة للربط بين إصلاح الأجهزة الأمنية وتحقيق السلام. إن تحقيق السلام سيأتي بجيوش الحركات المسلحة للبلاد، وهي تُعتبر جزءً من قوى الثورة، حيث ستعمل على تعديل اختلال موازين القوة الحالي بين قوى الثورة المتمثل في الشعب الأعزل، وقوى الثورة المضادة المتمثل في الجيش وقوات الدعم السريع والأجهزة الأمنية وكلها تتبع للنظام القديم. إن تحقيق السلام سوف ينتج عنه بناء جيش قومي موحد للبلاد يحدد الجميع حجمه وتسليحه ومهامه وحجم الإنفاق عليه وعقيدته.
دول المحور
استطاع السودانيون هزيمة الانقلاب بوحدتهم وإصرارهم. اقتنعت دول المحور، بعد ضغوط غربية، بالشراكة بين العسكر والمدنيين. بالرغم من هذا لا يزال السودانيون ينظرون لدول المحور بالكثير من الشك والتوجس؛ هناك إيمان كبير أن هذه الدول لن تسمح بقيام نظام ديمقراطي في السودان، وأنها ستستمر في التآمر مع العسكر في الانقضاض على الديمقراطية الوليدة في البلاد، هذه الديمقراطية التي تتلمس طريقها وسط حقل ألغام خطير يمثل الانهيار الاقتصادي وتربص القوى الإسلامية المسلحة والغنية أخطر ما يهدده. هناك معادلة تبدو مستحيلة، فالسودان يحتاج لدعم اقتصادي، ودول المحور مستعدة لتقديم هذا الدعم، ولكن الثمن هو الوقوع في فخ المحاور، وارتهان البلاد لهذه الدول، والغوص في مستنقع حربي اليمن وليبيا. وفي هذا تخلي عن أحد أهداف الثورة في الاستقلالية والبعد عن المحاور، وعودة الجنود السودانيين من اليمن. هناك دعاة الواقعية والبراغماتية ممن يقول بمسايرة الأوضاع التي ورثناها من النظام السابق. ثم التملص من هذه الأوضاع تدريجيًا عندما يشتد عود النظام الديمقراطي. وهناك الثوريون المثاليون الذين يدعون بالاعتماد على الذات وشحذ القدرات المحلية وتفجير الطاقات السودانية. ولكن من الواضح أن الحكومة الانتقالية تسير في الاتجاه البراغماتي.
الفترة الانتقالية
نحن الآن نعايش الفترة الانتقالية الرابعة في تاريخ السودان الحديث، الفترات الثلاثة الأخرى كانت فاشلة. الفترة الأولى كانت بعد ثورة أكتوبر ١٩٦٤، ترأسها معلم اسمه سر الختم الخليفة، كان يفترض أن تكون مدة هذه الفترة عام واحد، ولكن تعجل الأحزاب الطائفية للحكم أدى لتقويضهم لهذه الحكومة قبل أن تكمل عامها.[17] جاءت الأحزاب المتلهفة للسلطة بيد أنها لم تحافظ عليها. جاء انقلاب مايو ١٩٦٩، قبل أن تكمل الحكومة فترتها. والفترة الانتقالية الثانية كانت عقب ثورة أبريل التي أطاحت بالنميري، ترأسها طبيب اسمه الجزولي دفع الله، كان رئيسًا لنقابة الأطباء. استمرت هذه الفترة لمدة عام أعقبه انتخابات عامة فاز فيها حزب الأمة القومي وترأس الصادق المهدي وزارتها. لم يكمل الصادق دورته حيث انقلب عليه صهره الترابي في يونيو ١٩٨٩ في الانقلاب الذي أتى بالبشير للسلطة. الفترة الانتقالية الثالثة كانت عقب اتفاقية السلام الشامل في العام ٢٠٠٥ واستمرت لخمسة أعوام. فشلت هذه الفترة في تحقيق الهدفين الأساسيين منها وهما تحقيق السلام والحفاظ على وحدة البلاد؛ حيث انفصل الجنوب وعادت الحرب في جنوب كُردُفان والنيل الأزرق.
هذه هي الفترة الانتقالية الرابعة. فهل ستحقق أهدافها المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية؟ هل ستؤسس لنظام ديمقراطي راسخ؟ هل ستقيم دولة القانون التي يصبوا إليها السودانيون؟ هل ستحقق العدالة وتحاسب المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. الفترة الانتقالية هذه المرة طولها ثلاث سنوات وثلاثة أشهر. حكومة الدكتور حمدوك حولها إجماع شعبي، كما لا تنقصها الإرادة السياسية. ولكن قد تعوقها الصعاب العملية التي تواجهها. فهي ورثت نظامًا قضائيًا مختلًا من جميع الوجوه، ومليئًا بنوع القضاة الذين وصفهم الأستاذ محمود محمد طه بأنهم “غير مؤهلين فنيًا، وضعفوا أخلاقيًا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية تستعملهم لإضاعة الحقوق”. هذا القضاء يحتاج إلى إعادة بناء من جديد. كذلك ورثت نيابة عامة ضعيفة، مدجنة ومؤدلجة. أضف إلى ذلك أنها تسير في حقل ألغام يتمثل في المكون العسكري، والدولة العميقة والحركة الإسلامية. هذا إلى جانب الأزمة الاقتصادية. إن الحكومة عازمة على محاكمة الجرائم، وقد بدأت الحكومة بتكوين لجنة تحقيق في جريمة مجزرة القيادة العامة. وعلى الرغم من أن الحكومة بدأت أعمالها منذ شهرين تقريبًا، إلا أنها تسير ببطء ظاهر. وقد جرى تعيين رئيس جديد للقضاء ونائب عام جديد، من ذوي الكفاءة والأخلاق وأوكل لهما إصلاح هاتين المؤسستين. وهذا الإصلاح يحتاج لبعض الوقت قبل أن تبدأ المحاكمات. يتفهم الشعب هذه الصعوبات، وينتظر بصبر. بيد أن المؤكد هو عزم الشعب ولجان المقاومة على تحقيق العدالة على جميع الجرائم والإصرار على عدم الإفلات من العقاب.
الخاتمة
أنجز شعب السودان ثورة عظيمة وتخلص من واحد من أبشع النظم في العالم، كانت ثورة ضد نظام فاشي ونازي يلتحف قداسة الدين. وبالرغم عن أن الثورة لم تأخذ مداها كله، إلا أنها أمنت نفسها بحقيقة أن الثوار لم يغادروا الميدان. وأصبحت الثورة حالة مستدامة. هذه الحالة المستدامة عصية على الأعداء وستحقق أهدافها ولو بعد حين.
[1] البي بي سي (٢٠١٩). العصيان المدني في السودان يدخل يومه الثاني والمجلس العسكري يكثف انتشاره والأمن يستعين بقوات الدعم السريع. ١٠ يونيو. تاريخ الاطلاع ١٠ أكتوبر ٢٠١٩،
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-48199127
[2] فضل، أحمد (٢٠١٩). دعم السعودية والإمارات لعسكر السودان: أسئلة تحتاج لإجابات، ١٤ أبريل. تاريخ الاطلاع ١٠ أكتوبر ٢٠١٩،
https://www.aljazeera.net/news/politics
[3] عبد اللطيف، دعاء (٢٠١٩) ما حقيقة موقف القاهرة من الأزمة السودانية. ١٦ يونيو. تاريخ الاطلاع ١٠ أكتوبر ٢٠١٩،
https://www.aljazeera.net/news/politics/2019/6/16/%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9
[4] رصيف ٢٢، نيويورك تايمز: حملة سرية لدعم عسكر السودان انطلقت من القاهرة (٢٠١٩). ٦ سبتمبر ٢٠١٩. تاريخ الاطلاع ١٠ أكتوبر ٢٠١٩،
https://raseef22.com/article/1075033-%D9%86%D9%8A%D9%88%D9%8A%D9%88
[5] البي بي سي، مرجع سابق
[6] الجزيرة نت (٢٠١٩). العصيان المدني يشل السودان والمجلس العسكري ينفي انشقاق قواته. يونيو ٢٠١٩
https://www.aljazeera.net/news/politics/2019/6/9/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%
[7] الجزيرة مباشر (٢٠١٩)، زيارة أبي أحمد للخرطوم: مصالح واستعراض نفوز أم وصافة. ٩ يونيو. تاريخ الاطلاع ١٠ كتوبر ٢٠١٩،
http://mubasher.aljazeera.net/news/%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A9-
[8] قناة العالم (٢٠١٩). الوساطة تراوح مكانها في السودان: موقف مبهم “لقوى التغيير”. ٢٢ يونيو. تاريخ الاطلاع ١٢ أكتوبر ٢٠١٩،
https://www.alalamtv.net/news/4283726/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B3%D8%
[9] عثمان، طارق (٢٠١٩). المجلس العسكري: جاهزون للتفاوض اعتبارا من اليوم: التظاهرات تجتاح السودان في مليونية الشهداء. ١ يوليو. تاريخ الاطلاع ١٢ أكتوبر ٢٠١٩،
https://www.albayan.ae/one-world/arabs/2019-07-01-1.3595468
[10] السي إن إن العربي (٢٠١٩). السودان: توقيع وثيقة الإعلان الدستوري بالأحرف الأولى. ٤ أغسطس. تاريخ الاطلاع ١٣ أكتوبر ٢٠١٩،
[11] الناير، محمد (٢٠١٩) السودان: الجيش يستحوذ على ثلثي ميزانية الدولة، دي دبليو، ٢٢ أغسطس،٢٠١٩ تاريخ الاطلاع ١٠ نوفمبر ٢٠١٩ أنظر هذه الرابط
https://www.dw.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%
[12] بلدو، سليمان (٢٠١٨). عندما تقود السياسات الرعناء إلى الانتحار الاقتصادي: السودان نموذجًا. نوفمبر ٢٠١٨. تاريخ الاطلاع ١٣ أكتوبر ٢٠١٩،
https://enoughproject.org/wp-content/uploads/SudanSelfInflictedEconomicMeltdown_Nov2018_AR.pdf
[13] مصطفى، صلاح الدين (٢٠١٧). السودان: قانون “قوات الدعم السريع” يصل البرلمان ويثير جدلًا واسعًا، ٩ يناير، تاريخ الاطلاع ١٣ أكتوبر ٢٠١٩،
https://www.alquds.co.uk/%EF%BB%BF%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%
[14] وولش، دكلان (٢٠١٩). السودان يطيح بدكتاتور شرس: خليفته كان حاميه. ١٥ يونيو ٢٠١٩. مرجع باللغة الإنجليزية.
https://www.nytimes.com/2019/06/15/world/africa/sudan-leader-hemeti.html
[15] الجزيرة (٢٠١٩) حميدتي: السودان لديه أكبر قوة في التحالف الذي تقوده السعودية. ٢٢ يونيو. تاريخ الاطلاع ١٣ أكتوبر ٢٠١٩،
https://www.aljazeera.net/news/politics/2019/6/22/%D8%AD%D9%85%D9%8A%D
[16]العربي الجديد (٢٠١٩). إمبراطورية حميدتي الاقتصادية: ٥ مصادر لثروته أبرزها الدهب والتمويل السعودي الإماراتي. ٢٣ أغسطس. تاريخ الاطلاع ١٣ أكتوبر ٢٠١٩،
https://www.alaraby.co.uk/economy/2019/8/23/%D8%A5%D9%85%D8%A8%D8%B1
[17] عبد الرحمن، فدوى في ذكرى 21 أكتوبر 1964: حكومات 21 أكتوبر 1964 الانتقالية وما تلاها من تطورات، (٢٠١٧)، نشر بتاريخ ٢٣ أكتوبر/تشرين ٢٠١٧، تاريخ الاطلاع ١٠ نوفمبر ٢٠١٩. أنظر الرابط
Read this post in: English