ما أكثر الدراسات التي تناولت “التحول المحلي” في بناء السلام، إلا أن دور الجهات الفاعلة في الشتات في قيادة جهود حل النزاعات لم يحظ بعد بالقدر الكافي من الدراسة.[1] كيف تقود الجهات الفاعلة في الشتات جهود حل النزاعات، لاسيما في المنطقة العربية، حيث تتواصل النزاعات المسلحة؟ هذا المقال يقدم دعوة متجددة لحل النزاعات بقيادة الجهات الفاعلة المحلية، خاصةً مع يشهده الشتات من تزايد أعداد الفارين من الحروب والقمع السلطوي خلال العقد الماضي.
وفي هذا الإطار، سيناقش المقال أولًا بشكل موجز مشكلة صناع السياسات الدوليين الذين يتجاهلون خبرة الجهات الفاعلة المحلية، وذلك برغم أهمية الدعم الدولي للعديد من الجهات الفاعلة المحلية التي تقود حل النزاعات. هذا “الدعم” يتخذ العديد من الأشكال، بما يشمل المساهمات المالية والمؤازرة السياسية والشراكات الأكثر جوهرية. الأهم من ذلك أن الدعم الدولي غالبًا ما يعني غياب التدخل الدولي؛ خاصةً عندما لا يتم طلب التدخل من قِبَل الجهات الفاعلة المحلية لحل النزاعات. وقد أشار الكثيرون إلى أهمية الفاعلين المحليين باعتبارهم “وكلاء السلام”، بينما تعاملوا في الوقت نفسه بحذر إزاء الدعوات الخطابية من أجل حل النزاعات بقيادة محلية.[2]
وبرغم ذلك، من المهم إدراك أن التصنيفات الثنائية من قبيل “الدولي” و”المحلي” قد تؤدي غالبًا إلى نتائج عكسية؛ إذ أنها تفترض ضمنًا –على نحو زائف– بأن هاتين المجموعتان متجانستان. وبينما يتجاوز الوصف التفصيلي لتعقيدات “المحلي” و”الدولي” نطاق هذا المقال؛ فإن الحجج المطروحة هنا تدرك تنوع هاتين الفئتين.
ثانيًا، يضع المقال الخطوط العريضة لمخاطر المشاركة “الرمزية” التي تسمح للجهات الفاعلة الدولية، وخاصةً الحكومات الغربية، بأن تصوّر انخراطها في النزاعات المسلحة في الدول العربية باعتباره نهج “من أسفل لأعلى” موجه لحل النزاع؛ بينما يرسم الواقع صورة معاكسة. هذه المشاركة المخادعة راسخة في تفاعلات صانعي السياسات الدولية مع الجهات الفاعلة المحلية في الشتات، كما هو الحال فيما يُطلق عليه وفود “الزيارات الدراسية” إلى المنطقة العربية.
وأخيرًا، يسعى المقال إلى لفت الانتباه إلى القيمة الكامنة في جهود الولاية القضائية العالمية بما يتجاوز المحاكمة الجنائية. وفي هذا السياق، يجادل المقال بأنه نتيجة لتعاون المجتمع المدني السوري مع العديد من المُدّعين الأوروبيين؛ أصبح من الصعب على نحو متزايد أن تتورط الحكومات الغربية والشركات متعددة الجنسيات في النزاعات المسلحة في المنطقة العربية دون أن يفطن أحد لذلك. تنجم أهمية هذا الأمر من كونه يُعقّد دور ما يسمى الجهات الفاعلة الدولية في “بناء السلام”، ويعزز الحاجة للمزيد من التأمل الذاتي النقدي من جانب الدبلوماسيين وخبراء مراكز الأبحاث وصناع السياسات الذين يركز عملهم في المقام الأول على حل النزاعات في الدول العربية.
أدى الانهيار المتواصل للمحاولات العديدة لحل النزاعات المسلحة، مثلما يحدث في اليمن وسوريا أو ليبيا، إلى سياق إقليمي مصاب بما يمكننا الآن تعريفه بأنه “نزاع طويل الأمد”.[3] ويستلزم ذلك إلقاء نظرة فاحصة على الجهات الفاعلة المنخرطة ليس فقط في القتال، بل أيضًا في المحاولات المحلية لوضع نهاية للعنف وبناء السلام. ما هو دور الجهات الفاعلة المحلية في الداخل وفي الشتات في محاولات حل النزاعات في بلدانهم؟ كيف يعمل ما يسمى بالمجتمع الدولي مع وضد الجهات المحلية الفاعلة في بناء السلام؟ لأغراض هذا المقال، سيتم استخدام “الجهات الفاعلة المحلية” للإشارة إلى أولئك الأفراد الذين أتوا من الدولة الأم المعنية ويحتفظون بروابط وثيقة معها. إن لديهم خلفيات متجذرة بشكل راسخ في تلك الدولة –سواء كانت عائلية، اجتماعية، عرقية، وسياسية، بالإضافة إلى روابط وثيقة مستمرة مع الدولة الأم– سواء كانوا يقيمون داخلها أو خارجها. الأكثر أهمية، أن لديهم “خبرات حية” في دولتهم الأم.
العمل مع وضد الجهات المحلية الفاعلة لحل النزاعات
يتحدى “التحول الحاسم” في أدبيات بناء السلام صانعي السياسات الدولية بأن يجعلوا “المحليين” في الصدارة، ويوصف بأنه “الأعمال اليومية لأفراد وجماعات متنوعة تتجاوز النخب والمجتمع المدني التي عادةً ما تكون مرتبطة ببناء السلام التحرري”.[4] يتضمن ذلك التعريف نقدًا مهمًا لصناعة السياسة الدولية الجوفاء التي تعاني من الافتقار للشرعية في أوساط الجهات الفاعلة التي تتوجه إليها جهود بناء السلام. بصياغة أخرى، فإن الحلول التي تقودها الجهات الدولية غالبًا، وعلى نحو خطر، ما تتفوق على الحلول المطروحة من الجهات المحلية –سواء كانت مقدمة من الجهات الفاعلة المحلية التي تنشط في الشتات، أو من أولئك الذين ظلوا في الداخل. إن النداءات المطالبة بتوفير مساحة للحلول “المحلية” على طاولة المفاوضات ليست جديدة على الإطلاق. ولكنها نادرًا ما توضع في سياق الممارسة على المستوى الدولي، حيث تجري الكثير من المفاوضات. علاوةً على ذلك، فإن الإدماج السطحي للجهات الفاعلة المحلية غالبًا ما يقود إلى تأثيرات ضارة؛ مما يزيد من تعقيد وإعاقة أي احتمالات بنّاءة لإنهاء النزاع المسلح.
لهذا السبب تتطلب فرص حل النزاع في العديد من البلدان العربية نهجًا يمنح الأولوية لصناعة السياسات المطلعة على الخبرة والمعرفة الراهنة، فضلًا عن الأهداف الأكثر تضررًا بسبب النزاعات المسلحة. ما زال النظام الدولي متمركزًا بدرجة كبيرة على الدولة[5] في مقاربته إزاء التفاوض على السلام بين الحكومات والمجموعات المسلحة الأخرى. نتيجة لذلك، غالبًا ما يتم البخس بقدر الجهات الفاعلة الفردية من غير الدول، سواء كانت محلية أو عبر وطنية، بما في ذلك المجتمع المدني، أو التغاضي عن تلك الجهات الفاعلة بشكل خطير.[6]
أخفقت الجهات الفاعلة الدولية بشكل كبير في محاولاتها لدعم حل النزاعات المحلية في البلدان العربية، لاسيما منذ الانتفاضات العربية في 2010/2011. إن الخبرات الحية للجهات الفاعلة المحلية لا يمكن ولا يجب لها أن تستبدل، أو استيعابها، بما يسمى “خبرة” الجهات الفاعلة الخارجية. كما لا ينبغي أن تحل الجهات الفاعلة المحلية[7] محل خبرة ودعم الجهات الفاعلة الأجنبية أو ترفضها كليًا. على سبيل المثال، تقوم المنظمات الدولية غير الحكومية بوظيفة داعمة وحيوية “كممتص للمخاطر وجهات فاعلة مرافقة بمقدورها تمكين الممثلين المحليين بطريقة أكثر استدامة”.[8] ومع ذلك، فإن التشبيك الذي يتم بين هذه المجموعات من الفاعلين، لا يعدو غالبًا أن يكون شكلًا من اللقاءات الرمزية التي لها حظ قليل من إمكانات التأثير البناء والمستدام.
مخاطر التشبيك الرمزي
على سبيل المثال، سيتم إقصاء الجهات الفاعلة اليمنية من اجتماعات أو موائد مستديرة تناقش كيفية حل النزاع في اليمن. بدلًا منهم، سيكون المشاركون “خبراء” في اليمن وفي النزاع المسلح بشكل عام، ولكنهم –في كثير من الأحيان– لا يملكون الخبرات الحية لنظرائهم اليمنيين. في العديد من المناسبات، كانت فرص حل النزاع تحدق في وجه تلك الجهات الفاعلة الدولية، سواء كانت في لندن، واشنطن، روما، باريس أو جنيف. لقد تضمنت تلك الاجتماعات مشاركة المهنيين في الشتات الذين واصلوا بلا كلل الدفاع والضغط والبحث والكتابة، والتحدث في العلن وفي السر، وعملوا كحلقات وصل أساسية بين وطنهم والبلدان المضيفة. وهم سياسيون سابقون وقادة مجتمع مدني ومحامون لحقوق الإنسان وقضاة وصحفيون وأطباء ومعلمون.
الأكثر أهمية من ذلك، أن تلك الجهات الفاعلة المحلية، سواءً في بلدانها الأصلية أو في الشتات، متاحة ويمكن الوصول إليها لكنها لا تحظى بالإصغاء اللازم. إنهم غالبًا يعيشون ويعملون في المكان نفسه، أو بالقرب من، صانعي السياسات الدولية الذين يحاولون معالجة ودعم حل النزاعات في المنطقة العربية. ولكن بالرغم من قرب هذه الجهات الفاعلة المحلية وإمكانية الوصول إليها؛ فإنها غالبًا ما يتم نسيانها أو إقصاءها من جهود حل النزاعات تلك. علاوةً على ذلك، فإنه حتى عندما ينخرط صانعو السياسات الدولية مع تلك الجهات الفاعلة المحلية، فإنهم يفعلون ذلك بشكل رمزي يتسم بالسطحية؛ إذ تكون الأولوية هي رسم صورة محاولات بناءة لحل النزاع بدلًا من تسويته فعليًا.[9] أحد الموضوعات الرئيسية البارزة في مقابلات ذات صلة أجرتها المؤلفة على مدار عامين مع مهنيين سوريين ويمنيين، يعملون في مجال حل النزاعات، كانت أن توصياتهم السياسية يتم تجاهلها مرارًا وتكرارًا من الجهات الفاعلة الدولية التي تزعم أنها تسعى لحل النزاع المسلح في أكثر من بلد في المنطقة العربية.
إذا وضعنا جانبًا السياسة الواقعية وتأمين مصالح الدولة على حساب حل بنّاء للنزاعات، فإن هذا المقال يهتم بـ “الصناعة” الدولية لحل النزاعات، والتي أخذت على عاتقها معالجة حل النزاعات بطرق لا حصر لها. تلك الصناعة تتضمن التشبيك الفردي بين برلمانيين أوروبيين والمتخصصين في حقوق الإنسان من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واجتماعات في الكونجرس الأمريكي، وهناك ارتباطات دبلوماسية أخرى بين ممثلي المجتمع المدني المحلي والجهات الفاعلة الدولية “الغربية”، بالإضافة إلى مؤتمرات وانعقاد عدد لا بأس به من الحوارات غير الرسمية وشبه الرسمية، مثل دبلوماسية المسار الثاني. مع مثل هذه الثروة من الفرص للتشبيك البنّاء بين الجهات الفاعلة المحلية والدولية؛ ينبغي أن نطرح هذا السؤال: لماذا يوجد افتقار للتشبيك المثمر؟ وتكمن الإجابة في عوامل متعددة، بما في ذلك الأكثر أساسية، مثل الافتقار إلى استراتيجيات التشبيك المبتكرة، فضلًا عن الإلهاء الذي يتعرض له صانعو السياسة الدولية بسبب قضاياهم وسياساتهم الداخلية.[10] وبالرغم من ذلك، فإن أحد أصعب العوامل الرئيسية هو تواطؤ الجهات الفاعلة الدولية في ارتكاب جرائم، بل وفي الواقع تورطها أيضًا في منع حل بنّاء للنزاعات في بلدان عربية بعينها. اليمن وليبيا يقدمان مثالين مفيدين لتوضيح هذه النقطة.
الفاعلون الدوليون: الافتقار للمحاسبة على التواطؤ وارتكاب الجرائم
بالإضافة إلى التواطؤ على إقصاء الجهات الفاعلة المحلية لحل النزاعات، هناك شأن آخر وهو الافتقار للمحاسبة على الدور المدمّر الناجم عن الدعم القوي الذي قدمته حكومات (مثل الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا والمملكة المتحدة) لعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، برغم حرصها على رفع راية حل النزاعات. إن الدعم السياسي للنظم السلطوية ومبيعات السلاح التي تقدر بمليارات الدولارات ليست هي بالضبط الأمور التي يمكنها على المساعدة على تحقيق “الاستقرار” في المنطقة. وعند تأمل عدم تناغم ذلك مع دعواتها للسلام والعدالة والاستقرار في الشرق الأوسط، نجد أن دعم الحكومات الغربية للنظم السلطوية ليس مفاجئًا على الإطلاق، بل لطالما كان الوضع كذلك.
في تقرير صدر مؤخرًا عن اليمن، “فشل جماعي، مسئولية جماعية”، وصفت الأمم المتحدة الفظائع المستمرة الناجمة عن الحرب التي يواجهها اليمنيين، وحذرت بشكل خاص كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وإيران بشأن تواطؤهم فيما قد يرقى إلى جرائم حرب في اليمن.[11] ومع ذلك، ما زالت إيران وحدها تحتل عقول صانعي السياسات المعنيين، أكثر من السياسات سيئة الطالع التي تمارسها حكوماتهم وحلفائها. وبينما لا يمكن وصف إيران بأنها صانعة سلام عالمي، فإن ذلك أيضًا حال بعض أقرب أصدقاء الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة. ويحتج بعض الدبلوماسيين على أنه لا يتم لوم الولايات المتحدة وحلفائها على كل شيء. هذا صحيح دون شك، ولكنه أيضًا يمثل انحرافًا لا يلقي بالًا لمسئولية الطغاة في المنطقة، والذين يزدهرون بفضل استمرار دعم –ولا مبالاة– الحكومات الغربية.
شهدت العديد من المدن سلسلة من المحاولات لحل النزاع الليبي، مثل روما وأبو ظبي وباريس وتونس وموسكو وبرلين. لم تسفر تلك المحاولات بعد عن نتائج إيجابية. وبرغم ذلك، صدر عن عملية المؤتمر الوطني، التي تألفت من سلسلة مشاورات مع 7000 ليبي عبر ليبيا في 2018، تقريرًا يرسم ملامح الإجماع الليبي على عدد من المجالات السياسية التي تهدف لإعادة بناء البلاد وتعزيز السلام. ينبغي استئناف العملية التي أطلقتها تلك المشاورات، فيما يحتدم الصراع الليبي الذي تكرسه الجهات الفاعلة الدولية.[12] كما يجب أن تكون بمثابة إطار هام للمفاوضات التي يتواصل عقدها في المدن البعيدة. وكما لاحظ كلا من مزران وفاسانوتي في مراجعتهما للمؤتمرات الدولية حول النزاع الليبي “من الضروري تذكر أن هذه المؤتمرات لا يمكن لها أن تنعقد دون أولئك الذين لديهم بالفعل دور وركيزة على المستوى المحلي. إنها نظرية بسيطة، ولكن من الجلي أنه من العسير تطبيقها”.[13]
غياب التأمل الذاتي النقدي وسط وفود “الزيارة الدراسية“
بصفتي زميلة في مركز أبحاث، غالبا ما أستقبل وفود بحثية وحكومية متنوعة، وتؤكد تلك الوفود بحماسة أنها جاءت في إطار “زيارة دراسية” من أجل فهم أفضل لديناميكيات النزاع والتوترات السياسية في المنطقة. من اليسير إلى حد ما توجيه النقد إلى أمثال إيران وإسرائيل والمملكة العربية السعودية، ولكن من العسير الالتفات إلى الداخل والنظر في سياسات الأوروبيين والأمريكيين والروس والجهات الفاعلة الأجنبية الأخرى وتوبيخ استغلالهم وانتهازيتهم المفرطة. إن واضعي مثل تلك السياسات الخارجية لا يؤنبهم ضميرهم على إشعال نار الموت والخراب في الجنوب (بدعم من حلفائهم في الجنوب)، بما في ذلك المنطقة العربية، طالما أن ذلك يخدم مصالحهم الاقتصادية والسياسية. عندما تُثار مثل هذه القضايا الجوهرية بطريقة دبلوماسية قدر الإمكان في اجتماعات مراكز الأبحاث، غالبًا ما يعقب ذلك صمت غير مريح.
الأكثر مدعاة للقلق هو ادعاء تلك الوفود أنها في “زيارة دراسية”، بينما في الواقع أكثرها (ولحسن الحظ ليس كلها) تسعى للتحقق من أن مشاكل المنطقة العربية متصلة أكثر بعجز متأصل في شعوبها عن “مجرد التواصل مع بعضهم البعض”، مع صلة أدنى لتواطؤ الحكومات الغربية الجسيم في ارتكاب هذه الجرائم السافرة، ودورها في منع حل النزاعات. إن زعمهم السفر إلى المنطقة ليومين، وربما ثلاثة أيام، بغرض فهم “ما يجري” ليتمكنوا من تحسين صناعتهم للسياسات في المنطقة لتعزيز السلام والأمن والعدالة؛ هو أمر من الصعب أخذه على محمل الجد. من نواح عدة، فإن جزء من الحل الهادف لتهدئة الاضطرابات في المنطقة يكمن ببساطة في إيقاف السياسات الغربية، مثل مبيعات السلاح للدول التي تستخدمها في قتل المدنيين الأبرياء. علاوةً على ذلك، فإنه لا يمكن لأي شخص يزعم أنه خبير في الشرق الأوسط أن يدعي الجهل بمدى مسئولية القوى الغربية عن تدمير العديد من أجزاء المنطقة.
لجنة الخبراء التي سلمت تقريرها عن اليمن في 2019، قد قدمت رثاءً حول “الفشل الجماعي” و”المسئولية الجماعية” بشأن وضع حد للحرب في اليمن والسعي إلى المحاسبة.[14] وبرغم ذلك، لم يتم إصدار بيانات رسمية حول إنهاء مبيعات الأسلحة، خاصةً تلك الأسلحة التي يبيعها الغرب للتحالف العسكري الذي تقوده السعودية، والذي تسببت تكتيكاته الحربية، إلى جانب الحوثيين، في أسوأ كارثة إنسانية في العالم.[15]
الولاية القضائية العالمية: غاية تتجاوز المحاكمة الجنائية؟
ترتبط مسألة المحاسبة الجنائية بشأن انخراط الجهات الفاعلة الغربية في النزاعات المسلحة في الشرق الأوسط بحالات الولاية القضائية العالمية الجارية في أوروبا. مثال على ذلك قضية شركة لافارج.[16] وهي شركة إسمنت فرنسية متعددة الجنسيات، وكانت لها شركة تابعة تعمل في سوريا طوال فترة الحرب. وفي عام 2018، وجه قضاة فرنسيون اتهامات لشركة لافارج بالتواطؤ في جرائم ضد الإنسانية وتمويل جماعة إرهابية وتعريض حياة الناس للخطر. تم فتح هذه القضية في أعقاب شكوى جنائية في نوفمبر 2016 تم تقديمها بوساطة 11 موظف سوري سابق مع المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان والمنظمة الفرنسية الشريكة شيربا.
وجهت اتهامات إلى لافارج بإجبار الموظفين على مواصلة العمل في ظروف غير آمنة بين عامي 2012 و2014، الأمر الذي مثّل تهديدًا لحياة الموظفين فقط للحفاظ على المصنع مفتوحًا وتشغيله في شمال شرق سوريا. كما اتهمت لافارج بالتواطؤ في جرائم ضد الإنسانية؛ لأنها قامت بتمويل تنظيم الدولة الإسلامية بطرق مختلفة. ويُعتقد أن لافارج اشترت نفطًا وسلعًا أخرى من تنظيم الدولة الإسلامية، وأنها دفعت رسومًا للتنظيم كي تحصل على تصاريح بالتنقل، وربما أيضًا باعت الإسمنت للتنظيم.[17] وهو ما يعتبر تمكينًا للتنظيم الذي ارتكب فظائع جماعية في سوريا. وكشفت التحقيقات حتى الآن في قضية لافارج أن الشركة ربما دفعت نحو 13 مليون يورو لمجموعات مسلحة مختلفة؛ لتتمكن من الحفاظ على تشغيل مصنعها في سوريا. وحتى الآن تم توجيه الاتهامات لثمانية موظفين في لافارج بينهم اثنين من المديرين التنفيذيين.[18]
وتجدر الإشارة إلى بيان أدلى به مسئول رفيع المستوى في لافارج خلال إحدى جلسات الاستماع. قبل توجيه الاتهام إليه، قال كريستيان هيرولت، النائب السابق للمدير العام للعمليات في لافارج، عن تطورات عامي 2013 و2014: “المرء بحاجة لإدراك أن داعش لم تكن قد ارتكبت أي شيء خارج سوريا، لم يكن هناك شارلي إبدو أو باتكلان. لقد كانت آنذاك قضية سورية”.[19] كانت تلك محاولة غير نزيهة ومثيرة للشفقة لتشتيت المسئولية عبر الإشارة إلى أن الجرائم المرتكبة كانت مقتصرة على نطاق الأراضي السورية ولم تؤثر على فرنسا. إنه المنطق السائد في القضايا المماثلة، مثل قضية (بي إن باريبا) في السودان والكثير غيرها.[20] وفي ظل غياب جهود حل النزاعات التي تأخذ في حسبانها تواطؤ الجهات الفاعلة الدولية في جرائم النزاعات المسلحة؛ فإن جهود الولاية القضائية العالمية من شأنها –على الأقل– توفير سبيل يمكن من خلاله حماية السجل التاريخي لمثل هذا التواطؤ.
خلاصة
من خلال تفكيك هذا الجزء الصغير ولكن الحيوي من مسرح حل النزاعات؛ نجد أن الافتقار لصناعة سياسات تقودها الجهات الفاعلة المحلية لا يشكل مفاجأة. فهي تتطلب تصفية حسابات نزيهة وصعبة مع مجموعة أوسع من الجهات الفاعلة القوية التي تتواطأ في ارتكاب النزاعات المسلحة في المنطقة العربية، وهذا ما يتجاهلونه في الواقع لأنه يدعو إلى التأمل الذاتي النقدي بدلا من إلقاء اللوم بشكل كامل على الجهات الفاعلة في الجنوب. علاوةً على ذلك، إن التشبيك البنّاء مع الجهات الفاعلة المحلية سواء كانت في عدن أو روما، إدلب أو فيينا، بنغازي أو باريس، ليس مجرد جهد لحل النزاعات، إنه جهد لبناء السلام. لأن الجهات الفاعلة المحلية لديها مصلحة طويلة الأمد في حل النزاع. إن خبراتهم الحية هي ما ينبغي أن تقود صياغة سياسات ومقاربات حل النزاع وبناء السلام على المستويين المحلي والدولي. وكما ذكرنا آنفًا، إنها ليست فكرة غير مألوفة على الإطلاق. وبرغم ذلك، فإنها نادرًا ما يتم تطبيقها في الممارسة للأسباب التي ناقشناها أعلاه. وهكذا، فإن التوصيات التي يقدمها المقال يمكن تلخيصها في التالي:
أخذ الخبرة المحلية على محمل الجد. منح دور قيادي أكبر للخبرة المحلية وإبرازها في صناعة السياسات هو أمر في غاية الأهمية؛ في حال زعمت الجهات الفاعلة الدولية أنها صادقة في أهدافها لحل النزاع. يتطلب هذا جهدًا ابتكاريًا لإدماج تلك الجهات الفاعلة التي تعاني من تقييد قدرتها على التنقل: على سبيل المثال، ممثل لسلطة قبيلة يمنية ذات تاريخ طويل في حل النزاعات المجتمعية الناجحة، لن يكون بالضرورة مرتحلًا بين المدن الأوروبية لشرح كيفية حل النزاع في محافظته أو في كامل البلاد. كما أن ممثل السلطة هذا ليس ضروريًا أن يرغب في القيام بذلك. ولكن منح مثل هذه الجهات الفاعلة دورًا قياديًا، بدعم من الجهات الفاعلة الدولية –سواء كانت المنظمات غير الحكومية التي تركز على حل النزاعات، ومكاتب المبعوثين الخواص للأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وغيرها من الحكومات الأجنبية– يُعد شرطًا أساسيًا ليس فقط لحل النزاع، وإنما أيضًا لبناء السلام. ويتطلب هذا أماكن ومنصات لحل النزاع لا تقتصر على الفنادق في المدن الأوروبية والأمريكية الكبيرة. وبينما يوجد العديد من النزاعات المسلحة والحروب الأهلية، والحروب الإقليمية الآن، يوجد أيضًا تاريخ من حل النزاعات في اليمن وليبيا وسوريا ودول أخرى يسود فيها حاليًا النزاع المسلح. ويتسم هذا التاريخ من حل النزاعات بدور بارز للأفراد والمجموعات المحلية في تلك المدن والمحافظات والبلدان.
ترجمة الخبرة. في كثير من الأحيان، تضيع الخبرة المحلية في الترجمة، أو لا يتم ترجمتها على الإطلاق. إن عبء معالجة ما يسمى “حاجز اللغة” يقع على عاتق جميع الجهات الفاعلة المنخرطة في عملية حل النزاع، وليست الجهات الفاعلة المحلية فحسب. من أجل مقاصد المنطقة العربية، ينبغي استمرار ودعم الجهود الحالية التي تبذلها منظمات (مثل مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ومركز بروكينجز الدوحة وغيرهما) والتي تتيح الموارد باللغتين الإنجليزية والعربية؛ حيث أن ذلك يعزّز بشكل كبير محتوى سياسات حل النزاعات، وفي الوقت نفسه يساهم في توسيع نطاق رؤية المشاركين في جهود حل النزاعات.
الاهتمام بالولاية القضائية العالمية كوسيلة لحماية السرد التاريخي. إن الشكاوى المقدمة ضد الشركات الغربية متعددة الجنسيات، مثل قضية لافارج في سوريا، وكذلك قضية بي إن بي باريبا الأخيرة المتعلقة بالسودان، تلفت الانتباه إلى تورط وتواطؤ الجهات الفاعلة الغربية في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ينبغي مواصلة ودعم مثل هذه الجهود؛ باعتبارها شكلًا هامًا من أشكال الوعي، حيث تنصب شبكة أوسع للمحاسبة، ليس فقط للجهات الفاعلة المحلية وإنما أيضًا لشركائها من المتآمرين الدوليين. بعبارة أخرى، إن المادة التي تنتج عن حالات الولاية القضائية العالمية تقدم سردية أكثر دقة وسجلًا تاريخيًا بشأن الجهات الفاعلة المذنبة. هذا أمر جلل، ليس فقط لأنه يوضح الطابع العابر للحدود الوطنية لأسباب اندلاع النزاعات المسلحة في المنطقة العربية، بل لأنه يشير أيضًا إلى وجود سبل لحل النزاعات والمحاسبة عبر الحدود.
[1] بافينولز، ثانيا (2015). تفكيك التحول المحلي في بناء السلام: تقييم نقدي نحو أجندة للبحث المستقبلي. فصلية العالم الثالث 36 (5) ص 857-874؛ ليوناردسون، حنا وجوستاف رود (2015). “التحول المحلي” في بناء السلام: مراجعة أدبيات بناء السلام المحلي التحرري والفعّال. فصلية العالم الثالث 36 (5) ص825-839. حول دور الشتات في النزاع وإعادة الإعمار بعد إنهاء النزع، انظر كوينوفا، ماريا (2018). حشود الشتات من أجل النزاع وإعادة الإعمار بعد النزاع: أبعاد سياقية ومقارنة. دورية دراسات العرقية والهجرة 44 (8).
[2] المصدر السابق. ص 857.
[3] كولاريسي، مايكل وويليام طومسون (2002). “المنافسات الاستراتيجية والنزاع طويل الأمد وتصعيد الأزمات”. دورية أبحاث السلام 39 (3) ص 263-287. انظر أيضًا كولمان، بيتر (2003). ” خصائص الصراع طويل الأمد والمستعصي: نحو تطوير إطار العمل-1″. السلام والنزاع: دورية علم نفس السلام (1)، ص 1-37.
[4] ليوناردسون، حنا وجوستاف رود (2015). “التحول المحلي” في بناء السلام: مراجعة أدبيات بناء السلام المحلي التحرري والفعّال. فصلية العالم الثالث 36 (5) ص833.
[5] ماك جنتي، روجر وأوليفر ريتشموند (2013). “التحول المحلي في بناء السلام: أجندة نقدية للسلام”. فصلية العالم الثالث، حول كيف أنه في الوقت الذي “يبلى” فيه النهج الذي يركز على الدولة على مدى العقدين الماضيين، فإنه لا يزال مفتاحًا أساسيًا لصناع السياسات والباحثين. انظر أيضًا دو كونينج، سيدريك؛ كارلسرود وجون وبول تروست (2015). نحو عمليات سلام أكثر تركيزًا على الشعوب: من “بسط سلطة الدولة” إلى “تعزيز العلاقات الشاملة بين الدولة والمجتمع”، الاستقرار: الدورية الدولية للأمن والتنمية 4 (1)” 49 ص1-13.
[6] أبو الدهب، نهى (2019). استرداد مستقبل اليمن: دور الشتات اليمني المحترف. مركز بروكينجز الدوحة، 28 أبريل،
حول مخاطر الافتقار إلى التشبيك البناء مع الجهات الفاعلة المحلية؛ انظر أيضًا أبو الدهب، نهى (2018). توثيق الأعمال الوحشية: المجتمع المدني السوري والعدالة الانتقالية. مركز بروكينجز الدوحة. 7 مايو، https://www.brookings.edu/research/writing-atrocities-syrian-civil-society-and-transitional-justice
حول إنجازات تلك الجهات الفاعلة المحلية داخل وخارج بلدانهم الأم.
انظر أيضًا مالت وأندرسون (2017): “المفهوم المركب للنزعة العابرة للوطنية” – ويُعرّف بأنه “تزايد عدد ونطاق وتفاعلات وتأثير الجهات الفاعلة الدولية على عمليات الحوكمة والدبلوماسية عند دعوة الدول للمشاركة، أو أجبرت على الاستجابة، أو أصبحت تعوّل على خبرة الجهات الفاعلة عبر الوطنية، وحيث تتفاعل الجهات الفاعلة عبر الوطنية بشكل متزايد مباشرة مع بعضها البعض –يعكس ذلك بشكل أكثر دقة آليات السياسة العالمية في مضمار الحرب وصناعة السلام أكثر من النموذج الذي يركز على الدولة في مجال العلاقات الدولية”. (مالت وأندرسون. ص 216).
[7] سواء كانوا من المجتمع المدني، سياسيين وسياسيين سابقين، دبلوماسيين، أكاديميين، فنانين، صحفيين، مهنيين في مجال حقوق الإنسان، محامين وغيرهم من المهنيين.
[8] ليلجا، جاني وكريستين هوجلند (2018). “دور صناع السلام المحليين والخارجيين: تمكين الحركة – إدارة المخاطر”. الحوكمة العالمية: مراجعة للتعددية والمنظمات الدولية 24 (3) ص 412.
[9] أبو الدهب، نهى (2019). استرداد اليمن.
[10] عملية انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مثال على ذلك. في اجتماعات شاركت فيها المؤلفة، أشار برلمانيون إلى أنهم لم يتمكنوا من تكريس الكثير من الوقت والجهد لحل النزاعات في الشرق الأوسط بسبب انهماكهم بسياسة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
[11] مجلس حقوق الإنسان (2019) “اليمن: فشل جماعي، مسؤولية جماعية” 3 سبتمبر.
https://www.ohchr.org/EN/HRBodies/HRC/YemenGEE/Pages/Index.aspx
[12] أبو الدهب، نهى (2020). “لماذا فشلت مبادرات السلام في ليبيا. وماذا يمكن فعله حيال ذلك؟”. موقع الجزيرة باللغة الإنجليزية، 22 يناير.
https://www.aljazeera.com/indepth/opinion/peace-initiatives-libya-failing-200122111825330.html.
[13] مزران، كريم وفريدريكا ساناي فاسانوتي (2019). “مؤتمر آخر، حل آخر غير مكتمل لليبيا”. المجلس الأطلسي 21 نوفمبر.
https://www.atlanticcouncil.org/blogs/menasource/another-conference-another-incomplete-solution-for-libya-2/.
[14] مجلس حقوق الإنسان (2019). “اليمن: فشل جماعي، مسؤولية جماعية – تقرير خبراء الأمم المتحدة”. بيان صحفي. مجموعة الخبراء الدوليين والبارزين حول اليمن. 3 سبتمبر.
https://www.ohchr.org/EN/HRBodies/HRC/Pages/NewsDetail.aspx?NewsID=24937&LangID=E
[15] أخبار الأمم المتحدة (2019). “الأمم المتحدة تحذر: الأزمة الإنسانية في اليمن تظل الأسوأ في العالم”. 14 فبراير.
https://news.un.org/en/story/2019/02/1032811
[16] مثال آخر على ذلك هو قضية بي إن باريبا التي شهدت محاولات لمحاسبة البنك الفرنسي جنائيًا؛ بسبب دعمه المالي لحكومة السودان السلطوية للرئيس المخلوع عمر البشير.
[17] المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان (2018). “لافارج في سوريا، اتهامات بالتورط في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”. 28 يونيو.
https://www.ecchr.eu/en/case/lafarge-in-syria-accusations-of-complicity-in-grave-human-rights-violations/
[18] المصدر السابق.
[19] المصدر السابق.
[20] ستمبل، جوناثان (2019). “بي إن بي باريبا تواجه إعادة إحياء دعوى بشأن الإبادة الجماعية في السودان: محكمة الاستئناف الأمريكية”. رويترز، 22 مايو.
https://www.reuters.com/article/us-bnp-paribas-sudan-lawsuit/bnp-paribas-to-face-revived-lawsuit-over-sudanese-genocide-u-s-appeals-court-idUSKCN1SS20D.
Read this post in: English