خلاصة
تستند هذه الورقة إلى ستة أشهر من البحث الميداني في لبنان، بين مايو وديسمبر 2018، مع ثمانية وثمانين من النساء اللبنانيات المسلمات المحجبات، باستخدام منهج المقابلات المعمقة والمناقشات الجماعية المركزة. مع توثيق تجربتهن مع الإقصاء والتمييز في أماكن العمل بلبنان، تطرح الورقة غياب أي دور فعّال للدولة اللبنانية بالنسبة إلى المشاركات في البحث، فضلًا عن غياب نظامها القانوني وأجهزتها؛ كقنوات محتملة للحشد ضد العنصرية والمطالبة بالإنصاف. مع انتهاج هذا المشروع البحثي مقاربة اجتماعية/تاريخية، فإن الورقة تُعيد عرض تكوين لبنان، وتُظهر اختلاطه بالتمييز ضد المحجبات؛ للدفع بأن أسس الدولة ذاتها اشتملت على مأسسة اللامساواة في المواطنة، ومن ثم مأسست أيضًا العنصرية ضد المسلمين في ظل العالم الحديث/الكولونيالي. ونظرًا لظهور نقد للقوانين الحديثة كأداة للإنصاف ضد العنصرية، تدعو الورقة القرّاء إلى التفكير في أنماط حماية الحريات الدينية والممارسات ضد الإقصاء العنصري الحداثي الغربي بما يتجاوز، ورغمًا عن، الدول الأممية الحديثة ما بعد الكولونيالية في غرب آسيا وشمال أفريقيا.
مقدمة
مع التفكير في العنصرية ضد المسلمين والمسلمات، وتحديدًا التمييز ضد المحجبات، لا يخطر على بال المرء عادة أن يشمل ذلك المساحة الناطقة باللغة العربية. الحق أن المرء لا يتوقع وجود مثل هذه الممارسات في دول الأغلبية المسلمة، أو المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة؛ بافتراض أن هذا التمييز يقتصر على الغرب حيث هذه الظاهرة “عادةً ما يتم تجاهل وجودها في الدول المسلمة”.[1]
على أن السوسيولوجيين دأبوا منذ زمن بعيد على القول بأن فهم أسئلة التمييز والحقوق، وديناميات التعامل بين الأغلبية والأقلية، تتطلب استجواب بنى السلطة والامتياز والقوة، وليس التوزيع الديموغرافي. من هذا المنطلق، فإن الأغلبية العددية قد تكون –ولطالما كانت– أقلية سوسيولوجية مجحفة الحق، تمامًا مثل قدرة الأقلية الديموغرافية على تكوين أغلبية سوسيولوجية مهيمنة. من ثم، يدرك المرء الحاجة إلى تصدي البحوث لتجارب وخبرات فئات بعينها، من ضمنها الفئات التي قد لا تكون أقليات ديموغرافية مهمة لكنها، على الرغم من ذلك، تتعرض للتهميش والإقصاء بشكل كبير. وبناءً عليه، فإنني أحاجج هنا بأن المحجبات المسلمات في لبنان الحديث يمكن اعتبارهن مثالًا على الفئات المعرضة للتهميش.
في هذه الورقة، أسلط الضوء على مصاب النساء المسلمات المحجبات في لبنان، وهو بلد عربي صغير على شاطئ المتوسط. في هذا السياق، تبدأ الورقة ببناء لا-كولونيالي موجز لتاريخ لبنان المعاصر، من أجل رسم خلفية حول هوية البلد ومساحاتها المفتوحة لإعادة التفكير فيمن قد خضعوا –أو لم يخضعوا– للقمع في تلك الأرض المشرقية الصغيرة.
من ثم، أنتقل إلى تقديم المشروع الذي تنبثق هذه الورقة عنه، حيث أبدأ بعرض موجز لمناهج وأسئلة البحث، مع تقديم التأطير النظري المستخدم، ثم أعرض بعض الملحوظات حول دراسة الحجاب. بعد ذلك تستعرض الورقة نماذج من البيانات حول، أولًا، إقصاء وقمع النساء اللبنانيات، وثانيًا، حول غياب الدولة ونظامها القانوني كمصدر محتمل للمقاومة تتسلح به المحجبات اللبنانيات. مع تنظير هذا الأمر، أختتم بالبناء على الإطار القانوني النقدي/نازع-للكولونيالية لفهم هذا الغياب والصمت وللقول بالحاجة لمراعاة صياغة المشاركات للمشكلة وتأطيرهن لها، والبحث عن الانتصاف بما يتجاوز إطار الدولة/الأمة وجهازها القانوني.
اختراع لبنان وحاضره
لبنان، جمهورية متعددة الطوائف ومتعددة الأحزاب على ضفاف المتوسط. أمة “لم يسبق لها وجود قط في التاريخ، إنها نتاج التقسيم الفرنسي-البريطاني الاستعماري للشرق الأوسط”.[2] لبنان الذي اختُرع وشهد توسع أراضيه أثناء مساعي الاستقلال عن باقي المشرق، عبر علاقة خاصة مع فرنسا كمنارة “لرسالتها التنويرية”، نشأ في فترة ما بين الحربين العالميتين كنظام ديمقراطي رئاسي تحت هيمنة مارونية، في ظل تواجد ثمان عشرة طائفة دينية.
كان اختراع هذه الأمة يعني أن مختلف الطوائف المسيحية والمسلمة فيها، وفي ظل اللامساواة، قد أصبحت لبنانية، حيث أنه أثناء إنشاء الأمة، تجذرت بقوة وعمق كل من الأديان والانقسامات الدينية.[3] إذن تم اختراع الدولة كنظام للتراتبية الكولونيالية، مصحوبة في الأصل بمقاربة إقصائية للمواطنة، حيث الأساس الكولونيالي للأمة ينهض بشكل أصيل على أكتاف التنصل من السكان المسلمين بلبنان لصالح السكان المسيحيين (المارونيين). من ثم، في مسعاهم لتأسيس نظام مدني كولونيالي بدلًا من دولة كولونيالية محضة، وضع الفرنسيون أسس المواطنة اللبنانية اللامتجانسة والكثير من التناقضات الداخلية، التي لا تزال متأصلة في لبنان حاليًا.
تعتمد هذه الدولة الكولونيالية على نظام قانوني مزدوج، بموجبه أُحيلت “الأحوال الشخصية” إلى القانون الديني الذي أفقد مرونته ، وأُعيد تشكيلها لتوائم عدم مرونة القانون المدني، ولقد صاحب هذا تكريس لأوجه الظلم والزبائنية والانقسامات والأبوية.[4] وفيما وراء الشئون الدينية، تم تشكيل النظام القانوني اللبناني بشكل مباشر على القالب الفرنسي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الدستور والمؤسسات الخاصة بالدولة، مع لعب النموذج الفرنسي دورًا محوريًا في إعادة تكوين الذات والفضاء “اللبناني”. لا يزال هذا النظام كما هو لم يتغير كثيرًا في وقتنا الحالي.
سياسيًا واقتصاديًا، تم فرض انتهاء سابق لأوانه للهيمنة المارونية الكبيرة مع الحرب الأهلية اللبنانية في 1975، و التغيرات العديدة في الجغرافيا السياسية للمشرق والمنطقة بالكامل حينئذ. رغم كثرة وكثافة أسئلة الهوية والانتماء والمواطنة، انتهت حروب لبنان العديدة بين 1975 و1991 أخيرًا باتفاق عُرف باتفاق الطائف، تلاه إعادة توزيع للقوة/السلطة، حيث تراجعت المارونية السياسية (نسبيًا) لصالح انتعاش القوة/السلطة السنية والشيعية السياسية والاقتصادية (واستمرارها في هذا) وصولًا إلى التوازن الحرج والدقيق للسلطة في يومنا هذا.[5] [6]
السؤال البحثي وتقنيات البحث
لطالما ركزت العلوم الاجتماعية “على الأشياء (ثقافة ومجتمع واقتصاد وسياسة) “، لكن المشروع البحثي الأكبر الذي تنبثق عنه هذه الورقة ينبع من “تحولات المعرفة السياسية نحو المشكلات والأسئلة المختبئة وراء خطاب الحداثة”.[7] إنه إذن “تمرين” محدد في الإنصات النازع-للكولونيالية من أجل إنتاج المعرفة بالشراكة مع فئة تخضع للتهميش، في مسعى لكشف تجربتهم المعيشية كما تخبرها الفئة المذكورة بنفسها، وتأطير هذه التجربة مفاهيميًا، وتحليلها.[8] [9] إذن فالبحث الذي تقدمه هذه الورقة يجب أن يُفهم بصفته محاولة “لإظهار المخفي” وتحليل “آليات إنتاج هذا الخفاء أو الظهور المشوه” عبر ممارسة الاشتباك مع الناس “الخفية” أنفسهم.[10] من هذا المنطلق، لا تزعم هذه الورقة أنها تمثل الواقع/الحقيقة الخارجي/ة التي توصلت إليها أو شروط ما هو كائن، إنما هي تسعى إلى الإنصات والتعاون مع كيف يخبر المهمشون جانبًا معينًا من واقعهم ومشكلاته.
منهجيًا، وانطلاقًا من أن المشروع بحث كيفي (لا كمّي) يجريه ذكر مسلم شيعي متمركز في الأكاديمية الإنكليزية، فالمشروع الذي تنبثق عنه هذه الورقة قد تبنّى المقابلات المعمقة والمناقشات الجماعية المركزة كأدوات منهجية للبحث. في ظل توفر أدلة توجيهية للمقابلات بصيغة المقابلة نصف الهيكلية، بدأ جمع البيانات من خلال اتصالات في لبنان، مع تحري طريقة “كرة الثلج” التي صادفت قبولًا وترحيبًا كبيرًا أثناء العمل الميداني تحضيرًا للبحث. تم إجراء البحث الميداني مع ثمانية وثمانين مشاركة (أُجريت أربعة وأربعين مقابلة و شارك ثلاثة وأربعين في مناقشات مركزة). تم الحصول على الموافقة على الجانب الأخلاقي للمشروع من قبل هيئة مراجعة أخلاقية البحوث العلمية في جامعة سلسكس، التي كانت مقر البحث، وغطى البحث الميداني الفترة من مايو 2018 إلى ديسمبر من العام نفسه، مع العمل في العاصمة بيروت، وفي عدد من المدن الثانوية مثل صيدا وطرابلس وصور، فضلًا عن عدة مواقع ريفية.
كان المشاركون متنوعون، من حيث التقسيم الديموغرافي والخلفيات الاجتماعية/الاقتصادية والمهن ومناطق السكن. تراوح المشاركون بين السنة والشيعة، من ربات بيوت إلى رائدات أعمال، ومن الطبقات العليا في بيروت إلى سكان الجنوب الأفقر، وتراوحت أعمارهن بين ثمانية عشر وتسعة وستين عامًا. على ذلك، جاء تمثيل بيروت في البيانات مفرطًا، مع وجود تحيز لمناطق الحضر في البيانات أيضًا، فضلًا عن التحيز للفئات العمرية الأصغر. الصورة الواردة هنا إذن يجب فهمها في ظل إدراك وجود هذه الحدود المذكورة التي تحد من البحث. جميع المقابلات أُجريت بالعامية اللبنانية، ثم تُرجمت وكُتبت بالكامل بالإنجليزية وتم تحليلها باستخدام برمجية NVIVO، وهي برمجية لتحليل البيانات الكيفية. جميع الأسماء المذكورة أسماء مستعارة لحفظ مجهولية المشاركات.
التنظير والحجاب
من أجل تأطير هذه الورقة نظريًا، أُستند إلى مجموع المؤلفات حول الحداثة/ الكولونيالية ، وهي مدرسة رئيسية ظهرت مؤخرًا في العلوم الاجتماعية، حيث أن هذه المدرسة تتيح تنظيرًا ثبت أنه ذو قيمة تحليلية كبيرة لهذه الدراسة. لابد من التشديد هنا على أن اختيار هذا التنظير انبثق عن، وجاء تابعًا، لتطورات البحث الميداني: لقد تم اختياره وتطويره إذ شعرت أنه يعكس وينقل ما ذكره المشاركون وعبروا عنه أثناء البحث الميداني.
بالنسبة إلى الدراسات النازعة للكولونيالية ، فإن النقطة الأساسية الواجب إدراكها هي فهم الحداثة بصفتها سردية خطابية بمركزية أوروبية ومشروع للهيمنة. مع النظر إليها من خارج أوروبا، نكتشف أنها سعي كولونيالي/إمبريالي لعالم أحادي الغلبة فيه لأوروبا كحاضر ومركز التاريخ، وبصفة أوروبا المركز الجغرافي للعالم.[11] من هنا، فإن للحداثة جانب أسود: الكولونيالية كهيكل للقوة/السلطة مميز ومختلف عن الاستعمار كهيمنة مادية سياسية. من خلال سلسلة من التقنيات حيث “القمع/الاستغلال الثقافي والسياسي والجنسي والروحاني والابستمولوجي والاقتصادي لإخضاع الجماعات والفئات المعنصرة/المعرقنة يُمارَس على يد مجموعات معنصرة/معرقنة مع أو بدون ممارسة الإدارة الكولونيالية”، تُعد الكولونيالية بناءً يسعى بالأساس إلى الهيمنة والإخضاع والمحو للتعددية-الكونية العالم.[12]
الكولونيالية –المعروفة أيضًا بـ”مصفوفة القوة/السلطة الكولونيالية”– تستند إلى السعي للسيطرة على السلطة والجنسانية والمعرفة والذاتوية. من الأهمية بمكان –في سياق التنظير الخاص بهذه المدرسة– أن هذه المجالات الأربعة يربطها العنصرية. العنصرية هنا ليست “تصنيف البشر طبقًا للون الجلد إنما هي التصنيف طبقًا لمعيار معيّن من (الإنسانية)”.[13] منذلك يتم تعريف العرق بصفته “الهيراركية العالمية للتسامي والدونية على امتداد خط “الإنساني” الذي تنتجه مؤسسات الحداثة/الكولونيالية، سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا”.[14] “الإنسانية” في هذا السياق ليست “جوهر متسامي وحيادي يمكن لأي شخص تملكه واعتبار نفسه منضويًا تحت لواءه”، إنما هي مفهوم محدد وُلد من رحم الإبستيم (منظومة المعرفة) الغربي/ة و”يستند إلى التقسيم الكولونيالي الإبستيمولوجي والأونطولوجي”.[15]
العِرق إذن، هو بمثابة “عملية الهيكلة” النازعة للإنسانية في العالم الحديث. من ثم، يمكن فهم العنصرية بصفتها “مصطلح أدواتي يتم الاستعانة به في تشييد الفروق الكولونيالية والجرح الكولونيالي”.[16] إنها العنصرية التي ظلت تُنتج ويُعاد إنتاجها لقرون، وتساندها “مؤسسات الرأسمالية/الأبوية غربية النزعة/مسيحية النزعة في النظام العالمي الحديث/الكولونيالي”.[17] العنصرية من هذا المنطلق لا تقتصر قط على “التحيز المسبق أو التنميط، إنما هي وقبل أي شيء هيراركية مؤسسية/هيكلية متصلة بمادية الهيمنة”.[18]
كما أن الكولونيالية عالمية، فإن “العنصرة” بدورها عالمية بالقدر ذاته. بناءً على ذلك؛ وعلى ضوء تعريفها المذكور، فإن العنصرية ليست ثابتة وواحدة على مستوى العالم؛ نحن لدينا “أشكال متنوعة من العنصرية”، يمكن أن تكون “مشيدة عبر مختلف التقسيمات العنصرية”.[19] في سياق الإطار النازع-للكولونيالية، فالعنصرية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمحلي، وهي متداخلة دائمًا مع العالمي؛ بما أن “الفارق الكولونيالي” هو حيثما يلتقي العالمي بالمحلي. هذه الأشكال المختلفة للعنصرية تنبثق عن خبرات مختلفة ومحددة وماضية وحاضرة لجغرافيا وجماعة بشرية معينين. العنصرة إذن تتكون عبر عوامل متنوعة يمكن أن تشمل “اللون و/أو الإثنية و/أو اللغة و/أو الثقافة و/أو الدين” مجتمعين أو أحدهما على الأقل.[20] من ثم، بينما كان اللون هو الشكل الغالب للعنصرية في جغرافيات وفترات معينة، فهو ليس على الإطلاق السمة الوحيدة لتشكيل العنصرة.
في السياق ذاته، قال المنظرون للكولونيالبة بأن الدولة/الأمة ذاتها –سواء كمفهوم أو ككيان مادي مُعاش، بأجهزتها المختلفة التي تتراوح من النظام القانوني إلى تأمين الحدود– هي “مؤسسة حداثية” ومن ثم مؤسسة كولونيالية.[21] [22] وفي هذا الصدد، فإن مصطلح “الدول الحديثة/الكولونيالية” قد تم اقتراحه لإبراز فهم أن الدولة الحديثة هي دولة كولونيالية بطبيعتها، على صعد متراوحة من الإبستمولوجي إلى التجربة المُعاشة.
بالتوازي، فإن الباحثين المعارضين للعنصرية، وبينهم من يعملون على موضوع الإسلاموفوبيا، قد ذاع قولهم بالحاجة إلى التفكير فيما وراء قانون الدولة باتجاه السياسات المكافحة للعنصرية و المنادية للتحرر.[23] [24] [25] على ضوء المذكور، فالكثير من النظرية القانونية النقدية حاججت بقوة بأن القانون في المجتمعات ما بعد الاستعمارية، يتطلب بشكل مُلح العمل لنزع كولونياليته إذ يبدو أنه “مستقل ويخلو من السياق”، بينما في الحقيقة هو يعاون الكولونيالية ويعمل في إطارها.[26] [27]على سبيل المثال أوضحت سارة أحمد كيف أن “الردود على العنصرية تنزع لرسم شخصية العنصري بصفته شخص يمكن نسب اتهامات إليه وتقديمه إلى العدالة” في إجراء فرداني قوي، يراكم السلطة في هيكل معين القصد منه التعامل مع حوادث منعزلة و محددة.[28] إن هذا العمل يعني إخفاء الأشكال الهيكلية والمؤسسية للعنصرية وفي الوقت نفسه يصبح فعل المقاومة فيه مُدمجًا في إعادة بناء هياكل القوة الكولونيالية عبر الدولة-الأمة الكولونيالية ذاتها.[29]
فيما يخص الحجاب، فإن عدة مؤلفين قد تصدوا للقول بأن الثياب، التي تتحول إلى سمات وعلامات دالة على العنصرة، أصبحت مسألة تحكمها الآن المركزية الأوروبية، حيث الاختلاف غير مطروح.[30] [31] [32] من هذا المنطلق، فإن الحجاب الإسلامي قد شهد تكييفه قانونًا إلى رمز للآخر في الغرب، غير متفق مع “القيم الغربية”، لتصبح السيطرة عليه وإخضاعه “ضرورة” من ضرورات السلطة السيادية التي تهدف إلى تهيئة ذات قانونية ودينية معينة عبر السيطرة على ما يمكن ظهوره وما يجب إخفاؤه في المجال العام الليبرالي/العلماني.[33] [34]
في هذه النظم القانونية، تبين لنا الدراسات السابقة كيف أن الحجاب يعتبر مسألة سيميوطيقية، حيث الأحكام الصادرة والرسائل المرسلة تخرج في إطار من الفردانية المهيمنة والتصنيف للمفاهيم التي من خلالها تظهر وتتجذر الكولونيالية. في مثال دال على ذلك، فإن هذه الأطر القانونية، من بين التقنيات الكولونيالية الأخرى، تُملي فكرة أن النقاش حول الزي (الديني) لا يدور إلا حيث توجد “أيديولوجية سيميوطيقية غربية… تعطي الصور والإشارات معاني محددة وتزيلها من عمقها الأعرض، ومن دورها كممارسة طقوسية تُسهم في تشكيل ذات غير غربية”.[35] [36]
هذه المنظومة الغربية للفهم، المغروسة في “أيديولوجية سيميوطيقية بروتستانتية”، لارتداء الثياب وللهيمنة القانونية على الجسد وثيابه، تفرض على المرتدية المسلمة موقعًا دونيًا، وتختزل الزي إلى رمز مُعرّف مسبقًا تحتفظ الدولة كجهة سيادة باحتكاره.[37] مع إخفاء أي شيء فيما وراء المعنى الخارجي الثابت، يظهر أن النظام القانوني أداة بموجبها يُعاد تشكيل الثياب في منظومة المؤسسات الكولونيالية، مع نزع ما هو غير غربي عنها و منها.
بناءً عليه، فإن “التجريم” القانوني “للزي الإسلامي” قد تم تأطيره مفاهيميًا كواقع “لربط الماضي الكولونيالي بالحاضر والمستقبل” حيث الفعل السيادي لممارسة السيطرة ليس إلا استراتيجية للكولونيالية الجديدة.[38] من هذا الجانب، فإن بناء الدولة/الأمة عبر السيطرة على الممارسات الإسلامية يعد أمرًا مفهومًا في ذاته بصفته استمرارية للماضي الكولونيالي، وكاستراتيجية لإرساء الحاضر/المستقبل الكولونيالي، حيث يمارس القانون عمله كمُيسّر لأجندات إمبريالية سياسية معينة.[39] هنا يصبح النظام القانوني مجالًا “يُهيئ المساحة السياسية لهذه الأجندات” ويجعلها استعمارًا “لقالب إبستمولوجي تُنتِج من خلاله المعرفة”.[40]
مع التركيز على الشمال العالمي، قلما تم تكملة هذه الجهود البحثية القيّمة ببحوث إمبريقية، لا سيما من الجنوب العالمي أو في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، وقلما تم مد التنظير إلى فحص دور الدولة والقانون –لا سيما في المجتمعات المستعمرة سابقا – في مقاومة العنصرية. في الفقرات القادمة، أبدأ في محاولة سد هذه الفجوة.
مجال العمل: من التمييز ضد الحجاب إلى مقاومة المحجبة
أثناء البحث الميداني، تبين وجود حالات بلا حصر من تجارب إخضاع النساء المسلمات المحجبات. في ظل خطاب الكراهية والعدائية-الدقيقة والتمييز الصريح، القائم تحت مظلة مبررات عديدة وفي مجالات الحياة المختلفة من الخاص إلى العام؛ فإن سؤال التمييز في العمل بدا بارزًا ومُلحًا. بذلك، في هذه الورقة، سوف أحدّ من عرضي السريع للتمييز في مكان العمل أثناء رسم وتطوير الحجج التي تقوم عليها الورقة نظرًا لكثرة التجارب التي اطلعت عليها منالمشاركات التي تركز على العمل، وحقيقة أن هذا المجال يتم إخراجه عادةً بصفته مجال اجتماعي مميز له منطقه الخاص به:
ثم هناك العمل! عندما تقدمين للعمل يحدث الشيء نفسه. إنهم يبحثون عن غير المحجبات. أنا درست علم النفس. وبعض الأشياء التي تسمعيها عند التقديم على عمل بهذا المجال: كيف يمكن أن تكون أخصائية نفسية ومحجبة؟ هذا لا يمكن، لا يمكن، لن تكون أخصائيتنا النفسية محجبة. لا. [بهية]
المشاركة 1: وهناك المزيد. هناك شركات وإعلانات وظائف يقولونها صراحةً ضمن متطلبات الوظيفة: غير محجبة.
المشاركة 2: نعم، نعم هناك أولئك أيضًا. هناك أماكن عندما تتصلي بها يقولون لك فورًا: هل أنت محجبة أم لا؟ وإذا قلت محجبة، فإن الرد يكون: لا هذا لا ينفع معنا.
المشاركة 3: تقدمت بطلب عمل بمدرسة مرة. ومنذ بداية المقابلة، قالت لي: انظري يا آنسة، سأقول لك الأمر صراحةً، نحن لا نعيّن محجبات. وهكذا انتهى الأمر. [مجموعة النقاش المركز بمدرسة الإيمان].
تمت فلترة المحجبات بعيدًا عن التوظيف، وتبين أن العنصرةالمؤثرة على عمل النساء المسلمات المحجبات في الغرب ظاهرة عالمية، كما يظهر من بياناتي بقوة.[41][42] في دولة حيث تعد سياسات الرعاية و الأمان الاجتماعي مفاهيم خارجية وغريبة؛ نظرًا لحقائق الاقتصاد بلبنان، فإن هذا الإقصاء من مكان العمل يعد أثرًا خانقًا من آثار التمييز ضد المحجبات، ويبدو أن أثره هنا أكبر من أثره في الغرب:
كمحجبة، عانيت كثيرًا للعثور على وظيفة، لا يمكن للمرء أن يبقى بلا عمل… تقدمت لعملٍ ذات مرة، قدمت السيرة الذاتية، لكي أعمل في الخليج، في شركة، عبر وكالة توظيف لبنانية. وصلت قبل موعدي وجلست أنتظر. ثم جاء موعدي. كان الناس يجلسون من حولي، يدخلون وتتم مقابلاتهم بالداخل، ثم جاء موعدي ومر دون أن أدخل. رحت أنتظر وأنتظر. لم تناد الموظفة على اسمي لإجراء المقابلة. جلست هكذا خمس دقائق ثم عشر دقائق ثم ربع ساعة ثم ثلث الساعة… ثم نهضت أخيرًا وقلت لها أنني وصلت قبل موعدي، وأن الموعد قد مرّ، لكن لم يتم النداء على اسمي. قالت: “آسفة، لكنك محجبة، وهم لا يقومون بتعيين المحجبات”. [مها].
فيما بعد، قالت لي مها، الشابة البيروتية، أن شركة التوظيف كانت “مسيحية”، وإنها كانت تعرف أنهم لن يقوموا بتعيينها أبدًا. لكنها كانت تأمل في خلاف ذلك بما أن التعيين لشركة في الخليج، ما يعني أن أمامها فرصة. يبدو أن هذا لم يكن تقديرًا سليمًا. والسبب في تقديرها “أن اللبنانيين يقومون بالسيطرة على هذا الأمر”، إذ لا يرغب اللبنانيون أبدًا في أن يرى الآخرون “المحجبات، لأن ليس هذا هو المظهر الذي يريدونه لدولتنا”:
يقولون في إعلان الوظيفة صراحة “غير محجبة”. يكتبون: عدم ارتداء الحجاب شرط ضروري. الحجاب لا يعجبهم كلبنانيين. [فاطمة].
في سياق تحليل هذا، أقول بأن المسألة تتمثل في أن لبنان بعد العهد الاستعماري، واللبنانيين، قرروا أن المحجبات غير مؤهلات بشكل عام للحصول على عمل، وأن عملهم أقل قيمة من الغير. سواء داخل البلد أو فيما يتصل بإرسال العمالة الماهرة إلى الخارج، لا سيما إلى الخليج، تم إقصاء الحجاب وطرده بما أن أجساد النساء أصبحت مواقعًا أساسية لوصم مجتمعات أعرض، مع استخدامها كأداة في غرس هيراركية اجتماعية معينة. هنا، استند اختراع الأمة مرة تلو المرة إلى خطابات عالمية متداخلة مع البنى العنصرية الكولونيالية، كما تبين من كلام المشاركات في البحث.
في مثال آخر دال، هو حالة رباب، وهي مهندسة شابة من بيروت كانت تعيش وتعمل في قطر لصالح شركة لبنانية على مدار سنوات، قبل أن تقرر العودة إلى لبنان مع زوجها. بالعودة إلى بلدها، صادفت حجابها وكأنه موقع للتمييز والإقصاء من العمل، رغم أنها استمرت بالعمل في الشركة نفسها:
عاملوني بشكل مختلف تمامًا [في لبنان]. وأوضح مديري لي صراحةً “بسبب حجابك، لا يريدون أن تعملي [في فرع لبنان]، لكني أجبرتهم على قبولك هنا، لكن لم يرغبوا في أن تعملي هنا بسبب حجابك”. في حقيقة الأمر قلل [مدير الموارد البشرية] من راتبي… عندما ذهبت لتوقيع العقد وجدت أنه أقل بواقع 400 دولار. هذا كثير، من 2000 إلى 1600 دولار. سألت عن السبب وقال إنه لا يعرفني بعد. فقلت له: “ماذا تعني بأنك لا تعرفني، أنا أعمل للشركة! أنت مدير الموارد البشرية الإقليمي، ليس للبنان فقط لكن للبنان وقطر! لا يمكنك أن تقول إنك لا تعرفني”. قال إنه يريد أن يجربني. في نهاية المطاف قلت لا، أنني لن أقبل. ثم قال إنه يمكن أن يضيف 100 دولار لكني لم أقبل، لكن المدير تكلم معي وقال إن هذا سيكون لفترة مؤقتة والسبب هو الحجاب، لكنهم سيصلحون الأمر، لكنه لم يُصلح مطلقًا بالطبع. [رباب]
في كندا، تبين أن خفض الأجور تقنية أساسية من تقنيات الترتيب الاجتماعي العنصري، حيث يتم إحداث “قلة الحيلة” مع “تقييم عمل النساء الملونات أقل بشكل مضاعف من قيمة الغير، بناءً على خليط من الأيديولوجيا العنصرية الجندرية والعرقية”.[43] يبدو أن الوضع في لبنان لا يختلف كثيرًا.
على مستوى مختلف، فإن هذا الإخضاع يخضع لعدة عوامل: الجغرافيا، وهوية المؤسسة، ومدى محافظة الرداء، ومستوى الوظيفة. في حين لا يمكن استكشاف هذه العوامل المختلفة بشكل كامل عبر صفحات هذه الورقة القليلة، فهي عوامل جديرة بالتوضيح:
أغلب تلك المصارف، إذا ذهبت إلى فرع الحمراء [منطقة ببيروت]، فلا سبيل هنالك للحصول على وظيفة. إذا ذهبت إلى فرع الضاحية [الضاحية الجنوبية ببيروت] سيقبلون بالواقع بعض الشيء هنا: قد تجدي هناك محجبة مثلًا. بالطبع هناك ثياب معينة هي المسموح بها، إذن هي خطوة أولى، صغيرة نعم، لكنها خطوة أولى. بالنسبة للفتاة التي ترتدي العباءة، لا زال من غير الممكن لها أن تعمل في مصرف. هذا أمر غير مقبول تمامًا. الفتاة التي ترتدي الإيشارب [حجاب محافظ]: قطعًا لا أيضًا. لكنهم تجاوزوا فوبيا الحجاب هناك. هذا أمر جيد. [زينب]
المناطق الإسلامية –ويجدر بنا قول هذا هنا– ليست المناطق التي بها أغلبية مسلمة. إنما هي مجموعة من الفضاءات المحدودة حيث “حركات الإسلام السياسي” لها وجود قوي وحيث المعايير الثقافية تغيرت نسبيا، كما أوضحت لي المشاركات في البحث. في نهاية المطاف، هذه أماكن قليلة ومتفرقة على هوامش البلد، على “حدود الحداثة” كما كشف بحثي الميداني. عمليًا، عندما يتعلق الأمر بالعمل، فهذا التعريف يبدو أنه منكمش يتجاوز قليلا حدود الضاحية الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية. لكن كما تبين لي، حتى في الضاحية، فهذا الاستثناء محدود:
سؤال العمل، ثمة مشكلة كبرى في هذا الصدد: إنه أمر نادر الحدوث أن يقبلوا المحجبات. في الضاحية، تجد الأمرين [القبول وعدم القبول]. لكن هناك مضايقات عندما يتعلق الأمر بالعمل في كل مكان. مثلًا إذا أرادت المرأة أن تعمل بائعة [في الضاحية] فهناك زي معين هي مضطرة لارتدائه. في المصارف أيضًا. ثم هناك التبرج، والثياب الضيقة والسراويل [عليك ارتداؤها]… حتى لدى قبولهم الحجاب هنا [في الضاحية] فهم يقبلونه بشروط. وبالنسبة لمن ترتدي العباءة؟ لا هذا نادر الحدوث. وإذا رأيت امرأة ترتدي عباءة وتعمل ستندهش للغاية: حقًا؟ هل حصلت على وظيفة؟ رائع أنهم قبلوها!” [زهرة]
المشاركة 3: حتى في مجتمعنا الديني، داخل الضاحية، هم يفضلون ألا ترتدي المرأة العباءة لأن هذا أفضل.
المشاركة 1: يحدث هذا دائمًا، ما إن تصل إلى المقابلة، يقولون: نعتذر.
المشاركة 2: وكان لدينا ذلك المركز للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة [في الضاحية] وكانت تلك الفتاة ترتدي عباءة. قالوا لها: نقبلك لكن عليك تغيير العباءة لأن هذا المظهر ينعكس سلبًا على الأطفال… [مجموعة النقاش المركز 2].
هذه المقتطفات من حديث المشاركات في البحث تشير إلى أن المكان الذي غالبا ما يعتبر الأكثر محافظة في لبنان (الضاحية) تم فيه بدوره إقصاء بعض اللبنانيات من العمل إذ أن ردائهن يعد “سلبيًا” على الأطفال وقد يشوه سمعة مكان العمل. بالفعل تشير بياناتي إلى أن المحجبة تم عنصرتها و أن الحجاب قد تم وسمه وتحول إلى شكل من أشكال التلوث، حيث يهدد العمل وصورته ونجاحه وانتماءاته. تبين أن الحجاب غير مقبول ولا يمكن قبوله. بذلك يظهر من البيانات أن هناك مبالغة كبيرة في الحديث عن خصوصية النطاق الإسلامي لحزب الله في الضاحية الجنوبية ببيروت.
وفي مثال آخر، هناك “المول التجاري” بصفته مساحة حداثية معولمة استهلاكية للترفيه، مساحة للذات الحديثة،تبين أنها بدورها مساحة لا ترحب بالحجاب. فرص الحصول على عمل للمحجبة أفضل في المتاجر والأماكن الصغيرة، خاصة مع إقصاء المحجبات أكثر من العديد من “المهن المحترمة اجتماعيًا”. هذه الأماكن –بالنظر إلى اعتبارات الاستعمار المباشرو علاقلات الشمال/الجنوب– يبدو أنها “ليست من هنا، هي أماكن دولية، بها براندات من مناطق كثيرة حول العالم” وأنها بذلك من مقومات محو المحجبات.[44] في لبنان، وهو مثال رئيسي على النظام النيوليبرالي، تعنصر المحجبةعلى أنها غير مناسبة وأقل من مستوى التوقعات التي فرضتها الحداثة، ومكانها خارج السوق النيوليبرالية العالمية.
في مواجهة هذا الواقع، أثناء البحث الميداني، كثير من النساء عبرن عن رغبتهن في ارتداء الحجاب، ولكنهن لا يتمكن من فعل ذلك. من خلال منع ظهور المحجبات، ودفعهن إلى الغياب، تتم المحافظة على صورة لبنان ويمكن إعادة إنتاج وإبراز الهوية المتخيلة للأمة وتثبيتها عبر ومن خلال سوق العمل. أقول بأن هذه حالة قوية من “التغييب” فيما يتعلق بمسألة كولونيالية الوجود-المعاش.[45]
على امتداد العمل الميداني، و في ظل هذا القمع أوضحت المشاركات أن الدولة –التي يمكن تنظيرها بصفتها مؤسسة لحماية المحجبات من التمييز الذي يتعرضن له– تفعل العكس، إذ هي مؤسسة تعظم وتكبر من القمع العنصري والتهميش للمحجبات. من هذا المنطلق، مع تخيل الدولة اللبنانية فضاءً متحررًا وحداثيًا وغربيًا، أصبحت الدولة “غير مرحبة” وغير متسقة مع المحجبات، كما أكدت المشاركات في البحث بقوة. من حظر دخول المحجبات الى العديد من مؤسسات الدولة، إلى الصورة المتخيلة في و من الدولة حول المرأة اللبنانية بصفتها أيقونة للجمال والموضة والحداثة، لا يمكن للدولة-الأمة هنا أن تحمي المحجبات، ولا أن تكون حليفة لهن:
الدولة اللبنانية [تستبعدنا لأنها] ترغب في وجود اللبنانيات غير المحجبات. لماذا تُقصينا؟ لماذا تميز ضدي؟ أنا لبنانية مثلك! في نهاية المطاف لا يرغب الناس في طرابلس في الدولة، ولا يتعاملون معها ولا ينتمون إليها. الناس مهمشون للغاية ويشعرون بالظلم منها. [لما] [الدولة] إقصائية للغاية. مثل الآن، أين فتحوا [فرص العمل]؟ في الجيش والأمن الداخلي، والآن فقط بدأوا يسمحوا بتعيين محجبات. لكن ماذا يحدث بهذه الأماكن؟ ما نوع الرداء الذي يتعين على الموظفة ارتدائه؟ ما الذي سمحوا به لها؟ أن تعمل جندية؟ في أية وظيفة؟ [تلى]
كل هذه القوانين، إنها معركة لا تنتهي ضدهن. علينا أن نكون في معركة دائمة إذا أردنا أن نرتدي الحجاب بكرامة. في السجن وفي المؤسسات العامة وفي كل مكان. الأمر مرهق للغاية. [راندا]
اتساقًا مع المذكور، عندما سألت المشاركات عن سبل المقاومة لهذا الإخضاع، أشارت إجاباتهن دائمًا إلى جهود فردية، للضغط على المجتمع المحلي والعائلة والشبكات، والتماس مؤهلات مثل التعليم العالي والخبرات المختلفة. لم تذكر أي منهن الدولة أو النظام القانوني. هذا الغياب للدولة يستحق التركيز، وهو كاشف للغاية، لا سيما لكونه يبدو قائمًا عبر مختلف المناطق، والطبقات، والنصيب من التعليم، والشرائح العمرية.
في هذا الصدد، عبّرت الكثير من المشاركات أن النظام القانوني والمؤسسات المتصلة به “غير ذات صلة” حقًا، لا سيما خارج العاصمة. الاستعانة بالشرطة المحلية في أمر يعتبر هو الأساس والسائد في الدولة –رفض عمل المحجبات– سيكون أمرًا مستدعيًا للضحك والتعجب، كما أكدن لي عندما سألتهن عن هذا الأمر مثلا. مع سؤال المشاركات إذا كُن يفكرن في رفع دعاوي ضد المؤسسات وأصحاب العمل الذين يميزون ضدهن بشكل سافر، قيل لي أنني لا أفهم كيف هو الأمر في لبنان. عند نقطة التقاء الفساد مع الحداثة، لن تؤدي هذه الجهود مطلقًا لتحصيل المحجبة لحقوقها، كما أوضحن لي. لدى السؤال إن كانت المشاركات مهتمات بمنظمات تستطيع تقديم قضية التمييز ضدهن عبر القنوات القانونية ، ولو حتى دون رسوم، قلن إن هذه المساعي لن تؤمّن عمل مناسب لفترات طويلة، ولن تحل مشكلة التمييز ضدهن في لبنان. الحلول المطلوبة أكبر ، كما قيل لي.
كما قالت إحدى المشاركات في مجموعة نقاش مركز، بعد نقاش مطول حول مشاعرها وعلاقتها بكل من الأمة والدولة: “هذا البلد رفضني. مع كل حبي… لأي مدى يمكن أن أنتمي أو ألجأ إليه بعد هذا؟” [مجموعة نقاش مركز 1]. في هذا الصدد، أوضحت المشاركات أن الاعتقاد بأن البلد يمكن أن يشكل أساسًا “للكرامة” لمن ترتدي الحجاب –وهي تعد مسلمة مُشيدة صورتها بصفتها “رجعية” و”تفتقر” إلى الكثير في المخيلة الحداثية– هو اعتقاد في غير محله تمامًا. هذا –كما أوضحن– يفاقم منه غياب الدولة العام، وإخفاقها في توفير الخدمات الأساسية مثل المياه النظيفة والكهرباء والقضاء غير الفاسد.
الانتصاف للمشاركات في البحث –حسبما فهمت– يتطلب تغييرًا شاملًا في منظومة ما بعد الاستعمار التي نهضت عليها الدولة/الأمة اللبنانية، وتكسيرًا لتداخلها مع الكولونيالية العالمية على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هذا بالطبع لم يكن فقط منحصرا بموضوع الحجاب أو العنصرية المناهضة للإسلام، لكن هذه القضايا مرتبطة بالطبع بلبنان بشكل أوسع حيث تظهرأسئلة كبرى حول علاقة المواطن بالدولة تكون من خلالها اعادة تخيل بلدولة/الأمة اللبنانية وسبب وجودها ذاته.
يجب الإقرار بأن بعض التحسن قد طرأ في لبنان على مدار السنوات الأخيرة، مثل السماح للمحجبات (تحديدًا من يرتدين حجابًا أقل محافظة) بدخول (فروعًا) للقوات المسلحة اللبنانية على سبيل المثال. و لكن يجب أيضا ذكر تقديم المشاركات هذه الأمور بصفتها نتاجًا لجهود المحجبات وسعيهن ضد الدولة ورغمًا عنها، وليست هي جهود من الدولة وأجهزتها التي تغيرت بشكل إيجابي لجلب أوجه التحسن هذه.و يبقى هذاتقدم معقد، ويستحق تحليلًا منفصلًا يشمل الظرف الجغرافي السياسي والديموغرافي، ويتناول عجز الدولة والفساد و التحمل الذي يكمل في مسار المحو.[46]
في النهاية، في سياق مناقشة هذا القمع وسبل مقاومته، يصبح من الواضح أن الشرطة والقانون وأي مؤسسة بالدولة لن تكون مصدر حماية، أو جهة لتأمين الحقوق، أو الشكل الأساسي للمطالبة بالإنصاف بالنسبة للمحجبات اللبنانيات. هناك إحساس واضح بالإقصاء وتصدع العلاقة مع الدولة ومؤسساتها، حيث تُعبّر المحجبات عن عدم قدرتهن على الانتماء، ناهيك عن المطالبة بالإنصاف، في فضاء يحتجن فيه للكفاح لمجرد النظر إليهن بصفتهن بشرًا.
خاتمة
ربما يخرج من يقول بأن رفض المشاركات اتخاذ إجراءات قانونية أو اللجوء لأجهزة الدولة لمقاومة التمييز الذي يتعرضن له هو مشكلة تتطلب العلاج، أو نتيجة لجهلهن بسلطة الدولة وقدراتها، أو واجبها ومسئولياتها إزاء حماية الممارسات الدينية. لكن ردًا على هذا، أقول بالعكس، بأن رفض المحجبات اللجوء لمؤسسات الدولة ينبع من فهم عميق للعمق الكولونيالي للدولة، والآليات العمل الحالية للدولة/الأمة اللبنانية، فضلًا عن فهم الهيكلة الكولونيالية للقانون الحديث.
من هذا المنطلق، أستند إلى التأطير النازع-للكولونيالية للدولة/الأمة الحديثة، وإلى النظرية النقدية في فهم الكولونيالية، في القول بأن الدولة/الأمة اللبنانية الحديثة، ونظامها القانوني ، يعملن كوسيط للكولونيالية، ويتنكرن في صورة الطرف المحايد أو القائم من أجل الجميع، في حين أنها تدفع بنظام كولونيالي أوروبي النزعة بصفته الحقيقة الوحيدة القائمة. في هذا، أدعو إلى الانصات واحترام رفض النساء المحجبات للدولة في سعيهن لمكافحة العنصرية –وليس نزع الشرعية والدعوة “للعلاج” من الجهات محلية كانت أو دولية. كما أقول بأن هذا الفهميُتيح لنا رؤى تتجاوز الحالة الراهنة في لبنان بناء على تنظير الكولونيالية على أنها هيكل قوة عالمي، ما يثير الحاجة إلى أبحاث موازية عبر مختلف السياقات الجغرافية والوطنية.
يحاجج ميغنولو بأننا لكي نتحرك بشكل نازعللكولونيالية، علينا أن نبدأ في “تخيل بدائل قالب الدولة، والتفكير في إمكانات الحُكم العديدة والثرية”.[47] من هذا المنطلق ونظرًا للتحديات الراهنة، نحتاج أيضًا إلى تخيل بدائل للمقاومة ضد العنصرية التي تعتمد على قالب الدولة وتحيل إليه. بالتالي، مع إظهار جسامة الضرر اللاحق بالمحجبات، يبرز لنا سؤال أشكال المقاومة البديلة وفصل التعلق بالدولة وتجاوزها، بصفته سؤال مهم وحيوي.
أخيرًا يجدر ذكر أن المعاني المادية و العملية السياسية للحجة التي سقتها في هذه الورقة هي معاني مشتبكة ومعقدة. في هذا السياق، من الضروري التركيز على أنها ليست بأي شكل حجة تقول بأن التقدم أو الإنجاز لا يمكن أن يتحققان عبر مكافحة العنصرية أو استعادة الحقوق عبر الدولة ومؤسساتها، سواء عبر الشرطة أو القضاء مثلا. الحق أن مثل هذا التصريح يعد اختزاليًا وفي غير محله. الأهم هنا أنه لا سبيل لاعتبار ما قدمته من حجج بمثابة نزع لشرعية هكذا محاولات أو اصدار حُكم قيمي عليها. الشرعية في إطلاق مثل هذا الحكم هو منوط بالمجتمع المعني الذي تم تهميشه.
على أن ما سعيت لتقديمه هنا هو دعوة وتحفيز على إعادة النظر في المحاولات التي تركز على إطار الدولة بصفتها القالب الأول أو الوحيد للمقاومة، والدفع إلى التفكير فيما وراء، وبعيدًا عن، الدولة/الأمة وأجهزتها. أي أنها دعوة للبدء في حوار وتخيل لأشكال المقاومة المغروسة في تجارب المهمشات أنفسهن، مع احترام معارفهن وبالاتساق مع الآفاق التي يتحركن في ظلها.
[1] يل، علي مُراد، وألبرسلان ناس (2014)، حول الإسلاموفوبيا: حُكم مشهدية أسلوب الحياة الإسلامي بالأماكن العامة في تركيا (‘Insight Islamophobia: Governing the Public Visibility of Islamic Lifestyle in Turkey,’)، الدورية الأوروبية للدراسات الثقافية 17(5)، ص ص 567 – 84، ص ص 568.[2] طرابلسي، فواز (2007)، تاريخ لبنان الحديث (A History of Modern Lebanon). (مطبعة بلوتو)، ص 75.[3] فيرو، كيس م (2002) اختراع لبنان: الوطنية والدولة في ظل الانتداب (Inventing Lebanon: Nationalism and the State Under the Mandate). (لندن، المملكة المتحدة: أي بي تاوريس).
[4] اتفاق الطائف هو اتفاق تم توقيعه بمدينة الطائف في السعودية، لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية ووضع نظام ما بعد الحرب. للاطلاع على تحليل للاتفاق، يُرجى الرجوع إلى عبد الله، غسان (2003)، “نظام لبنان السياسي: تحليل لاتفاق الطائف” (Lebanon’s Political System: An Analysis of the Taif Accord)، (رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة هيوستن).
[5] تبار، بول (2014)، “الكنيسة المارونية في لبنان: من بناء الدولة إلى مؤسسة دياسبورية/عبر وطنية” (The Maronite Church in Lebanon: From Nation-Building to a Diasporan/Transnational Institution) في: فرانسوا دي بيل أير (محرر)، الهجرة والسياسة في الشرق الأوسط (بلايموس، مطبعة ديلا-إف بي او).
[6] طرابلسي (2007) تاريخ لبنان الحديث…
[7] ميغنولو (2012)، التواريخ المحلية/التصميمات العالمية… (Local Histories/Global Designs).
[8] السابق.
[9] فازكويز، رولاندو (2012)، “نحو نقد ضد-كولونيالي للحداثة: بوين فيفير، والعلائقية، ومهمة الإنصات” (Towards a Decolonial Critique of Modernity: BuenVivir, Relationality and the Task of Listening)، في: راؤول فورنيت-بيتانكورت (محرر)، رأس المال والفقر والتنمية، تناقض وحوار (ماينز، آشين: فيسنشافتسفيرلاغ).
[10] مالدونادو-توريس، نيلسن (2010)، “زمان وفضاء العرق: أفكار حول علائقية ديفيد ثيو غولدبرغ والمنهجية المقارنة” (The Time and Space of Race: Reflections on David Theo Goldberg’s Interrelational and Comparative Methodology)، أنماط التحيز المسبق، ص ص 77-88.
[11] ميغنولو (2012)، التواريخ المحلية/التصميمات العالمية.
[12] غروسفوغويل، رامون (2010)، “الإسلاموفوبيا الإبستمولوجية والعلوم الاجتماعية الكولونيالية” (Epistemic Islamophobia and Colonial Social Sciences)، المعمار الإنساني: دورية سوسولوجيا المعرفة الذاتية، 8 (2)، ص 74.
[13] غروسفوغويل، رامون (2016)، “ما هي العنصرية؟” دورية بحوث النظام العالمي 22 (1)، ص ص 9-15.
[14] السابق، ص 10.
[15] ميغنولو، والتر دي (2009). “من يتحدث عن “الإنسان” في حقوق الإنسان؟” (Who speaks for the ‘Human’ in Human Rights?) قضايا إسبانية على المحك 5 (1)، ص ص 7-25، ص 17.
[16] ميغنولو (2012)، تواريخ محلية/تصميمات عالمية.
[17] السابق، ص 10.
[18] السابق، ص 11.
[19] السابق.
[20] السابق، ص 10.
[21] غروسفوغيل، رامون (2011)، “نزع كولونيالية الدراسات ما بعد الكولونيالية ومناظير الاقتصاد السياسي: عبور الحداثة والتفكير الضد-كولونيالي والكولونيالية العالمية” (Decolonizing Post-Colonial Studies and Paradigms of Political-Economy: Transmodernity, Decolonial Thinking, and Global Coloniality)، دورية الإنتاج الثقافي الهامشي للعالم اللوسو-هسبانيك (1).
[22] وونس، مارك وسباستيان فير (محرران) (2017) الإبستمولوجيات الناقدة للسياسة العالمية (Critical Epistemologies of Global Politics) (العلاقات الدولية الإلكترنية).
[23] أحمد، سارة (2012)، عن الدمج: العنصرية والتنوع في الحياة المؤسسية (On Being Included: Racism and Diversity in Institutional Life) (مطبعة جامعة دوك)..
[24] عزيز، سحر ف. (2014)، “التماثلية الإكراهية: مخاطر الأداء الهوياتي للمرأة المسلمة في مكان العمل” (Coercive Assimilationism: The Perils of Muslim Women’s Identity Performance in the Workplace) (نيويورك: شبكة بحوث العلوم الاجتماعية).
[25] لينتين ألانا (2011)، “ماذا يحدث لمعارضة العنصرية عندما نتجاوز العرق؟ (What Happens to Anti-Racism When We Are Post Race?) الدراسات القانونية النسوية 19(2) ص ص 159-168.
[26] باريتو خوزيه مانويل (212) “استراتيجيات نزع الكولونيالية والحوار في مجال حقوق الإنسان: مانيفستو (Decolonial Strategies and Dialogue in the Human Rights Field: A Manifesto) ” النظرية القانونية العابرة للقومية 3 (1) ص ص 1-29.
[27] ليما، خوزيه إدميلسون دي سوزا، روبرتو جوزيه كوفاياكوسيب، وخوزيه إدميلسون دي سوزا ليما، وروبرتو خوزيه كوفايا كوسوب (2019)، “الانعطافة الضد-كولونيالية والقانون: ما وراء القيود الكولونيالية” (Decolonial Turn and the Law: Beyond Colonial Restrains) دورية ريفيستا ديريتو ي براكسيس 10 (4)، ص ص 2596-619.
[28] أحمد (2012) عن الدمج ص 150.
[29] بيكال فييرا، وكيمبرلي برايسون (2016) كيف علينا أن نشرع ضد خطاب الكراهية؟ نتائج من نموذج دولي في سياق عالمي” في: جنيفر شويب ومارك أوستن والترز (محرران) عولمة الكراهية: تدويل جرائم الكراهية؟ (How Should We Legislate against Hate Speech? Finding an International Model in a Globalized World) (أوكسفورد: مطبعة جامعة أوكسفورد).
[30] برايسون، كيمبرلي (2019) “عن الأجساد والبوركيني: الإسلاموفوبيا المؤسسية والزي الإسلامي والظرف الكولونيالي” (Of Bodies and Burkinis: Institutional Islamophobia, Islamic Dress, and the Colonial Condition) دورية القانون والمجتمع 46 (1) ص ص 55-82.
[31] الساجي أ (2010)، ردكلة الحجاب الإسلامي: تحليل فلسفي” (The racialization of Muslim veils: A philosophical analysis)، الفلسفة والنقد الاجتماعي 36 (8) ص ص 875-902.
[32] بالدي، جيورجيا (2017)، “الآخرون المرئيون: قراءة الهوس الأوروبي بالحجاب”، (Visible Others”: A Reading of the European Obsession with the Female Veil) السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا 5 (8)، ص ص 677-87
[33] السابق.
[34] بي، سوريا (2018)، المراقبة والقوة والمتعة: لماذا الحجاب ليس بمشكلة” (Panopticons, Power and Pleasure: Why the Hijab Is Not a Problem) دورية شؤون الأقلية المسلمة 38 (1)، ص ص 139-141.
[35] بالدي (2017)، “الآخر المرئي”
[36] محمود، صبا (2015) الاختلاف الديني في عصر علماني: تقرير أقلية (Religious Difference in a Secular Age: A Minority Report) (برينستون: مطبعة جامعة برينستون)، ص 33.
[37] بالدي، (2017)، “الآخرون المرئيون”.
[38] برايسون (2019) “عن الأجساد والبوركيني” ص 62.
[39] السابق ص 68.
[40] السابق ص 58.
[41] عبد الهادي، إيمان (2019)، “الحجاب وتوظيف النساء المسلمات في الولايات المتحدة” (The Hijab and Muslim Women’s Employment in the United States)، بحوث في التقسيم والحراك الاجتماعي 61 (يونيو/حزيران) ص ص 26-37.
[42] قورة، فاطمة (2018)، “فهم الإسلام: الحجاب وأماكن العمل الأمريكية” (Navigating Islam: The Hijab and the American Workplace,) مجتمعات 8 (4) ص 125.
[43] غوبتا، تانيا داس (2018) العنصرية والعمل مدفوع الأجر (Racism and Paid Work) (مطبعة جامعة تورنتو).
[44] هذه الرؤى تثير الحاجة إلى قراءة جديدة لمختلف اتجاهات الكتابة الناقدة عن الظروف المعاصرة للعمل. من الأمثلة الأساسية هنا فرضية هنري ليفيفر عن استعمار الحداثة للحياة اليومية حيث الأماكن خاضعة للتسليع تحت لواء بنى قوة محددة. لكن يبقى هذا التأمل خارج نطاق هذه الورقة.
[45] فازكويز، رولاندو (2012) “نحو نقد ضد-كولونيالي للحداثة”.
[46] حول التسامح/التقبل انظر: براون، ويندي (2009) تنظيم الجفاء: التسامح في زمن الهوية والإمبراطورية (Regulating Aversion: Tolerance in the Age of Identity and Empire) (مطبعة جامعة برنستون).
[47] وونس وفير (محرران) (2017) الإبستمولوجيات النقدية للسياسة العالمية (Critical Epistemologies of Global Politics)، ص 15
Read this post in: English