نُشر كتاب “التحول الديمقراطي ضد الديمقراطية” مؤخرًا في عام 2020 كجزء من سلسلة الاتحاد الأوروبي في الشئون الدولية، والتي تُصدرها شركة النشرالدولية بلجراف ماكميلان. وهو كتاب يقدم جرعة دسمة من المحتوى المنهجي والنظري والتجريبي حول العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويُوظّف الكتاب كمية هائلة من بيانات الاستقصاءات التي تغطي نطاقًا واسعًا من القضايا وثيقة الصلة بالتنمية والتحول الديمقراطي. ونظرًا لما يحمله الكتاب من بيانات نوعية وكمية، فإن قراءته واجبة، ليس فقط على الطلاب والمشتغلين بتدريس القضايا ذات الصلة بالتنمية في منطقة الشرق الأوسط أو على نطاق أوسع في الجنوب العالمي، وإنما أيضًا لأولئك المهتمين بشكل عام بالجوانب المختلفة لعلاقات الاتحاد الأوروبي بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إن النص المتدفق لهذا الكتاب تقوده فكرة بسيطة تمامًا، ولكنها مع ذلك تتمتع بالقوة، حول عدم التطابق بين خطاب الاتحاد الأوروبي حول التنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من جانب، وبين طموحات سكان المنطقة من جانب آخر. وتم إجراء البحث باستخدام التحليل النقدي للخطاب (CDA) –وهي منهجية متعددة التخصصات لدراسة سياق الكلام والنصوص (بما في ذلك التاريخي)– لسردية التنمية في وثائق الاتحاد الأوروبي. وتم قياس نتائج التحليل مقابل بيانات الاستقصاءات التي تم تصميمها لفهم كيفية تناول شعوب منطقة الشرق الأوسط لقضاياها المتعلقة بالتنمية. وتخلص النتيجة الرئيسية للكتاب إلى أن خطاب الاتحاد الأوروبي و”ما يريده الشعب” غير متطابقين بشكل واضح. بالنسبة لمؤلفي الكتاب، فإن ذلك يُعد مؤشرًا على “الافتقار للفهم” أو “الإخفاق” في سياسة التنمية الأوروبية تجاه الجيران الجنوبيين.
وصُممّت بنية الكتاب لتعكس عدم التطابق ذاك؛ بعد المقدمة، يغطي الجزء الأول، والذي يشمل خمسة فصول، مسار وتطور خطاب الاتحاد الأوروبي وسياسته إزاء التنمية باستخدام آلية التحليل النقدي للخطاب. ويتألف الجزء الثاني من خمسة فصول أخرى، تبحث في بيانات استقصائية واسعة النطاق، تم جمعها من أربع بلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومتصلة بخطاب الاتحاد الأوروبي بشأن التنمية؛ وذلك لاختبار وجود تطابق من عدمه بين نتائج الاستقصاءات وفحوى الخطاب.
واستطاع مؤلفو الكتاب الأربعة (آندريا تيتي، باميلا أبوت، فاليريا تالبوت، وباولو ماغيوليني) توضيح عدم التطابق ذاك؛ عبر تحليل كمية ضخمة من وثائق الاتحاد الأوروبي المتعلقة بما يسمى دول جنوب البحر الأبيض المتوسط (SMCs)، وذلك في محاولة لتحديد أولويات الاتحاد الأوروبي في التعامل مع منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
إن الخيط العام المنسوج عليه الكتاب هو استمرار منح الاتحاد الأوروبي الأولوية للحقوق المدنية والسياسية –بالتماهي مع تعريف سطحي وضيق للديمقراطية الإجرائية– على حساب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ورؤية “أكثر عمقًا” للديمقراطية التي تأخذ في حسبانها عدم المساواة في الثروة وعدالة توزيعية أفضل. كذا يناقش الكتاب، بشكل متكرر، أن الاتحاد الأوروبي عندما أولى المسائل الاقتصادية بعض الاهتمام؛ فقد فعل ذلك بشكل عام ضمن إطار رؤية تنموية نيوليبرالية. ويستغرق ذلك النصف الأول من الكتاب بأكمله، قبل أن ننتقل إلى النصف الثاني الذي يُفسّر كيفية عمل تلك السياسات على نحو معاكس لما تريده “شعوب” المنطقة بالفعل.
ويُظهر الكتاب بجلاء “إخفاقات” نموذج الاتحاد الأوروبي للتنمية الذي يحاول “تشجيع” جيرانه الجنوبيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على تبنيه. ويزعم الكتاب أن ما تريده “شعوب” المنطقة هو “وياللمفارقة، […] أقرب بكثير إلى “النموذج الاجتماعي الأوروبي” أكثر مما تعترف القيادة السياسية للقارة”. لو لم يكن من الضروري أن تتقيد عناوين الكتب بالمعايير المتعارف عليها؛ لأصبح عنوان هذا الكتاب: الدمقرطة [بوساطة الاتحاد الأوروبي] ضد [فهم السكان المحليين] للديمقراطية.
وبالرغم من مناقشة موضوعات التنمية بين المناطق “المركزية” و”الطرفية” (أو “شبه الطرفية”)، وذلك من منظور نقدي؛ فإن أوراق الكتاب بالكاد تتناول نظريات التنمية المرتبطة بأسماء من قبيل أندريه جوندر فرانك،[1] سمير أمين،[2] إيمانويل فالرشتاين،[3] وبول باران.[4] ويرى هؤلاء الرواد في نظرية التبعية والنظم الدولية أن من الزائف التفكير في أن التنمية في منطقة ما ليست نتاج تخلّف منطقة أخرى، وذلك في ظل نظام عالمي مترابط من التبادلات غير المتكافئة والتوزيع الدولي للعمل.
لذلك، فإن تقديم عدم إحراز تقدم في التحول الديمقراطي والتنمية على أنه مجرد “فشل” أو “نقص في الفهم” من جانب الاتحاد الأوروبي يتجاهل احتمال أن تضر الديمقراطية العميقة والتنمية الشاملة في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالمصالح الحقيقية أو المتصورة للاتحاد الأوروبي.
لا نزعم القداسة لنظريات التبعية والنظم الدولية للتنمية، وبالقطع يمكن إخضاعها للنقد؛ لكنها كانت تتمتع بمكانة بارزة بشكل كاف منذ ستينيات القرن الماضي، ويُعد إهمالها بمثابة ثغرة جديرة بالانتباه في كتاب نقدي حول التنمية يغطي العلاقة بين “المركز والطرف”.
العرب ليسوا جاهزين للديمقراطية؟
ينتقد الكتاب بشكل منعش النهج القيمي (أي المهمة الحضارية) في أوروبا، وذلك من خلال استخدامه لتحليل البيانات القائم على الأدلة، بل أنه يتحدى بعض أكثر الخرافات الاستشراقية سيئة الصيت. ويُظهر، من بين أمور أخرى، كيف أن الديمقراطية تحظى بدعم قوي في المنطقة، حتى لو كانت القضايا السوسيو-اجتماعية تُعتبر في الغالب أولوية أكثر إلحاحًا، ويناقش أيضًا، بعكس وجهات نظر المستشرقين (الجدد) النمطية، بأن الافتقار للديمقراطية ناجم عن ظروف موضوعية وليس عن غياب الطلب الذاتي. ويؤكد الكتاب في المقدمة –في تحدٍ للعماد الأساسي للمخيلة الاستشراقية – عدم وجود “موقف عربي” واحد، وأنه من غير الممكن افتراض تجانس “الثقافة العربية” أو القيم الفعلية أو الاتجاهات، ولكن بالأحرى توجد اختلافات جوهرية وواضحة بين البلدان”.
وفي مواصلة لهذه الفكرة الرئيسية، ينتقد الكتاب أيضًا التفسير الذي يميل إلى تقديم الديمقراطية باعتبارها مجرد مسألة قيمية، بينما يتجاهل الأسباب البنيوية لمقاومة المنطقة التي تبدو استثنائية للدمقرطة، والتفسير ذو الصلة الذي ينتقص على نحو قاطع من تأثير التحول الاقتصادي والسياسي –أو عدمه– بالقياس إلى إمكانات الآخر السلطوي المتخلف. وتشمل تلك العوامل البنيوية والتاريخية، وفقًا للمؤلفين، آثار الماضي الإمبريالي لأوروبا بالإضافة إلى حاضرها الإمبريالي الجديد، والسعي إلى تحويل المسئولية عن تحقيق تلك الأهداف إلى الآخرين. ويضيف الكتاب “هذا النوع من المركزية الأوروبية أيضًا يجعل من الممكن أن يتصور الاتحاد الأوروبي نفسه كقوة من أجل الخير في السياسة العالمية، أخلاقيًا فضلًا عن سياسيًا واقتصاديًا، بالرغم من أن آخرين يرون أن الاتحاد يسعى وراء “مهمة حضارية” إمبريالية جديدة”.
ويرى الكتاب أن تصدير نموذج الاتحاد الأوروبي يؤدي إلى “فائدة للاتحاد الأوروبي أكبر من دول الجوار”، ومن ثم يلقي بظلال من الشك على نهج الاتحاد الأوروبي القيمي، ويقدمه بدلًا من ذلك كنهج واقعي. وعلى الرغم من أن المؤلفين يعترفون بأن مثل هذا النهج الواقعي ربما لا يخدم المصالح طويلة الأمد للاتحاد الأوروبي نفسه، فإنه من السهل أحيانًا أن نفقد أثر ما يدافع عنه الكتاب كبديل للنموذج الحالي بشكل ملموس، وذلك عندما ينتقد السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي التي تركز على الأهداف قصيرة المدى؛ إذ يبدو أن الكتاب يدافع عن توظيف “نفوذ” الاتحاد الأوروبي لخدمة بعض الغايات التقدمية. ولكن أكثر من كونه نهجًا واقعيًا، فإن هذا النهج ذاته يخاطر باعتباره نهجًا قيميًا (أي مهمة حضارية)، وهو ما ينتقده الكتاب بحزم. إذ يشير الكتاب إلى أن “المشروطية […] لا تزال غير مُطبَّقة، كما يواصل الاتحاد الأوروبي إظهار عدم الرغبة في ممارسة النفوذ الذي يتمتع به في المنطقة –على الأقل، ليس في اتجاه تقدمي”.
وبرغم لغته النقدية الصريحة، فخلال سعي الكتاب للمجادلة بشكل فعّال بأن سياسة الاتحاد الأوروبي في المنطقة لا تلبي ما يرغب فيه العرب، فإنه تقريبًا يمضي بإصرار في الافتراض ضمنيًا بتطابق الموقف العربي. ويبدو أن التناقض في الكتاب يكمن في محاولته للبرهنة على عدم تطابق خطاب وأداء الاتحاد الأوروبي مع ما يريده العرب؛ بينما يجادل بأن ما تريده الشعوب ليس الشيء ذاته (أي الموقف الواحد). إن الكتاب في استخدامه لـ “الشعب العربي” كوحدة كاملة –استنادًا إلى استقصاءات من أربع دول فقط ناطقة بالعربية والتي غالبًا ما تُظهر تفاوتات بين الدول وأيضًا داخل كل منها– غالبًا ما يورد عبارات مثل: “إننا نفحص مواقف المواطنين العرب تجاه الديمقراطية وحقوق الإنسان والفساد والسياسات الدولية، فضلًا عما يرون أنها الأسباب الرئيسية للانتفاضات والتحديات الكبرى التي تواجه بلدانهم الآن”.
مع ذلك، فإن الجانب الإيجابي لهذا هو أن المؤلفين لا يتخلون – بالروح المعتادة لتقليد ما بعد البنيوية السائد اليوم في المجال الأكاديمي– عن مصطلح “الشعب” وذلك للإشارة إلى أغلبية تضررت من السياسات النيوليبرالية للاتحاد الأوروبي في مقابل أقلية ربما تكون استفادت منها. يجب التسليم بأن هناك حاجة إلى توازن بالغ الدقة للبرهنة على أن أغلبية الشعب قد تضرر نتيجة نيوليبرالية الاتحاد الأوروبي، مع المطالبة بنموذج مختلف دون الوقوع في فخ استشراقي لبناء ذات شرقية متجانسة ولاتاريخية مقاومة للتغيير عبر مختلف المجالات الزمانية والمكانية. عند نقد “دمقرطة (الاتحاد الأوروبي) ضد الديمقراطية”؛ فإن الكتاب يُذكّرنا بمدى الصعوبة التي قد نواجهها في بعض الأحيان لنتجنب “النزعة الاستشراقية في مواجهة الاستشراق”.
[1] فرانك، أندريه ج (1966). تنمية التخلف The Development of Underdevelopment. المراجعة الشهرية، 18 (4)، ص 17.
[2] أمين، سمير (1974). التراكم والتنمية: نموذج نظري Accumulation and Development: A Theoretical Model. مراجعة الاقتصاد السياسي الأفريقي. 1 (1)، 9 -26.
[3] فالرشتاين، إيمانويل (2006). تحليل النظم الدولية: مقدمة World-Systems Analysis. An Introduction. (دورهام: جامعة ديوك للتشر).
[4] باران، بول (1952). عن الاقتصاد السياسي للتخلف On the Political Economy of Backwardness. مدرسة مانشستر 20، 66-84.
Read this post in: English