الإشارة المرجعية: دياب، أسامة (2023). مراجعة كتاب: السلطوية كتراكم رأسمالي في كتاب «المال والأسواق والحكومات الملكية» لآدم هنية. رواق عربي، 28 (2)، 17-20. https://doi.org/10.53833/ICFL1599
في كتاب آدم هنيّة «المال، الأسواق، والحكومات الملكية: مجلس التعاون الخليجي والاقتصاد السياسي للشرق الأوسط المعاصر» نجد رفضًا للحديث عن بعض أكثر الثنائيات التي تُميّز خطاب التنمية والاقتصاد السياسي الدولي رسوخا، من قبيل «العالمي» في مقابل «المحلي/التقليدي»، و«السوق» في مقابل «الدولة»، الخ. ووفقًا لهنيّة، تدعو هذه الثنائيات إلى تطبيق «القومية المنهجية» ليس فقط في دراسة الخليج، وإنما الشرق الأوسط بأكمله. فمثل تلك «القومية المنهجية» تمكن من تصوير مناطق أو بلدان معينة كفضاءات لها خصوصية ثقافية تجعلها بمعزل عن أفعال القوى العالمية.
ويرتبط هذا بالفجوات النظرية والجغرافية الناجمة عن تجاهل الخليج عند دراسة العالم، وفي هذا الإطار يوضح هنيّة أن سد تلك الفجوات هو أحد أهداف الكتاب. ويجادل هنية بأن هذه الرؤية الأكاديمية غالبًا ما تُفسّر مسار التنمية في الخليج عبر افتراض خصائص فريدة أو استثنائية داخلية، مثل الهياكل المؤسسية الثقافية والاقتصادية والدينية. ووفقًا لتلك القراءة، فإن «اندماج المنطقة في الرأسمالية العالمية (يُمثّل) قطيعة نوعية مع الماضي التقليدي المزعوم».
وعلى النقيض من هذا الفصل الأنطولوجي بين التقليدي/الثقافي/المحلي من جانب، وبين العقلاني/العالمي من جانب آخر؛ إذ يتم تلقي العالمي بشكل غير فعال بواسطة المحلي، فإن الخليج في سردية هنية هو عامل بناء مشارك للعالم و«ليس مجرد متلق سلبي له»؛ لذا فإن الخليج يتمتع بعلاقة تأسيسية متبادلة مع العالم تتجاوز حدوده. بكلمات أخرى، لم يغدو الخليج مكونًا في النظام الرأسمالي الحديث من موقع التبعية والاعتمادية، وإنما باعتباره «فاعلًا» يملك أهلية لا يُستهان بها؛ ويتم تقديم تلك الأهلية في الكتاب باعتبارها القدرة على المساهمة في تشكيل العالمية.
رغم ذلك، يتفادى هنيّة بمهارة مزاعم الأهلية الفجة عبر عدم الافتراض المسبق لغياب البنية. ربما تكون ثنائية الأهلية-البنية، سواء كانت أفعال محددة بوساطة إرادة الأفراد أو عبر القوى البنيوية، بمثابة ثنائية أخرى يرفضها هنية ضمنيًا في هذا العمل. ورغم عدم التعبير عن ذلك بشكل مباشر في الكتاب، تم تقديم الفاعلين والبنية كأطراف منخرطة في علاقة تأسيسية متبادلة.
كيف بدأ كل شيء: «عصر الأنا» في سبعينيات القرن الماضي والتراكم المفرط لرأس المال الخليجي
كان الخليج هو المنطقة الأكثر استفادة من أزمة النفط في عام 1973، الذي تضاعفت خلاله أسعار النفط نحو أربع مرات في غضون بضعة أشهر، كما استفاد من أزمة الديون اللاحقة في الجنوب العالمي.
في تلك الآونة، جرت عمليتان بشكل متزامن: نتيجة للصدمة التي شهدها سوق النفط في 1973؛ إذ انزلقت معظم اقتصادات الجنوب العالمي المستوردة للنفط في فخ الديون، وعانت من عجز حاد في الحساب الجاري، بينما بدأت دول الخليج المنتجة للنفط في تحقيق فوائض غير مسبوقة حددت ملامح منطقة الخليج بالشكل الذي نعرفه اليوم.
أسفر ذلك عن اختلالات متزايدة؛ إذ اضطرت دول الجنوب العالمي المنكوبة بآثار الأزمة لاقتراض تلك الدولارات النفطية الفائضة لدى الخليج، وذلك عبر أسواق اليورو Euromarkets، «ومن ثم، باتت متورطة بشدة في علاقات الديون مع المؤسسات المالية الدولية».
ويعد هذا أيضًا مثالًا على كيف بات الخليج مكوّنًا للعالم، فكما يوضح هنية «إن سلطة مدينة لندن وهيمنة المصارف الأمريكية والأوروبية في النظام المالي العالمي هي الإرث المباشر لتلك الأسواق». بل أن مكانة الدولار الأمريكي، كعملة عالمية، ترسخت عبر الصفقة الأمريكية السعودية في 1974 لـ«ضخ المليارات من عائداتها من الدولارات النفطية في سندات الخزانة الأمريكية وتمويل الإنفاق الأمريكي».
كما يذكّرنا هنية أن الخليج لم يكن مستفيدًا سلبيًا من برامج التعديل الهيكلي المثيرة للجدل التي كانت رائجة أثناء ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والتي ساهمت إلى حد كبير في تشكيل عالمنا المعاصر، لكن كان أيضًا أحد المروجين النشطين له. وقد نتجت برامج التعديل الهيكلي تلك من أزمة الديون في الجنوب العالمي؛ إذ كانت الاقتصادات تكافح بشكل متزايد للوفاء بالتزامات ديونها الناجمة عن العجز في الحساب الجاري المذكور أعلاه. وكانت الخصخصة إحدى الركائز الأساسية للإصلاحات النيوليبرالية لبرامج التعديل الهيكلي التي تم فرضها على الدول المثقلة بالديون، كما كان رأس المال الخليجي –ولا يزال– أحد المستثمرين الرئيسيين في الأصول العامة المعروضة للخصخصة حديثًا، لاسيما في منطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا SWANA.[1]
ثنائية الدولة والسوق المزيفة
أحد الموضوعات الكبرى المتكررة في الكتاب هو الرابط بين الدولة وتراكم رأس المال الخاص. ويُقدم الكتاب حجة دامغة على أن المستوى نفسه من تراكم رأس المال لم يكن من الممكن تحقيقه دون الدور المحوري، ليس للدولة في حد ذاتها فحسب، بل الدولة السلطوية على وجه الخصوص. إن حجة هنية بأنه «لا توجد تنمية رأسمالية أو حتى رأسمالية» بدون الدولة ليست حجة جديدة ولا تقتصر فقط على الخليج.
مع ذلك، فإنه يضيف تأكيدًا جديدًا ضد أصولية السوق الحرة الهايكية التي تسعى لتبسيط العلاقة بشكل مخل بين الحرية السياسية وإنشاء السوق. ومن ثم، يتبع الكتاب تقليدًا طويلًا معاديًا للنيوكلاسيكية التي تقدم التراكم الرأسمالي كتفاعل بين الجهات الفاعلة الحكومية والخاصة؛ كما يتحدى الفرضية النيوكلاسيكية المهيمنة القائلة بأن الدولة النشطة اقتصاديًا تُمثّل عائقًا أمام التراكم الرأسمالي ووظيفة «السوق الحرة» والنمو الاقتصادي –وهي رؤية يجادل هنية بأنها غالبًا ما تكون متجذرة في مقاربات الفيبرية و«الدولة الريعية» للخليج. وهو تذكير بأن الدولة شديدة السلطوية والقوة الاحتكارية (بل وحتى الحرب!)[2] ليست فقط شرطًا مسبقًا لبدء التراكم الرأسمالي السريع والحاد، بل هي أيضًا في كثير من الحالات ما تكون شرطًا مسبقًا لتوسيع السوق.
بهذا المعنى، يوضح هنية للقارئ بشكل متكرر الرابط الوثيق بين الدولة من جهة ورأس المال الخاص وإنشاء السوق في كافة القطاعات من جهة أخرى، وذلك عبر أجزاء الكتاب بأكمله. فهو حين يناقش عملية إنشاء السوق في قطاعي التعليم والصحة (الفصل السابع)، يتضح إحجامه عن استخدام المفهوم الأسطوري لـ «السوق الحرة»، وبدلًا من ذلك يركز على التسويق كشكل من أشكال تسليع الخدمات العامة وتوسع الملكية الخاصة واقتحامها لمجالات جديدة. باختصار، يدور التحرير الاقتصادي في الكتاب حول التسليع بدلًا من انسحاب الدولة من الاقتصاد.
أحد أفضل النقاط التي تطرق إليها بالكتاب تتعلق بدور الدولة في الحفاظ على استمرار السوق باعتبارها مستهلكًا. إذ تمتد أهمية الدولة للحفاظ على السوق العالمي من خلال خلق الطلب الضروري وغير الضروري. ويخبرنا هنية بأنه في «اقتصاد سياسي عالمي يتسم بالتراكم المفرط والقدرة الإنتاجية الزائدة» فإن الخليج –وهياكله السلطوية– يعمل كمصدر ثابت ومتزايد للطلب في السوق العالمي.
مثل هذا الاستهلاك لم يكن مقيدًا بأي قدرة فعلية على الاستهلاك. على سبيل المثال، أصبح مجلس التعاون الخليجي أكبر سوق للأسلحة في العالم. ويوضح هنية أن مبيعات السلاح مثلت مسارًا لإعادة تدوير رأسمال الخليج على شركات غربية كبيرة، وكيف استخدمت نخبة الخليج الدولة كوسيط للتراكم.
وتمامًا مثلما أصبح الطلب على استهلاك السلع والأسلحة مصيريًا بالنسبة لعمليات الأسواق المالية العالمية، بات دخول الخليج مؤخرًا إلى سوق الديون العالمي أمرًا محوريًا أيضًا لتلك الأسواق (نحو 14% من إجمالي ديون الأسواق الناشئة جاءت من الخليج)؛ ويوضح هنية أن ديون الخليج تمتعت مجددًا بطلب دولي قوي نتيجة أزمة التراكم المفرط العالمية.
وفي إطار معالجة الكتاب لمسألة الهيمنة الاقتصادية الخليجية المتزايدة في المنطقة وحول العالم في قطاعات مختلفة (على سبيل المثال؛ الأعمال التجارية الزراعية والعقارات وتجارة التجزئة والنفط)؛ فإن القطاع المالي يستحق تركيزًا خاصًا. ويوضح هنية كيف أن صناديق الأسهم الخاصة والمصارف –والعديد منها مملوك للدولة– تخلق جبهة موحدة من رأس المال الخليجي، من خلال جمع وتعبئة مدخرات الدولة والأثرياء والشركات الكبرى؛ باعتبارهم وكلاء بين الفئات المختلفة من الطبقة الرأسمالية في الخليج وبين الدولة.
رغم ذلك، يحرص هنية على الإشارة إلى أن التوسع الجغرافي لرأس المال الخليجي باستخدام وسائل مالية لا ينبغي اعتباره متناقضًا مع مصالح النخب المحلية، لاسيما في البلدان العربية غير الخليجية. إذ أتاح هذا التوسع الرأسمالي لنخب الأعمال في مصر والأردن ولبنان وغيرها، الحصول على نصيب من عمليات التوسع والتدويل. ومن ثم، بالنسبة لهنية، لا يمكن تصنيف رأس المال الخليجي باعتباره خارجيًا. فثنائية الأجنبي/الوطني تلك هي أمر آخر يتم تحديه في الكتاب.
ولعل أهم بُعد مكاني للقطاع التمويلي هو ما يقدمه هنية كـ «رابطة العقارات والتمويل» (real-estate-finance nexus). وتُمثّل البيئة المبنية (الفصل الخامس) أهمية خاصة لعملية التراكم في الخليج. ومع ذلك، فإن هذا التوسع المذهل لم يكن ممكنًا دون الدور المتزايد للتمويل. كما وفرت العقارات، التي غالبًا ما تديرها الدولة، وسيلة رئيسية (إن لم تكن الرئيسية) للتراكم الرأسمالي بوساطة رأس المال الخاص في دول مجلس التعاون الخليجي والدول غير الأعضاء بالمجلس على حد سواء.
ورغم تركيزه على التوسع الهائل لرأس المال الخليجي، إلا أن الكتاب يُسلط الضوء أيضًا في نهايته (الفصل السابع) على حدود ذلك التوسع. أولًا، يوضح هنية أنه برغم صعود الخليج؛ إلا أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر FDI لا تزال في غالبيتها تأتي من أوروبا وأمريكا الشمالية (نحو 60%)، وإذا أضفنا بلدانا أخرى تنتمي إلى الغرب السياسي مثل اليابان؛ فإن هذه النسبة ستتجاوز 70%.
رغم ذلك، وبغض النظر عن الحجم، فإن أحد التحديات الرئيسية التي تواجه دول مجلس التعاون الخليجي هو عدم قدرتها على الابتعاد بنجاح عن ميزتها المقارنة «الريكاردية» وعن دورها في التقسيم الدولي للعمل باعتبارها منتجًا ومصدرًا للوقود الأحفوري. وقد تسبب انخفاض أسعار النفط في 2014 إلى دفع كافة الدول الخليجية لاعتماد رؤى جديدة تتمحور حول التنويع وجمع الضرائب و«إنشاء السوق» من خلال خفض الإنفاق الحكومي. مع ذلك، ورغم التغييرات الطفيفة في بنية الاقتصاد؛ لا يزال الوقود الأحفوري يشكّل الغالبية العظمى من الإيرادات، بل إن حتى القطاعات غير النفطية ليست سوى امتداد لقطاع الطاقة.
كما أسفر انخفاض الأسعار عن تزايد المديونية، ودفع دول الخليج للمرة الأولى لفرض بعض الضرائب واتخاذ بعض التدابير التقشفية، بما في ذلك تقليص التوظيف في القطاع العام –وهو جزء لا يتجزأ من العقد الاجتماعي السلطوي في المجتمع الخليجي. ويرى هنية أن الشباب في دول مجلس التعاون الخليجي قد لا يتمتعون بنفس مزايا الأجيال السابقة، ولا يزال ما قد يعنيه ذلك بالنسبة للعقد الاجتماعي السلطوي في الخليج، غير واضح.
تكمن عيوب الكتاب بشكل رئيسي في الأسلوب؛ حيث تتكرر الحجج والأدلة نفسها بشأن التوسع والنمو والتضافر بين الدولة ورأس المال الخاص بالطريقة ذاتها تقريبًا في كافة الفصول التي تغطي قطاعات اقتصادية معينة. بالإضافة إلى الفصل الصارم بين الحجج النظرية والأدلة التجريبية. يبدأ الكتاب بنقاش نظري ثري، لكنه أخفق في الربط بشكل فعّال بين النتائج التجريبية اللاحقة وبين إطاره النظري والمفاهيمي؛ الأمر الذي جعل الشعور بالتكرار أكثر حدة.
رغم ذلك، يتضمن هذا الكتاب ثروة هائلة من البيانات والمعلومات المُقدمَة في إطار نظري ومفاهيمي مُقنع؛ ويظل مرجعًا لا يمكن الاستغناء عنه ليس فقط للمهتمين بالاقتصاد السياسي للخليج ومنطقة جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا، وإنما أيضًا للمهتمين بالاقتصاد السياسي العالمي، لاسيما وأن فرضية الكتاب الرئيسية هي أن الخليج عنصر بناء فاعل في العالم وليس مجرد نتيجة له.
هذا المقال كتب في الأصل باللغة الانجليزية لرواق عربي
[1] يستخدم المؤلف SWANA لتقديم ما يُعرف بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا/الشرق الأوسط/العالم العربي/المنطقة العربية؛ وذلك لتجنب العبء السياسي للمركزية الأوروبية ولاحترام الأعراق غير العربية التي تعيش في المنطقة.
[2] أظهر هنية تهكمًا إزاء عالم التمويل الدولي من خلال توضيح كيف أن الإنفاق على إعادة إعمار سوريا تم تقديمه من جانب المستثمرين باعتباره «فرصة» لوضع الشرق الأوسط باعتباره «المركز (الوحيد) للنمو في الاقتصاد العالمي خلال السنوات العشر القادمة».
Read this post in: English