الإشارة المرجعية: دهونت، سيدريك (2023). مراجعة كتاب «العدالة للبعض: القانون والمسألة الفلسطينية» لنورا عريقات. رواق عربي، 28 (2)، 62-65. DOI: https://doi.org/10.53833/VTGZ8427
دونما قصد منه، تمكن المؤرخ اليوناني ثيوقيديدس من وضع يده على الرؤية الواقعية المعاصرة للنظام القانوني الدولي حسبما نعرفه اليوم، وذلك حينما أعاد صياغة المفاوضات بين مدينتي أثينا وميلوس. ففي عام 416 قبل الميلاد، وبينما الحرب البيلوبونيسية في ذروتها، أرسلت أثينا أسطولًا حربيًا إلى جزيرة ميلوس، فيما يمكن وصفه اليوم بضربة استباقية؛ وذلك لمنع مليوس المحايدة من الانحياز لأحد طرفي الصراع. وحين استنكر سكان ميلوس العدوان الغاشم؛ تجاهل ممثلو أثينا أية حجج أخلاقية، زاعمين، وفقًا لثيوسيديدس، أن «القوي يمكنه فعل ما يروق له، أما الضعيف فعليه المعاناة في صمت».[1]
في العصر الحديث، تبذل دولة إسرائيل كل ما في وسعها لتعزيز نظامها للفصل العنصري، بينما تتواصل محنة الشعب الفلسطيني. ويعجز القانون الدولي عن تنظيم سلوك أطراف الصراع، ناهيك عن تعزيز حل دائم وسلمي. يكمن هذا التفاوت بين الواقع السياسي والمعايير القانونية في جوهر العدالة للبعض: القانون والمسألة الفلسطينية، حيث تستكشف نورا عريقات، الأستاذ المساعد بجامعة روتجرز والمحامية في مجال حقوق الإنسان، استخدام القانون من أجل تمكين القمع بدلًا من التحرر والانعتاق، وذلك في الكفاح الفلسطيني من أجل الحرية.
ولا يعد مفاجئًا عجز القانون الدولي عن تنظيم سلوك الدول القوية، على حساب الدول الأكثر ضعفًا. ويشير الفصل التمهيدي للكتاب لسببين على الأقل وراء إخفاق القانون الدولي في التغلب على الحقائق الجيوسياسية. أولًا، بالإشارة للعمل البارز لأنتوني آنغي،[2] تُسلّط عريقات الضوء على الأصول الاستعمارية للقانون الدولي. ثانيًا، بات القانون الدولي بلا فعالية نتيجة غياب السيادة العالمية التي تمتلك القدرة على فرض القواعد على نحو موثوق.
رغم ذلك، فإن الارتياب لا يُفسح المجال للتشاؤم. وبدلًا من الانصراف عن القانون الدولي بشكل قاطع باعتباره أداةً للقمع؛ تدرس عريقات بشكل نقدي دور القانون في كلا من «تعزيز وتحجيم» الكفاح الفلسطيني من أجل تقرير المصير. فهي تُجادل بأن «القانون هو السياسة: إذ أن معناه وتطبيقاته مرهون بالاستراتيجية التي تطبقها الجهات الفاعلة القانونية، وكذلك بالسياق التاريخي الذي تُطبق الاستراتيجية في إطاره».[3] يكمن في صميم تلك الحجة مفهوم «العمل القانوني»، وهو اصطلاح صكه الباحث القانوني دونكان كينيدي لوصف الجهود الاستراتيجية التي تبذلها جهة فاعلة قانونية لتغيير الوعي بالقانون استنادًا إلى النتيجة المرغوبة.[4]
وبشكل لافت للنظر، تتخيل عريقات هذا المفهوم من خلال مقارنة القانون بشراع القارب؛ فبينما يضمن الشراع الحركة فقط، يكون العمل القانوني إلى جانب التعبئة السياسية بمثابة الريح التي تحدد الاتجاه.[5] وعبر خمسة فصول، تٌقدم المؤلفة نبذة تاريخية شاملة عن الرياح التي ظلت تسعى لدفع السفينة الفلسطينية إلى الأمام في اتجاه تقرير المصير، وأي الرياح من شأنها أن تتسبب في غرقها.
تبدأ هذه النبذة التاريخية مع أوائل القرن العشرين، وذلك بسرد كيفية تآمر الحركة الصهيونية مع الاستعمار البريطاني. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، رزحت فلسطين تحت حكم الانتداب البريطاني. وتشرح عريقات كيف سعت بريطانيا في أعمالها القانونية لتمييز فلسطين عن المناطق الأخرى المنضوية تحت الانتداب، وكيف لجأت إدارة الانتداب لاستخدام القوة بشكل مفرط؛ لسحق وإخماد أية مطالب بحق الفلسطينيين في تقرير المصير.
ومن ثم، يوضح الكتاب المسار المتصل بين حكم الانتداب البريطاني والسنوات الأولى للسياسات الإسرائيلية عقب تأسيس الدولة في 1948. إلى جانب وصف الاستراتيجيات العنيفة المستخدمة في حرب 1948، والتي تبقى قرية دير ياسين رمزًا مأساويًا لها. كما أن المؤلفة تشير كذلك للإطار القانوني الذي فرضته دولة إسرائيل الناشئة من خلال الحكم العسكري؛ الأمر الذي أسفر عن عملية قانونية لنزع الملكية، وزيادة تعزيز نتائج حكم الاستعمار البريطاني المتمثلة في محو هوية الشعب الفلسطيني من القانون الدولي.
وفي أعقاب حرب الأيام الستة في عام 1967، وما تلاها من احتلال لقطاع غزة والقدس الشرقية والضفة الغربية، وظفت إسرائيل القانون بشكل أكبر لتعزيز سيطرتها على الأراضي الفلسطينية. وتُشير عريقات إلى أن صياغة قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 كانت مبهمة، وهو الأمر الذي استغلته إسرائيل بالكامل لخلق ثغرة قانونية. وعلى المنوال نفسه، بسطت إسرائيل حدود مفهوم الضرورة العسكرية. وبهذه الكيفية، وفي سياق الحرب الباردة وبدعم من الولايات المتحدة، صاغت إسرائيل وضع فريد من نوعه للضفة الغربية وقطاع غزة؛ بهدف دعم عمليات الضم الزاحف بشكل قانوني.
مع ذلك، فإن (العدالة للبعض) لا يركز فقط على الأعمال القانونية لإسرائيل؛ إذ يقدم الكتاب تفاصيل بشأن الاستراتيجيات والجهود القانونية الفلسطينية، والتي يعد من أبرز النجاحات فيها مداخلة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1974. ونظرًا للزخم الناتج عن تلك المداخلة، ونتيجةً للأعمال القانونية الفلسطينية على خلفية نشاط الحركة العالمية المناهضة للاستعمار، والتي كانت تنبض بالحياة آنذاك؛ أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة حق الفلسطينيين في تقرير المصير، كما دعت منظمة التحرير الفلسطينية بصفة مراقب غير عضو.
وفيما تُسلط عريقات الضوء على تلك الانتصارات، فإنها لا تتجنب الخوض في النقد أيضًا. فهي تحلل بشكل مثير للحزن كيف أخفقت منظمة التحرير الفلسطينية في الاستفادة من إنجازاتها القانونية. وبدلًا من ذلك فإن المنظمة «تخلت عن القانون كأحد أدواتها الرئيسية في النضال»[6] في محاولة للتوصل لحل سياسي. مع ذلك، فإن الخلل الدائم في ميزان القوى يعني أن التسوية السياسية هدف لا يمكن إنجازه على الإطلاق، وهو ما يؤدي في النهاية لانهيار عملية السلام. كما توضح كيف أن السلطة الفلسطينية، التي أعقبت منظمة التحرير الفلسطينية في إطار اتفاق أوسلو، تتواطأ بفعالية مع النظام الإسرائيلي.
من جانبها، تواصل دولة إسرائيل تطويع القانون الدولي، وتوسيع نطاق المفاهيم القانونية مثل الدفاع عن النفس، وتقديم لغة قانونية زائفة مثل «صراع لا يرقى لمستوى الحرب». ومن ثم، يتسامح النظام الدولي بشكل متزايد مع استخدام الاغتيالات خارج نطاق القانون في خضم الحرب العالمية على الإرهاب، كما باتت الانتقادات القانونية إزاء أعداد الضحايا المدنيين المتزايدة في الهجمات المتكررة على قطاع غزة تتناقص بمرور الوقت. فضلًا عن الادعاء بأن الوضع الفريد من نوعه المزعوم للأراضي الفلسطينية المحتلة يُشكّل أساسًا قانونيًا لعملية الضم التي تستمر دون هوادة. كذا فإن الجهود القانونية الفلسطينية لضمان درجة ما من المحاسبة، مثل الانضمام لنظام روما الأساسي في 2014، قد أسفرت عن الإخفاق في كسر الوضع الراهن للهيمنة الإسرائيلية، والتي تصفها عريقات باعتبارها نظامًا قانونيًا للفصل العنصري.
وبينما يقدم الوضع الحالي للصراع الفلسطيني/الإسرائيلي منظورًا قاتمًا للمستقبل، فإن عريقات تُقدم بارقة أمل في خلاصاتها. بعد استخلاص الدروس من حالة ناميبيا، التي نالت الاستقلال عن نظام جنوب أفريقيا التمييزي في 1991، تحدد عريقات نموذجًا للنشاط يستند حصريًا إلى الحقوق، وهو ما يمكن أن يكون بديلًا للواقعية السياسية التي تنتهجها السلطة الفلسطينية. كما تشيد عريقات بحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، آخذةً في الحسبان أن رفض الحركة لتبني برنامجًا سياسيًا صريحًا هو مصدر قوتها الأساسي، وتنسب إمكانات الحركة الشعبية لتركيزها على المبادئ القانونية العالمية.
مع ذلك، ومنذ نشر الكتاب، تزايدت الأعمال القانونية في جميع أنحاء العالم في مواجهة الحركة. في مايو 2019، صادق البرلمان الفيدرالي الألماني على قرار غير ملزم يصف حركة المقاطعة بأنها معادية للسامية. بينما في فرنسا، أدانت محكمة نشطاء الحركة بتهمة التمييز؛ إلا أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أقرت بأن الحكم الفرنسي يشكل انتهاكًا للحق في حرية التعبير.[7] وفي حين أن تلك الوقائع لم تمنع سلسلة من النجاحات على مستوى البلديات،[8] إلا أنها تُظهر أن خلاصات عريقات لا تزال صحيحة: من أجل استغلال الإمكانات التحررية للقانون؛ ينبغي تشكيل معنى القانون ضمن برنامج سياسي.
«العدالة للبعض» هو تحليل نقدي يستند لحجج رصينة بشأن إمكانات القانون في سياق الكفاح الفلسطيني من أجل تقرير المصير. وهو يشرح بشكل شامل المفاهيم القانونية، مثل الطريقة التي تم بها وضع القانون الدولي العرفي، وهو ما يجعل الكتاب جدير بأن يكون قراءة موصى بها للخبراء القانونيين وغيرهم على حد سواء. وبينما يستحق الكتاب مكانًا في مكتبة الممارسين القانونيين والنشطاء الذين لديهم اهتمامًا خاصًا بالقضية الفلسطينية، فبإمكانه أيضًا أن يشكل مصدر إلهام من الطراز الأول لطلاب القانون والعلوم السياسية للتأمل في دور القانون في تكريس الظلم.
هذا المقال كتب في الأصل باللغة الانجليزية لرواق عربي.
[2] آنغي، أنتوني (2005). الإمبريالية والسيادة وصناعة القانون الدولي (Imperialism, Sovereignty and the Making of International Law). كامبريدج: مطبعة جامعة كامبريدج.
[3] عريقات، نورا (2019). العدالة للبعض: القانون والمسألة الفلسطينية (Justice for Some : Law and the Question of Palestine). ستانفورد: مطبعة جامعة ستانفورد.
[4] المصدر السابق. ص 7.
وأيضًا د. كينيدي (2008). «بديل فينومينولوجى يساري لنظرية هارت/كسلن للتفسير القانوني» (A Left Phenomenological Alternative to the Hart/Kelsen Theory of Legal Interpretation) في د. كينيدي، الاستدلال القانوني، مقالات مجمعة. أرورا: دار نشر ديفيز. ص 158.
[5] عريقات، نورا (2019). العدالة للبعض: القانون والمسألة الفلسطينية (Justice for Some : Law and the Question of Palestine). ستانفورد: مطبعة جامعة ستانفورد. ص 11.
[6] المصدر السابق. ص 164.
[7] المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. 11 يونيو 2020. بلداسي وآخرون ضد فرنسا (Baldassi e.a. v. France). رقم 15271/16.
[8] انظر على سبيل المثال، اقتراح حديث من مجلس بلدية مدينة لييج في بلجيكا، يدعو لمقاطعة دولة إسرائيل على غرار ما فعلته برشلونة وأوسلو.
Read this post in: English