الإشارة المرجعية: الرمضاني، مسعود (2021). مراجعة كتاب: المسألة الإسلامية أمام لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان لعياض بن عاشور. رواق عربي، 26 (3)، 41-44. https://doi.org/10.53833/PNRT6803
يُعني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وما جاء على أثره من صكوك متصلة بالقانون الدولي لحقوق الإنسان، بتأمين الحماية لجميع الناس من الانتهاكات التي تمسّ حقوق الإنسان الواجبة لهم. ومع ذلك، غالبًا ما يجري تعطيل الطابع العالمي الذي يَسِم هذه الحقوق في العديد من الدول الإسلامية، ما يثير تساؤلًا بشأن مدى التوافق بين الإسلام، بوصفه دينًا، والقيم العالمية التي تكتسيها حقوق الإنسان.
في هذا الكتاب، المسألة الإسلامية أمام لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان،[1] الذي يضم ست حلقات دراسية عُقدت عبر شبكة الإنترنت مع المركز الأوروبي للدراسات القانونية للجريمة الكبرى، يملك فقيه القانون المعروف عياض بن عاشور، الخبير في الدراسات الإسلامية والعضو في لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، الدراية القانونية والثقافية اللازمة التي تيسّر له تجاوز الدراسات النظرية التي تتناول الإسلام والخوض في الأبعاد العملية التي ينطوي عليها تحليل التفاعل (والتوتر في حالات كثيرة) بين حقوق الإنسان بطابعها العالمي والميراث الثقافي والديني في البلدان الإسلامية. وفي واقع الأمر، تنظر اللجنة إلى بعض القوانين والعادات الدينية السارية في العديد من الدول الإسلامية باعتبارها عقبة في سبيل إعمال حقوق الإنسان إعمالًا وافيًا، خاصةً فيما يتصل بمسائل محورية من قبيل الفصل بين الدين والدولة، ووضع المرأة، والإجهاض، ودور الشريعة، والردة، والأقليات الدينية والجنسية والمساواة بين الرجل والمرأة. وغالبًا ما تُعرّف هذه الحقوق ضمن حدود دينية وثقافية محددة.
رغم ذلك، ليس في وسعنا القول أن جميع البلدان الإسلامية تتبع النهج نفسه حينما تتعامل مع الدين وحقوق الإنسان؛ فالمؤلف يقسم هذه البلدان حسب دساتيرها الوطنية إلى أربع فئات:
- دولة الدين: يضع المؤلف تحت هذا العنوان السعودية، والتي يستند دستورها حصرًا إلى «كتاب الله تعالى وسنة رسوله».
- الجمهوريات الإسلامية: من قبيل موريتانيا وباكستان، وتتبنّى هذه البلدان قواعد الجمهورية (الانتخابات، والمؤسسات المدنية، وغيرها) ولكنها تستمد مبادئها وقواعدها من النظام القانوني الإسلامي.
- أنظمة «دين الدولة»: في هذه البلدان، التي تضم بلدانًا مثل الجزائر والأردن ومصر، يتسم النظام القانوني بعموميته وبالغموض الذي يلفه في آن واحد، حيث يتراوح من «الأسلمة الشاملة» في بعض البلدان إلى نظام علماني نسبيًا في بلدان أخرى. وموقف اللجنة واضح هنا: ينبغي ألا ينطوي الإقرار بدين رئيسي واحد (وهو الإسلام في هذه الحالة) -في أي وجه من الوجوه- على «أي تمييز بحق أتباع الأديان الأخرى أو غير المؤمنين».
- الأنظمة «العلمانية»: وتضم بلدانًا مثل تركيا التي شهدت ثورة علمانية في العقد الثالث من القرن الماضي بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، أو تلك البلدان التي كانت تنتمي إلى الاتحاد السوفييتي، كأذربيجان وتركمنستان، والتي أعلنت نفسها «بلدانًا علمانية». فعلى سبيل المثال، تضع تركيا الإسلام في موضع «الدين الذي يحظى بمكانة متميزة» ولا تُفهم العلمانية على أنها تعني الفصل بين الدين والدولة، وإنما بوصفها طريقة لإخضاع الدين لسيطرة الدولة وسلطتها.
في المقابل، ثمة فرق في الدول الإسلامية بين الأحكام التي تنص عليها دساتيرها ونظامها القانوني من جهة، وكيفية الممارسة في واقعها العملي. ففي حالات ليست بالقليلة، لا يعطّل النظام القانوني حرية الدين فحسب، بل يُستخدم كذلك كما لو كان سيفًا مسلطًا وموجهًا لقمع «المعارضين السياسيين أو أصحاب النزعة الإنسانية أو غير المؤمنين أو أي مفكر ديني يعبّر عن وجهات نظر دينية مغايرة للدين الذي ترعاه الدولة».[2]
فضلًا عن ذلك، لم يضمن تصديق معظم الدول الإسلامية على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية[3] امتثالها لجميع أحكامه. فقد دأبت هذه الدول على إبداء تحفظاتها على هذا العهد، بحجة أن بعض الحقوق تخلّ بالشريعة الإسلامية، الأمر الذي يكشف الهوة القائمة بين أنظمتها القانونية من جهة، والحريات والحقوق التي يقررها العهد من جهة أخرى.
وبينما تكفل اللجنة عدم تخلف الدول عن الوفاء بالتزامات حقوق الإنسان الواقعة على عاتقها، أو انتهاجها سلوكًا عدائيًا تجاه حرية الدين والأقليات الدينية؛ فإنها تضطلع بمهمة أخرى تتمثل في حماية الإسلام بوصفه دينًا (وبوصفه مجتمعًا)، استنادًا إلى المادة (18)[4] وإلى غيرها من المواد الواردة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. ومع ذلك، لا تُعَدّ حماية الجاليات المسلمة في البلدان الأوروبية، مثلًا، مهمة يسيرة. ففي حين تشكّل الجاليات المسلمة في حالات كثيرة مصدرًا للاشتباه في احتضانها بعض الجماعات الراديكالية بين ظهرانيها، فهي غالبًا ما تكون هي نفسها ضحية للإقصاء وخطاب الكراهية وكره الأجانب.
ويقرّ بن عاشور بأنه في بعض الحالات تواجه اللجنة صعوبات في اتخاذ قرار بشأن حماية الأقليات الإسلامية في أوروبا. على سبيل المثال، في مسألة النقاب؛ سنّت فرنسا قانونًا في 2010، ينص على أنه «لا يجوز لأي شخص أن يرتدي، في الأماكن العامة، أي رداء يُقصد به إخفاء الوجه.»[5] وأثارت الدولة الفرنسية المخاوف الأمنية، من جملة أسباب أخرى. وفضلًا عن ذلك، ينظر بعض المفكرين إلى النقاب على أنه إشارة تدل على اضطهاد للمرأة ويتناقض مع مبادئ العلمانية، التي تُعَدّ أحد المُثل التي تحظى بمكانة مرموقة من الاحترام والتقدير في فرنسا.
وقررت اللجنة في 2018، حينما عُرضت عليها قضية امرأتين فرنسيتين فُرضت عليهما الغرامة بسبب ارتدائهما النقاب، أن فرنسا انتهكت حقوق المرأتين في حرية الدين؛ لأن ارتداء النقاب أمر يجري مجرى العرف لدى شريحة من المؤمنين بدين الإسلام، وأن الدولة الطرف (وهي فرنسا في هذه الحالة) لم تحترم الاختيار الشخصي والمعتقد الديني. وقد سبّب هذا القرار خلافًا بين أعضاء اللجنة. فكان لخوسيه سانتوس بايس، وهو عضو بارز من أعضاء اللجنة، رأي مغاير؛ ففي نظره، لا يشكّل النقاب فريضة يمليها الدين، وإنما هو «عرف ديني». علاوةً على ذلك، ففي سياق الإرهاب الدولي، يصبح من المهم والضروري الكشف عن الوجه بهدف تيسير التعرف على الناس، الأمر الذي من شأنه الحيلولة دون حدوث أي تزوير.
وبينما يتفق بن عاشور مع بايس، فإنه يضيف حجة أخرى، في مواجهة القرار الذي اتخذته اللجنة، والذي اعتُبر «متسامحًا للغاية». فبالنسبة له، يشكل ارتداء النقاب «في حد ذاته مخالفة للنظام الجمهوري العلماني والديمقراطي الذي ترعاه فرنسا».
لذا نلاحظ أن ثمة تحديات جسيمة تواجه اللجنة عند تعاملها مع جاليات المسلمين في بعض البلدان الغربية، من قبيل التمييز بين العرف الديني والفريضة الدينية، أو تبيان الحدود التي تتسبب حرية الدين، في حال تخطّتها، في تقويض أو تهديد المواطنين الآخرين أو الطبيعة العلمانية التي تَسِم المجتمعات.
في المقابل، تتعرض الأحكام التي يوردها العهد بشأن الحقوق للانتهاك أساسًا في الدول الإسلامية، التي تكاد تكون معدومة الحرية الدينية، وحيثما تُوقّع عقوبة قاسية على الردة عن الدين (عقوبة الإعدام في السعودية أو باكستان، وفسخ زواج نصر حامد أبو زيد في مصر). وغالبًا ما تُدهس حقوق المرأة بالأقدام في المجتمعات التي تعتمد مفهومًا أبويًا للأسرة؛ فتشويه الأعضاء التناسلية للبنات، والاغتصاب في إطار الزواج، والعنف الأسري، والقتل «بدافع الشرف» كلها ممارسات شائعة في العديد من الدول.
وفضلًا عما تقدم، غالبًا ما يكون للعادات تأثير يفوق أثر القوانين. ففي جيبوتي، مثلًا، ورغم التدابير التي اتخذتها الحكومة لحظر تشويه الأعضاء التناسلية للبنات، «فقد خضعت له ما نسبته 93 في المائة من النساء في سن الإنجاب». وفي باكستان، لم يغير القانون الجنائي (2004) عقلية القضاء ولم يضع حدًا لجرائم القتل «بدافع الشرف».[6]
وتشهد البلدان الإسلامية، التي تجد نفسها حبيسة التفسيرات الأصولية للأعراف الدينية والبائدة، فجوة بين توظيف الدين لتسويغ القمع السياسي، والصفة العالمية التي تكتسيها حقوق الإنسان التي تنبري اللجنة للدفاع عنها.
ومع ذلك، وفقًا لما يراه بن عاشور، ينبغي للجنة الفخر بالعمل الذي أنجزته على صعيد البلدان والمجتمعات الإسلامية، لأنها كانت دائمًا تقيم التوازن بين حماية الأقليات المسلمة وغيرها من الأقليات الدينية، في الوقت ذاته الذي تعمد فيه لمراقبة الدول التي تنتهك الحقوق المقررة في العهد وتفرض العقوبات عليها. ومع ذلك، يقرّ بن عاشور بأن اللجنة يعتريها بعض نقاط الضعف: فغالبًا ما تفضي الصعوبة التي تواجهها في التعامل مع «التصور الذي يكاد يكون متوارثًا للدين» في الدول والمجتمعات الإسلامية إلى توتر دائم لا يهدأ مع أحكام العهد، رغم التأكيدات المُقدَمة للدول على التوصيات نفسها. وفضلًا عن ذلك، تميل اللجنة في بعض الأحيان لاعتماد تفسير موسع بشأن أحكام محددة من أحكام العهد. ووفقًا للمؤلف، لا يعكس هذا التفسير في جميع الأحوال السمة العالمية، وإنما يعكس مجموعة من القيم والحقوق والحريات السائدة في الغرب. ولذلك، يجب أن يتألف «المنهج البيداغوجي» الذي تتبناه اللجنة، في جانب منه، من وضع تعددية المجتمعات وخصوصية كل أمة من الأمم في عين الاعتبار؛ لكي يتيسر لها تأدية المهمة المنوطة بها بكفاءة واقتدار. وهنا، يقع القارئ في حيرة من أمره مرة أخرى: فكيف لنا أن نلاحظ الاختلافات بين حقوق الإنسان العالمية والقيم والأخلاق الغربية، ونستشفّها في عمل اللجنة وجميع أحكام حقوق الإنسان (العالمية) الأخرى؟
ورغم تنامي الادعاءات بشأن الاستثنائية، لا سيما تلك التي ترد من الدول الإسلامية وتساق في بعض الأحيان باعتبارها ذريعة تسوّغ الحكم الاستبدادي، ففي اعتقادي أنه ينبغي ألا يغيب عن بال المرء اعتباران رئيسيان. يكمن الاعتبار الأول في أن هذه القيم العالمية التي تَسِم حقوق الإنسان مكرسة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) باعتبارها استجابة أخلاقية وسياسية للفظائع التي اقتُرفت في أثناء الحرب العالميتين المدمرتين، وذلك حينما أعربت دول الغرب والشرق التي وقّعت على هذا الإعلان عن إيمانها «بكرامة الفرد وقدره» في كل مكان. وفضلًا عن ذلك، قد يقع جميع الناس، سواء كانوا في الدول الإسلامية أم في غيرها من الأماكن، ضحايا للانتهاكات التي تمسّ الحقوق الواجبة لهم وللمظالم التي تطالهم. ولذلك، تستدعي الحاجة أن يقدم كل فرد يؤمن بضرورة تحقيق الكرامة والعدالة والسلام «لجميع الشعوب والأمم» العون والمساعدة في إرساء دعائم هذه القيم وتوطيد عراها. وينبغي أن يكون تعزيز حقوق الإنسان العالمية وترسيخها هدفًا تسعى إليه اللجنة في الدول الإسلامية وفي أماكن أخرى.
هذا المقال كتب في الأصل باللغة الانجليزية لرواق عربي
[1] تراقب لجنة حقوق الإنسان مدى التزام الدول بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
[2] شهيد، أحمد (2018). تقرير المقرر الخاص المعني بحرية الدين أو المعتقد. مجلس حقوق الإنسان، الجلسة السابعة والثلاثون، 26 فبراير-23 مارس.
[3] يُعَد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية معاهدة متعددة الأطراف اعتُمدت بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2200 المؤرخ في 16 ديسمبر 1966 ودخلت حيز النفاذ في 23 مارس 1973.
[4] «لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين».
[5] طاقم شبكة سي إن إن (2020). مجلس الشيوخ الفرنسي يصادق على حظر النقاب (French Senate approves burqa ban). سي إن إن، 15 سبتمبر، تاريخ الاطلاع 1 نوفمبر 2021، http://edition.cnn.com/2010/WORLD/europe/09/14/france.burqa.ban/index.html.
[6] خان، ألينا (2020). جرائم القتل «بدافع الشرف» في باكستان: تعامل القضاء والقانون مع الجريمة: وجهة نظر نسوية (“Honour” killings in Pakistan: Judicial and Legal Treatment of the Crime: A Feminist Perspective’,). مجلة لومز للقانون (Lums Law Journal) (7). تاريخ الاطلاع 1 نوفمبر 2021،
https://sahsol.lums.edu.pk/law-journal/%E2%80%98honour%E2%80%99-killings-pakistan-judicial-and-legal-treatment-crime-feminist-perspective.
Read this post in: English