الإشارة المرجعية: أبو زيد، ريم عوني (2022). مراجعة كتاب: «نساء ثائرات: أثناء الربيع العربي وبعده» تحرير ريتا ستيفان ومنيرة شراد. رواق عربي، 27 (1)، 37-40. https://doi.org/10.53833/TMRI6651
تتبوأ مشاركة النساء في المسائل السياسية الخلافية موقع الصدارة في محاولات فهم الربيع العربي في أوساط المؤسسات الأكاديمية الغربية؛ فقد انتابت الدهشة بعض الباحثين بسبب حضور النساء على حين غرة في الحيز العام، وهو الأمر الذي اعتبروه علامة على تحررهن.[1] في المقابل، ركز أولئك، الذين لم تفاجئهم مشاركة النساء السياسية، على حضورهن الملحوظ في الاحتجاجات، وتنوع خلفياتهن الاجتماعية والاقتصادية. تُراجِع هذه المقالة كتاب «نساء ثائرات: أثناء الربيع العربي وبعده» من تحرير ريتا ستيفان ومنيرة مايا شراد.[2] وينتقد الكتاب الافتراض الغربي القائل بأن ثورة النساء العربيات غريبة على التجربة التي يعشنها في المنطقة العربية، وهو الافتراض الذي يشوه الإرث التاريخي الزاخر بمشاركة النساء في السياسة، من خلال التصويت في الانتخابات والترشح لشغل المناصب العامة وقيادة المؤسسات منذ عشرينيات القرن الماضي. وهو ما يؤكد بدوره على افتقار الباحثين الغربيين، وغيرهم ممن يتبنون هذا الافتراض الغربي، إلى القدرة على توقع النشاط الذي ستخوض النساء غماره في المستقبل في هذه المنطقة.
ويتناول الكتاب، على مدار فصوله الأربعين، طائفة واسعة من المواضيع التي تبحث في النشاط النسوي، مناقشًا، بشكل جاد، أهلية النساء (agency) في صورها المتعددة في العالم العربي.[3] ويعالج الكتاب أحد أكثر المواضيع إثارةً للجدل والخلاف في الدراسات النسوية، وهي الأهلية، واضعًا نصب عينيه الجانب السياسي للتجارب التي تخوضها النساء بوصفهن ناشطات من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق المرأة. كذا يسلط الكتاب الضوء على أصوات الناشطات والاختصاصيات وصانعات الأفلام والشاعرات والطالبات والفنانات، موضحًا أن هذه الأصوات، وما تنقله من روايات مباشرة، تفرض على المجتمع الأكاديمي إعادة النظر فيما يحمله من فهم تشوبه الإشكاليات عن أهلية النساء في العالم العربي. وفي السياق ذاته، يمنح الكتاب مساحة للأصوات التي لم تحظ بحظها الوافر من التمثيل؛ لكي تعرض رواياتها على نحو يميط اللثام عن تنوع وثراء قدرات النساء على الفعل في هذه البقعة التي يُساء تمثيلها، وتعرض صورة خاطئة عنها للعالم. وتيسر ستيفان وشراد، بما تستخدمانه من نهج متعدد الاختصاصات، للنساء تقديم أنفسهن بأصواتهن، وباستخدام أرشيفهن ومذكراتهن اليومية وأعمالهن الفكرية، اللاتي يتناولن فيها مجالات غير مطروقة من قدراتهن على الفعل، كالأسرة والسياسات الكويرية والفن والعديد من الحقول الأخرى الخارجة عن إطار الربيع العربي.
وبينما تتعثر بلدان ما بعد الربيع العربي في مسيرة الانتقال إلى الديمقراطية؛ سارع الباحثون الغربيون، الذين احتفوا بمشاركة المرأة في أعمال الاحتجاجات، بالإعلان عن انقضاء حقبة نشاط المرأة العربية، كما لو أن النساء العربيات لم يَكُنّ ناشطات سوى أثناء الربيع العربي. ويسجل الكتاب اعتراضه على ميل الغرب إلى فصل ناشطية المرأة ضمن إطار هذه القيود الجغرافية والزمانية. في الوقت ذاته، يعترض الكتاب على المفهوم الذي يرى الربيع العربي مجرد مؤشر تاريخي على إرث حافل بنشاطية المرأة؛ موضحًا عجز مسار ديمقراطي أخطأ هدفه عن وضع نهاية ناشطية النساء تلك، ومشيرًا لانخراط النساء العربيات، على مدى عقود، في سياقات سادتها معدلات قمع مرتفعة، وطغى عليها الاستبداد والقهر والنزعة الأبوية. وفي الوقت ذاته، يؤكد الكتاب على انغماس النساء في ديناميات القوى التي تسود تلك السياقات، وتشكل استراتيجيات نشاطهن وأدواته ومنهجياته. كما يركز على الجوانب المتعلقة بالسياقات القمعية، وما تضفيه من تعقيدات على نشاطية المرأة العربية.
ففي الفصل الثالث والعشرين من الكتاب، والمعنون بـ «كتابة التاريخ النسوي اللبناني»، تناقش نيكولا خوري مجالًا حساسًا وبالغ التعقيد؛ وهو الحرب الأهلية والصراع الديني في لبنان، والتي تعدّ إحدى تجارب التوتر الديني، والتي يكاد لا يخلو منه أي قطر عربي؛ إذ تجاوزت هذه الحرب ديناميات القوى التي نشب الخلاف بينها، مخلفةً أثرها على كيفية فهم الناشطات النسويات لدورهن ونشاطهن. وتعود خوري بالزمن إلى الوراء، وتحديدًا إلى الفترة بين 1976 و1985، في محاولة لتتبع أثر الحرب الأهلية على الحركة النسوية اللبنانية، على النحو الذي صورته الناشطة النسوية روز غريّب في مقالاتها الافتتاحية في مجلة الرائدة. إذ تتناول أعمال غريّب السياسة المرتبطة بالسياق القائم، خاصةً المشروع السياسي الهادف لبناء الدولة القومية، وهو ما كان سائدًا في تلك الحقبة من تاريخ لبنان. وفي عام 1983، في مقالتها الافتتاحية الأخيرة، والتي حملت عنوان «لا يسعك أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء»، استخدمت غريب المشروع السياسي النسوي للتركيز على علمنة الحيز السياسي وقانون الأحوال الشخصية، فبحسب غريب كانت العلمنة تعني التحرر الوطني وتحرير المرأة وانعتاقها.
وفي الفصل الثاني والثلاثين، تناقش نيليا هيندمان-رزق، تحت عنوان «إعلام جديد/حركة (حركات) نسوية جديدة» تنظيم الحملات النسوية وإطلاقها في خضم غزو الجيش الإسرائيلي، الذي مثّل تأثيرًا آخر فرض القيود على حياة النساء اللبنانيات. وفي هذا السياق، تحلل هيندمان-رزق مدى هشاشة نشاط الحركات النسوية بعدما تغلبت النساء اللبنانيات على القيود الناتجة عن السياق التقييدي الذي فرضه الغزو الإسرائيلي. وتلاحظ الكاتبة أن الحملات التي طرحت القضايا النسوية، مثل تقنين الزواج المدني وحقوق مجتمع الميم، وتجريم العنف الأسري، قد لجأت لمنهجيات تعتمد مزيجًا من الأدوات في تنظيمها، إذ دعت تلك الحملات، عبر شبكة الإنترنت وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، لتنظيم الاحتجاجات والمسيرات حينما تسمح الأوضاع الأمنية بذلك. موضحةً أن إطلاق الحملات على شبكة الإنترنت قد أفرز أثره على نتاج عمل هؤلاء الناشطات، وحصره فيمن يملكون القدرة على الوصول لمنصات التواصل الاجتماعي.
وفي الفصل السادس، الذي حمل عنوان «لا تلمس أطفالي!»، تسلط جينجر فيذر الضوء على المكانة المحورية التي يحتلها القهر والعنف في مسيرة كفاح المرأة المغربية نحو تجريم البيدوفليا (الميل الجنسي إلى الأطفال)، وإلغاء المادة 457 من قانون العقوبات، التي سمحت على مدى عقود، لمقترفي الاعتداءات الجنسية والمغتصبين أن يتزوجوا من ضحاياهم بدلا عن الزج بهم في السجن. وتناقش فيذر العنف المؤسسي الذي يفرزه القانون، والذي يؤثر على التجارب التي تعيشها المرأة. وتحت عنوان «الانضمام إلى مسيرة النساء الثائرات في مصر»، تستعرض مارغوت بدران، في الفصل الخامس والعشرين من الكتاب، مذكراتها من أيام الربيع العربي التي بلغت أوجها في مصر. وعلى مدار الفترة بين عامي 2011 و2013، تقدم الملاحظات الميدانية التي تسوقها بدران معلومات قيّمة عن المحاولات التي بذلتها النساء في سبيل إرساء حقوقهن ضمن أجندة الثورة السياسية . وتقيم بدران الحجة في معارضة الرواية السائدة بشأن الطابع السلمي الذي طبع الربيع العربي، مسلطةً الضوء على عنصر العنف وما خلّفه من آثار على مشاركة النساء في الحيز العام. ففي مارس 2011، خرجت النساء المصريات إلى الشوارع للاحتجاج على إقصائهن من إجراءات صياغة الدستور. وبينما بدا حينها أن الحركات السياسية والثوار يتجاهلون مطالبهن؛ هاجمت الجماعات الإسلامية المسيرة النسائية، بهدف تكميم أفواههن، ومنعهن عن التعبير. ويقدم هذا الفصل رؤية متعمقة بشأن الطريقة التي حافظت بها النساء على نشاطهن في السياقات التي واكبها العنف، في مقابل تردد حلفاؤهن في إظهار الدعم والمساندة للنساء المحتجات، أو حمايتهن من هجوم الإسلاميين عليهن.
وفي وسع المرء تصور النشاط الذي تخوضه النساء العربيات كما لو كان رحلة معرفية تتعلم فيها كل ناشطة، من الأجيال السابقة، كيف تتغلب على القيود التي تفرضها السياقات التقييدية، ومن ثم كيفية تهيئة الموارد اللازمة لتثقيف الأجيال اللاحقة. ويتخذ الكتاب موقفًا نقديًا مشابهًا لموقف الفيلسوفة النسوية النقدية سومي مادهوك، والتي صكّت مصطلح «تذرية العمل» لتشرح من خلاله ميل الأكاديميين الغربيين لدراسة الأعمال التي تثبت قدرة النساء في معزل عن تاريخهن الجمعي.[4] إذ يقدم الكتاب نشاط النساء باعتباره امتدادًا للمشاركة السياسية؛ فالربيع العربي لم يكن مهْد العمل السياسي الذي خاضته النساء في المنطقة على الإطلاق، بل على النقيض، اضطلعت النساء العربيات بدور أصيل في المشهد السياسي قبل انطلاق شرارة الثورة وبعدها. فعلى سبيل المثال، عادةً ما تشير الدراسات السابقة للنجاح الذي سطرته الحركة النسوية المصرية في دفع قضايا على شاكلة التحرش الجنسي من الهامش إلى الحيز العام في أثناء الربيع العربي. وهو الأمر الذي تدحضه تيريزا هانت في الفصل السابع والعشرين من الكتاب. وتحت عنوان «خارطة الحملات التي أطلقتها النساء المصريات لمناهضة التحرش الجنسي»، تنفي هانت ذلك الافتراض معتمدةً على المسح الذي أجرته على حملات مناهضة التحرش الجنسي فيما قبل 2011. وتقيم هانت رابطًا بين منحنى التعلم، أو الرحلة المعرفية، التي تجمع بين الناشطات المعاصرات اللواتي يعملن على قضايا التحرش الجنسي، والحركات السالفة. موضحة أن الربيع العربي في نهاية المطاف لم يُضف جديدًا!
وبينما تنتقد الباحثة النسوية الأمريكية المنحدرة من أصول فلسطينية ليلى أبو لغد، في كتابها «هل النساء المسلمات في حاجة إلى الإنقاذ؟»، افتقار الدراسات الأكاديمية الغربية لفهم التعقيدات المحيطة بتجارب النساء في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، أو قدرة النساء على استيعاب معنى الحرية في ممارساتهن اليومية، رغم مصادر القهر المتعددة المحيطة بهن؛[5] يتقاسم كتاب ستيفان وشراد منظورًا مشابهًا يوجه النقد للنهج بالغ التبسيط، الذي يتناول الأكاديميون الغربيون من خلاله المشاركة السياسية للنساء. ويحصر الكتاب التحليل الذي يسوقه في مشاركة النساء في السياسة وتعاطيهن معه، باعتباره توجهًا لا يحقق الغاية المنشودة في تسليط الضوء على تعقيدات التجارب التي تعيشها هؤلاء النساء خارج ذلك النطاق المحدد. كما يقصُر أهلية النساء على الحيز السياسي الوحيد، في حين ينصرف عن عدد هائل من المجالات والمواقع التي تطالب النساء فيها بتفعيل أهليتهن. ونتيجةً لذلك، لا ييسر الكتاب للقارئ فهم مدى تعقيد التجارب التي تحياها النساء فيما وراء تعبيرهن السياسي.
ختامًا، تجاوز الكتاب التعاطي المباشر مع المسلك الغربي في تصوير المشاركة السياسية التي تخوضها النساء العربيات، إلى البحث في أسسها الفلسفية: وهي أن النساء لها «حرية» و «أهلية» في التعاطي مع مصائرهن غير عابئات كثيرا بالمحدوديات السياقية الموجودة خلف الفهم الليبرالي لقدرة الأفراد على إحداث الفعل. موضحًا أن الربيع العربي أتاح للباحثين الغربيين الفرصة لفهم حضور النساء في الميادين وخروجهن إلى الشوارع، وما شغلنه من الحيز العام، باعتبار ذلك يشكل اللحظة النهائية التي يكنّ فيها متحكمات بمصائرهن، والشهادة على تحرر المرأة، وعلامة على التقدم المحرز على الصعيد الوطني نحو الليبرالية. في المقابل، تكمن مشكلة هذا الفهم في كونه يتناول نشاط النساء من المنظور الضيق، المقتصر على عملهن السياسي في سياق ليبرالي ديمقراطي. غير أن هذا الكتاب يسجل نجاحا في هذا المضمار، إذ يسلط الضوء على شواهد أخرى تثبت انخراط الناشطات النساء في العمل السياسي، فيما هو أبعد من تلك اللحظة الاستثنائية التي لعبن فيها دور الثوريات في انتفاضة جماهيرية.
هذا المقال كتب في الأصل باللغة الانجليزية لرواق عربي
[1] حافظ، شيرين (2019). نساء الميدان: القصص غير المحكية عن ثوار مصر (Women of the Midan: The Untold Stories of Egypt’s Revolutionaries). إنديانا: مطبعة جامعة إنديانا، ص. 15.
[2] ريتا ستيفان ومنيرة مايا شراد (محرر) (2020). نساء ثائرات: أثناء الربيع العربي وبعده (Women Rising: In and Beyond the Arab Spring). نيويورك: مطبعة جامعة نيويورك.
[3] نركز في مراجعة هذا الكتاب على الفصول التي تتناول قدرات النساء وفعلهن في ثلاثة بلدان، هي مصر ولبنان والمغرب. وبينما نحصر ما نكتبه في دراسات الحالة الثلاث هذه، يعرض الكتاب عددًا أكبر بكثير من البلدان في العالم العربي.
[4] مادهوك، سومي وآخرون (2013). النوع الاجتماعي والقدرة والقهر (Gender, Agency, and Coercion). لندن، المملكة المتحدة: بالغراف ماكميلان)، ص. 102.
[5] أبو لغد، ليلى (2013). هل النساء المسلمات في حاجة إلى الإنقاذ؟ (Do Muslim Women Need Saving?). كامبردج، ماساتشوستس: مطبعة جامعة كامبردج، ص. 24-25.
Read this post in: English