حمل هذا المقال كبي دي إف
في مقال نُشر مؤخرًا؛ يناقش بهي الدين حسن ثلاث ديناميكيات واسعة، يمكنها بمفردها أو متضافرة بشكل جزئي، أن تُشكّل الشئون العالمية، ومن ثم العمل في مجال حقوق الإنسان، في فترة (ما بعد) كوفيد-19: التآكل البطيء للنظام الدولي وآلياته للتعاون وحل النزاعات، مثل الأمم المتحدة؛ الزوال المحتوم لهذا النظام، بما في ذلك الدول التي يستند إليها جزئيًا؛ وأخيرًا تجدد النظام وترجمة أفضل لوعود الماضي بالسلام والتعاون والحرية والعدالة، وتحولها إلى واقع. واستنادًا إلى تفضيل واضح للسيناريو الثالث؛ تعالج الصفحات التالية، الظروف والديناميكيات التي من المرجح أن تؤثر على مستقبل العمل في مجال حقوق الإنسان. وسيُظهر سرد موجز للأحداث التي وقعت منذ تفشي الجائحة، مفاقمتها للعوائق والتحديات ذات الصلة بدلًا من محاولة حلها.
دون شك، يضاعف الفيروس الجديد من الأعباء المادية والأخلاقية الملقاة على عاتق الجهات الفاعلة، وهو ما يتسبب بالتالي في تعقيد علاقاتهم المتبادلة، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى تفاقم «التوترات» في عالم يقاسي بالفعل، من تبعات تغييرات هائلة. تشمل هذه التغييرات، تدهور النمو الاقتصادي؛ التحوّل المحتمل من وتيرة العولمة المعتادة إلى «تباطؤ الاقتصاد العالمي»؛[1] صعود القوميات الشعبوية، المرتبطة غالبًا، وبشكل جزئي، بنزعات سلطوية قوية؛ والابتعاد عن التعددية «السياسية» التي تُمثلها الأمم المتحدة، وبطرق أخرى، الاتحاد الأوروبي.
لا يعد مفاجأة أن بعض تلك التغييرات توفر فرصًا جديدة لجهات فاعلة أخرى، وفي بعض الأحيان للجهات الفاعلة ذاتها، سواء كان في مجال الصناعات الدوائية التي يمكنها جني المزيد من رأس المال والدعم الحكومي؛ أو على مستوى الحكام السلطويين الذين يزدهرون في بعض الأحيان نتيجة استغلالهم لخوف رعاياهم؛ أو للمدافعين عن نمط حياة أكثر مراعاةً للبيئة، ممن لا يتعاطفون سواء مع الصناعة الدوائية أو الحكام السلطويين. فيما يتعلق بالجهات الفاعلة في مجال حقوق الإنسان، يبدو أن القيود تفوق الفرص، إلا أن التطورات التي سيشهدها المستقبل هي ما ستحدد المآلات. أن الأمل في أن تضع الجائحة حدًا للنزاعات العنيفة ليس أمرًا مستبعدًا –برغم كونها حتى هذه اللحظة مجرد فرضيات؛ على مر التاريخ، كثيرًا ما كان التفاوض على صفقات السلام والتسويات السياسية الأخرى، يحدث بينما أطراف النزاع منهكة بشكل كامل؛ وربما يغدو للظروف الصحية آثارًا مماثلة لتدمير المحاصيل والمدن والجيوش أثناء القتال.
حتى وقتنا الحالي، لا يزال باب التنبؤات بشأن تأثيرات الجائحة مفتوحًا على مصراعيه. أولًا، نحن لا نعرف إلى أي مدى سيظل الوضع الحالي مستمرًا، وهو وضع لا يعتمد فحسب على توافر اللقاحات والعلاجات (متى؟ ولمن؟)، لكنه يعتمد أيضًا على قوة التحمّل المادية والنفسية والاقتصادية للعديد من الجهات الفاعلة المعنية. بشكل ضمني، لا يمكننا استباق الأحداث وتوقع تحسن الظروف الطبية أو تدهورها، وما إذا كان الناس، بمرور الوقت، سيتعاملون معها بشكل أفضل أو أسوأ. فقد يموت البعض، بينما يُصاب آخرون بالذعر حتى الموت، وربما يكتسب البعض مناعة ضد الفيروس، بينما يكتسب آخرون مناعة ضد الذعر، في النهاية سيكون هناك آخرين ممن لم يحدث لهم هذا أو ذاك.
ثانيًا، حتى إذا ما تغيرت الأمور «قريبًا» للأفضل مجددًا؛ فإن الآثار طويلة الأمد لا تزال مجهولة تمامًا. ربما تكون لدينا بعض الأفكار حول الكيفية التي تغلّبت بها بعض البلدان، أو العالم بأسره، على أزمات اقتصادية واسعة النطاق، على النحو الذي اختبرناه أكثر من مرة خلال العقود الماضية. ومع ذلك، فنحن لا نعرف الكثير بشأن الكيفية التي تغلّب بها الناس على آثار أزمات صحية لا تقل جسامة بمرور الوقت. إن أحدث مثال لجائحة عالمية أصابت شمال العالم، وسببت له النكبات، كانت الأنفلونزا «الإسبانية» قبل نحو مائة عام. ربما كانت هناك أوبئة أخرى أشد فتكًا، ولكنها كانت شديدة المحلية وأخفقت إلى حد كبير. على أي حال، فإن كلمة «قريبًا» تعني «في غضون» وليس «في» عام أو اثنين.
ثالثًا، وعلى نحو مستقل عن المسارات المحتملة التي تدمج عناصر مختلفة من كل سيناريو؛ فإن كل سيناريو ربما ينكشف بطرق متباينة ومتناقضة. على سبيل المثال، فإن تفكك الاتحاد الأوروبي، سواء بشكل عام أو بشكله الحالي، ربما يحدث جنبًا إلى جنب مع تدهور العديد من الدول الأعضاء، ما يؤدي بدوره إلى إضعاف مبادرات حقوق الإنسان التي يدعمها الاتحاد في الخارج. في الوقت نفسه، فقد يؤدي ذلك إلى إضعاف «التعاون الأمني» مع الدول العربية، والذي يدعم في كثير من الحالات الحكومات المعادية لحقوق الإنسان.
إلا أن ذلك المسار يعتمد بالرغم من ذلك على مستقبل لا ينبغي أن يكون مماثلًا للماضي، فربما تبدأ التعليقات على التأثيرات المرجحة للفيروس على مجال حقوق الإنسان مثلما شهدناه في مستهل فترة الجائحة. إذ كان أحد الاهتمامات الرئيسية، في العديد من البلدان، العربية وغير العربية على حد سواء، هو التوازن بين الحريات (والحقوق) على جانب، والقيود على تلك الحريات على الجانب الآخر. فرغم أن تلك القيود مبررة رسميًا بموجب أسباب تتعلق بالصحة العامة والبقاء على قيد الحياة؛ لكنها رغم ذلك اصطدمت مع الحريات الأخرى. فرضت العديد من الحكومات حول العالم مثل تلك القيود، ما أثار بدوره أسئلة حول احترام الحريات الأساسية، بل وحتى بشأن مدى الالتزام بالديمقراطية، هذا في حالة الحكومات المنتخبة.
في ظل النظم السياسية السلطوية في غالبية البلدان العربية؛ فإن مثل تلك التدابير، بالتعريف، لا يمكنها التأثير على الديمقراطية، لكنها تفاقم من القيود المفروضة على الحريات ومن ثم حقوق الإنسان. وكانت عمليات الإغلاق وحتى حظر التجول بشكل كامل هي المثال الأكثر شيوعًا. ومن الأمثلة الأخرى، نجد إغلاق الحدود وترحيل الأجانب. ربما كانت تلك القرارات تهدف لإنقاذ الأرواح، ولكنها لم تكن متوازنة بشكل كاف، وموجهة على نطاق واسع، وتم تطبيقها بشكل موجز. وكما هو الحال في سياقات أكثر تشاركية أو حتى ديمقراطية، فإن مثل تلك التدابير ربما تظل سارية المفعول في بعض أشكال تشريعات الطوارئ في مرحلة ما بعد الفيروس. وكما هو متوقع، استخدمت العديد من الحكومات السلطوية الأحكام القانونية القائمة أو الجديدة، والإجراءات الخارجة عن نطاق القانون، لاستباق أو قمع أي تحدٍ –متوهم أو حقيقي– لإدارتها للأزمة، كما استخدمت بعض الحكومات تلك الأحكام سعيًا لأهداف أخرى، مثل طرد العمال المهاجرين الذين فقدوا وظائفهم بسبب الفيروس، أو حتى قبل الجائحة.
في العديد من السياقات السلطوية، من المؤكد أن القمع تواصل، وفي بعض الأحيان توسع وبات أكثر عمقًا، كما يوضح بهي الدين حسن في حالة مصر. فحتى الأشخاص والفئات التي لم تخضع حتى الآن للمحاكمة ولم يُلق القبض عليها، لم تنج من القمع. مع ذلك، ربما يتم النظر للتطور باعتباره استمرارًا «ميكانيكيًا» ومفاقمة للديناميكيات الجديدة للقمع التي وُضعت أسسها في عام 2013. وبقدر ما تبني الحكومة شرعيتها على «الحرب ضد الإرهاب»؛ فإنها بحاجة إلى اكتشاف واعتقال ومحاكمة، وربما إعدام، «إرهابيين» جدد على فترات منتظمة. وحتى تؤتي تلك الاستراتيجية ثمارها، فإن أولئك الذين يخشون من أن يؤدي القمع إلى خلق الإرهاب عوضًا عن هزيمته، أو ينتقدون انتهاكات حقوق الإنسان، هم أنفسهم أفضل من يمكن وصمهم بالإرهاب. رغم أن ذلك لم يكن يقتصر في الماضي على الإخوان المسلمين، فقد أصبح طبيعيًا توجيه الاتهام بالإرهاب للأفراد المدافعين عن حقوقهم دون الدفاع عن رؤاهم. بصياغة أخرى، فإن انتهاكات حقوق الإنسان الإضافية أثناء الجائحة، لم تكن بالضرورة نتيجة لها.
دون أي تهاون مع الحكام السلطويين، فإننا بحاجة لتسجيل أن بعضهم قرر إطلاق سراح سجناء في بداية الجائحة، ومن المثير للحزن أن تلك التدابير لم تشمل السجناء السياسيين. مع ذلك، فقد أنقذت تلك التدابير عددًا من الأشخاص من براثن المعاملة غير الإنسانية والمهينة في السجون، رغم إسهامها في تمكين بعض المستفيدين من التدابير؛ من الانتقام أو ارتكاب جرائم جديدة.
في الوقت ذاته، تزامن تفشي الجائحة مع مساعي عدة لقمع الاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق؛ رغم أن غالبيتها بدأ في وقت سابق، ولأسباب لا صلة لها بالفيروس. في العراق، قامت «قوات الأمن» والمجموعات المسلحة التي تدافع عن الوضع السياسي القائم، والمكاسب المصاحبة له، بمواصلة الهجوم على الاحتجاجات السلمية –التي تسارعت وتيرتها منذ أكتوبر 2019– المُطالبة بإجراء إصلاحات سياسية ضرورية لوضع البلاد على مسار التنمية الاقتصادية. وشمل ذلك، الإخفاء القسري والتعذيب والاغتيالات ونيران القناصة. وقد أسفر اللجوء إلى العنف عن ترهيب واحتواء الحركة الاحتجاجية، وإضعافها بمرور الوقت، بعد أن كانت قد أعادت احتلال ميدان التحرير في وسط بغداد، وذلك قبل وبعد الإبلاغ عن حالات الإصابة الأولى بكوفيد-19 في البلاد.
في الجزائر، بُذلت محاولات جديدة لإضعاف حركة «الحراك» الشعبية، التي نظمت منذ فبراير 2019 احتجاجات واسعة النطاق ضد الجيش وحلفائه، الذين سعوا في البداية إلى «إعادة انتخاب» الرئيس بوتفليقة، ومن ثم تطويع المؤسسات للبقاء في السلطة بأية طريقة كانت. وتم اللجوء للاعتقالات والمحاكمات، في محاكم خاضعة للحكومة، لتعطيل وترهيب المعارضة. وفي لبنان، قامت الشرطة والعصابات المسلحة مجددًا، منذ أكتوبر 2019، باستخدام العنف بشكل علني ضد المحتجين، الذين تظاهروا ضد السياسات والإهمال المنهجي والفساد الذي تمارسه الجهات الفاعلة السياسية والاقتصادية المتحالفة والمحتكرة للسلطة، التي قامت بلا ريب بتحويل الديمقراطية التوافقية إلى سلطوية مجزأة.
بالرغم من ذلك، خمدت الاحتجاجات في البلدان الثلاثة، ليس فقط بسبب القمع المتواصل (عوضًا عن المُعزّز)، ولكن أيضًا بسبب الجائحة ذاتها. في بعض الحالات، كان المحتجون أقل استعدادًا للنزول إلى الشوارع، وفي حالات أخرى سعوا إلى التأكيد على امتلاكهم إحساسًا بالمسئولية كمواطنين ناضجين. تم تعليق نشاط «الحراك» في الجزائر، بشكل مؤقت، في مارس 2020. بينما لم يكن القمع، بأشكاله المتنوعة، بالضرورة متجاوزًا لمستوياته السابقة؛ إلا أن الجائحة بحد ذاتها قللت من جاذبية، بل وحتى من شرعية، العمل الجماعي. مما أدى إلى حد ما لتعقيد الدفاع، بل و«اكتساب» حقوق الإنسان من خلال المطالبات المحدودة. وربما كان مزيج القمع والجائحة قد منعا تكرار احتجاجات سبتمبر 2019 في مصر.
لا شك في أن مجموعة مختلفة من الاحتجاجات التي شهدتها بلدان أخرى، كانت نتيجة آثار الجائحة، ولكنها كذلك عكست مظالم قديمة لدى فئات معينة. وينطبق ذلك على الاحتجاجات المطالبة بالوظائف والعدالة الاجتماعية في تطاوين، جنوب تونس في يونية 2020، كما ينطبق على مطالب نقابة المعلمين الأردنيين؛ فعوضًا عن موافقة الحكومة على زيادة الرواتب، أغلقت النقابة وألقت القبض على أعضاء مجلس إدارتها. كذلك احتجاجات يونية 2020 التي شهدتها السويداء في جنوب سوريا. كما ينطبق على العديد من الاحتجاجات المحلية الأصغر حجمًا والمتعلقة برواتب العمال، وعمليات طرد العائلات من المساكن الشعبية، وغير ذلك من الاحتجاجات المشابهة التي تستمر في الاندلاع، وتتواصل أحيانًا في غالبية البلدان. ورغم أن العديد من تلك الاحتجاجات، في لحظات متبانية، أسفرت عن تدخل الشرطة أو غير ذلك من ردود الفعل القمعية؛ إلا أن دوافعها الرئيسية ودينامياتها ونتائجها، تماثل أساليب التعبير السابقة عن السخط، كلما اتخذت الحكومة إجراءات ما.
وبغض النظر عن المطالب المُعلنة؛ فمن الجليّ أن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بالمعنى الأوسع، قد تعرضت لمزيد من التآكل منذ بداية الجائحة. حيث تضررت عائدات حكومات عديدة، وغيرها من الجهات الفاعلة، نتيجة التدهور العميق وواسع النطاق الذي أصاب النشاط الاقتصادي؛ إذ انهارت معدلات السياحة وأسعار النفط، كما انخفضت مستويات التبادل التجاري بشكل حاد فضلًا عن إيرادات الضرائب والمكوس، بينما استمر الإنفاق على الصحة العامة والمزايا الاجتماعية والحوافز الاقتصادية غير كاف. كما فقد العديد من الناس وظائفهم، أو أجزاءً كبيرة من الدخل، لاسيما –لكن ليس فقط– المهاجرين والعمالة غير الرسمية وبالتالي من يعولونهم.
مع ذلك، عززت جائحة كورونا مجددًا الاتجاهات السابقة التي كانت منظورة لبعض الوقت. إذ كانت أسعار النفط تواصل الهبوط منذ 2014، وبالفعل شهدت هبوطًا بمقدار النصف عشية تفشي الجائحة في الصين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الأسعار أقل من تقديرات ميزانيات غالبية الدول المنتجة للنفط، والتي اتبعت –قبل ظهور الجائحة– سياسة «ربط الأحزمة»، كما تضررت الدول التي تعتمد في ميزانياتها على نموها الاقتصادي أو حصولها على معونات. على سبيل المثال، أنجزت مصر اتفاقها الأخير مع صندوق النقد الدولي في يونية 2020، حصلت بموجبه على قرض احتياطي لمدة 12 شهر، تبلغ قيمته 5.2 مليار دولار أمريكي، والذي تم رصده بشكل صريح للتغلُّب على تداعيات أزمة الفيروس. ومع ذلك، كان القرض في نهاية المطاف بمثابة ملحق لقرض قيمته 12 مليار دولار أمريكي حصلت عليه مصر في إطار برنامج «تسهيل الصندوق الممدد»، والذي سبقته العديد من الاتفاقيات الأخرى منذ الستينيات.[2]
إن أزمات الميزانية وميزان المدفوعات، مع أو دون تدخل صندوق النقد الدولي، ميّزت مؤخرًا –وبشكل متكرر– تاريخ الكثير من الدول. وهو ما أسفر دومًا عن خفض المنافع والإعانات الاجتماعية، مع وجود آثار جلية على توزيع الثروة والدخل، ما مثّل عقابًا للأشخاص الأقل ثراءً. في مصر، على سبيل المثال، أدت تلك التخفيضات إلى تدهور كبير في الإنفاق الصحي؛ وهو ما أضعف بدوره الاستجابة لجائحة كورونا.[3]
منذ بداية الجائحة، تراجعت حدة بعض النزاعات المسلحة الكبرى، وهو أمر مرحب به، لكنه يظل محدودًا للغاية، كما لا تزال آثاره على حقوق الإنسان غير واضحة. في مارس 2020، تم وقف الهجوم واسع النطاق الذي تشنه الحكومة السورية بدعم روسي، ضد جماعات المعارضة المسلحة في المنطقة المحيطة بإدلب –والتي تحظى بدعم تركي– وذلك على الرغم من استمرار بعض العمليات العسكرية، فضلًا عن تعزيز كلا من تركيا والحكومة السورية لتواجدهما العسكري. في اليمن، أعلن التحالف العربي الذي تقوده السعودية عن وقف إطلاق النار في أبريل 2020 من جانب واحد –ثم قام بتجديده– بشكل رسمي لإيقاف تفشي المرض، وبرغم ذلك أخفق وقف إطلاق النار في إنهاء العمليات العسكرية على كلا الجانبين. كما لم يؤد الإعلان عن أول حالة وفاة نتيجة كوفيد-19 في اليمن، بعد أيام قليلة، إلى منع تفاقم النزاع المحتدم بين الحكومة المدعومة من السعودية وحلفائها في الجنوب، حتى تم التوصل لقرار هش أخر بوقف إطلاق النار في يونية.[4]
لم تكن الجائحة بعيدة بشكل كامل عن تلك التطورات، فعلى سبيل المثال، أوقفت الحكومة السورية –بشكل مؤقت– انضمام مجندين جدد للخدمة في القوات المسلحة.[5] مع ذلك، فقد كان النزاعان في سوريا واليمن قد بلغا بالفعل طرقًا مسدودة قبل ظهور الفيروس، وهي حقيقة توضح الأهمية المتواصلة للعوامل الأخرى. وبالرغم من ذلك، فلم يتم إحراز أي تقدم ذو شأن منذ ذلك الحين، في سبيل الوصول إلى حل سلمي ونهائي لتلك النزاعات.
في السودان، تم توقيع اتفاق سلام مبدئي في أواخر أغسطس 2020، بين بعض مجموعات المعارضة المسلحة في دارفور والولايات الجنوبية –ويجب عدم الخلط بينها وبين جنوب السودان حيث تم توقيع الاتفاق– من جهة، وبين الحكومة المركزية من جهة أخرى. وبدلًا من التفكير في الجائحة؛ يعكس الاتفاق الديناميات السياسية الجديدة المتبعة منذ الإطاحة بالرئيس البشير في أبريل 2019. وفي ليبيا، يعكس التراجع الأخير في الأعمال العدائية اتباع ديناميات خارجية أوسع، بدلًا من مجابهة تفشي الفيروس.
في اليمن وسوريا والعراق وليبيا بشكل خاص (ولكن ليس في تلك البلدان فحسب)، أسفرت النزاعات الداخلية –مع عواقبها الخارجية المرئية بقوة ووضوح– عن تفكك أو تفاقم انهيار الدول والمجتمعات على نطاق واسع. وقد بدأت تلك النزاعات قبل ظهور الفيروس؛ وهي مرتبطة بشكل وثيق، وبطرق عدة، بكيفية تأسيس تلك الدول وبتاريخ كل منها في السياق العالمي الأوسع. ورغم أن تلك المجتمعات مفتتة بالفعل، إلا أن السكان الذين يعيشون داخل حدود تلك الدول، باتوا أكثر انقسامًا في سياق تلك النزاعات أكثر من ذي قبل. كما أصبحت الجماعات القائمة على انتماءات محددة، بما في ذلك العلامات الثقافية مثل اللغة والدين، أكثر قوة، بينما أضحت الروابط الاجتماعية التي تجمع تلك الجماعات أكثر ضعفًا.
في هذا الإطار، فقدت الدول –بمعني النظم السياسية التي تحتكر وسائل الإكراه على هؤلاء السكان والأراضي التي يقطنوها– جزءً من سلطتها ونفوذها لصالح جهات فاعلة منافسة. وبينما ظلت الحكومات محتفظة بعضويتها في الأمم المتحدة، وتتمتع بالاعتراف الدولي؛ إلا أنها لم تعد قادرة على إحكام سيطرتها على أجزاء كبيرة من البلاد التي تزعم حكمها. وأصبحت المجموعات المسلحة المختلفة –الكبيرة منها والصغيرة– تهيمن على أجزاء من البلاد، وتساهم بشكل كبير في تشكيل وتنفيذ السياسات في تلك الأجزاء. وبالنظر إلى التعقيدات التي تنطوي عليها النزاعات المسلحة المتواصلة أو المتكررة؛ بات العمل في مجال حقوق الإنسان يحتاج بشكل متزايد إلى أن يأخذ في الحسبان تجزئة الدول المعنية، حيث أصبحت الانتهاكات تُرتكب بوساطة عدد متزايد من الجهات الفاعلة، ويشمل ذلك الحكومات والهيئات التي كانت خاضعة رسميًا للحكومة لكنها باتت في واقع الأمر مستقلة، فضلًا عن مجموعات أخرى تتحدى الحكومة بشكل علني وتتنافس معها وتسعى لأن تحل مكانها، على الأقل في جزء من الأراضي.
إن المجال الذي يمكن أن تؤثر فيه الجائحة بشكل أكبر، هو توفير الدعم الخارجي لحقوق. إن «الحرب» الجديدة على الفيروس، مثل ما يُطلق عليه غالبًا «الحرب على الإرهاب»، نالت انتباه الجهات المانحة المحتملة. وسيكون من العسير –في زمن كورونا– العثور على مبادرة واحدة ذات شأن، من قِبَل مسئولين أوروبيين –بخلاف البرلمانيين– للدفاع عن حقوق الإنسان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، رغم توافر المناسبات. إن إهمال »المانحين» للأمر، قديم قدم انتهاكات حقوق الإنسان في البلدان «التي تستقبل الدعم»، مع التأكيد أن »الإهمال» ليس نتاجًا للفيروس. ومن المرجح أن يؤدي صعود القومية والشعبوية ومعاداة الأجانب، الذي بدأ قبل نحو عقد مع الأزمة المالية العالمية، إلى تفاقم هذا الاتجاه.
قبل صعود القوميات، لم تكن «الأممية الليبرالية» والعولمة، اللتان تزعمان الدفاع عن التعددية، منفتحتين على النحو نفسه إزاء حقوق الإنسان. بطريقتهما الخاصة، أخذتا باليسار ما منحتاه باليمين؛ إذ اكتسب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أهمية وتأثيرًا أكبر من الأمم المتحدة ذاتها، بينما كان من المفترض –نظريًا– أن تعمل كلتا المؤسستان تحت مظلتها. وليس هناك شك في وجود ضغط من أجل العدالة الجنائية الدولية، ولكن العديد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، أخفقت في التوقيع. كذا نزعت العديد من المسائل «الاقتصادية» من المحاكم وتم تركها لمحاكم التحكيم الإشكالية، ومن ثم فهي «سياسية» للغاية، بالمعنى المنضبط للكلمة. كما وضعت الأنظمة الاقتصادية العالمية الجديدة ملايين العمال في «العالم الثالث» في وضعية العبودية بحكم الأمر الواقع، وعززت الأنظمة السلطوية خارج بلاد الشمال، حتى عندما سمحت لمجتمع مدني عالمي واعٍ ومعني بقضايا حقوق الإنسان بالازدهار؛ إذ كان على الناس التأقلم مع الحكم السلطوي الذي يزعم محاربة الإرهاب وتوفير الاستقرار.
إلى حد كبير، كان من المقبول سياسيًا تجاهل فكرة أن العولمة قد يمكنها تقليص، بدلًا من تعزيز، الحريات السلبية والإيجابية[6] –حقوق الإنسان على جانب والمشاركة المتساوية للمحكومين في صناعة القرارات التي تتعلق بهم من ناحية أخرى. لقد تم تسليط الضوء مرارًا على تلك القضايا من قِبَل النقاد «الكلاسيكيون» في نقدهم «لليبرالية الجديدة»،[7] ومن المحزن أنه بدلًا من دعم رسالتهم، فقد تم التعامل معها بخفة من قِبَل العديد من المدافعين الأقل صرامة عن القضية. إنه ليس أسلوبًا ملتويًا للدفاع عن القومية والشعبوية، إذا ما أقررنا بأن جزءً بسيطًا من منافع التجارة غير المتكافئة أو صفقات الأسلحة تستفيد منه المؤسسات الإنسانية و«مساعدات التنمية». ومن بين سيناريوهات بهي الدين حسن، فإن الدفاع عن وتحسين النظام العالمي القديم هو دون شك أفضل خيار ممكن؛ ومع ذلك، فإن هذا لا يُمثّل ضمانة لاستمرار دعم أنشطة حقوق الإنسان بالشكل الكافي.
الأسوأ من ذلك، أنه في ضوء التداعيات الاقتصادية للجائحة، فقريبًا قد يتم النظر لتقشف المانحين في النفقات ومماطلتهم، باعتباره كرمًا بالغًا. إن النمو القوى للناتج المحلي الإجمالي السلبي في 2020 –حوالي 5.2 في المئة عالميًا، و4.2 في المئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وما يقارب 7 في المئة في «الاقتصادات المتقدمة» (12.1 في المئة في منطقة اليورو خلال الربع الثاني من 2020)–[8] ليس مؤشرًا واعدًا بقدر كبير من المساعدات الدولية في المستقبل، سواء كانت لتعزيز حقوق الإنسان أو لأغراض أخرى. وبالطبع، يجب تقديم مثل تلك المساعدات والدعم، حتى لو كان ذلك فقط في سبيل المصالح الذاتية طويلة الأجل للمانحين، إلا أن الاعتبارات المعيارية لن تجعل ذلك يحدث بالضرورة. ربما تغدو أولويات السياسات والإنفاق مقيدة بشكل أكبر مما كانت عليه في الماضي، نتيجة امتيازات الناخبين وغيرهم من المستفيدين الذين تعتمد عليهم بشكل مباشر كلا من الحكومات والهياكل المؤسسية الحكومية الدولية مثل الاتحاد الأوروبي.
ويبدو أن الانكماش الاقتصادي والأزمة المالية لا زالا في بدايتهما. ومن الممكن العثور على وسائل وطرق لتكيف الاقتصادات مع ظروف جائحة مزمنة، حتى في غياب لقاحات أو دواء. وربما يؤدي عزل الناس في منازلهم، التي تحولت إلى أماكن عمل، إلى تقليل حجم المعاملات وغيرها من التكاليف، مثل النقل العام والمساحات التي تشغلها المكاتب. كما قد تُمكّن الوجبات الجاهزة التي يتم توصيلها إلى المنازل، الناس من قضاء وقتًا أقل خارجها، وقد يعملون لساعات أطول. ويمكن للمدارس والجامعات التحرر من المباني باهظة التكلفة، وتجعل التدريس يتم عبر تطبيق زووم. وما لا يمكن إجراءه عبر الإنترنت، يمكن للروبوتات القيام به. مع ذلك، وبعيدًا عن كون مثل هذا المنظور لا يتمتع بالإغراء، فإنه يبقى سيناريو طويل الأمد في أفضل الأحوال –أو في أسوأها. وبصرف النظر عن مثل ذلك المستقبل الغارق في الخيال، فإن رئيسة البنك الدولي والمؤلف المشارك لها، يتوقعان أن «الأزمة ستضرب الأسر والبلدان الأقل دخلًا بشكل أكثر قسوة من نظرائهم الأكثر ثراءً». أما بالنسبة للتعافي، فإنهما يحذران من التفاؤل المبكر، إذ «يتم حاليًا إعادة فتح بعض الاقتصادات المهمة، وهي حقيقة تعكس تحسن ظروف العمل في آسيا وأوروبا، والتبدل الذي شهده سوق العمل في الولايات المتحدة. لكن لا ينبغي الخلط بين ذلك النهوض وبين التعافي. ففي جميع الأزمات المالية الأسوأ التي شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، استغرق الأمر ثمان سنوات في المتوسط، حتى يعود نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي إلى المستوى نفسه الذي كان عليه قبل الأزمة».[9]
من هذه الزاوية، يبرز السؤال حول كيفية تعزيز حقوق الإنسان بشكل متزايد، وكذلك دعم المدافعين عنها، بموارد أقل مما كانت عليه في السابق، وربما بموارد يتم جمعها داخل الدول المعنية. نأمل ألا ينضب الدعم من الموارد المعتادة، لكن ليس من المرجح أنها ستكون قريبة من مستويات الدعم السابقة. إن الموارد المحدودة المتاحة في العديد من البلدان العربية، والخسائر المتعلقة بالجائحة، مثل انهيار التحويلات والسياحة، ربما يسمحان فقط بتنفيذ مخططات أو مشروعات متواضعة ماليًا.
في الوقت الحالي، يجب أن تعتمد الأنشطة بشكل أكبر –ولكن ليس حصريًا– على الموارد غير المالية –في نهاية المطاف هي بحاجة للاعتماد على الحد الأقصى من العمالة والحد الأدنى من المال. والسؤال حول إمكانية تنفيذ مثل تلك المشاريع فعلًا أم لا، يظل مفتوحًا حتى اللحظة الراهنة. ومع ذلك ربما يجب معالجته، حتى لو كان الأمر من قبيل استكشاف كل الخيارات للتعامل مع أسوأ الحالات. دون ريب، ستبذل الحكومات السلطوية ما في وسعها، لمنع نشأة أية مصادر محلية لدعم العمل في مجال حقوق الإنسان، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالتمويل. مع ذلك، فإن هذه الحكومات بذلت ما تستطيع، وبنجاح في أغلب الأحيان، لمنع وصول التمويل الأجنبي وغيره من أشكال الدعم إلى المنظمات والنشطاء المحليين.
إلى حد كبير تبقى حقوق الإنسان في البلدان العربية ضحية الحكومات السلطوية الراسخة، التي تتمتع بدعم خارجي قوي، يأتي بعضه من الديمقراطيات الراسخة. وعلى الصعيد المحلي، فإن الجائحة الحالية عززت بشكل كبير ديناميكيات القمع الراهنة، سواء كانت قانونية أو خارج نطاق القانون. وربما تكون أهم العواقب الناجمة عن الجائحة، بالنسبة لحقوق الإنسان والمدافعين عنها، هي مزيد من التدهور في الدعم الخارجي، جزئيًا لأسباب مالية، وإلى حد ما أيضًا بسبب صعود الشعبوية والقومية ومعاداة الأجانب في البلدان المانحة.
[1] مصطلح تم ابتكاره مؤخرًا، ويشير إلى تباطؤ العولمة على مدى السنوات السابقة، انظر الإيكونوميست 24012029.
[2] لمزيد من التفاصيل وتاريخ هذه الترتيبات، انظر صندوق النقد الدولي. مصر: المعاملات مع الصندوق (Egypt: Transactions with the Fund). تاريخ الاطلاع 12 سبتمبر 2020، http://www.imf.org/en/Countries/EGY
[3] حول الأزمات الاقتصادية الحالية والسابقة والإصلاحات ذات الصلة؛ انظر على سبيل المثال كينلي، إيبرهارد (2020). ««الإصلاح الاقتصادي» منذ الثمانينيات: البديهيات السياسية لمشروع سياسي». (Economic Reform since the 1980s: The Political Corollaries of a Political Project). في صدّيقي، العربي (محررًا). دليل روتليدج لسياسة الشرق الأوسط (أبينجدون: روتليدج، 2020). 197-215
كاميت، ميلاني وإيشاك ديوان وآلان ريتشاردز وجون واتربري (محررون، 2015). اقتصاد سياسي للشرق الأوسط (بولدر: وستفيو) عن مصر على وجه التحديد: ديوان، إسحق ونديم حوري ويزيد صايغ (2020)، مصر بعد فيروس كورونا: العودة إلى المربع الأول (Egypt after the Coronavirus: Back to Square One). (باريس، مبادرة الإصلاح العربي). تاريخ الاطلاع 13 نوفمبر 2020، https://www.arab-reform.net/publication/egypt-after-the-coronavirus-back-to-square-one.
[4] للحصول على الأرقام والتواريخ، برجاء النظر في البيانات المُقدمة من جامعة جون هوبكنز. مركز الموارد. بلتيمور. ميريلاند. تاريخ الاطلاع، 1 نوفمبر 2020، https://coronavirus.jhu.edu/map.html
[5] انظر مجلي، هاني (2020). الملاذ الأخير أم الساعة الأخيرة؟ كوفيد-19 والأزمة الإنسانية في إدلب (Last Refuge or Last Hour? Covid-19 and the Humanitarian Crisis in Idlib). جامعة نيويورك، مركز التعاون الدولي. نيويورك. تاريخ الاطلاع 13 سبتمبر 2020، https://cic.nyu.edu/publications/last-refuge-or-last-hour-covid-19-and-humanitarian-crisis-idlib
[6] بالمعنى المقصود في برلين، إشعيا (1969). أربع مقالات عن الحرية (Four Essays on Liberty). أكسفورد: منشورات جامعة أكسفورد.
[7] مثل براون، ويندي (2015). تعطيل العروض: الثورة السرية للنيوليبرالية (Undoing the Demos: Neoliberalism’s Stealth Revolution). (نيويورك، كتب زون).
[8] البنك الدولي (2020). الآفاق الاقتصادية العالمية يونية 2020 (Global Economic Prospects June 2020). (واشنطن، العاصمة: البنك الدولي). تاريخ الاطلاع، 12 سبتمبر 2020، https://www.worldbank.org/en/news/feature/2020/06/08/the-global-economic-outlook-during-the-covid-19-pandemic-a-changed-world
يوروستات. تاريخ الاطلاع، 12 سبتمبر 2020، https://ec.europa.eu/eurostat/documents/2995521/11156775/2-31072020-BP-EN.pdf/cbe7522c-ebfa-ef08-be60-b1c9d1bd385b
[9] راينهارت، كارمن وفينسنت راينهارت (2020). كساد الوباء: الاقتصاد العالمي لن يعود كما كان مجددًا (The Pandemic Depression: The Global Economy Will Never Be The Same). مجلة الشئون الخارجية. 99(5). تاريخ الاطلاع، 13 نوفمبر 2020، https://www.foreignaffairs.com/articles/united-states/2020-08-06/coronavirus-depression-global-economy
Read this post in: English