حمل هذا المقال كبي دي إف
خلاصة
تهدف هذه الدراسة إلى تقديم تحليل نقدي لهيمنة نخبة رجال الأعمال المصريين، والصحف الخاصة التي يمتلكونها، إبان الانقلاب العسكري في عام 2013. هيمنة تتطلب ممارسة القوة من قبل السلطة لفرض القبول والحفاظ عليه في خضم ظروف متغيرة شهدت أحداث عنف بارزة ضد الأصوات الناقدة. وتجيب هذه الدراسة عن سؤالها الرئيسي حول كيف أن أسفر قيام وسائل الإعلام الخاضعة للهيمنة في مصر بشيطنة المحتوى الإخباري الناقد؛ عن عنف فوضوي في الشارع ضد الصحفيين. وفي إطار النظرية النقدية المتداخل التخصصات، تناقش هذه الدراسة ضمنيا حالة حرية التعبير والعنف ضد وسائل الإعلام. وأخيرا تظهر نتائج تلك الدراسة أن الصحافة الخاصة في مصر باتت أكثر خضوعًا للهيمنة منذ فترة التحضير للانقلاب وما تبعها: في مستهل الأمر، قامت بالتحريض ضد الصحفيين الناقدين، قبل أن يتحول ذلك لاحقًا إلى عنف فوضوي خارج عن السيطرة في الشارع، وقع ضحيته العديد من الصحفيين، بمن فيهم أولئك المنتمين للمعسكر المؤيد للانقلاب.
مقدمة
كانت الانتخابات الديمقراطية التي جرت في عام 2012، وأسفرت عن فوز الرئيس المدني محمد مرسي، المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، إحدى أبرز نتائج الثورة المصرية في عام 2011، ومن الجليّ أن هذا لم يحظ بقبول الجيش المصري المتورط تاريخيًا في السياسة. ما دفعه لقيادة انقلاب في 2013، بقيادة المشير آنذاك عبد الفتاح السيسي. وكان الانقلاب العسكري مدعومًا من الجماهير التي اندفعت إلى الشوارع بأعداد غير مسبوقة في مختلف أنحاء البلاد، دون مبالاة بالتطلعات الراهنة للديمقراطية التي أطاحت بحكم مبارك قبل نحو عامين ونصف العام فحسب. وكانت أجندات المنصات الإخبارية الخاضعة لسيطرة النخب السياسية والعسكرية ورجال الأعمال، إلى جانب الأخطاء السياسية الفادحة التي ارتكبتها جماعة الإخوان المسلمين، من الأسباب الرئيسية وراء الدعم الجماهيري للانقلاب.
يركز هذا المقال على العلاقات الاجتماعية، لاسيما علاقات القوة، في فترة الانقلاب والتي كانت تتحكم في إنتاج وتوزيع وتبادل الموارد، فضلًا عن معضلات السيطرة والبقاء.[1] إن الحكام السلطويين، دائمًا وأبدًا، يتصورون أن القوانين المنظمة لوسائل الإعلام والرقابة ليس الغرض منها منع تركيز ملكية وسائل الإعلام في يد عدد قليل من الأفراد، ولكن لاستخدامها في كبح المعارضة السياسية وتنشئة جمهور خاضع. ويمكن لأصحاب السلطة الاستبدادية التعايش مع صعود أباطرة الإعلام، كما يمكن لأباطرة الإعلام التعايش معهم.[2] وقد أسفر تركيز الملكية عن تسارع وتيرة انكماش التعددية في الإعلام المصري. على سبيل المثال، قام الصحفي ذائع الصيت إبراهيم عيسى، الذي أسس قناة التحرير بمجرد سقوط مبارك، ببيعها إلى سليمان عامر، رجل الأعمال وثيق الصلة بنخبة مبارك.[3]
بشكل عام، لا يمكن القول أن جني الأرباح في وسائل الإعلام المصرية والعربية أمرًا متوقعًا؛ وذلك لأن التشوهات في سوق الإعلانات والقيود المفروضة على المحتوى التحريري، تعمل على تقويض الإمكانات التجارية للاستثمار في مجال الإعلام. وتُعد السيطرة على شبكة إعلامية طريقة جيدة لإظهار الولاء، ومن ثم التزلف لحكام البلد،[4] وهو هدف رئيسي للاستثمار. وكانت ثورة 2011 بمثابة تهديد للنخب السياسية ورجال الأعمال، وبالنسبة لهم كان اتخاذ موقف مناوئ من الثورة أمرًا ضروريًا للبقاء. لقد جعلتهم الثورة يختبرون الشعور بالخوف –على الأقل شعروا بالخوف من الملاحقة القضائية بسبب كل الفساد والمحسوبية التي ازدهرت بسببها أعمالهم عندما كان مبارك في السلطة لمدة تقارب 30 عامًا. ونتيجة لذلك الخوف، فضلًا عن يأسهم من النجاة من الثورة وإدراكهم عدم قدرتهم على استغلالها لصالحهم؛ قاموا بفعل كل في وسعهم لينجح الانقلاب العسكري في 2013. ومع ذلك، فإن رد فعلهم على الثورة ودعمهم للانقلاب قد ذهب إلى حد بعيد.
في أعقاب الانقلاب، بدأت ملكية وسائل الإعلام في التحول نحو الشركات المؤسسة حديثًا والمملوكة بشكل غير مباشر للأجهزة الأمنية التالية: المخابرات العامة، المخابرات الحربية وجهاز الأمن الوطني، وهي عملية متواصلة ازدادت وتيرتها في 2017.[5] على الرغم من ذلك، فإن فهم دور الصحافة الخاصة المملوكة لنخبة رجال الأعمال، باعتبارها دعامة للنخبة السياسية خلال فترة الانقلاب العسكري؛ بإمكانه لعب دورًا جوهريًا في فهم ما كان يحدث في مصر في تلك اللحظة من التاريخ، ولفهم أسباب تفضيل الشعب دعم الانقلاب. وإحدى القضايا العديدة المثيرة للتأمل خلال تلك الآونة، هي عنف الشارع الذي ارتكبه المدنيون ضد الصحفيين، وليس فقط العنف «المألوف» من قِبَل الشرطة والجيش.
وإحدى طرق فهم تلك المسألة، هي فهم مدى قوة سوق الإعلام في مصر، والذي كان آنذاك خاضعًا بشكل لا لبس فيه لهيمنة نخبة رجال الأعمال، الذين امتلكوا على نطاق واسع القنوات الإخبارية وتحكموا بها. وفي ظل هذا الإدراك للعلاقة بين النخب السياسية ونخبة رجال الأعمال في سوق الصحافة الخاصة، كافح الصحفيون المصريون من أجل القيام بأدوارهم المعتادة في ممارستهم المهنية اليومية بعد سقوط مبارك. مع ذلك، كان الدور الراديكالي المعارض لحكومة الإخوان المسلمين أكثر ملائمة للصحفيين المصريين، وذلك بعدما استأنف غالبيتهم أدوارهم المتعاونة التقليدية لخدمة النخبة (العسكرية) الحاكمة. وكان ذلك مرتبطًا أيضًا بالافتقار إلى تقاليد الصحافة الاستقصائية وإرث الصحافة الرصينة، وضعف المهارات المهنية. وقد تفاقم الأمر نتيجة العلاقات القوية بين مالكي وسائل الإعلام الخاص آنذاك من جهة والنخب السياسية والعسكرية من جهة أخرى.[6]
لقد ذهبت غالبية وسائل الإعلام المصرية إلى أقصى الحدود في دعمها نظام الحكم العسكري في مرحلة ما بعد مرسي، مع وجود عدد قليل من الاستثناءات الفردية للبعض ممن حاولوا الحفاظ على قدر من التوازن. بشكل عام، فإن موجات الراديو والتليفزيون تحفل بالأغاني الوطنية والبرامج الحوارية التي تُمجّد الجيش. بعد عزل مرسي، قام التليفزيون المملوك للدولة، وكذلك غالبية المحطات الفضائية الخاصة، بعرض لافتة مكتوب عليها «مصر تحارب الإرهاب»، في إشارة للمواجهة بين الجيش وأنصار جماعة الإخوان المسلمين، وقد استمر عرض اللافتة لعدة أسابيع. لم يخجل معظم مضيفي البرامج الحوارية من التعليقات المتحيزة والأسئلة التوجيهية، ولا من كون ضيوفهم –المختارين بعناية– يقدمون إجابات مؤيدة للجيش بشكل حصري. وبشكل روتيني، تم خلط الحقائق مع الآراء في تلك البرامج الحوارية الجماهيرية، والتي باتت المصدر الرئيسي للأخبار بالنسبة للعديد من المصريين.[7]
يزعم أحمد موسى، مقدم البرامج المعروف بكونه صوتًا مؤيدًا للجيش، أنه تلقى «معلومات» حصرية منهم، محذرًا جمهوره: «إن ضباط الجيش الأحرار قرروا أن أي مشتبه في قتله لأحد عناصر الأمن؛ سيتعرض للإعدام فورًا في الشارع. لم تعد هناك حاجة للمحاكم بعد الآن». إن تصريح مقدم البرامج هذا، والذي يدعو بوضوح للقتل غير القانوني في الشوارع، ليس سمة فريدة من نوعها في الإعلام المصري اليوم.[8]
تُقدم فاطمة العيسوي، في الاقتباس أعلاه، صورة موجزة وقاتمة للإعلام في مصر ما بعد الانقلاب أو ما بعد مرسي. حيث أصبحت النداءات المفتوحة لممارسة العنف ضد المعارضين، المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين أو غيرهم، أمرًا اعتياديًا بالنسبة لآذان وعيون متلقي وسائل الإعلام في كل أشكاله. ولم تستهدف تلك الشيطنة المعارضين السياسيين فحسب؛ بل إنها استهدفت ببساطة كل الأصوات الناقدة، بما في ذلك الصحفيين. وبما أنه لا يوجد زي رسمي للصحفيين، لتمييز أنفسهم وفقًا للانتماء السياسي (كل ما هنالك سترة عليها شارة صحفية، إن وجدت)؛ لذا فإن العديد منهم، ومن ضمنهم المؤيدين للجيش، سقطوا ضحايا للعنف الفوضوي في الشوارع من قِبَل المدنيين، كما سيناقش المقال بالتفصيل لاحقًا.
مع هذه الفرضية بشأن التحريض المتعمد في الإعلام الخاص، ضد المعارضين والأخبار الناقدة للانقلاب العسكري في 2013، اخترت إجراء هذه الدراسة في مجال النظرية النقدية. ومن خلال التركيز على أكبر صحيفتين في البلاد، المصري اليوم والوطن، وغيرهما من وسائل الإعلام الخاص؛ سيقوم هذا المقال بالإجابة على سؤال «كيف أسفرت شيطنة الأخبار الناقدة في وسائل الإعلام الخاضعة للسيطرة في مصر إلى العنف الفوضوي في الشارع ضد الصحفيين؟».
المنهجية والمقاربة النظرية
إن الطابع الذرائعي لوسائل الإعلام شديد الوضوح، ليس فقط عندما يفحص المرء العلاقات بين مالكي وسائل الإعلام والنخبة الحاكمة، ولكن أيضًا عندما يضع المرء في حسبانه المحتوى الذي تم إنتاجه.[9] ويعزز هذا المفهوم الحاجة في هذه الدراسة لاتخاذ مقاربة نقدية، والتي تحتل مساحة كبيرة في تاريخ الاقتصاد السياسي للإعلام من منظور متعدد التخصصات.[10] وتلك مقاربة مطلوبة لفهم حالة الصحافة الخاصة في مصر، لاسيما في فترة الانقلاب العسكري، والتي أسفرت في بعض المناسبات عن عنف ضد الصحفيين أصحاب الأصوات الناقدة، والصحفيين الآخرين، بشكل عشوائي.
كأحد مؤسسي النظرية النقدية، يقوم ماكس هوركهايمر بالتمييز بينها وبين النظريات «التقليدية» استنادًا إلى غرض عملي معين: إنها نظرية نقدية لدرجة أنها تسعى إلى «إعتاق [الإنسان] من القيود التي تستعبده»، وتعمل كـ «قوة للتحرير»، وتهدف إلى «خلق عالم يلبي احتياجات وطاقات» البشر.[11] النظرية هي نهج معياري قائم على الحكم بأن الهيمنة معضلة، وهو موضوع جوهري في هذه الدراسة. وتقوم النظرية بتطبيق مقاربات تقوم بالتركيز على التوزيع غير المتكافئ للسلطة، وتقدم نقدًا للإجراءات التي تصبح بوساطتها اللامساواة مستدامة ويتم إعادة إنتاجها.
مفهوم إعادة إنتاج السلطة أيضًا في غاية الأهمية؛ من أجل استيعاب الكيفية التي تمكنت بها نخبة رجال الأعمال و«دولة مبارك» من النجاة من ثورة 2011، والعودة بقوة مع الانقلاب العسكري في 2013. وبينما نجد أن مصطلح «نقدية» يتسم بكونه شامل ورحب بشكل مفيد، إلا أنه يتضمن ممارسات وقيمًا نقدية لها طابع مميز في البحث الثقافي، مثل الاستقصاء والاستجواب وتحدي صلاحية التفسيرات الرائجة لظاهرة ما،[12] وهو ما يناسب التحليل النقدي لصراعات السلطة في بلد يجتاز تحديات بين الكيانات الثورية والكيانات المناوئة للثورة.
بشكل عام، يتجلى المجال الشاسع للنظرية النقدية في تركيزها على دراسة المجتمع بالنسبة لكيفية تأثره بوسائل الإعلام.[13] وقد يؤدي المنهج النقدي في فهم ظاهرة سياسية إلى التشكيك بوسائل الإعلام باعتبارها هجوم من ذوي المال والنفوذ، ومن ثم باعتبارها كيانات تستخدمها النخبة للهيمنة على المجتمع.[14] وتُعد تلك الوسائط الإعلامية الهجومية بمثابة نظام يعمل على توصيل الرسائل والرموز لعامة الناس؛ مثلما يشرح إدوارد هيرمان ونعوم تشومسكي. ووفقًا لهما، فإن وظيفة الإعلام هي تسلية وإمتاع وإعلام الأفراد، فضلًا عن غرس وتثبيت القيم والمعتقدات وقواعد السلوك في أذهانهم، التي من شأنها إدماجهم في البنى المؤسسية للمجتمع الأوسع. وفي عالم تحتشد فيه الثروات والصراعات الكبرى للمصالح الطبقية؛ فإن إنجاز هذا الدور يتطلب دعاية منهجية.[15]
إن دلالة «القبول» في عمل هيرمان وتشومسكي، تمضي جنبًا إلى جنب مع مفهوم فنسنت موسكو بشأن الهيمنة، حيث يجادل بأن الهيمنة تتطلب ممارسة السلطة للحفاظ على القبول في ظل ظروف متغيرة. والإعلام هنا يلعب دورًا مركزيًا؛ باعتباره أمرًا جوهريًا لنجاح السلطة في إحكام الهيمنة، بالإضافة إلى أهميته للمقاومة وبناء الهيمنة المضادة.[16] لطالما شهد استخدام النظرية النقدية تزايدًا في أوقات الأزمات، مثل احتجاجات 1968 في العديد من البلدان، والانهيار المالي العالمي في 2008. ومن ثم، فلا مجال للدهشة حين يتم استخدامها في هذا المقال الذي يفحص الانقلاب العسكري الذي حظي بدعم شعبي في 2013، والذي جاء كرد فعل للثورة التي حدثت قبل ذلك بنحو عامين ونصف العام.
واستنادًا إلى المجال النظري المُفضّل والمذكور أعلاه؛ فقد صُممت منهجية هذا البحث لإجراء تحليل نوعي نقدي لقضايا حرية الصحافة بشكل عام، والعنف ضد الصحفيين بشكل خاص. ويناقش التحليل الأدبيات المتاحة التي تغطي التحريض ضد جماعة الإخوان المسلمين، والعنف ضد الصحفيين من قِبَل قوات الدولة (الشرطة والجيش) والمدنيين. ومن حين لآخر تؤدي المناقشات، في هذا المقال، إلى التأمل في محتوى أكبر صحيفتين مملوكتين للقطاع الخاص في البلاد، المصري اليوم والوطن، واللتان قامتا بإنتاج أطر إخبارية ممنهجة تنشر “الخوف” من الإخوان المسلمين بين المجتمع و “تروج” للجيش كقوة حامية له في نفس الوقت.[17]
علاوةً على ذلك، فإن هذا المقال يستفيد من إجابات خبراء مصريين مخضرمين في مجال الإعلام، تمت مقابلتهم من أجل هذا البحث. وقد تم تضمين تلك الإجابات في الحجج والتحليلات في أجزاء مختلفة في المقال كلما اقتضي الأمر. وتلعب تلك المقابلات دورًا مهمًا؛ لأن كل من تمت مقابلتهم لديهم القدرة على الحصول على معلومات ليست متوفرة عادةً للصحفيين العاديين العاملين في صناعة الصحافة الخاصة. وكل المصادر التي قمت بمقابلتها، هم من خبراء الإعلام المؤثرين في المجال، الذين قدموا جزءًا كبيرًا من الإنتاج الإخباري اليومي في سوق الصحافة الخاصة في فترة الانقلاب، سواء من خلال كونهم منتجين فعليين للمحتوى أو عبر إدارتهم لشركات إنتاج الأخبار.
في النصف الثاني من عام 2015 –أي بعد عامين من الانقلاب– أجريت مقابلات مع خمسة من هذه المصادر رفيعة المستوى عبر البريد الإلكتروني لأغراض هذه الدراسة، كجزء من أطروحتي للدكتوراه. أربعة منهم كانوا من الصحفيين والمحررين المؤثرين، والخامس كان مديرًا تنفيذيًا لشركة إعلام خاصة. وتتراوح أعمارهم بين أواخر الثلاثينات وأواخر الأربعينات. وقمت بتقديم تفاصيل قليلة نسبيًا حول الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات؛ وذلك لإزالة أي معلومات قد تكشف عن هويتهم؛ تجنبًا لتعريض أمنهم للخطر، لاسيما وأن جميعهم لا يزالون يعيشون في مصر. كانت البلاد آنذاك تُعتبر أحد أسوأ الدول التي تقوم بسجن الصحفيين في العالم،[18] ولم يطرأ تغيير على الوضع حتى الآن.[19] من ثم، قررت إجراء المقابلات دون الإفصاح عن هوية الأشخاص الذين قابلتهم، ومنحتهم أسماءً مستعارة محايدة بين الجنسين، وهي نور مجدي وشمس زكريا ورضا عباس ووسام شوكت وإحسان سمير.
حرية التعبير: فقط ضد الإخوان المسلمين
لقد أوضح تشومسكي وهيرمان كيف أن الحكومة الأمريكية، والإعلام الخاضع لهيمنة النخبة، قاما بشن حرب ضد الشيوعية والشيوعيين، وأي شخص يبدو أنه متعاطف معهما، في بداية الخمسينيات من القرن المنصرم. وقد كان لذلك تأثير طويل الأمد على الحياة السياسية الأمريكية حتى يومنا هذا:
لطالما كانت الشيوعية، باعتبارها الشر المطلق، هي الشبح الذي يطارد أصحاب الأملاك؛ لكونها تهدد جذور مراكزهم الطبقية ومكانتهم المتفوقة. حيث كانت الثورات السوفيتية والصينية والكوبية بمثابة صدمات للنخب الغربية. وقد ساهمت الصراعات المتواصلة وانتهاكات الدول الشيوعية، التي نالت دعاية جيدة، في رفع العداء للشيوعية ليغدو المبدأ الأول للأيديولوجية والسياسة الغربية. وتساعد هذه الأيديولوجية على تعبئة العامة ضد العدو، ولأن المفهوم يتسم بالغموض؛ فيمكن استخدامه ضد أي شخص يدافع عن سياسات من شأنها تهديد مصالح الملكية أو تدعم التوافق مع الراديكالية والدول الشيوعية. ومن ثم، يساعد على تفتيت الحركات اليسارية والعمالية، ويعمل كآلية للسيطرة السياسية.[20]
وقد تبنّت النخبة المصرية النهج ذاته إلى حد ما، وأعلنت حربًا إعلامية ضد جماعة الإخوان المسلمين، وضد أي شخص قد يتعاطف معها أو ينتقد الانقلاب العسكري ولو بشكل طفيف. وقد ظهرت محاولات متعددة لأداء الوظيفة الإعلامية بشكل غير متحيّز، من خلال رواية القصص الخبرية من زوايا مختلفة، بالإضافة إلى تقديم معارضين سياسيين في البرامج الحوارية نفسها. ولكن لم تصمد تلك المحاولات لوقت طويل. فنتيجة لتزايد الاستقطاب في المشهد السياسي؛ تزايد تصوير المعارضين الأيديولوجيين لأجندة الجيش السياسية، المدعومة إعلاميًا، باعتبارهم العدو المطلق، و«إرهابيون» تعد إبادتهم أمرًا مشروعًا.[21]
نعود مجددًا إلى هيرمان وتشومسكي، حيث يناقشان هذه المرة ظاهرة أولئك الذين «تحولوا» من الشيوعية إلى «الوسط»، وقامت وسائل الإعلام في الولايات المتحدة بتقديمهم كشهود عيان، بشكل مشابه للغاية للظاهرة التي حدثت في مصر. فعلى نحو مباغت تحوّل بعض «الراديكاليين» السابقين، بشكل أساسي من جماعة الإخوان المسلمين، بعد أن «رأوا النور» –عبارة استخدمها كل من هيرمان وتشومسكي– وتم تصنيفهم كـ «خبراء» وتحولوا إلى نجوم في كافة وسائل الإعلام. ويعد ثروت الخرباوي، عضو جماعة الإخوان المسلمين سابقًا، أحد الأمثلة البارزة. فالخرباوي، وهو محام، كان عضوًا قياديًا بالجماعة حتى غادرها في عام 2002. وجابت شهرته الآفاق عندما نال كتابه (سر المعبد: الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين)، والذي نشر في 2012، تغطية مكثّفة في وسائل الإعلام الخاصة في 2013، لاسيما خلال فترة الانقلاب العسكري. ولن يثير الأمر دهشتنا حين نعلم أنه إلى جانب ظهوره المعتاد بشكل مفرط على شاشات القنوات التليفزيونية الخاصة والمملوكة للدولة، فإنه أصبح أيضًا أحد كُتاب الرأي الذين يكتبون بانتظام في صحيفة الوطن وله عمود ثابت. وأزعم أن وظيفته كانت توفير الأساس الصُلب لتصوير جماعة الإخوان المسلمين كطائفة خطيرة، أكثر من كونها جماعة دينية سياسية محافظة.
وفي الليلة التي شهدت الانقلاب العسكري، تم إغلاق قنوات التليفزيون الإسلامية مثل: مصر 25 والحافظ والناس والرحمة، كما أُغلقت قنوات أخرى أقل شهرة في وقت لاحق. وقد تم ذلك حرفيًا خلال بث التليفزيون لبيان الانقلاب العسكري الذي قرأه السيسي من وثيقة مكتوبة. وكان ذلك خطوة من الجيش أظهرت نوع النظام القمعي الذي يوشك على فرضه بعد سقوط الإخوان. وبعد ذلك بنحو ثلاثة أشهر، في الخامس والعشرين من سبتمبر 2013، تم إغلاق صحيفة الحرية والعدالة التابعة لجماعة الإخوان المسلمين (وتحمل الصحيفة اسم الحزب السياسي للجماعة)، كما تعرض مكتبها للمداهمة ومصادرة كل الأجهزة.[22]
ولا يعني كل المذكور آنفًا أن الإعلام المؤيد لجماعة الإخوان المسلمين، أو المؤيد للإسلاميين بشكل عام، كان «بريئًا». ففي النهاية يتعلق الأمر كله تقريبًا بالهيمنة، وبقدر استخدام الصوت الإعلامي لجماعة تسعى للسلطة –بغرض تحقيق الحد الأقصى من السيطرة على المجتمع– في سبيل الوصول إلى السلطة أو الحفاظ عليها. ففي غضون ذلك العام وحده، تم تقدير إنفاق جماعة الإخوان المسلمين على وسائل الإعلام بنحو 417 مليون يورو (سعر الصرف لعام 2013: اليورو الواحد = 9.6 جنيه مصري).[23] في الفترة ذاتها، حرضت أصواتًا من المعسكر الإسلامي، ومؤيدة لجماعة الإخوان المسلمين، على العنف ضد شخصيات علمانية، إلا أن تلك المحاولات قوبلت بإدانة سريعة للغاية، سواء من الجماعة أو غالبية الأصوات الإسلامية الأخرى.[24] وتُقدّم نهى ميللر، في كتابها (صوت جماعة الإخوان المسلمين: الدعوة والخطاب والاتصال السياسي)، سردًا لمحاولات الجماعة للسيطرة على الإعلام. ففي التاسع من ديسمبر 2012، تجمع أكثر من مائتي صحفي ومقدم برامج في ميدان التحرير، للاحتجاج ضد ما أطلقوا عليه محاولة الإسلاميين للسيطرة على الإعلام المصري. وقد حضرت ذلك الاحتجاج شخصيًا، ولاحظت أن العديد من المشاركين كانوا من الموالين لمبارك وأنصار الجيش في وسائل الإعلام المملوكة للدولة. بالرغم من ذلك، فإن هذا لا ينفي محاولات جماعة الإخوان المسلمين للسيطرة –أو على الأقل التأثير– على وسائل الإعلام المملوكة للدولة، بالإضافة إلى إنفاقها الضخم على الإعلام الخاص آنذاك.
وأعتقد أن وسائل الإعلام التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، والدعم الذي قدمته وسائل الإعلام الإسلامية الأخرى، لمرسي وأولئك الذين كانوا في معسكره، ربما تكون كلها قد دفعت معسكر الثورة المضادة (في الأغلب نخبة رجال الأعمال والسياسة) لتعظيم جهودهم الرامية إلى مجابهة الخطاب الإعلامي المؤيد لمرسي والذي بالغوا في تقديره. ففي نهاية المطاف، كان تظاهر الملايين في الشوارع ضد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين في الثلاثين من يونيو، بمثابة دليل دامغ على إخفاق كافة وسائل الإعلام الإسلامية المؤيدة لمرسي في كبح حملة تمرد (وهي حركة انطلقت في السادس والعشرين من أبريل 2013 بهدف «سحب الثقة» من مرسي). وأزعم أن النجاح الساحق لتمرد والفشل الهائل للإعلام الإسلامي في هذا اليوم تحديدًا؛ أعطى إشارة قوية للجيش أن بإمكانه المضي قدمًا لإتمام الانقلاب العسكري الكامل خلال ثلاثة أيام، أي في الثالث من يوليو، وليس على غرار طريقة عزل مبارك.
في هذا السياق، وبينما كنت أختبر فرضيتي إزاء مسألة ممارسات وسائل الإعلام أثناء فترة الانقلاب، وجهت للخبراء الذين أجريت معهم المقابلات هذا السؤال بهدف الحصول على إجابة مباشرة، سواء بالاتفاق أو الاختلاف: «باتت حرية التعبير، في الغالب، ممارسة مسموح بها فقط ضد جماعة الإخوان المسلمين، وليس ضد النخب الحاكمة. إلى أي مدى تتفق/تتفقين أو تختلف/تختلفين مع تلك الفكرة؟». لقد كنت أسعى لتحديد ما إذا كان بمقدورهم الاعتراف بشكل مباشر بالتحيّز ضد جماعة الإخوان المسلمين من عدمه. وفي إيجاز شديد وبشكل مباشر، عبّرت إجابات كل من شمس زكريا وإحسان سمير ووسام شوكت عن الاتفاق بشكل كامل. أما إجابة نور مجدي، التي تضمنت كذلك اتفاقًا مع الفرضية، أضافت ما يلي: «أنا أتفق تمامًا مع تلك الفرضية؛ فكل وسائل الإعلام حاليًا يمكنها انتقاد جماعة الإخوان المسلمين، بل يمكنها أن توجه لها تهمًا زائفة. لكن حين يتعلق الأمر بالنخب الحاكمة، فقد تتم مقاضاة الصحف بتهمة نشر أخبار كاذبة». وقد أيدت إجابة سمير الرؤية التي قدمها تعليق مجدي: «(أنا) أتفق مع ذلك تمامًا. علاوةً على هذا، فمن العسير الآن العثور على اختلاف ملحوظ بين الصحافة الخاصة وتلك المملوكة للدولة، عندما يتعلق الأمر بتغطية أخبار الرئيس [على سبيل المثال]. [أود] القول بأننا نعيش في عهد الصوت الواحد».
في أعقاب الانقلاب العسكري، تمكنت فاطمة العيسوي من مقابلة مجدي الجلاد، رئيس تحرير صحيفة الوطن الذي يصعب الوصول إليه، من أجل مشروعها البحثي «الإعلام المصري في طور التحوّل»، حيث كتبت ما يلي:
بالنسبة لمجدي الجلاد، رئيس تحرير صحيفة الوطن، والذي يُفترض أنه وثيق الصلة بالمؤسسة العسكرية، لم يكن ممكنًا للإعلام الليبرالي أن يتخذ نهجًا حياديًا. حيث قال: «تلك معركة لم نقم باختيارها. لقد تم تصويرنا كأشرار: أطلق علينا مرشد جماعة الإخوان المسلمين لقب إعلام العار، وتم إضرام النيران في مكاتب الصحيفة» […] وبالإضافة إلى محاولات التأثير على وجهات النظر، فإن نشر الوثائق «السرية» يُعد أداة قوية اعتاد الإعلام الوطني على استخدامها في حملات التشهير. وقامت صحيفة الوطن، المعروفة بقدرتها على ممارسة تلك اللعبة بإتقان، بنشر ما زعمت أنها وثائق مسربة، لحسابات مصرفية تثير الريبة لشخصيات بارزة في قيادة الجماعة أو بيانات تهرب ضريبي لمشروعات تجارية مملوكة لهم. […]، وفي حال لم تكن هناك صلة بين نشر الوثائق المسربة والإعلام المصري، فإن تكرار استخدام تلك الوثائق، مع عدم توافر قنوات مستقلة لفحص محتواها؛ فاقم من التلاعب السياسي بالمنصات الإعلامية. الحقيقة أن تلك الوثائق قد تم تضخيمها، وتمت إعادة نشرها بوساطة المواقع الإخبارية والصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى إجراء مناقشات حولها في البرامج الحوارية؛ الأمر الذي جعل منها أداة سياسية قوية.[25]
على النقيض من موقف الجلاد بشأن السياسة التحريرية لصحيفة الوطن، والتي تشبه إلى حد بعيد السياسة التحريرية لصحيفة المصري اليوم، إزاء العلاقة مع الأصوات الناقدة للجيش، نشرت صحيفة التليجراف العنوان التالي في التاسع من يوليو 2013:
التليجراف: أحمد عاصم: المصور المصري الذي سجّل وفاته
يسرد المقال كيف تم التعامل بعنف مع تلك الأصوات الناقدة. وتزودنا القصة، التي نشرت أيضًا من قِبَل وسائل إخبارية محلية ودولية عديدة، بتفاصيل حول أحمد عاصم، المصور لدى صحيفة الحرية والعدالة الذي تمكّن من التقاط فيديو يصوّر عملية اغتياله بوساطة قناص تابع للجيش خلال ما يُعرف بـ «أحداث الحرس الجمهوري»، حيث تعرض عشرات المعتصمين، المؤيدين لجماعة الإخوان المسلمين، للقتل في الثامن من يوليو. لقد بدا واضحًا من الفيديو، الذي تمكن من الوصول إلى موقع يوتيوب، حقيقة شن الجيش لهجوم عنيف. ويُعد الفيديو بمثابة دليل مصوَّر مثير للإزعاج على أن الأصوات المناهضة لجماعة الإخوان المسلمين تحظى بالتشجيع والدعم، بينما لا يُسمح بانتقاد الجيش وحلفائه. أو الأسوأ من ذلك، إسكات الأصوات الناقدة للأبد. وكما سنناقش في القسم التالي، أضحت مصر واحدة من أكثر البلدان عداءً للصحفيين وأحد أكبر سجّانيهم.
العنف ضد الصحفيين: الشرطة والمواطنون الشرفاء
بالإضافة إلى عنف الدولة ضد الصحفيين، كانت هناك دومًا سيطرة على الصحفيين والمحتوى الذي يقومون بإنتاجه، كما أوضحنا سابقًا. حيث استمر فرض درجة هائلة من رقابة الدولة والجيش على الإعلام، عبر إطار قانوني قمعي يفرض قيودًا على التقارير الإخبارية الناقدة. على سبيل المثال، فإن محاكمة الصحفيين لم تكن ممارسة معتادة في ظل نظام مبارك فحسب، بل إنها كانت ممارسة شائعة أيضًا في ظل حكم جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك في ظل الحكومة الحالية المدعومة من الجيش.[26] وقد أسفر ذلك عن محتوى إخباري خاضع لدرجة عالية من الرقابة، يتطابق غالبًا مع روايات الجيش للأحداث. مع ذلك، فإن قتل أحمد عاصم بوساطة قناص الجيش هو أمر رمزي أكثر من كونه نمطًا للتعامل. وغالبًا ما يتخذ العنف ضد الصحفيين أشكالًا أخرى: التعرض للاعتداء أو في بعض الأحيان للقتل بطرق أقل تعقيدًا، وذلك في وسط احتجاج ربما يتحول إلى اشتباك، أو التعرض للاعتقال والتعذيب، أو التعرض للاحتجاز بمذكرة قانونية أو بدونها. مع ذلك، فإن أكثر أشكال العنف إثارة للإرباك ضد الصحفيين، هي تلك التي مارسها من يُطلق عليهم «المواطنون الشرفاء»، وهو ما سنناقشه لاحقًا في هذا القسم.
في 2014، قامت لجنة حماية الصحفيين، والتي سأعتمد في هذا القسم على بياناتها باعتبارها مصدر معروف وموثوق به، بإصدار تقرير عن الانقلاب، وصنّفت مصر في المرتبة السادسة في قائمة أسوأ الدول التي تقوم بسجن الصحفيين في جميع أنحاء العالم، مع الإشارة لوجود ما لا يقل عن اثني عشر صحفيًا خلف القضبان.[27] وأود القول أن العدد الحقيقي ربما كان أكبر من ذلك، ولكن من العسير للغاية التحقق، حيث كان هناك الكثير من المحتجزين بشكل غير رسمي لفترات قصيرة، وأحيانًا لبضع ساعات فحسب، قبل أن يتم إطلاق سراحهم. وهناك حالات احتجاز أخرى لم توثّق، لعدم الإبلاغ عنها، لاسيما فيما يتعلق بأولئك الصحفيين المستقلين، حيث إنهم لا يتمتعون بالحماية الملائمة، سواء من المطبوعات التي يقدمون فيها إسهاماتهم أو من نقابة الصحفيين المصريين. مع ذلك، ولأغراض البحث وصعوبة التحقق من دقة المعلومات بشأن الصحفيين الذين تعرضوا للاحتجاز أو الاعتداء أو القتل؛ فسألتزم ببيانات لجنة حماية الصحفيين بشأن تلك الفترة، باعتبارها مصدرًا موثوقًا به للغاية، وسأتجاهل افتراضاتي بشأن العدد الأكبر المحتمل.
سأبدأ بهذا الاقتباس المثير للاهتمام من تقرير لجنة حماية الصحفيين ذاته: «قال وزير الداخلية المصري محمد إبراهيم في مؤتمر صحفي، عقد يوم الاثنين، أنه كان يراقب ردود فعل الإعلام على مقتل المتظاهرين، معتبرًا أن التقارير الإعلامية لبعض الصحفيين بمثابة إهانة له. ووفقًا لتقارير إخبارية، لدى سؤال الوزير بشأن الاعتقالات والمضايقات التي تعرضت لها الصحافة؛ أجاب مازحًا أنه كان سيلقي القبض على كل الصحفيين، وليس فقط أولئك الذين قاموا بتغطية الاحتجاجات خلال نهاية ذلك الأسبوع».[28]
قمت بسؤال نور مجدي حول عنف الشرطة ضد الصحفيين في مصر: «هل توافق/توافقي أم لا على وجود عنف منهجي ضد الصحفيين؟» نال افتراض السؤال القبول من مجدي: «أوافق تمامًا، أرى أن [الصحفيين] مستهدفون طوال الوقت، لاسيما المصورين الصحفيين؛ لأنه من السهل تمييزهم». من المثير للتأمل، أن عنف الشرطة لم يُميّز بين أي نوع من الصحفيين، حتى أولئك الذين يعملون لحساب وسائل إعلام مثل وكالة أنباء أونا أو موقع دوت مصر المؤيدين للجيش. لم ترغب الشرطة في وجود أي نوع من الصحافة في الشارع بينما تقوم بالتعامل مع الاحتجاجات، وهو أمر جلي في الاقتباس التالي من لجنة حماية الصحفيين:
من بين الصحفيين الآخرين الذين تعرضوا للاحتجاز، كان هناك الصحفيان في موقع دوت مصر محمد وسام ومحمد أمين والمصور أحمد عادل؛ ومن بوابة فيتو كل من المحرر محمد محروس والمصور مؤمن سمير؛ ومراسل وكالة أنباء أونا شمس الدين مرتضى؛ ومصور موقع مصراوي الإخباري علاء القصاص؛ ومراسلة موقع البوابة الإخباري إيمان أحمد، وذلك وفقًا لمرصد صحفيين ضد التعذيب [منظمة غير حكومية مصرية] ونقابة الصحفيين المصريين. وقالت المجموعتين إن كل أولئك الصحفيين المحتجزين قد تم إطلاق سراحهم لاحقًا. وليس من الواضح ما إذا كان سيتم توجيه اتهامات ضد أي منهم.[29]
لدى شمس زكريا نزوع إلى تعميم مثل تلك الممارسات على مدى تاريخ طويل: «الشرطة واضحة: لا تتجاوز حدودك [كصحفي] وإلا ستجعل منك عبرة للآخرين. لقد قامت جماعة الإخوان المسلمين بارتكاب الممارسات نفسها، وقد فعل مبارك ذلك من قبل، ويمضي نظام الحكم الحالي على خطاهم. لذلك لا أراها كظاهرة جديدة. لقد كنا [الصحفيين] وسنظل مستهدفين، طالما يتم اعتبارنا بمثابة العين التي ترى ما يجب أن يبقى في الخفاء». جدير بالذكر أنه خلال حكم مبارك وحتى الانقلاب العسكري، كان الصحفيون الغربيون شبه محصنين من استهداف الشرطة. مع ذلك، فمنذ عودة قوات الشرطة للشوارع في أعقاب الانقلاب، توقف العمل بتلك القاعدة، وقد وثّقت لجنة حماية الصحفيين آنذاك: «قالت أورلا جيرين، مراسلة بي بي سي في القاهرة، في منشور على تويتر، أن فريقها تلقى تحذيرًا من ضابط شرطة يرتدي ملابس مدنية بأنهم سيتعرضون لإطلاق النار؛ في حال واصلوا التصوير في منطقة عين شمس بالقاهرة، حيث كانت الشرطة تبحث عن متظاهري جماعة الإخوان المسلمين».[30] أما إجابة رضا عباس فقد حملت اعترافًا بأن البيئة تحمل عداءً ضد الصحفيين، بينما رفضت فرضيتي بأن مثل هذا العنف منهجي، قائلةً: «لا! إنه ليس منهجيًا، ولكن [هناك] بيئة معادية للصحافة». وتميل إجابة إحسان سمير تقريبًا نحو رأي عباس: «معظم [الحالات] هي حوادث فردية. كما أعتقد أن الدولة في الماضي، قبل سقوط مبارك، كانت تقوم بمضايقة الصحفيين أكثر من وقتنا هذا، ولكنها كانت تفعل ذلك بطرق مختلفة غير الزج بهم في السجون». وقد حملت إجابة وسام شوكت رفضًا للفرضية بشكل موجز: «لا! ولكن توجد بعض القيود». كما نرى، تتناقض إجابات كل من سمير وشوكت مع تقارير لجنة حماية الصحفيين وغيرهم ممن أجريت المقابلات معهم.
لدى النظر من زاوية مختلفة إلى ظاهرة العنف ضد الصحفيين في مصر، فإنه يجدر بنا ملاحظة صعود نوع من العنف يمارسه المدنيون، الذين عادة ما يُطلق عليهم «المواطنون الشرفاء». وفي وقت مبكر، ظهر ذلك المصطلح في بيانات المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فور سقوط مبارك في 2011، وذلك كلما كانوا يعلنون بعض القرارات السياسية أو يخاطبون الشعب بتفسيرات عاطفية لإجراء عسكري ما، حيث كان المجلس آنذاك الحاكم المباشر للبلاد. بالرغم من ذلك، فإن أول استخدام للمصطلح في سياق سلبي، كان خلال أحداث ماسبيرو الدامية في التاسع من أكتوبر 2011، عندما اشتبك الجيش مع متظاهرين (غالبيتهم من المسيحيين) وقتل العديد منهم. وعلى نحو غير مألوف، قام التليفزيون المملوك للدولة بمخاطبة «المواطنين الشرفاء» ودعاهم إلى «الدفاع عن الجيش» وحمايته من المتظاهرين، بينما في حقيقة الأمر كان الجيش هو من يهاجم المتظاهرين. وقد وصف حسام بهجت، المدافع عن حقوق الإنسان، الأحداث قائلًا: «إن ما بدأ كمظاهرة سلمية في القاهرة استحال إلى أحد أفظع مذابح المسيحيين في مصر الحديثة».[31] وافترضت إجابة نور مجدى أن مصطلح «المواطنين الشرفاء» استخدم للمرة الأولى من قِبَل الجيش، مع التأكيد على الصلة بينهم وبين العنف ضد الصحفيين: «المرة الأولى التي استخدم فيها هذا المصطلح كانت من قِبَل أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ومنذ ذلك الحين قام كل شخص باستخدامه على طريقته الخاصة. وأجل، هناك صلة، سواء كانوا [المواطنون الشرفاء] متطوعون بجهودهم، اعتقادًا منهم أنهم بذلك يساعدون في ضمان الاستقرار للبلاد، أو كانوا مدفوعين من قِبَل قوات الأمن لإبقائهم [الصحفيين] بعيدًا عن المشهد».
وقد نشر موقع محيط الإخباري تحقيقًا بشأن ظاهرة «المواطنين الشرفاء»، كشف عن ظهور المصطلح قبل بضعة أسابيع من بيانات المجلس الأعلى للقوات المسلحة؛ وهو ما يتعارض مع اعتقاد غالبية المراقبين:
كان اعتصام 2011 في ميدان التحرير مجالًا للصراع بين الباعة الجائلين والشباب الثوريين الذين يقومون بحماية الميدان من البلطجية ومحبي الرئيس المخلوع مبارك، الذين كانوا يهاجمون الميدان من حين لآخر، بهدف إخلاءه بأي ثمن. وأثناء تلك الفترة، ظهر مصطلح جديد، وكان يستخدم للإشارة إلى البلطجية وغيرهم ممن يدافعون عن مبارك ويهاجمون الثورة، وهو مصطلح «المواطنون الشرفاء»، حيث بدأت وسائل الإعلام المؤيدة للنظام آنذاك بتلقين المصطلح للمشاهدين.[32]
وبغض النظر عن الوقت الذي ظهر فيه المصطلح بالضبط، فإن الارتباط بقوات الأمن فضلًا عن عدم إمكانية توقعهم ظلا دومًا سمتين في هؤلاء المهاجمين، وهو ما تم التعبير عنه في تعليق رضا عباس: «هذا المصطلح غالبًا ما يتم استخدامه لوصف الأشخاص الذين يعملون لحساب وزارة الداخلية في أغلب الأحيان، [و] هم مستعدون للتحرك فور صدور الأوامر. هذه الأيام، من الخطير أن تقوم بالعمل الصحفي في الشارع، فأنت لا تعرف أبدًا ما قد تواجهه [في طريقك]». ما ورد في تعليق عباس، يمكن الاستدلال عليه من تقارير لجنة حماية الصحفيين حول العنف ضد الصحفيين في مصر، ليس فقط من قِبَل الشرطة، ولكن أيضًا بوساطة المواطنين الشرفاء المتطوعين:
تقول سارة هاشم، مراسلة صحيفة الفجر اليومية المستقلة، في بث على موقع يوتيوب أنه تم إلقاء القبض عليها بالقرب من ميدان التحرير، بينما كانت تقوم بتغطية المظاهرات. وقالت إن الشرطة سلمتها لمتظاهرين مؤيدين للحكومة بعد إبلاغهم أنها تتظاهر ضد الحكومة. وقالت إن أحدهم قام بجرّها على الأرض في حين كان الآخرون يقومون بضربها وصفعها. وقالت هاشم، في بيان تم بثه على قناة صحيفة الفجر على موقع يوتيوب، إنها فقدت وعيها خلال تعرضها للاعتداء ونقلت إلى المستشفى لفترة وجيزة. وفي مقطع فيديو نشره موقع كايرو نيوز (أخبار القاهرة)، ظهرت هاشم وهي يتم اقتيادها بعيدًا بوساطة من ذكرت لاحقًا أنهم متظاهرين مؤيدين للحكومة، وكانت تصرخ طالبًا للرحمة وهي تقول إنها صحفية.[33]
ومن المثير للتأمل، أنني عندما عرضت تلك الحادثة على كل من إحسان سمير ووسام شوكت، كانت الاستجابة برفض التعليق عليها. كانت هناك ضحكة من سمير في الرد على السؤال مع الإضافة التالية: «عادةً، تلك هي فقط البداية»، في إشارة لهذا النوع من العنف. وببساطة لم تصلني إجابة من شوكت. وأرجح أن إحجامهما عن الإجابة على سؤالي كان بسبب الخشية من الملاحقة.
من العنف الموجه إلى الفوضوي
إن استيعاب الخطاب المُكثّف الذي يقوم بشيطنة وسائل الإعلام التي تُقدّم الأخبار الناقدة، يبدأ بفهم العلاقة بين مصر وقناة الجزيرة القطرية. لطالما كانت قناة الجزيرة مصدرًا للقلق بالنسبة للحكومات المصرية المتعاقبة في عهد مبارك، واستمرت كذلك في ظل حكم الجيش بعد ثورة 2011. جدير بالذكر أن الثورة حظيت بدعم شبكة الجزيرة وتمت تغطيتها بشكل مكثف ومتحيز. عندما قام مبارك يومًا ما بجولة في المقر الرئيسي لقناة الجزيرة في الدوحة؛ سأل مازحًا «كل تلك المشاكل من علبة الثقاب هذه؟»[34] بالنسبة لمبارك، الذي فضّل أن تكون وسائل الإعلام لديه خاضعة لهيمنة السلطة، فإن الجزيرة تسببت في فيض من المتاعب، من خلال عرضها لجدالات بشأن موضوعات لا تحظى بتفضيل الكثيرين في المنطقة.[35] ما زالت وجهة نظر فيليب سيب التي أعلن عنها في 2005 صالحة في يومنا هذا، بل إنها أكثر دقة بالنظر إلى الكيفية التي تمكنت عبرها الجزيرة من النمو بشكل أكبر وباتت أكثر قدرة على التأثير دوليًا. إن تصاعد تأثير تلك الشبكة، أو الإمبراطورية الإخبارية، أدى إلى تفاقم العداء بين مصر وقطر منذ عهد مبارك، والآن اتخذت إجراءات ضدها بالتنسيق مع دول أخرى في الخليج. كانت الشبكة تدعم بشكل لا لبس فيه ثورة 2011، واختار حكام قطر (حمد بن خليفة آل ثاني، والآن ابنه تميم) أن يدعموا جماعة الإخوان المسلمين، وكانت توجد بالفعل علاقات جيدة بين الطرفين قبل الثورة بسنوات. وكان لهذا الصراع المعقد والقديم عواقبه الوخيمة على الصحفيين العاملين لدى شبكة الجزيرة (بالإضافة إلى صحفيين آخرين محليين وأجانب) خلال فترة الانقلاب في 2013.
في نهاية المطاف، فإن قناة الجزيرة هي مشروع مترع بالسياسة، ويُمثّل مصالح ومطامح قطر، مع أجنداتها الإقليمية وعلاقاتها مع القوى الدولية، بما في ذلك حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. فقد كشفت الوثائق السرية التي نشرها موقع ويكيليكس، أن المدير العام السابق لقناة الجزيرة وضاح خنفر، كان يعقد اجتماعات سرية مع السفير الأمريكي في الدوحة، للتفاوض على تغيير السياسة التحريرية والمحتوى الإخباري، ومن المثير للدهشة أنه كان يستجيب لذلك بشكل إيجابي.[36] وقد استقال خنفر بعد أيام قليلة من تسريب تلك الوثائق. مع ذلك، ظل الصوت الناقد لقناة الجزيرة يثير غضب النخب الحاكمة في مصر كما كان على الدوام.
أحد أسباب عنف المدنيين ضد الصحفيين هو شيطنة أي شكل من وسائل الإعلام ذات الصوت الناقد ضد الانقلاب. وذلك على الرغم من أن الإعلام الناقد كان يحاول تغطية الجانب الآخر من القصة –عنف الدولة الذي يستهدف جماعة الإخوان المسلمين– إلا أن القراء أو مشاهدي التلفزيون، لاسيما إبان تلك الفترة، فهموا الأمر باعتباره تعاطفًا إزاء جماعة الإخوان المسلمين. اتهم الإعلام الخاص والمملوك للدولة وسائل الإعلام الناقدة، سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية، بأنها مؤيدة لجماعة الإخوان المسلمين؛ الأمر الذي أدى إلى إذكاء غضب الجمهور ضدها. ومن ثم، فعند حدوث اشتباك أو احتجاج؛ يهرع «المواطنون الشرفاء» وغيرهم من المواطنين الغاضبين، وبتحريض من الإعلام الخاص والمملوك للدولة، للاعتداء على الصحفيين بشكل عشوائي. مع ذلك، لم يكن بمقدور أولئك المدنيين التمييز بين أهدافهم؛ مما أدى لتعريض صحفيين يمثلون كل أشكال الإعلام للخطر، سواء كانوا مع أو ضد الانقلاب العسكري. في بعض الحالات، نرى صحفيين من وسائل إعلامية مؤيدة للجيش يقعون ضحايا عنف المدنيين العشوائي ضد الصحفيين، مثل الحالة التي استعرضناها في القسم السابق، لسارة هاشم من صحيفة الفجر المؤيدة للجيش (قامت لجنة حماية الصحفيين بتصنيفها، على نحو خاطئ، كصحيفة «مستقلة» في تقريرها الصادر في السادس والعشرين من يناير 2015).
وأجادل بأن ظاهرة العنف المتطرف ضد الصحفيين بدأت مع تصاعد شيطنة قناة الجزيرة، التي تتخذ من الدوحة مقرًا لها، بالإضافة إلى قناتها التي تتخذ من القاهرة مقرًا لها: الجزيرة مباشر مصر. وكانت قناة الجزيرة تعرض جانبًا آخر لحركة تمرد والجيش وجماعة الإخوان المسلمين، بما لا يتماشى مع الصورة التي روّج لها الجيش. كما عرضت صورًا لعنف يمارس ضد المتظاهرين المؤيدين لجماعة الإخوان المسلمين، واستضافت شخصيات مناهضة للانقلاب في برامجها.
المصري اليوم: «الجزيرة».. قناة «الانقلاب» على المهنية
الوطن: يوسف الحسيني: قناة “الجزيرة” القطرية صهيونية بامتياز
وكما نرى في العناوين الرئيسية أعلاه، والمنشورة في صحيفتي المصري اليوم في الرابع عشر من أغسطس 2013 وصحيفة الوطن في الحادي والعشرين من يوليو 2013، فإن الصحافة الخاصة نشرت آراء مُشيطنة، لاسيما في الصحفيتين اللتين نركز عليهما في هذا المقال. في بداية الأمر، نجحت الحملة المناهضة للجزيرة بشكل جيد، حيث استجاب المتظاهرون المناهضون لجماعة الإخوان بطريقة تُعبّر عن غضبهم، تماشيًا مع الخطاب الذي تقدمه الصحافة الخاصة (بالإضافة إلى الصحف المملوكة للدولة كذلك). إذ شرع المتظاهرون بترديد هتافات ضد قناة الجزيرة في احتجاجاتهم، وسرعان ما تفاقم الأمر واستحال إلى اعتداءات بدنية على طاقم القناة. وفي أعقاب النجاح في شيطنة قناة الجزيرة، والذي جعل من المستحيل بالنسبة للعاملين فيها مواصلة العمل على الأرض؛ أزعم أن السلطات والصحافة الخاصة بدأوا في اتباع النمط نفسه ضد أي وسيلة إعلامية أخرى ذات صوت ناقد.
طرحت على الخبراء الذين أجريت معهم المقابلات السؤال التالي: «هل تعتقد/تعتقدين أن الصحافة الخاصة المحلية متورطة في شيطنة الإعلام الغربي والإعلام المحلي «المستقل» الذي يُعد من الأصوات الناقدة؟ نعم أم لا ولماذا؟». جاءت إجابة نور مجدي بالموافقة: «أجل،[…] توجد علاقات بين الصحف الخاصة والجهات الأمنية؛ بما يؤثر على سياساتها التحريرية في هذا الصدد. لذلك، فإنها إما تقوم بنشر ما تطلبه منهم الأجهزة الأمنية أو تحاول الدفاع عن النظام عبر الهجوم على الإعلام الغربي من أجل إقناع القراء بأن كل شيء على ما يرام«. لاحقًا، في الثاني من سبتمبر 2013، وبعد أن أصبح جليًا لمراقبي الإعلام كيف أن البيئة المعادية للصحافة تغدو بمرور الوقت أكثر خطورة وفوضى؛ قامت منظمة مراسلون بلا حدود، أبرز جهة تعمل على رصد حرية الصحافة في العالم، بإصدار تقرير بعنوان: «خسائر فادحة في صفوف الصحفيين خلال شهرين من استيلاء الجيش على السلطة». وقد وثّق التقرير أشكالًا متنوعة للانتهاكات التي ارتُكبت بحق الصحفيين، بوساطة الجيش والشرطة والمتظاهرين المؤيدين للجيش، وكذلك المتظاهرين المؤيدين لجماعة الإخوان المسلمين. وقد وثّق التقرير أيضًا التحريض ضد الصحف الناقدة التي تحاول تقديم أي صورة للوضع على الأرض، تختلف عن رواية الجيش للأحداث. وذكر التقرير أن هناك خمسة صحفيين تعرضوا للقتل، وثمانية صحفيين تم احتجازهم تعسفيًا، بالإضافة إلى تعرض ما لا يقل عن أربعين من العاملين في المنصات الإخبارية للاعتداء البدني على أيدي قوات الشرطة أو متظاهرين مؤيدين للجيش أو لجماعة الإخوان المسلمين. «أصيب العديد من الصحفيين بجروح جراء تعرضهم لطلقات نارية، بينما كانت قوات الأمن تعمل على فض اعتصامات المؤيدين لمرسي في الرابع عشر من أغسطس. ومن بينهم أسماء وجيه من وكالة رويترز وطارق عباس من صحيفة الوطن ونجار أحمد من صحيفة المصري اليوم ومحمد الزكي من قناة الجزيرة وصحفي في وكالة أسوشيتد برس».[37] ويمكننا بملاحظة أسماء تلك المنصات الإخبارية، أن المتظاهرين لم يتمكنوا من التمييز بين انتماءات الصحفيين، وقاموا بالاعتداء على الصحفيين المؤيدين للجيش وغيرهم من الصحفيين على حد سواء.
في سياق الفوضى في الشوارع –مع الكر والفر بين المتظاهرين المؤيدين لجماعة الإخوان من جانب، والجيش والشرطة والمتظاهرين المؤيدين للجيش من جانب آخر– لم يكن مفاجئًا رد الفعل العنيف من قِبَل المدنيين ضد الصحفيين الذين تمت شيطنتهم، هم ووسائل الإعلام التي ينتمون لها. ونقرأ هنا تعليق رضا عباس: «غالبية الصحف الآن منخرطة في الدعاية في أحسن الأحوال. لذلك، تتطوع الكثير [من الصحف الخاصة] للقيام بهذا [شيطنة الإعلام الغربي]، دون حتى أن يُطلب [منها] القيام بهذا». مع ذلك، يبدو أن الجماهير لم تتمكن من التمييز بين الصحفيين المؤيدين لجماعة الإخوان وأولئك المؤيدين للجيش، وفقًا لتصنيف الإعلام المصري. من الواضح أن ذلك كان أمرًا مستحيلًا، وقد يصبح أي صحفي ضحية، بغض النظر عن انتمائه، كما وثقت التقارير.
الجانب الآخر لاستيعاب العنف ضد الصحفيين كنتيجة لشيطنة الدولة للإعلام الناقد –وبشكل أساسي أي وسيلة إعلامية لم تتبع رواية الجيش للأحداث– يمكن إدراكه من الكيفية التي تعاملت بها الدولة المصرية بشكل رسمي وعلني مع الإعلام الناقد، وهو ما نجده في تصريح الهيئة العامة للاستعلامات: «تشعر مصر بمرارة شديدة إزاء بعض التغطيات المتحيزة في الإعلام الغربي لجماعة الإخوان المسلمين، والتي تتجاهل تسليط الضوء على أعمال العنف والإرهاب التي ترتكبها تلك الجماعة في شكل عمليات ترويع وترهيب للمواطنين».[38]
في بلد مثل مصر، حيث تكون وسائل الإعلام الكبرى خاضعة للسيطرة بشكل شبه كامل، فإن إصدار بيان، مثل الذي أشرنا إليه أعلاه، ضد الإعلام في سياق من العنف والفوضى ضد طرف واحد؛ فإن ردة فعل الجانب الآخر ربما تكون عنيفة، وهو ما حدث في الواقع آنذاك. وذلك لأن الجماهير المؤيدة للجيش كانت بالفعل تخشى جماعة الإخوان المسلمين على نحو مبالغ فيه، والفضل يرجع للإعلام الخاضع للهيمنة. وكل هذا حدث في الوقت نفسه الذي وجد الصحفيون فيه أنفسهم يتعرضون لهجمات في الشوارع، لمجرد محاولتهم تأدية وظيفتهم .[39]
ولكن بعد فترة، تراجعت موجة العنف الفوضوي في الشارع ضد الصحفيين. ونجد لدى شمس زكريا ميلًا للاعتقاد بأن شيطنة الإعلام الناقد حدثت في الغالب في أعقاب الانقلاب العسكري، ولم تتكرر مجددًا. ويُفسّر تعليق زكريا عملية الشيطنة بعد الانقلاب: «إن الصحف تتعامل معها [وسائل الإعلام الناقد] بالقطعة. وهكذا، فإن أولئك الذين يكتبون عنا بشكل إيجابي يعتبرون مثالًا رائعًا للصحافة، أما من يتخذنا كعدو؛ فإننا نعتبره مثالًا رديئًا».
خاتمة
إن إحكام السيطرة على الصحافة المصرية حقيقة واقعة منذ عهد جمال عبد الناصر (1952-1970)، وطوال عهدي السادات (1970-1981) ومبارك (1981-2011)، وحتى وقتنا الحاضر، ودومًا ما كانت تطرأ تغييرات، وفقًا للوضع السياسي الذي كانت تمر به البلاد، وكانت أحيانا تتم استعادة الحريات، ولكن دائما بشكل مؤقت. وفي ظل استمرار فرض نخبة رجال الأعمال لهيمنتهم على الصحف الخاصة التي يمتلكونها، لصالح الانقلاب العسكري في عام 2013؛ فإن هذه الدراسة قد وجدت أن حرية التعبير كان مسموحًا بها فقط عندما يتعلق الأمر بجماعة الإخوان المسلمين. قبل الانقلاب، تم تشجيع حرية التعبير عن الرأي –في الغالب ضد جماعة الإخوان المسلمين. أما أثناء وبعد الانقلاب، بات الشكل الوحيد المقبول لحرية التعبير عن الرأي فقط ضد الجماعة أو من أجل شيطنتها. أما الكيانات الأخرى مثل حركة تمرد والجيش، كانت في الغالب فوق النقد، على الأقل خلال الفترة التي خضعت للدراسة في هذا البحث.
أسفرت جهود الجيش والموالين له في إسكات المعارضة عامة والمنصات المعارضة المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين خاصة؛ عن خلق بيئة إعلامية أصبحت فيها غالبية المنصات الإعلامية الخاصة والعامة داعمة بشكل صارم للانقلاب. وتعرض العشرات من الصحفيين للاعتداء البدني خلال ذلك العام بواسطة كلا من قوات الأمن والمدنيين.[40] وفي عام 2013، بلغ عنف المدنيين ضد الصحفيين في المجال العام ذروته، وذلك كما تم توثيقه بواسطة الجهات التي ترصد حرية الإعلام وغيرها من المنصات الإعلامية. أما دور من يُطلق عليهم «المواطنون الشرفاء» فهو تصنيف غير منضبط تم إضفائه على الأفعال العنيفة التي ارتكبها مدنيون غير منتمين لأي من أشكال السلطة الرسمية. وكانت شيطنة المنصات الإخبارية الناقدة، ممارسة منظمة من قِبَل السلطات وصحافة نخبة رجال الأعمال، والتي كانت بدورها بمثابة الوقود لماكينة عنف المدنيين ضد الصحفيين العاملين لدى منتجي الأخبار الناقدة، سواء كانوا محليين أو إقليميين أو دوليين. كما توصلت الدراسة إلى أن عنف المدنيين ضد الصحفيين، لاسيما أثناء وبعد الانقلاب، خرج عن نطاق السيطرة –نظرًا لعشوائية الاعتداءات وانتشار أجواء العنف– وهو ما أدى إلى وقوع صحفيين مؤيدين للجيش، دون قصد، ضحايا لذلك العنف، بالإضافة إلى الصحفيين الناقدين الذين قامت الصحافة الخاصة (والمملوكة للدولة) بالتحريض ضدهم.
شكر وتقدير
يود الباحث أن يشكر الأستاذ الدكتور سامي زمني على رأيه، وكذلك الأستاذة الدكتورة نهى ميلور على نقدها البناء.
[3] حافظ، كاي (2015). الجماهير مستقطبة بشكل جذري وحرية الإعلام تحتضر في مصر (Radically Polarized Publics and the Demise of Media Freedom in Egypt). مصر/العالم العربي. 12(1). 37-49.
[4] سكوفجارد-بيترسن، جاكوب (2015). مقدمة (An Introduction). في ريتا، دوناتيللا ديللا، ونعومي صقر، وجاكوب سكوفجارد-بيترسن (محررون). أباطرة الإعلام العربي (Arab Media Moguls). إصدار كيندل. (لندن: أ.ب. توريس). 273.
[5] البوست العربي (2019). آلة الخوف تعمل بأقصى طاقتها. 8 يونيو. تاريخ الاطلاع 8 أغسطس 2020،
https://arabicpost.shorthandstories.com/media-in-egypt-under-control/index.html
[6] العيسوي، فاطمة وبرات كاميرتس (2016). تحول أدوار الصحفيين في التحولات الديمقراطية: دروس من مصر (Shifting Journalistic Roles in Democratic Transitions: Lessons from Egypt). الصحافة 17(5). 549-566.
[7] عبد الله، رشا (2014). الإعلام المصري في خضم الثورة (Egypt’s Media in the Midst of Revolution ). (واشنطن العاصمة: كارنيجي). 23-24.
[8] العيسوي، فاطمة (2014 أ). دور الإعلام المصري في الانقلاب (The Role of Egyptian Media in the Coup). في الكتاب السنوي للمعهد الأوروبي لدراسات البحر المتوسط 2014. (برشلونة: المعهد الأوروبي لدراسات البحر المتوسط)
[9] ريختر، كارولا وبيتينا جراف (2015). الاقتصاد السياسي للإعلام: مقدمة (The Political Economy of Media: An Introduction). في ناديا-كريستينا شنايدر وكارولا ريختر (محرران). ترتيبات الإعلام الجديد والديناميكيات الاجتماعية والثقافية في آسيا والعالم العربي (New Media Configurations and Socio-Cultural Dynamics in Asia and the Arab World). (لندن: بلومزبري). 32.
[10] مورجان، تريش (2013). أدورنو والاقتصاد السياسي للإعلام (Adorno and the Political Economy of Communication). الاقتصاد السياسي للإعلام. 1(2). 45.
[11] بومان، جيمس (2005). النظرية النقدية (Critical Theory)، موسوعة ستانفورد للفلسفة. 8 مارس. تاريخ الاطلاع 3 أغسطس 2020،
https://plato.stanford.edu/archives/spr2005/entries/critical-theory.
[12] هاردي، جوناثان (2014). الاقتصاد السياسي النقدي للإعلام: مقدمة (Critical Political Economy of the Media: An Introduction). (لندن: روتليدج)
[13] وينسك، دواين ودال يونج جين (2011). الاقتصاديات السياسية للإعلام: التحول في صناعة الإعلام العالمي (The Political Economies of Media: The Transformation of the Global Media Industries). (لندن: منشورات بلومزبري الأكاديمية).
[14] هابرماس، يورجن (1987). نظرية الفعل التواصلي (The Theory of Communicative Action). المجلد 2: النظام وعالم الحياة: في نقد العقل الوظيفي (Lifeworld and System: A Critique of Functionalist Reason). (بوسطن: منشورات بيكون). 375.
[15] هيرمان، إدوارد إس ونعوم تشومسكي (2002). صناعة القبول: الاقتصاد السياسي للإعلام الجماهيري (Manufacturing Consent: The Political Economy of the Mass Media). (نيويورك: مطبوعات بانتيون). 1.
[16] موسكو (2009). الاقتصاد السياسي للإعلام. ( The Political Economy of Communication). 209-210.
[17] حمود، ماهر (2019) انقلاب مصر العسكري في 2013: تحليل محتوى الصحافة الخاصة في 112 يوم (Egypt’s Military Coup of 2013: An Analysis of the Private Press in 112 Days)، دورية دراسات الشرق الأوسط الجديدة 9 (2). 133-148.
[18] لجنة حماية الصحفيين (2015 ب). الصين ومصر هما أسوأ سجاني الصحفيين في العالم (China, Egypt are Worst Jailers of Journalists Worldwide). 14 ديسمبر. تاريخ الاطلاع 3 أغسطس 2020،
https://cpj.org/2015/12/china-egypt-are-worst-jailers-of-journalists-world.php.
[19] مراسلون بلا حدود (2019). مصر: أحد أكبر سجون الصحفيين في العالم (Egypt: One of the World’s Biggest Prisons for Journalists). تاريخ الاطلاع في 3 أغسطس 2020،
https://rsf.org/en/egypt.
[20] هيرمان، إدوارد إس ونعوم تشومسكي (2002). صناعة القبول: الاقتصاد السياسي للإعلام الجماهيري (Manufacturing Consent: The Political Economy of the Mass Media). (نيويورك: مطبوعات بانتيون).
[21] العيسوي وكاميرتس (2016). تحول أدوار الصحفيين في التحولات الديمقراطية: دروس من مصر (Shifting Journalistic Roles in Democratic Transitions: Lessons from Egypt). 10.
[22] بي بي سي (2013). مصر: إغلاق مقر صحيفة الحرية والعدالة التابعة للإخوان المسلمين. 25 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 3 أغسطس 2020،
http://www.bbc.com/arabic/middleeast/2013/09/130925_egypt_mb_newspaper.
[23] ميللر، نهى (2017). صوت جماعة الإخوان المسلمين: الدعوة والخطاب والاتصال السياسي (Voice of the Muslim Brotherhood: Da’wa, Discourse, and Political Communication). (أكسفورد: روتليدج). 207.
[24] زيادوس، ألكسندر (2013). مصر تقوم بتأمين منازل الليبراليين بعد دعوات لقتلهم (Egypt Secures Liberals’ Homes after Calls for their Death). رويترز. 7 فبراير. تاريخ الاطلاع 22 سبتمبر 2020،
https://www.reuters.com/article/us-egypt-islamists-idUSBRE9160R020130207.
[25] العيسوي، فاطمة (2014 ب). الإعلام المصري في طور الانتقال: لصالح النظام أم لصالح الشعب؟ (Egyptian Media Under Transition: In the Name of the Regime, in the Name of the People?). (لندن: كلية لندن للاقتصاد).
[26] العيسوي وكاميرتس (2016). تحول أدوار الصحفيين في التحولات الديمقراطية: دروس من مصر (Shifting Journalistic Roles in Democratic Transitions: Lessons from Egypt). 10.
[27] لجنة حماية الصحفيين (2015 ب). الصين ومصر هما أسوأ سجاني الصحفيين في العالم (China, Egypt are Worst Jailers of Journalists Worldwide). 14 ديسمبر. تاريخ الاطلاع 3 أغسطس 2020،
https://cpj.org/2015/12/china-egypt-are-worst-jailers-of-journalists-world.php.
[28] المصدر السابق.
[29] المصدر السابق.
[30] المصدر السابق.
[31] سي بي إس نيوز (2014). ماسبيرو: مذبحة للمسيحيين في مصر (Maspero: A Massacre of Christians in Egypt). 22 يونيو. تاريخ الاطلاع 3 أغسطس 2020،
https://www.cbsnews.com/news/maspero-a-massacre-of-christians-in-egypt.
[32] عبد المنعم، عمرو (2014). من هم المواطنون الشرفاء؟. 21 يونيو. تاريخ الاطلاع 16 نوفمبر 2019،
http://www.moheet.com/2014/06/21/2091055.
[33] لجنة حماية الصحفيين (2015 ب). الصين ومصر هما أسوأ سجاني الصحفيين في العالم (China, Egypt are Worst Jailers of Journalists Worldwide).
[34] ويتاكر، براين (2003). محطة المعارك (Battle Station). الجارديان. 3 فبراير. تاريخ الاطلاع 3 أغسطس 2020،
https://www.theguardian.com/media/2003/feb/07/iraqandthemedia.afghanistan.
[35] سيب، فيليب (2005). هيمنة لا أكثر: الإعلام الغربي وصعود قناة الجزيرة وتأثير تنوع الأصوات (Western media, the rise of Al-Jazeera, and the influence of diverse voices). مراجعة الدراسات الدولية. 7(4). 601-615.
[36] شاتريوالا، عمر (2011). ما الذي تخبرنا به ويكيليكس حول الجزيرة؟ (What Wikileaks Tells Us About al-Jazeera). السياسة الخارجية، 19 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 3 أغسطس 2020،http://foreignpolicy.com/2011/09/19/what-wikileaks-tells-us-about-al-jazeera.
[37] مراسلون بلا حدود (2013). خسائر فادحة في صفوف الصحفيين خلال شهرين من استيلاء الجيش على السلطة (Heavy Toll on Journalists in Two Months since Army Takeover). 2 سبتمبر. تاريخ الاطلاع 3 أغسطس 2020،
https://rsf.org/en/news/heavy-toll-journalists-two-months-army-takeover.
[38] الهيئة العامة للاستعلامات (2013). بيان من الهيئة العامة للاستعلامات بشأن الأحداث الجارية في مصر. 17 أغسطس.
[39] هيرش، جوشوا (2013). الحكومة المصرية تنتقد الصحافة بشكل لاذع بينما يتم الاعتداء على الصحفيين (Egyptian Government Slams Foreign Press as Journalists Come Under Assault). هافينجتون بوست. 18 أغسطس. تاريخ الاطلاع، 3 أغسطس 2020،
https://www.huffingtonpost.com/2013/08/18/egypt-foreign-press_n_3775634.html?guccounter=1.
[40] فريدوم هاوس (2014). مصر: حرية الصحافة في عام 2014 (Egypt: Freedom of the Press 2014). تاريخ الاطلاع 16 نوفمبر 2019،
https://freedomhouse.org/report/freedom-press/2014/egypt.
Read this post in: English