منذ الثالث من يوليو 2013، حينما أعلن الجيش عن مجموعة من القرارات من ضمنها الإطاحة بالرئيس المصري السابق، محمد مرسي، وحل مجلس الشورى –الغرفة الوحيدة في البرلمان المصري آنذاك، بعدما أصدرت المحكمة العليا قرارًا بحل مجلس النواب قبل ذلك بعام– ظلت جماعات المعارضة العلمانية في مصر تحت بقعة الضوء؛ إذ أن عددًا كبيرًا من الأحزاب والشخصيات العلمانية دعموا تدخل الجيش، وعملت تلك الشخصيات العلمانية على تأكيد أن جماعات المعارضة السياسية العلمانية في مصر تدعم الانقلاب. وتم تعيين بعض هذه الشخصيات في الحكومة حديثة التأسيس، وكان من بين هذه الشخصيات رئيس الوزراء، حازم الببلاوي، ونائبه زياد بهاء الدين، والشخصية الأهم، نائب الرئيس المعيّن حديثًا وقتها محمد البرادعي الذي دعم ما قام به الجيش، وتمثل دوره في إقناع الجهات الفاعلة الدولية أن الجيش المصري غير مهتم بالسيطرة على السلطة.
علاوةً على ذلك، عندما قامت القوات المصرية بتفريق اعتصام مؤيدي مرسي في ميدان رابعة؛ مما أدى إلى حمام دم أودى بحياة 1150 شخصًا خلال بضعة ساعات،[1] فإن عددًا من شخصيات المعارضة المصرية تراوحت مواقفها بين دعم الاستخدام المفرط للقوة أو تجاهله، رغم استهدافه لمجموعة معظمها من المدنيين. وعلى الرغم من استقالة البرادعي حينها، واصلت شخصيات علمانية وأحزاب سياسية أخرى العمل مع مجلس الوزراء المؤقت، وتم تعيين آخرين عديدين في اللجنة التي صاغت دستور عام 2014 الذي ما زال يحكم مصر حتى الوقت الحالي.
وبعد تسعة أعوام من التدخل العسكري، ظلت غالبية جماعات المعارضة العلمانية في مصر إما مهمشة أو مقموعة بشدة من قبل النظام المصري الحالي، كما تم تأميم جميع المجالات السياسية والعامة. في هذا السياق، تهدف هذه الورقة إلى الإجابة عن سؤال أساسي كبير: “هل ستشارك جماعات المعارضة العلمانية في مصر في العملية السياسية إذا ما وفر النظام نافذة للمشاركة، أم أنها ستفضل مواصلة سياساتها المستمرة؟”
وللإجابة عن هذا السؤال، ستناقش هذه الورقة أولًا تعريف جماعات المعارضة العلمانية في مصر، قبل أن تتحرى السلوك السياسي للقوى العلمانية خلال الفترة ما بين 2011 و2019. ثم ستحلل مستقبل جماعات المعارضة المسلحة في مصر مع أخذ الديناميات الحالية بالاعتبار.
ما هي الجهات التي يمكن عدها ضمن المعارضة العلمانية في مصر؟
إن تعريف العلمانية في مصر ليس بالأمر السهل. فإذا وصفت نفسك بأنك “علماني”، فقد تتعرض للوصم أو لهجوم سياسي واجتماعي؛ إذ أن مصطلح العلمانية مشوش في مصر والعالم العربي بمصطلحات أخرى من قبيل “الإلحاد”، أو “مناهضة الدين”، أو “الكفر”. وقد تمكن الإسلاميون من استخدام هذه المضامين “السلبية” المرتبطة بالعلمانية من أجل ابتزاز المعارضين العلمانيين والتشهير بهم. لذا، تم استخدام مصطلحات أخرى في الخطاب السياسي للإشارة إلى القوى السياسية العلمانية، من قبيل “المدنيين”، أو “القوى المطالبة بالدولة المدنية”، أو “الليبراليين”.
تستخدم هذه الورقة مصطلح “العلمانية” للإشارة إلى أي جماعة من السياسيين أو النشطاء سواء أكانوا منظمين في أحزاب سياسية مرخصة، أو إذا كانت أحزابهم السياسية تحت التأسيس، أو حتى إذا لم يكونوا منظمين في حزب سياسي ولكنهم لا يستخدمون الدين كمصدر رئيسي لشرعيتهم السياسية وخطابهم السياسي، أو كوسيلة للتعبئة. وبهذه الطريقة، حتى لو كانت بعض هذه الجماعات متدينة هي نفسها، أو مازالت تشير إلى الدين كمرجعية، فسيشملها التعريف طالما أنها لا تستخدم الدين كوسيلة للتعبئة واكتساب الشرعية.[2]
علاوةً على ذلك، وبما أن هذه الورقة تحلل “المعارضة العلمانية”، فسيشمل هذا المصطلح المجموعات أو الأحزاب العلمانية التي تعارض النظام حاليًا –حتى لو أنها دعمته سابقًا.
لذا، ستشمل الفئة التي تحللها هذه الورقة أحزاب سياسية من قبيل الكرامة، الإصلاح والتنمية، الحزب الاشتراكي الديمقراطي المصري، مصر الحرة، العدالة، حُراس الثورة، غد الثورة، الدستور، مصر القوية، والخبز والحرية.[3] بالإضافة إلى ذلك، سيشمل التحليل جميع النشطاء أو أعضاء منظمات المجتمع المدني من قبيل المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أو الشخصيات العامة التي تعارض النظام حاليًا من قبيل حمدين صباحي، أو مزيج الأحزاب والشخصيات ممن نُظموا في تحالفات سياسية من قبيل “التحالف المدني”.
جماعات المعارضة العلمانية: السلوك السياسي والتحديات (2011-2019)
حصلت جماعات المعارضة العلمانية في مصر على فرصة تُتاح مرة واحدة في العمر عند اندلاع ثورة يناير؛ فقد تمكنت العديد من الجماعات من إضفاء الصفة المؤسسية على نفسها بصفة قانونية. وبدأت الأحزاب السياسية التي سعت للحصول على ترخيص أثناء حقبة مبارك ولم تتمكن من ذلك، أو الأحزاب التي برزت بعد الثورة، بأداء دور مهم في الخطاب العام وفي الحياة السياسية في هذا البلد ذات التعداد السكاني الكبير.[4] وبعد الثورة، تأسست مجموعة جديدة من الأحزاب من قبيل حزب الدستور، الحزب الاشتراكي الديمقراطي المصري، حزب حرية مصر، العدالة، حُراس الثورة، غد الثورة، ومصر القوية. وانهمكت حركات اجتماعية من قبيل كفاية و6 أبريل والجمعية الوطنية للتغيير بالسياسة بصفة حرة بعد سنوات من القمع على يد نظام مبارك. أما المنظمات غير الحكومية القائمة، مثل المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، والمنظمات غير الحكومية حديثة التأسيس –بعد ثورة 25 يناير كان عدد المنظمات غير الحكومية يبلغ 31,000، وبحلول عام 2014 ازداد عددها ليصل إلى 46,000–[5] فقد ظلت تعمل على عدة قضايا تتراوح بين حقوق الإنسان، قضايا النوع الاجتماعي، مراقبة الانتخابات، تقديم استشارات للأبحاث والسياسيات، وإنقاذ أطفال الشوارع.
ومنذ الثورة، كانت العديد من هذه القوى العلمانية تفتقر للمهارات التنظيمية، فضلًا عن معاناة بعضها من أزمات مالية أو خلافات داخلية. وثمة مجموعة ثالثة أبقت نفسها مشغولة بالتدخلات الإعلامية بدلًا من حشد التأييد لقضيتها السياسية. وإذا أضفنا لهذه القضايا سلوك الإسلاميين بالتحالف مع النظام –الذي مثله حينها المجلس الأعلى للقوات المسلحة– ضد القوى العلمانية باستخدام الدين للتشهير بالشخصيات العلمانية، وتخويف الناس من برامجهم السياسية و”أهدافهم الحقيقية”، بوسع المرء فهم لماذا لم تتمكن القوى العلمانية في مصر من الفوز بمقاعد كافية في انتخابات مجلس الشعب (2011-2012)، وفازت بعدد قليل من المقاعد في انتخابات مجلس الشورى (2012)؛ إذ قاطعت بعض القوى العلمانية العملية السياسية في تلك المرحلة، وطلبت من المصريين العودة إلى ميدان الثورة بدلًا من التصالح مع النظام الجديد غير الديمقراطي الذي يؤسسه الإسلاميون، خصوصًا أن الإسلاميين تجاهلوا التسويات، ونبذوا الثورة لتحقيق مصالحهم السياسية الأنانية.
ورغم أن العديد من الجماعات العلمانية شاركت في الجمعيتين الدستوريتين الأولى والثانية، إلا أن معاناتهم من التهميش، دفعت العديد منهم للانسحاب من الجمعية الدستورية في نوفمبر 2012، بعد تصاعد الوضع جراء الإعلان الدستوري الذي أعلنه الرئيس من طرف واحد، وأدى إلى فتح المصادمات بين الشخصيات الإسلامية والعلمانية، وكان بمثابة بداية العد التنازلي لحكم نظام الإخوان المسلمين في مصر.[6]
ومنذ يوليو 2013، بدأت هذه الجماعات تعاني تدريجيًا جراء التدخل العسكري، وواجهت إجراءات شديدة ضدها مع صعود سلطة الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر. ومنذ ذلك الوقت، ظلت شخصيات المعارضة العلمانية تغير مواقفها. وتراوحت هذه المواقف بين دعم النظام الجديد الناشئ، وتجاهل أو حتى تبرير انتهاكات حقوق الإنسان، وصولًا إلى المعارضة الصريحة للنظام. وبوسع المرء رؤية سمتين رئيسيتين للشخصيات العلمانية في هذه المرحلة:
الاستقطاب على خلفية التدخل العسكري وقضايا حقوق الإنسان
كما أشرنا أعلاه، حدث استقطاب بين قوى المعارضة في مصر بعد التدخل العسكري، على خلفية العلاقة بين التدخل العسكري وحقوق الإنسان. واستمر هذه الاستقطاب مهيمنًا على قوى المعارضة في مصر في السنوات اللاحقة. وبينما انتقد بعض النشطاء العلمانيين والأحزاب السياسية والشخصيات العامة سجل الحكومة المصرية في مجال حقوق الإنسان وقرروا أن ينأوا بأنفسهم عن السلوك غير الديمقراطي للنظام المصري، فقد عمد آخرون إلى تقديم دعم علني أو ضمني للدولة وسياساتها غير الديمقراطية، واحتشدوا لتبرير الإساءات وانتهاكات حقوق الإنسان في حقبة ما بعد عام 2013.
ثمة نتيجتان مختلفتان لهذا الاستقطاب: الأولى أن العلمانية في مصر باتت مرتبطة بدعم تدخل الجيش في السياسة، وأصبح المصريون يعتبرونها تيارًا منافقًا وانتهازيًا؛ أما النتيجة الثانية فهي عدم قدرة جماعات المعارضة على توحيد جهودها من أجل خلق وجود مؤثر على المشهد السياسي في مصر. وفي مرحلة لاحقة، فإن كافة أطراف المعارضة عانت من قمع النظام، إذ تعرض عديدون للسجن أو التهميش على يد النظام نفسه، ومن ضمنهم بعض مؤيدي النظام.
الاستقطاب على خلفية المشاركة في الانتخابات
تتمثل السمة الثانية في أن الاستقطاب المشار إليه أعلاه أثّر أيضًا على مشاركة القوى العلمانية المصرية في انتخابات ما بعد عام 2013. فبينما قررت بعض جماعات المعارضة المشاركة في الانتخابات الرئاسية عامي 2014 و2018، وفي الانتخابات البرلمانية في عام 2015، والاستفتاء على التعديلات الدستورية في عام 2019، قررت جماعات عديدة مقاطعة العملية الانتخابية. وعلى سبيل المثال، قرر التيار الشعبي المصري، وهو مؤلف من مجموعة من السياسيين والناشطين اليساريين، المشاركة في الانتخابات الرئاسية لعام 2014 والاحتشاد خلف حمدين صباحي الذي ترشح ضد مرشح الجيش (السيسي) وحصل على أقل من 4% من الأصوات. وعلى ضوء هذه النتيجة، إضافة إلى السياسات القمعية المتواصلة التي نفذها النظام، قرر التيار الشعبي المصري مقاطعة الانتخابات البرلمانية في عام 2015 والانتخابات الرئاسية في عام 2018. علاوةً على ذلك، أسست قوى علمانية أخرى من قبيل الحركة المدنية المصرية حملة بعنوان “خليك في البيت” وطلبت من الناخبين المصريين مقاطعة “اللعبة الانتخابية” باعتبار أن نتائجها “مقررة سلفًا”.[7] ولاحقًا، يُزعم بأن حسام مؤنس، الناطق باسم التيار الشعبي المصري ورئيس الحملة الانتخابية لحمدين صباحي في عام 2014، قرر تشكيل تحالف باسم “أمل” بالتعاون مع ناشطين سياسيين آخرين للإعداد للانتخابات البرلمانية في عام 2020، إلا إنه اعتُقل مع شخصيات علمانية أخرى بعد اتهامهم “بالانضمام إلى منظمة إرهابية”.[8] ومع ذلك، واصلت قوى سياسية علمانية عديدة أخرى دعمها للدولة، راضية بتأدية دور الدمية؛ كي تظل على هامش السياسات المصرية.
مستقبل جماعات المعارضة العلمانية
كي نتناول مستقبل جماعات المعارضة العلمانية في مصر، يجب علينا أولًا تحليل مستقبل السياسات المصرية، وطرح السؤال التالي: هل يمكننا توقع أي انفتاح في السياسات المصرية في المستقبل القريب؟
الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة على الإطلاق، إذ يتحتم علينا أولًا التفكير بالأركان التي أرساها النظام خلال السنوات الست الماضية في سبيل سعيه لإحكام قبضته على السياسات المصرية، حيث يمكن تحديد ثلاثة أركان رئيسية لصمود النزعة الاستبدادية المصرية:
أولًا، يتمتع النظام الحالي في مصر بدعم كبير من الجهات الفاعلة الدولية والإقليمية. فعلى الصعيد الدولي، قدمت الحكومة الأمريكية بإدارة ترامب دعمًا للسلطات المصرية، كما أظهر الاتحاد الأوروبي ترددًا في تبني موقف أقوى بخصوص التراجع المطرد في سجل مصر في مجال حقوق الإنسان، ما منح النظام سلطة كبيرة؛ إذ أنه غير قلق من دفع أي ثمن حتى لو تبنى أشد الإجراءات القمعية ضد جماعات المعارضة في مصر. وعلى الصعيد الإقليمي، يعتمد النظام على علاقاته الاستراتيجية مع السعودية والإمارات العربية المتحدة وكذلك مع إسرائيل، إذ لم تكن العلاقات الثنائية بين النظامين المصري والإسرائيلي قوية أبدًا في السابق كما هي عليه الآن، وهذا يضمن الدعم الأمريكي للنظام المصري.
ثانيًا، يتمتع النظام أيضًا بدعم غير محدود من أهم مؤسسة في البلد، وهي الجيش. وهذا الدعم، الذي يترافق مع عوائد اقتصادية واجتماعية للشريحة العليا من الضباط، يوفر للنظام قوة مادية غير قابلة للتحدي أو المنازعة.
ثالثًا، أدى التهديد الأمني الكبير (الإرهاب) دورًا مهمًا جدًا في تعزيز النظام الحالي، وذلك بطريقتين. فمن ناحية، أبقى عددًا كبيرًا من المصريين خائفين من التغيير نظرًا لقلقهم من الانحدار لمصير يشبه ما حدث في العراق وسوريا واليمن وليبيا، إذ تواصل دعاية النظام المصري التأكيد على هذه النقطة. ومن ناحية ثانية، ساعد هذا الوضع النظام على تبرير جميع الإجراءات المشددة التي اتخذها ضد المعارضة، وقد استخدم النظام المصري هذا الخطاب لإقناع المصريين وكذلك إقناع جميع القوى الأوروبية والغربية.
مع ذلك، يجدر بنا الأخذ بالاعتبار التظاهرات التي جرت في سبتمبر 2019، والتي بدا أنها شكلت صدمة للنظام؛ نظرًا للإجراءات الأمنية التي نفذها ضد قوى المعارضة في السنوات الست الماضية. وقد استمرت تلك التظاهرات لمدة أسبوعين وأجبرت النظام المصري –لأول مرة– على اتخاذ قرارات اقتصادية واجتماعية، من قبيل التراجع عن استثناء 1.8 مليون مصري من نظام دعم الغذاء في إطار الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية التي تبنتها الحكومة المصرية بعد إبرام صفقة مع صندوق النقد الدولي في عام 2016. إضافةً إلى ذلك، فللمرة الأولى منذ التدخل العسكري في 2013، ثمة خطاب عبرت عنه بعض الشخصيات المؤيدة للنظام، وحتى مسئولون في النظام نفسه بخصوص الحاجة إلى تطبيق إصلاحات سياسية تتيح مكانًا حقيقيًا لجماعات المعارضة “الوطنية” في السياسات المصرية؛ ما يدل على أنه رغم الدعم القوي والشرعية اللذين يتمتع بهما النظام المصري بسبب الدعم الدولي والإقليمي، وتوحّد الجيش في دعم النظام، واستمرار التهديدات الأمنية، إلا أن النظام أقل استقرارًا مما يبدو عليه، بالإضافة لوجود انقسامات حقيقية ضمن الدائرة الضيقة للرئيس بخصوص مدى الحاجة لإجراء لإصلاحات سياسية، ومدى اتساع تلك الإصلاحات.[9] وإذا أخذنا بالاعتبار الانتفاضات المتواصلة وتغيير الأنظمة في الجزائر وتونس والسودان والعراق ولبنان، تبدو هذه الإصلاحات أمرًا لا مناص منه للنظام في مصر.
وبالتالي، في حين لا توجد توقعات بحدوث تغييرات جذرية في النظام المصري على المدى القصير (أي ما بين سنة وسنتين)، فمن المرجح بقوة أن يستخدم النظام بعض الانفتاح السياسي في المستقبل القريب. وإذا ما جرى هذا الانفتاح، فسيجري في واحد أو أكثر من المنابر الثلاثة التالية: منبر الإعلام، إذ قد يحدث بعض الانفتاح الإعلامي بدعوة شخصيات المعارضة العلمانية للمشاركة في برامج حوارية سياسية، وهو ما حدث لأول مرة منذ عام 2014 عندما دعا المذيع المصري عمرو أديب الناشط محمد غنيم (وهو من شخصيات المعارضة العلمانية ومؤيد سابق للنظام)، وأسامة الغزالي حرب، وهو رئيس سابق للجنة شكلها الرئيس السيسي للنظر في قضايا الشباب الذين احتجزوا لأسباب سياسية وبسبب انتمائهم لحزب المصريين الأحرار. والمنبر الثاني هو الانتخابات البرلمانية والمحلية، والتي من المتوقع إجرائها في فترة 2020-2021، إذ يمكن للنظام السماح بتخصيص ما بين عشرة إلى عشرين بالمئة من المقاعد للمنافسة الحرة، فضلًا عن إتاحة بعض المجال للأحزاب السياسية للعمل بصفة مستقلة.[10] ثالثًا، قد يجري انفتاح في وضع منظمات المجتمع المدني أيضًا. مع ذلك، لن يتضمن هذا الانفتاح مرونة بخصوص التمويل الأجنبي إذ لا يوجد نية لتغيير قانون المجتمع المدني الصادر عام 2016 والذي يحتوي على قيود كبيرة. ومع ذلك، قد يوفر هذا الانفتاح المحتمل بعض المجال لتلك المنظمات للعمل بصفة حرة جزئيًا، ويمكن في نهاية المطاف الإفراج عن عدد محدود من النشطاء السياسيين، وخصوصًا أصحاب الأسماء الشهيرة.
هل ستشارك جماعات المعارضة العلمانية في العملية السياسية حال حدوث أي انفتاح؟
كما أوضحنا آنفًا، حدث استقطاب بين جماعات المعارضة العلمانية حول مسألة ما إذا كان ينبغي على هذه الجماعات المشاركة في أية انتخابات أو حوار مع النظام أم لا في حال توفرت فرصة لذلك. فمنذ يوليو 2013، وعلى الرغم من الإعراض الكبير عن المشاركة في الانتخابات؛ نظرًا للفكر السائد بقيام النظام بتزويرها أو إدارتها على نحو منحاز، إلا أن العديد من جماعات المعارضة العلمانية قررت المشاركة في الانتخابات رغم إدراكها أن هذه المشاركة لن تُحدث تغيرًا يُذكر في اللعبة السياسية غير المنصفة.
وفي الوقت نفسه الذي تزعم فيه الجماعات المؤيدة للمقاطعة أن المشاركة في الانتخابات أو في أي حوار مع النظام تعني ضمنًا تأييد النظام السياسي للدولة المستبدة الحالية، بالإضافة إلى أن ذلك سيسمح للنظام بإضفاء الشرعية على إجراءاته المستبدة أمام عموم الجمهور والمجتمع الدولي على حدٍ سواء. فإن المعارضة المؤيدة للمشاركة ترى أن النظام يحظى بالشرعية على الصعيدين الداخلي والدولي سواء أشاركت جماعات المعارضة في الانتخابات أم قاطعتها، وأنه حتى لو كانت مشاركتها لا تؤدي إلى تغيير السياسات الاستبدادية الحالية، إلا أنها ستحافظ على الحد الأدنى من العلاقة بينها وبين قواعدها الانتخابية وتتيح لها المجال لممارسة بعض المهارات التنظيمية والعملية وتنميتها رغم أن ذلك لن ينعكس على النتائج السياسية، إنما يمكن الاستفادة من هذه المهارات إذا ما حدث تغيير أوسع نطاقًا في المستقبل.
وترمي هذه النقطة الأخيرة إلى معالجة المشكلة الجوهرية التي واجهتها معظم جماعات المعارضة العلمانية بعد الإطاحة بمبارك سنة 2011، إذ أدركت حينئذٍ أنها تفتقر إلى الكثير من المهارات، ومدى اتساع الفجوة التي تفصلها عن قواعدها الانتخابية.
وفي لقاء مائدة مستديرة أكاديمي قدم فيه كاتب هذه السطور ورقة حول الحركة الاجتماعية في مصر، أبدى بعض أقطاب المعارضة العلمانية المصرية اختلافهم مع رأيه المعارض للمشاركة السياسية العلمانية قائلين أن مشاركة جماعات المعارضة العلمانية في الانتخابات أو في الحوار مع النظام –حتى لو اتفقنا على أنها لن تغير كثيرًا من واقع حال الشرعية التي يتمتع بها النظام– لن يكون لها أي تأثير سياسي على عالم السياسة المصرية. بعبارة أخرى، لم يكن لمشاركة جماعات المعارضة السياسية أي تأثير على النظام وسياساته، ولم تُحدث مشاركتها أي فرق في النتائج السياسية في جميع العمليات السياسية التي قررت أن تشارك فيها هذه الجماعات (الانتخابات الرئاسية سنة 2014 وسنة 2018، والانتخابات البرلمانية سنة 2015، والتعديلات الدستورية سنة 2019). بل على النقيض من ذلك، أظهرت المشاركة جماعات المعارضة العلمانية باعتبارهم “خاسرين” لا يتمتعون بأية شعبية وليس بمقدورهم تقديم “بديل” عن النظام الحالي.
وعلى الرغم من صحة هذا الادعاء، إلا أن نقيضه أيضًا صحيح؛ فمقاطعة الانتخابات لم يكن لها أي تأثير على النظام. فبما أن جماعة المعارضة العلمانية لا قدرة لها في الوقت الراهن على تغيير واقع الاستبداد في مصر، فإن المشاركة ستكون الخيار الأفضل لكونها ستحافظ على الصلة المذكورة أعلاه بين هذه الجماعات وقواعدها في الشارع، وتساعدها في اكتساب عدد من المهارات التي ستلزمها إذا ما تم دحر السلطة الاستبدادية المصرية في المستقبل.
ومع ذلك يتبقى سؤال واحد مهم قيد الطرح: هل ستضر مشاركة جماعات المعارضة العلمانية في النظام السياسي المستبد القائم حاليًا بنزاهة الشخصيات العلمانية في مصر في أعين المواطنين إذا ما وقع تغيير جذري مستقبلًا؟
والإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، غير أن تتبع التاريخ القريب جدًا إبان حكم مبارك أو حتى أثناء حكم السيسي يقدم الدليل على أن هذا الافتراض لا يشغل سوى الباحثين والأكاديميين فيما ينشغل المصريون في الشارع بدرجة أقل بمسائل النزاهة، كما أن أصواتهم وتأييدهم/ضعف تأييدهم للقوى السياسية سيستند في أية لحظة إلى حسابات معينة وإلى احتياجات واعتبارات براغماتية.
ولقد دعمت أحزاب سياسية علمانية، مثل حزب الوفد وحزب المصريين الأحرار، على سبيل المثال، النظام بل إنها إما دعمت أو تجاهلت انتهاكات حقوق الإنسان وسوء المعاملة ورغم ذلك حصدت أصوات في الانتخابات البرلمانية سنة 2015 (حصل حزب المصريين الأحرار على أحد عشر بالمئة تقريبًا من مقاعد المجلس النيابي الحالي لحصوله على معظم الأصوات مقارنة بجميع الأحزاب السياسية الأخرى التي نافست في الانتخابات)، ذلك لأن الطبقات المتوسطة/العليا المصرية، والأقباط ودوائر الأعمال الصغيرة، وهم يشكلون قسمًا لا يُستهان به من القوة الانتخابية في مصر، براغماتيون جدًا وأقل ارتباطًا بالأيدولوجيات مما قد يفترضه الباحثون، ناهيك عن كون الفقراء المصريين يتطلعون بشكل رئيسي إلى منافع اقتصادية واجتماعية؛ ومن ثم فإنهم مستعدون للتصويت لمن يعتقدون أنه سيكون قادرًا على تطبيق سياسات تحقق لهم مثل هذه المنافع، بصرف النظر عن الاعتبارات الأخلاقية والأيديولوجية.
لكن ما الذي ينبغي أن يحدد مشاركة جماعات المعارضة العلمانية في مصر، بافتراض حدوث أي انفتاح في السنتين المقبلتين؟ تؤيد هذه الورقة مشاركة جماعات المعارضة العلمانية إذا ما أُفسح المجال لذلك، ولكن هذه المشاركة ينبغي أن تحددها ثلاثة اعتبارات عامة:
الاعتبار الأول، في الوقت الذي تعدُّ فيه هذه المشاركة مهمة، لا يقل الخطاب السياسي الملازم لهذه المشاركة أهمية عنها. بعبارة أخرى، في الوقت الذي تكون فيه مشاركة جماعات المعارضة على أي مستوى (الانتخابات، الحوار، الإعلام وما إلى ذلك) مهمة، ينبغي أن يكون هناك خطاب سياسي محدد الملامح يرافق هذه المشاركة، خطاب لا يتخلى عن أساسيات العلمانية (الطبيعة المدنية للدولة، والفصل بين الدين والسياسة، واحترام حقوق الإنسان… إلى آخره). إن الهدف من المشاركة، كما بيّنا أعلاه، ليس التعاون مع النظام، فالسبب فيها عائد لاحتياجات براغماتية تتمثل في إبقاء جماعات المعارضة جزءً لا يتجزأ من العملية السياسية الجارية. وبالتالي، فإن الحفاظ على خطاب سياسي يعبِّر عن القيم الأساسية للجماعات العلمانية في مصر أمر غاية في الأهمية ينبغي عدم التنازل عنه أو الاستعاضة عنه مقابل أية مكاسب سياسية أيًا كانت.
الاعتبار الثاني، ينبغي على جماعات المعارضة إعادة ترتيب أولويات سياساتها ومطالبها السياسية. وينبغي إعطاء الأولوية الأولى بصورة رئيسية للسياسات الاقتصادية والاجتماعية، على أن يليها التفاوض على إعادة تصميم النظام السياسي بأكمله من حيث القوانين والإجراءات اللازمة للارتقاء بمستوى مصداقية أية انتخابات برلمانية أو محلية أو رئاسية قادمة. ستساعد هاتان الأولويتان جماعات المعارضة العلمانية على رفع شعبيتها وتخطي الحاجز التقليدي الذي وقف حائلًا بينها وبين عموم الجمهور، كما ستساعدان في تحسين قوانين اللعبة السياسية بحيث ينخفض مستوى المجازفة إزاء تحدي شرعية النظام، كمثال.
الاعتبار الثالث، يوصى من الناحية التكتيكية والتنظيمية أن تعمل جماعات المعارضة العلمانية على نحو وثيق في تحالفات (سياسية أو انتخابية) مع أحزاب وجماعات علمانية مثيلة حتى لو كانت هذه الأخيرة مؤيدة للنظام؛ لأن ذلك أفضل بكثير من التحالف مع النظام نفسه. بعبارة أخرى، يعد التحالف مع حزبي المصريين الأحرار والوفد –على الرغم من تأييدهما للنظام– أكثر فعالية من التحالف مع السلفيين أو الأحزاب الصورية صنيعة الدولة، حيث قد تقوض التحالفات معها نزاهة الفاعلين العلمانيين في مصر ومعاييرهم السياسية الأساسية.
لقد حافظ حزبي المصريين الأحرار والوفد على مسافة قليلة فاصلة بينهما وبين النظام، واستطاعا تطوير هيكلهما التنظيمي، الأمر الذي سيفيد جماعات المعارضة العلمانية في مصر إذا ما وقع تغيير ما. علاوةً على ذلك، ينبغي أن تكون إعادة هيكلة المؤسسة أولوية أخرى من أولويات الجماعات العلمانية في أي تغيير مستقبلي. إن إعادة كتابة اللوائح الداخلية والبيان الرسمي العام لهذه الأحزاب، إلى جانب امتلاك هيكل دائم للانتخابات الداخلية، وتأسيس وحدات للأبحاث من أجل صياغة سياسات عامة بديلة هو ما تحتاج إليه الجماعات العلمانية في مصر في المستقبل القريب.
شكر وتقدير
هذا المقال هو ترجمة لورقة تم طرحها في أحد المؤتمرات التى عقدت في عام 2019.
[3] المرجع السابق.
[4] المرجع السابق.
[5] المركز العربي للبحوث والدراسات. (2014). التحولات في البنية والوظيفة: المجتمع المدني بعد الثورات في مصر (2-2). 30 ديسمبر. تاريخ الاطلاع 28 سبتمبر 2020. http://www.acrseg.org/32498
[6] سي إن إن العربية (2012) انسحابات من لجنة الدستور قد تؤدي لأزمة بمصر، 22 نوفمبر. تاريخ الاطلاع 28 سبتمبر 2020. http://archive.arabic.cnn.com/2012/middle_east/11/21/Egypt-Constitution/index.html
[7] بي بي سي.(2018) أحزاب مصرية تقرر مقاطعة انتخابات الرئاسة المقبلة. 30 يناير. تاريخ الاطلاع 28 سبتمبر 2020. https://www.bbc.com/arabic/middleeast-42872494
Read this post in: English