باستثناءات محدودة، فإن الأمور تسير حتى الآن في العالم والمنطقة العربية في اتجاه التدهور ذاته الذي كانت تسير عليه قبل تفشي الجائحة، ولكن بمعدلات أسرع. من المبكر استنتاج نتيجة تلك التطورات بعد انقشاعها، ولكن من المرجح أن التبعات الاقتصادية للجائحة –لا الجائحة– ستكون العنصر الحاسم في صياغة ملامح الوضع في العالم، وفي كل دولة على حدة. التوقعات التي تستند لتحليل جاد ومنطقي متفاوتة للغاية. وهي تتراوح بين ثلاثة مسارات محتملة لا يوجد بينها سور صيني، فهي قد تتداخل في المنطقة الجغرافية الواحدة، أو تتحرك التطورات في العالم أو في منطقة أو دولة بعينها إيجابًا وسلبًا وفقًا لعوامل متعددة. العرض التالي لآفاق التطور المحتملة في مسارات منفصلة متباينة للغاية، هو بغرض تيسير المناقشة، والمساعدة على حفز طاقة التفكير والتأمل لأقصى حد ممكن في التحديات التي يفرضها وضع غير مسبوق، على الأقل في العصر الحديث.
المسار الأول هو الوصول مبكرًا إلى النتائج ذاتها التي كانت مُتوقَعة قبل الوباء، بما في ذلك مزيد من تدهور مؤسسات النظام الدولي وتفاقم ضعف فاعليتها، وازدياد نمو الشعبوية في دول الشمال، والمزيد من تعزيز قبضة النظم التسلطية في دول الجنوب.
المسار الثاني هو حدوث انتكاسات كبرى لم تكن لتحدث لولا التفاعلات المباشرة وغير المباشرة للجائحة. مثل انهيار دول جراء اندلاع عصيان مدني غير منظم، وانتشار الهلع الناجم عن ضعف الثقة في مصداقية ما تعلنه الحكومات من بيانات وفي كفاءة إدارة الدولة والنظم الصحية، وتفاقم المعاناة من سوء أداء المنشآت الصحية، وعجز بعض الحكومات عن توفير المتطلبات الأساسية للمواطنين ومكافحة الجائحة، الأمر الذي قد يؤدي في النهاية لانهيار حكم القانون. حدوث مجاعات في بعض الدول الأفريقية ودول النزاعات المسلحة في العالم العربي. انهيار منظومة الأمم المتحدة ومؤسسة الاتحاد الأوروبي.
المسار الثالث هو صحوة “عودة الوعي”، عبر إدراك أفضل للمسئولية الجماعية للبشرية عن مصير الإنسانية، و”إعادة ضبط العولمة”،[1] إعادة تعزيز النظام الدولي ومؤسساته، التزام أكبر بالتوافقات الدولية إزاء التغيرات المناخية، إعادة الاعتبار لأهمية الإنفاق على تعزيز النظم الصحية والضمان الاجتماعي والوقاية من الأوبئة المستقبلية، إدراك أنه حتى بعض النظم الديمقراطية في الغرب تحتاج إصلاحًا من نوع خاص لنظامها السياسي؛ من أجل ضمان وضع الأولويات المجتمعية في المكان اللائق بها في الإنفاق العام، حصار النظم التسلطية وإخضاعها للمحاسبة على تقصيرها الفادح في مكافحة الجائحة، وسياساتها المتأصلة التي قادت لكوارث صحية أو اقتصادية لم تكن حتمية، إدراك الرأي العام لمسئولياته عندما تهاون لزمن طويل في إخضاع النظم التسلطية للمحاسبة قبل الجائحة. وتزايد إدراكه في المقابل لأهمية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وللعلاقة بينهما وبين مسألة الحياة والموت للإنسان على الصعيد الفردي والجماعي، وأهمية مكافحة الفساد المؤسسي، وحماية حرية تدفق المعلومات، وتعزيز مؤسسات المحاسبة للحكومات، كالبرلمان والنظام القضائي والأحزاب السياسية والنقابات والإعلام ومنظمات المجتمع المدني.
ماذا يعني ذلك للمنظمات الحقوقية المستقلة في العالم العربي؟
ربما يكون الخيار الكفاحي الأمثل هو العمل بالتعاون مع شركائها على الدفع على الصعيد العالمي والإقليمي العربي والمحلي في اتجاه كبح المسار الأول وتعزيز المسار الثالث للتطور، والحيلولة دون الانزلاق للمسار الثاني. ذلك يتطلب من هذه المنظمات المتابعة الديناميكية للتطورات وتحليلها على الصعيد العالمي والإقليمي والقُطري، والتوصل للاستنتاجات اللازمة في وقت مناسب، وتعزيز قدراتها على دراسة التحولات الجارية في سياق مرحلة حُبلي بالتقلبات والاضطرابات السياسية. يتطلب من ناحية أخرى التحلي بأقصى درجات الحكمة والحذر على الصعيد المؤسسي والشخصي. يجب أن تجمع هيئات إدارتها أكثر من أي وقت مضى بين المرونة الفائقة لأجل درء المخاطر المحتملة، والديناميكية اللازمة لانتهاز كل فرصة محتملة لتعزيز حقوق الإنسان وتحسين شروط الكفاح من أجلها. ذلك يتطلب السهر على تعزيز المكون الحقوقي في الحلول المحتملة لنزاعات مسلحة أو في مبادرات إصلاحية محتملة للحكم الرشيد في الدول التسلطية. كما قد يتطلب أيضًا إعادة التأمل في أولوياتها وهيكلية برامجها، وإحكام عملية إعادة تنظيم أجهزتها الداخلية –في سياق متطلبات الوقاية الصحية والأمنية– بما يمكنها من القيام بهذه المهام بأفضل صورة ممكنة.
لكي ندرك ماذا يعني ذلك عمليًا، من الضروري محاولة استطلاع آفاق الاتجاه العام للتطورات المحتملة في العالم العربي وفي بعض دوله بشكل خاص، وذلك في ضوء السيناريوهات المحتملة نتيجة تفاعل التأثيرات المباشرة –أو غير المباشرة– للجائحة وتبعاتها الاقتصادية مع الحقائق الكبرى قبل وبعد وصول كوفيد 19. أي السيناريوهين الثاني والثالث.
الفرص والمخاطر في سياق الآفاق المحتملة للتطورات في العالم العربي
وفقًا للسيناريو الثاني، حدوث مجاعة في اليمن، اتساع نطاق الحرب الأهلية وعنفها في ليبيا. تفكك اليمن و/أو ليبيا. إفلاس وانهيار الدولة في لبنان. انهيار الدولة في العراق في ضوء الفشل المتواصل في تشكيل حكومة أو التوافق عليها، وانهيار أسعار النفط الذي يُشكل المصدر الأساسي لدخل الدولة، وتفشي الفساد، والفشل في مكافحة الجائحة، وازدواجية السلطة مع ميلشيات مسلحة تعلن أغلبيتها (٤١ ميليشيا من ٦٧) الولاء لدولة أخرى/إيران. ترسخ مناطق النفوذ العسكري الأجنبي في سوريا وتحولها إلى تقسيم أمر واقع استعدادًا للبت في مصير “دويلات” سوريا. انقلاب عسكري في السودان ربما بغطاء مدني تقليدي أو/و إقليمي عربي، أو صراع مكشوف على السلطة بين الجيش وقوات الدعم السريع، وتجدد النزاعات المسلحة في الأقاليم بالتوازي مع تفاقم الأزمة الاقتصادية للدولة والمعيشية للمواطنين واندلاع انتفاضة جوع. تشديد القبضة التسلطية في مصر والجزائر والسعودية والبحرين. ضم الضفة الغربية لإسرائيل وانهيار السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية وسلطة حماس في غزة.
وفقًا للسيناريو الثالث، التطور الإقليمي الأهم في هذا السياق المحتمل هو الإضعاف النوعي الكبير الذي قد يطرأ على محاور الثورة المضادة الخمس الرئيسية في العالم العربي: السعودية والإمارات وروسيا وإيران ومصر. الدول الأربع الأولى تعاني بشكل غير مسبوق من آثار انهيار أسعار النفط.
تحولت السعودية والإمارات للاستدانة من المقرضين الدوليين بفوائد مرتفعة جدًا لتعويض العجز الكبير وغير المتوقع في الموازنة، بعد انخفاض سعر برميل النفط لنحو عشرين دولارًا، بينما تحتاج الدولتان؛ لتحقيق توازن مالي بين الإيرادات والإنفاق، أن يصل سعر البرميل إلى خمسة وستين، وواحد وتسعين دولارًا على التوالي. التأثيرات السلبية أكثر حدة بالنسبة للسعودية، نظرًا لتوقف السياحة الدينية وإرجاء المشاريع الطموحة لولي العهد لتنويع الاقتصاد والاضطرار للتخلي عن نمط دولة الرفاهية التي تدعم مجانية الصحة والتعليم، وتضمن وظائف حكومية مريحة ماديًا، بل وإلغاء بدل ارتفاع تكاليف المعيشة ومضاعفة الضريبة على القيمة المضافة ثلاثة أضعاف. يُضاف أيضًا عامل تفاقم الصراع داخل العائلة المالكة وشكوك حول انقلاب جرى إجهاضه في عشية الجائحة. لاشك أن السعودية ستضطر إلى التواضع كثيرًا في إنفاقها الهائل على مشتريات السلاح، الذي قد جعل منها خامس أكبر مُنفق على التسلح في العالم. كل هذا سيؤدي على الأرجح إلى تراجع كبير في نفوذها السياسي في المجتمع الدولي ومؤسساته.
في روسيا، ساهمت عائدات النفط بنحو ٣٥٪ من موازنتها العام الماضي، بينما هبط سعر برميل النفط الروسي من ست وأربعين دولارًا إلى عشرة دولارات، فضلًا عن توقع هبوط الصادرات بأكثر من ٤٠٪ هذا العام، الأمر الذي سيؤدي إلى عجز تجاري بأكثر من أربعين مليار دولار. جدير بالذكر أن روسيا خسرت من توقف العمل بسبب كوفيد-١٩ حتى نهاية أبريل نحو أربعة تريليونات روبل. ما دفعها للاستدانة من صندوق الاحتياطي الوطني، لكن “دويتشة بنك” يقول أن مدخرات الصندوق لن تكفي لتغطية العجز أكثر من عامين، إذا استمر سعر برميل النفط عند خمسة عشر دولارًا للبرميل. انعكاس ذلك في تراجع كبير لشعبية بوتين، وربما قد يضطر إلى التراجع عن تعديل الدستور لتمكينه من الترشح مرة أخري للرئاسة عام ٢٠٢٤.
أدي الهبوط التاريخي لسعر النفط إلى مبادرة ايران للمرة الأولى منذ ستين عامًا بطلب قرض من صندوق النقد الدولي. تعاني إيران من ثلاثة لطمات متواقتة: ١) التأثير الحاد للعقوبات الأمريكية القاسية عليها، ٢) كوفيد-١٩ الذي تفشى فيها ليجعل منها ثالث أكثر دولة عانت منه بعد الصين وإيطاليا، ٣) غياب قاسم سليماني –المنسق الميداني السياسي والعسكري لغابة تحالفات ايران الحكومية والميلشياوية في العالم العربي– وعجز بديله عن شغل مكانه.
في مصر، نتيجة الأزمة الاقتصادية المرشحة للتفاقم بحدة غير مسبوقة، وفي ضوء عجز السعودية والإمارات عن مد يد المساعدة المالية للإنقاذ كالمعتاد منذ انقلاب ٢٠١٣. ربما ليس هناك كلمات أفضل لتجسيد مدى تأثير انهيار سعر النفط سلبًا على فاعلية محور الثورة المضادة الخليجي في مصر والعالم العربي، من عبارة تلخص استنتاجات تقرير لصندوق النقد الدولي في ٣١ يناير الماضي، أي قبل الانهيار الكبير لسعر النفط: “The Arab World‘s Giant ATM is Running out of Cash”[2]. ترى ماذا يقول هذا الكاتب بعد ذلك الانهيار؟
في التطور الثاني يضع كوفيد 19 النظم الحاكمة في المنطقة العربية والشعوب وجهًا لوجه على أرضية أزمة صحية واقتصادية هائلة وغير مسبوقة، تختبر بحدة قدرات الطرفين، مثلما تضعهما معا أمام مرآة فاضحة لعيوب كليهما. يقول تقرير حديث للبنك الدولي[3] أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحتل المرتبة الثانية بين جميع مناطق العالم من حيث سوء الأمن الصحي، بينما تأتي في المرتبة الأخيرة من حيث قدرتها على تعبئة القوة البشرية اللازمة لمواجهة الأوبئة، ومن حيث الاستعداد للطوارئ وتخطيط التصدي لها. في هذا السياق يتوقع بعض المحللين أن يؤدي ذلك إلى اندلاع موجة ثالثة للربيع العربي،[4] نتيجة افتضاح عجز النظم الحاكمة عن إدارة أزمة مكافحة كوفيد-١٩، وفشل بنيتها الاقتصادية في التخفيف من ويلات التبعات الكارثية المتوقعة على القسم الأعظم من المواطنين. إلا أن هذا السيناريو قد لا يخلو من إفراط في التفاؤل، خاصةً في ضوء: ١) فشل انتفاضات الموجة الأولى (باستثناء نسبي في تونس) عن إزاحة النخب الحاكمة القديمة أو التحالف مع إصلاحييها وإنتاج إدارة بديلة. ٢) التحطيم المنهجي المتواصل الذي قامت به قوى الثورة المضادة لعدة سنوات لأطراف وقيادات الموجة الأولى. ٣) عجز الموجة الثانية عن إنتاج قيادة تنظيمية (باستثناء السودان)، لذا فإنه لا يمكن استبعاد أيضًا سيناريو اندلاع اضطرابات اجتماعية واقتصادية كبيرة فوضوية في بعض الدول، تعجز النظم الحاكمة عن كبحها أو إدارتها، وذلك نتيجة العجز عن مكافحة الجائحة و/أو حدوث نقص هائل في الاحتياجات الغذائية، و/أو تعطل ملايين عن العمل وعدم توافر مصدر رزق بديل أو تعويض حكومي مالي مناسب، وكذلك في ضوء عامل الانعدام المزمن للثقة من جانب الشعوب في بعض تلك الدول في مصداقية ونزاهة وكفاءة حكامهم. في غياب خطط اقتصادية وسياسية بديلة من جانب الحكومات العربية في بعض الدول غير النفطية، فإن الأمر قد يؤدي –وفقًا للصليب الأحمر الدولي– إلى “زلزال اقتصادي واجتماعي” تستمر آثاره لسنوات بعيدة.
في هذا السياق هناك تطورات محتملة إضافية جديرة بالتأمل:
- من غير الواضح بعد مدى تأثير انهيار أسعار النفط على استمرار ملايين العاملين المصريين والسوريين والفلسطينيين واللبنانيين في دول الخليج أو تحويلاتهم لدولهم؟ مع الأخذ بعين الاعتبار بأن عددًا منهم قد عاد بالفعل إلى بلده بسبب الجائحة.
- التأثير المتوقع لتفاقم أزمة البطالة في منطقة يُشكّل معدل البطالة بين الشباب فيها ضعف المعدل العالمي؟
- تأثير انضمام ٨.٣ مليون شخص إلى فقراء العالم العربي، وفقًا لتوقعات الأمم المتحدة، ليصل بذلك مجموع الفقراء إلى ١٠١.٤ مليون شخص في المنطقة.
- تأثير الجائحة على أكبر تجمع للاجئين والنازحين داخليًا في العالم (نحو اثني عشر مليونًا).
- تأثير قرار تنظيم “داعش” بالتعامل مع الجائحة كفرصة لتعزيز نشاطه، باعتبارها “أسوأ كوابيس الصليبيين” وفقًا لتوصيفهم. خاصةً وأن مؤشرات ذلك تتوالى في سوريا والعراق ومصر.
التطور الثالث، هو صعود تدريجي ناعم للتوجه العلماني في المجتمعات العربية، وبالتالي تراجع جديد للإسلام السياسي. فالعالم كله، بما في ذلك أكثر الناس تدينًا، في انتظار حل يأتي به العلم وحده، لا من السماء، والمساجد تُغلق في المنطقة كلها للمرة الأولي منذ نشأة الإسلام، دون رد فعل يتسق مع هول هذا الحدث.
التطور الرابع، هو البرهنة على أرض واقع الكفاح الحقوقي في العالم العربي على إحدى البديهيات التي طمسها جنوح بعض المنظمات الحقوقية للتكيف مع علاقات القوي التسلطية، وهي استحالة إحراز حد أدنى من التقدم في التمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية (وعلي رأسها الحق في الصحة والضمان الاجتماعي) دون توفر حد أدنى من الحقوق المدنية والسياسية، بما يضمن حق الرقابة المجتمعية على الإنفاق العام للدولة، من خلال برلمان منتخب وفقًا للمعايير الدولية، وإعلام حر وأحزاب سياسية ونقابات مهنية وعمالية مستقلة ومنظمات مجتمع مدني حرة، وبما يُمكِّن المنظمات الاجتماعية من التأثير على صنع سياسات وقرارات الدولة ذات الصلة. من المفيد في هذا السياق تأمل التطورات الجارية في تونس والمغرب منذ الجائحة، رغم التفاوت الكبير بين طبيعة النظام السياسي في الدولتين. فالأولى نظام ديمقراطي، والثانية نظام تسلطي يقوم على تعددية سياسية مُقيّدة. هذه التعددية هي إحدى السمات التي تميز المغرب عن الدول التسلطية الأخرى كالجزائر ومصر على سبيل المثال. في تونس والمغرب جرت إدارة مكافحة الجائحة وفقًا لإرشادات منظمة الصحة العالمية، وبرز دور بيروقراطية الدولتين في هذه الإدارة الرشيدة، ونجح المجتمع المدني في الدولتين في قطع الطريق على استغلال الجائحة لقمع حرية تداول المعلومات. في المغرب أدت الحرية النسبية المتاحة إلى قطع الطريق على مشروع قانون خطير يستهدف بالأساس حركات الاحتجاج الاجتماعية، الأمر الذي أدى إلى أزمة كبيرة داخل الحزبين الرئيسيين المشكلين للوزارة، واحتمال اضطرار وزير العدل للاستقالة رغم أنه من اختيار الملك.
أما التطور الخامس، انقسام معسكر الثورة المضادة في بعض الدول يمكن أن يوارب الباب أمام فرص جديدة محتملة للقوى الديمقراطية. هذا يتضح بشكل خاص في العراق وسوريا، مثلما سيجري توضيحه لاحقًا.
الفرص والمخاطر في سياق التطورات المحتملة في دول عربية
اليمن
من المرجح استدامة وقف إطلاق النار الهش المعلن من طرف واحد، في سياق تسليم سعودي بالعجز عن مواصلة الحرب، وبانتصار الحوثيين، وبتضحية مرجحة بحكومة الرئيس هادي. إلا أن ذلك لن يعني استسلام بقية الأطراف اليمنية للحوثيين. فالصراعات المحلية المسلحة ستتواصل بدوافعها الخاصة في مختلف أرجاء اليمن، وكذلك هجمات القاعدة وداعش، ويتكرس رسميًا انفصال الأمر الواقع بين الشمال والجنوب. لذا فإن تفكك اليمن المحتمل بما له من مخاطر إقليمية ودولية قد يقود إلى صفقة سياسية اقتصادية تستوعب الطموحات السياسية والاقتصادية لمختلف الأطراف اليمنية في اطار دولة فيدرالية، على الأرجح بدون الجنوب.
ليبيا
استئناف عملية المصالحة السياسية التي كانت قد توقفت في أبريل ٢٠١٩، وبدء المسيرة الطويلة لإعادة بناء الدولة، بعد تعرض قوات الجنرال خليفة حفتر لهزائم مؤثرة ومتواصلة، وانشقاقات في قواته والقبائل المساندة له في الشرق، وعجز شركائه الدوليين والإقليميين عن مواصلة دعمه نتيجة أزمة كوفيد-١٩، والتأثير السلبي الكبير لانهيار أسعار النفط على أبرز حلفائه (الإمارات والسعودية وروسيا).
سوريا
قد تبدأ فصلًا جديدًا في ضوء تطورات تتصل بتفاقم الخلافات والمنافسة في معسكر الثورة المضادة (بشار الأسد وروسيا وإيران) ومؤشرات على احتمال توافق روسي/أمريكي على مستقبل سوريا بدون إيران وربما الأسد أيضًا: فقد خرج الصراع بين الأسد وبعض مناوئيه من داخل نظامه إلى العلن، وكذلك بينه وبين بوتين قبل عام من الانتخابات الرئاسية في سوريا، وتلويح موسكو بأن لديها بدائل له (الخلاف يدور حول طبيعة المرحلة الجديدة في سوريا سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، ومدى إلحاح تطوير الجيش السوري إلى جيش مهني محترف، وتحجيم الفساد، والانفتاح على المعارضة غير المسلحة، وتوزيع تورتة إعادة الإعمار، وحجم ودور إيران في سوريا). في الوقت ذاته الذي تنسق فيه روسيا جيدًا مع تركيا بخصوص الشمال، ومع إسرائيل وأمريكا بخصوص ايران بأفق إجبارها على الانسحاب من سوريا. من ناحية أخرى استأنفت داعش هجماتها، وينشغل حزب الله بالانتفاضة في لبنان المهدد بإعلان إفلاس الدولة. هذه التطورات قد تفتح آفاقًا جديدة في مسيرة الألف ميل للمعارضة غير المسلحة ذات الأفق الإصلاحي وكذلك للمجتمع المدني.
العراق
انعكس الضعف المتزايد لإيران السالف الإشارة إليه بشكل نوعي مضاعف في العراق، بما في ذلك على أبرز الميلشيات المسلحة الشيعية التي كان يوجهها سليماني سياسيًا وعسكريًا. كما كانت الأحزاب الطائفية الشيعية العراقية التابعة لإيران هي الخاسر السياسي الأكبر من الانتفاضة الشعبية في العراق، بل وحتى في كبرى المدن الشيعية، وكذلك من الانتقادات العلنية من جانب الزعامة الروحية للشيعة (السيستاني). هذه العوامل أدت إلى توافق هش على ترشيح رئيس للوزراء ذو شخصية مستقلة نسبيًا عن إيران والأحزاب الموالية لها، والتي لم تعترض أغلبيتها على ترشيحه، ولكنها تملك أيضًا أدوات إفشاله، فضلًا عن كونه لا يحظى أيضًا بدعم الحركة الاحتجاجية. لكن مبادرة الكاظمي في اليوم الأول لتوليه رئاسة الوزارة بإصدار إعلانات وقرارات تتجاوب مع بعض أهم مطالب الاحتجاج الشعبي هي خطوة هامة للأمام. فقد أعلن التزامه بتنظيم انتخابات عامة خلال عام والإفراج الفوري عن المعتقلين منهم، ومحاسبة المسئولين عن قمعهم، وفتح ملف المخطوفين الشائك لدي الميلشيات المسلحة (نحو ١٢ ألف)، وتعيين وزيري الدفاع والداخلية من شخصيات مستقلة عن الميلشيات، وإعادة تعيين أحد أكثر القيادات العسكرية شعبية (الذي سبق أن أطاحت به الميلشيات المسلحة) في منصب مهم، وفتح ملف إدماج الميلشيات المسلحة في الجيش. باختصار، هذه الخلخلة الكبيرة في دولة يسيطر عليها أقوى وأكثر مراكز القوي الطائفية والعشائرية عداءً للديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة، بالتوازي مع الأداء الديناميكي المبهر لحركة الاحتجاج وتماسكها حتى في ظل كورونا يفتح آفاقًا جديدة مهمة، خاصةً وأنها الوحيدة بين حركات الموجة الثانية من الربيع العربي التي نجحت في إنشاء هيكلية تنسيقية تضم ١٦ لجنة في ٩ محافظات عراقية. واقع الأمر أن صعود الكاظمي كرئيس للوزراء لم يكن ممكنًا لولا التغير الكبير الذي حدث في موازين القوى، بفضل ديناميكية حركة الاحتجاج،[5] والضعف المتزايد لإيران الحاكم الفعلي للعراق منذ الانسحاب الأمريكي عام ٢٠١١.
فلسطين
على الأرجح ستمضي صفقة القرن في طريقها دون مقاومة مؤثرة من المجتمع الدولي أو الدول العربية أو السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة. ولكن المشروعية السياسية والأخلاقية المتآكلة للسلطة الفلسطينية –خاصةً في رام الله– ستتجه بمعدلات أسرع نحو التلاشي على وقع لطمات الأزمة الاقتصادية، وتفشي الفساد، وتراجع ثقة الرأي العام الفلسطيني في جدارتها، وتطور الصرعات السياسية الداخلية المزمنة إلى حرب “خلافة” بالتزامن مع احتمال موت أبو مازن في أية لحظة، خاصةً وأنه لا يوجد مسار مؤسسي بديل لتسمية الرئيس الجديد بعد حل المجلس التشريعي الفلسطيني وتجمد منظمة التحرير الفلسطينية. كما أن أبو مازن لم يعد خلفًا له، بل صرف الكثير من جهده في تعزيز سيطرته وتهميش المسئولين الصاعدين.[6] في هذا السياق لا يمكن استبعاد أن تفرض إسرائيل رئيسًا مواليًا كمحمد دحلان بالتوافق مع مصر والإمارات لخلق “سلطة بانتوستانات أمنية متأسرلة”.[7] تجري عملية ضم الضفة الغربية بالتوازي مع تطورين مهمين: الأول هو تآكل المقومات الموضوعية لحل “الدولتين” وكذلك تآكلها لدى الرأي العام الفلسطيني {في استطلاع حديث لرأي الفلسطينيين حول الحل المفضل لهما تساوت تقريبًا كتلة المؤيدين لحل الدولتين (٣٩٪) مع كتلة المؤيدين للدولة الواحدة ثنائية القومية (٣٧٪)}. التطور الثاني المهم هو الصعود السياسي للكتلة العربية لتصير ثالث كتلة في الكنيست الإسرائيلي كلاعب مؤثر (حتى أكثر من حزب العمل الذي أسس دولة إسرائيل!). هذه التطورات في مجملها توارب الباب أمام سيناريوهين محتملين للكفاح السياسي الفلسطيني ولدور المجتمع المدني: الكفاح من أجل إصلاح سياسي جذري للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، أو الانخراط في كفاح ديمقراطي مشترك من أجل العدالة وضد الأبارتيد في “الدولتين”، ربما بقيادة فلسطينية جديدة عابرة للحدود التي تلغيها فعليًا ورسميًا صفقة القرن. هذه التطورات وآفاقها تتطلب من المنظمات الحقوقية العربية إدارة حوار معمق حولها مع المنظمات الفلسطينية الحقوقية وغير الحقوقية في الضفة وغزة المنظمات العربية في إسرائيل، بما في ذلك شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية في الضفة.
تونس والمغرب
على الأرجح ستزيد ثقة الرأي العام في أداء بيروقراطية الدولة خلال مكافحة كورونا، ويتزايد تراجع الدعم الشعبي للإسلاميين، مما قد يؤدى في المغرب لتشكيل مجلس ائتلافي جديد للوزراء بعد انحسار كورونا بمشاركة حزب العدالة والتنمية ولكن بدون رئاسته له. من المرجح احتدام الأزمة الاقتصادية في البلدين، وصعود جديد للحركات الاجتماعية.
الجزائر
يتعامل الرئيس المنتخب حديثًا عبد المجيد تبون مع كوفيد 19 باعتباره فرصة لتعزيز سلطاته وترتيب علاقات القوى لصالحه استعدادًا لمرحلة ما بعد الوباء. فقد تحرك لتحجيم خصومه من العسكريين داخل الجيش وأجهزة الأمن الداخلي والمخابرات عبر عدة حملات لإقالات وتعيينات جديدة، كما اعتقل عدد من قيادات الحراك، وحرك جهازه القضائي لاستصدار أحكام بحق بعضهم في غيبة ضغوط الشارع، وحجب عددًا من أنشط المواقع الصحفية المعبرة عن الحراك، وقام بتعديل قانون العقوبات بدعوى تعزيز أمن الدولة في مواجهة ما أسماه “ديموقراطية مزيفة”. كذا، أعد الرئيس الجزائري مشروع دستور جديد لا يتبنى أهم مطالب الحراك ولا يوفر مقتضيات إدارة حوار مجتمعي حوله. كما شنّ –بنفسه، دون مبرر ملموس– حملة سياسية ضد فرنسا محذرًا إياها من التدخل في شئون الجزائر. هذه التطورات ترجح أنه يُعد العدة لصدام أكبر مع الحراك إذا عاد. يجري ذلك في ظل أزمة اقتصادية هائلة نتيجة انهيار سعر النفط/المنتج الوحيد الذي تُصدّره الجزائر، وتنفق من عوائده على استيراد كل احتياجاتها الأساسية، إذ يُشكّل النفط ٩٧٪ من إيرادات الدولة. لتوضيح حجم الكارثة الاقتصادية قد يكون مفيدًا أن نعرف أن الجزائر تحتاج أن يرتفع سعر برميل النفط من نحو عشرين دولارًا إلى تسعين دولارًا للبرميل؛ كي تتوازن ميزانية الدولة.[8]
مصر
يتعامل الرئيس عبد الفتاح السيسي مع كوفيد-١٩ باعتباره فرصة لتعزيز قبضة الحكم الفردي التسلطي في مصر، استعدادًا لاندلاع محتمل لأعمال احتجاج شعبي إزاء التفاقم النوعي المتوقع لأزمة البلاد الاقتصادية والأحوال المعيشية للمصريين المتدهورة. بينما تعاني مصر بقسوة من ضغوط متطلبات سداد ديونها على إيراداتها من العملات الأجنبية (تبلغ الديون ١٠٩ مليار دولار، يجب أن تسدد هذا العام أقساط وفوائد ديون بقيمة ١٨.٦ مليار دولار) في ظل تراجع كارثي في متحصلات السياحة وقناة السويس وتحويلات المصريين في الخارج وانسحاب المستثمرين الأجانب. الأمر الذي اضطر السيسي في مايو ٢٠٢٠ لطلب قرض جديد من صندوق النقد الدولي ٢.٨ مليار دولار، ثم سعى للحصول على ٩ مليارات أخرى كقروض من صندوق النقد الدولي ومؤسسات أخرى. تواجه مصر أزمة بهذا الحجم، بينما منقذيها التقليديين في الخليج غير قادرين حتى على الوعد بمساعدتها. لذا يقول أحد المحللين أن مصر قد تكون مرشحة للانتقال من “كبيرة جدًا بحيث لا يمكن السماح بفشلها”،[9] إلى التسليم بأن كارثتها أثقل من أن يمكن إنقاذها. عدّل السيسي قانون الطوارئ، وأضاف معارضين علمانيين معروفين إلى قوائم الإرهاب، ولم يتوقف عن أعمال الاعتقال والإخفاء والتعذيب في وقت مكافحة الجائحة، وفي مواجهة الضغوط الدولية والمحلية لتخفيف تكدس السجناء في السجون، أصدر قانونًا للعفو عن الجنائيين (استفاد منه أكثر من ٤٠٠٠ سجين) بينما استبعد السياسيين. يعي السيسي جيدًا أن مكافحة الجائحة يدفع المدنيين –وليس العسكريين– إلى الصدارة في الدولة، بل وفي إنقاذ المواطنين من خطر جسيم يتهدد حياتهم جميعًا، من ثم يحرص السيسي على تقديم الجيش باعتباره درع الوقاية من الوباء وليس الطواقم الطبية المدنية. الأمر الذي يفيد أيضًا في تعزيز علاقته بالجيش في هذه المرحلة العصيبة، انطلاقًا من إدراكه أن البديل الوحيد المحتمل له في الوقت الراهن هو إما من داخل الجيش أو من نخبة مبارك، أو صيغة تلقى قبولهما ودعمهما المشترك. ولكن من المُلاحَّظ أنه مع اتساع نطاق تفشي الوباء في مايو، وعجز النظام الصحي الهش عن تحجيمه، فإن السيسي توقف عن مخاطبة الرأي العام بخصوص الوباء تاركًا المهمة للمسئولين المدنيين، كرئيس الوزراء ووزيرة الصحة.
[1] ابن الحسين، عبد الله الثاني ملك الأردن، (2020)، حان الوقت للعودة للعولمة، ولكن لنفعلها بطريقة صحيحة هذه المرة، (It’s Time to Return to Globalization. But this Time let’s do it Right)، واشنطن بوست، 27 أبريل، تاريخ الاطلاع 11 يوليو 2020، https://www.washingtonpost.com/opinions/global-opinions/its-time-to-return-to-globalization-but-this-time-lets-do-it-right/2020/04/27/b5e8b442-88b4-11ea-8ac1-bfb250876b7a_story.html٣ روزنبرج، ديفيد، (2020)، أموال العرب النفطية في طريقها للنفاذ ومن المحتمل أن تتبعها الفوضى، (Arab Oil Money Is Running Out, and Chaos Will Likely Follow)، هاآرتز، 12 فبراير، تاريخ الاطلاع 11 يوليو 2020، https://www.haaretz.com/world-news/.premium-arab-oil-money-is-running-out-and-chaos-will- likely-follow-1.8511319[3] أرزقي، رباح وليدرمان، وآخرون (2020)، كيف يمكن للشفافية أن تفيد بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: التحديث الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (أبريل)، واشنطن، مجموعة البنك الدولي https://openknowledge.worldbank.org/bitstream/handle/10986/33475/211561AR.pdf?sequence=10
[4] ويهري، فردريك (2020)، هل سيشعل الفيروس الربيع العربي ثانيةً؟، (Will the Virus Trigger a Second Arab Spring?)، نيويورك تايمز، 6 أبريل، تاريخ الاطلاع 11 يوليو 2020، https://www.nytimes.com/2020/04/06/opinion/middleeast-coronavirus.html، ميللر، أندرو (2020)، كوفيد 19 والأزمة الاقتصادية التي تلوح في أفق العالم العربي، (COVID-19 and the Arab World’s Looming Economic Crisis)، مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط، 24 مارس، تاريخ الاطلاع 11 يوليو 2020، https://pomed.org/covid-19-and-the-arab-worlds-looming-economic-crisis/
[5] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2020)، تشكيل حكومة الكاظمي في العراق:تحول فعلي أم تسوية عابرة؟، المدن، 13 مايو، تاريخ الاطلاع 11 يوليو 2020، https://bit.ly/2ClUR2j
[6] العمري، غيث ويعاري، إهود (2020)، السياسة الفلسطينية بعد عباس: دراسة تأثير التغيير المفاجئ في الشرق الأوسط، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، مايو، تاريخ الاطلاع 11 يوليو 2020، https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/palestinian-politics-after-abbas
[7] هذا التعبير لعزمي بشارة في حوار مع صحيفة العربي الجديد بتاريخ ١٨ مايو، تاريخ الاطلاع 11 يوليو 2020، https://bit.ly/3gKqeT1
[8] كرم، سهيل وأبو عمر، عبير (2020)، يوم الحساب الاقتصادي قادم للجزائر (Economic Reckoning Is Coming for Algeria)، بلومبرج، 20 أبريل، تاريخ الاطلاع 11 يوليو 2020، https://www.bloomberg.com/news/articles/2020-04-20/economic-reckoning-is-coming-for-arab-world-s-last-debt-recluse
[9] ميللر، أندرو (2020)، كوفيد 19 والأزمة الاقتصادية التي تلوح في أفق العالم العربي، (COVID-19 and the Arab World’s Looming Economic Crisis)، مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط، 24 مارس، تاريخ الاطلاع 11 يوليو 2020، https://pomed.org/covid-19-and-the-arab-worlds-looming-economic-crisis/
Read this post in: English