الإشارة المرجعية: سبرينجبورج، روبرت (2024). رؤى: حقوق الإنسان العربي تحت طبقات من القمع. رواق عربي، 29 (2)، 5-11. DOI: 10.53833/XOZQ4216.
أسفر ظهور منظمات حقوق الإنسان العربية في سبعينيات القرن الماضي عن رد فعل جدلي هيجلي من جانب قوى منافسة كانت عازمة على قمعها. وقد أدت الانتفاضات العربية في 2011 لحشد تلك القوى في تحالف غير رسمي مُكرّس لمكافحة توسع حقوق الإنسان في المنطقة العربية والتحول الديمقراطي المرتبط بممارستها. المفارقة أن الطبقات الأربعة لذلك التحالف تشمل 1) الديمقراطيات الغربية؛ 2) نظام إقليمي عربي تقوده بلدان الخليج العربي الرئيسية؛ 3) الملكيات السلطوية في الأردن والمغرب المقترنة مع الدول العسكرية/الأمنية في مصر والجزائر وتونس؛ و4) في قاع التحالف، توجد سبع دول عربية تم فيها التخلي بشكل كلي أو جزئي عن سيادة الدولة لصالح الميليشيات –وهي لبنان، العراق، سوريا، اليمن، ليبيا، السودان، وفلسطين. هذا التحالف يشبه ما شهدته أوروبا في أعقاب هزيمة نابليون عام 1815. ومثل الوفاق الأوربي الذي قاده الكونت ميترنيخ؛ فإن الوفاق العربي حديث التشكل يتألف من أنظمة تسعى لتحصين نفسها من التعرض للإطاحة على يد السكان الساخطين، الذين تتم تعبئتهم من خلال نداءات حقوق الإنسان والديمقراطية. حتى الآن، نجح التحالف في تلك المهمة بشكل كبير، ولكن مثلما كان الحال في أوروبا إبان القرن التاسع عشر؛ يمكن التوقع بأن ذلك الاستياء الشعبي سيتصاعد على الأقل على نحو متقطع، قبلما يتبلور في شكل تحديات مكتملة في مواجهة نظام القمع رباعي الطبقات.
طبقات القمع
الحرب التي شنتها إسرائيل على الفلسطينيين بعد 7 أكتوبر 2023 كشفت، بشكل مباشر وغير مباشر، عن طبقات متداخلة من قمع حقوق الإنسان العربي. يتمثل التأثير المباشر في محاولة اجتثاث مطالب الفلسطينيين بحقهم في إقامة دولة على النحو المنصوص عليه في قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في نوفمبر 1947، وفي اتفاقيات أوسلو، وفي اعتراف غالبية دول العالم ذات السيادة بالدولة الفلسطينية. إن الحق الفلسطيني في إقامة دولة يمكن النظر إليه عن جدارة باعتباره بديلًا لحقوق الإنسان، لاسيما حقوق الشعوب العربية بشكل عام؛ وذلك لأنه في حد ذاته حق أساسي، وأيضًا لأن أولئك الذين يدعمونه يعانون عادةً من قمع حقوقهم في التعبير.
وقد دعمت الدول الغربية –التي لا تزال القوة المهيمنة في النظام العالمي– سواء بشكل نشط أو ضمني محاولة إسرائيل لطرد الفلسطينيين من غزة. وأسفل تلك الطبقة العليا من القمع، فإن النظام الفرعي الإقليمي العربي، الذي تُهيمن عليه الدول البارزة في مجلس التعاون الخليجي، لم يمتنع فقط بشكل جماعي عن استخدام نفوذه الكبير في إرغام الإسرائيليين على وقف الحرب؛ ولكنه أيضًا أعاق جهود الآخرين الرامية لذلك. وتتشكل طبقة القمع الثالثة من دول عربية تخلّت عن مسئولياتها في حماية الفلسطينيين –إذ كان بمقدورها فعل ذلك عبر تسهيل فتح معبر رفح الحدودي أو من خلال قطع العلاقات مع إسرائيل أو عبر احترام حقوق مواطنيها الساعين لدعم الفلسطينيين عبر تقديم المساعدة المادية لهم أو الاحتجاج من أجلهم.
وأخيرًا، طبقة القمع الدنيا التي تتألف من جهات فاعلة فرعية تمارس سيطرة كبيرة، وأحيانًا كاملة، على أعضائها النشطين، بل وحتى على أولئك الخاضعين لسلطتها، ليس عن طريق العضوية في ميليشيا أو منظمة أخرى، ولكن نتيجة مكان إقامتهم أو انتمائهم لقوة اجتماعية، سواء كانت قبلية أو دينية أو غير ذلك. في الدول العربية السلطوية تقوم تلك الجهات الفاعلة الفرعية، مثل القادة الرسميين للديانات السائدة، بموائمة سياساتهم عادة مع سياسات النظام الحاكم، ومن ثم ردع التعبير المستقل عن وجهات النظر. أما في الدول التي ترضخ «لحكم الميليشيات»، حيثما تآكلت السلطة السيادية جزئيًا أو كليًا بوساطة الميليشيات؛ فإن غالبية المواطنين يرضخون لرحمة أمراء الحرب الذين يقودون تلك الميليشيات، ولا يتسامح أي منهم مع حرية النشاط أو التعبير. على سبيل المثال، اتخذ حزب الله خطوات ملموسة، وإن كانت غير فعّالة، لردع العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، ولكن تلك الخطوات لم يقررها اللبنانيون، بما في ذلك الشيعة، وإنما كانت إيران هي صاحبة القرار.
إن هذا النظام متعدد الطبقات، الذي يتم من خلاله حرمان العرب من حقوق الإنسان، يُثير ثلاثة أسئلة؛ وهي متى وكيف نشأ، وكيف يعمل، وما الذي يمكن فعله لمواجهة تأثيراته.
نشأة القمع المنهجي
تطور الأوضاع الداخلية في المنطقة العربية، والتفاعلات بينها وبين القوى الخارجية، أسفرت عما نشهده اليوم من قمع واسع النطاق لحقوق الإنسان في المنطقة. يوجد اتجاهين مترابطين حاسمين في المنطقة العربية؛ إذ حدث تصلب سلطوي في نظام الدول العربية، المتفاوت بشكل متزايد، والخاضع لهيمنة الدول الأكثر سلطوية؛ وهي الدول الثلاث الرئيسية في مجلس التعاون الخليجي، الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر.
في المرحلة التي سبقت الثورة المضادة، والتي تم تنسيقها بشكل أساسي من جانب دولتي مجلس التعاون الخليجي، الأولى والثانية، المذكورتين آنفًا؛ استجابةً للتحديات التي فرضتها عليهما انتفاضات الربيع العربي، كانت الدول العربية في المغرب والمشرق توصف بكونها سلطويات ناعمة أو هجينة.[1] وهذا التصنيف يعني ضمنيًا أن تلك الدول أتاحت مساحة ما للتعبير السياسي المستقل، الأمر الذي كان يشير لاحتمالية أن تغدو أكثر مرونة مع توافر التشجيع والظروف الملائمة، بل وربما تتحول إلى الديمقراطية. واستنادًا لتلك التصنيفات والتكهنات المتفائلة للاقتصادات العربية السائدة آنذاك، شرعت الديمقراطيات الغربية في أوائل تسعينيات القرن الماضي، بقيادة الولايات المتحدة، في تجهيز برامج المساعدة التنموية والديمقراطية، بما في ذلك دعم المدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية. وقد بدت الحماسة الغربية الراسخة في ذلك الوقت بمثابة موجة تصاعدية لا رجعة فيها من الديمقراطية العالمية. وقد فُسرّت انتفاضات الربيع العربي عام 2011 باعتبارها دليلًا على هذا الاتجاه المُبشّر، والذي كان، ويا لها من مفارقة، قد بلغ نهاية مطافه في ذلك الوقت.
وقد ظلت القوى الدافعة للانتقال من السلطوية الناعمة إلى السلطوية الخشنة في طور التكوين لنحو نصف قرن. وأسفرت الزيادة الهائلة في أسعار النفط نتيجة الحصار الذي فرضته السعودية خلال الحرب العربية الإسرائيلية في 1973 عن تحول مركز القوة العربية إلى دول الخليج، بعيدًا عن جمهوريات المشرق والمغرب. وتتألف تلك القوى من عوامل مترابطة لم تظهر للعيان سوى في الآونة الأخيرة. العامل المهيمن الرئيسي هو المال، فبينما أدى التفاوت المتزايد في الثروة لتمكين الملكيات في الخليج؛ فإنه أدى عمليًا لإضعاف الدول العربية الأخرى. وقد اتخذ تأثير ثروة الخليج عدة أشكال؛ في الداخل، جعلت من الممكن التأكيد على الهوية الوطنية، تحت إشراف جيل جديد من القيادة عازم على إحياء أساطير الشرعية المحلية بينما يعمل على تطوير القدرات العسكرية للتدخل في مختلف أنحاء المنطقة العربية. لقد ملأت القوميات الخليجية الفراغ الذي خلّفه تراجع القوميات العربية المرتبطة سابقًا بالجمهوريات. وكما كان الحال مع تلك الجمهوريات، فإن البراعة العسكرية تُعد محورية لاستعراض دول الخليج، ليس فقط من ناحية القوة، ولكن أيضًا بالنسبة للأيديولوجية التي تُضفي الشرعية على أنظمتها بينما تطغى على الشعارات الأيديولوجية للدول القومية العربية التي تتعرض بشكل متزايد لنفوذ الخليج.
كيفية عمل النظام
ومع الوضع في الاعتبار إعادة التوازن في المنطقة العربية من حيث القوة المالية والعسكرية والناعمة، سعت الجهات الفاعلة الخارجية للاستفادة من بنية القوة الإقليمية الجديدة، عبر الارتباط بالمنطقة العربية في المقام الأول من خلال دول الخليج الرائدة. من الناحية العسكرية، فإن تلك الدول تُعد الأكثر مركزية للمصالح الغربية، إذ تضم أكبر تجمعات من الأفراد والمعدات الغربية في المنطقة العربية، كما أنها تنفق على المعدات والتدريبات العسكرية الغربية أكثر من بقية المنطقة العربية بأسرها. لقد بات الخليج مركزًا لاستعراض القوة الغربية في المنطقة.
وعلى نحو مماثل، أضحى استعراض القوة المالية الغربية يعتمد، بشكل أكبر من أي وقت مضى، على الخليج؛ إذ باتت مساهماته الآن جوهرية ليس فقط لإعادة إعمار البلدان العربية التي تعرضت للدمار بشكل كبير مثل سوريا ولبنان واليمن والسودان، وإنما كذلك لمنع الدول الأخرى من الانهيار. إن الدور الجديد الذي تم تكليف دول الخليج به من جانب صندوق النقد الدولي في القرض الذي منحه لمصر في ديسمبر 2022 بقيمة 3 مليار دولار، وهو شراء ما لا يقل عما قيمته 10 مليار دولار من أسهم الشركات المصرية المملوكة للدولة، بات الآن ممارسة اعتيادية. وفي إطار خطة الإنقاذ المالية لمصر التي كانت على شفا الانهيار، والتي بلغت قيمتها 50 مليار دولار في مارس 2024، جاء أكثر من نصف المبلغ عبر شراء الإمارات لعقارات في منطقة رأس الحكمة المطلة على البحر الأبيض المتوسط،[2] فيما يبدو أن نحو 7 مليارات دولار أخرى سيتم الحصول عليها عبر شراء السعودية لأراضٍ مطلة على البحر الأحمر.[3]
كما عززت الثروة قدرات دول الخليج على التدخل السياسي الإقليمي؛ إذ تصرفت مثلما فعلت الملكيات الأوروبية حينما تكاتفت نتيجة الوفاق الأوروبي، الذي صاغه الكونت مترنيخ في فيينا علم 1815 لمواجهة ما تبقى من الجمهورية النابليونية، وعملت على قمع المعتقدات والأنشطة الوطنية الليبرالية.[4] هذه الاستراتيجية القمعية واجهت تحديات بشكل دوري (مثلما حدث عام 1830 في فرنسا، و1848 في مختلف أنحاء قارة أوروبا، و1860-1861 في إيطاليا، و1871 في باريس)، لكنها نجحت إلى حد كبير في تأجيل انهيار الملكيات حتى جاءت الحرب العالمية الأولى وقضت على معظمها.
التحالف المكافئ في عالم اليوم –في شكل «وفاق المنطقة العربية» بقيادة السعودية والإمارات بشكل رئيسي وبمشاركة قطر رغم ظهور بعض الخلافات من حين لآخر– تمت صياغته كرد فعل على انتفاضات الربيع العربي. لقد دعم الأنظمة العربية السلطوية في كفاحها للحفاظ على السلطة في مواجهة التحديات المفروضة من جانب القوى الشعبية، وهي التحديات التي تتضمن إلى حد كبير ممارسة حقوق الإنسان. من خلال ذلك، تمكن «الوفاق» من ردع التحديات السياسية سواء في الداخل أو في المنطقة. كما تمكن أيضًا من تجنب التعرض لعقوبات السياسية حينما اعترف بإسرائيل وأقام معها علاقات تجارية وأمنية وغيرها، وهو الأمر الذي دفع السادات ثمنًا باهظًا له، حين فعله منذ نحو أربعين عامًا. ومن ثم، استطاع «الوفاق» العربي تأمين الدعم ليس من الغرب فحسب، بل أيضًا من العدو اللدود سابقًا إسرائيل، بينما تمكن كذلك من الحد من التوترات مع إيران، وهكذا نجح في تجنب التحديات المباشرة وغير المباشرة مع تلك الجهة. وقد أتاح ذلك لـ«الوفاق» مجالًا واسعًا من حرية التصرف خلال متابعته استراتيجيته المترنيخية إزاء المنطقة العربية، والتي تنعكس في دعمه إحياء نظام بشار الأسد الوحشي في دمشق، على أساس مبدأ مفاده أن أي ديكتاتور، مهما بلغت وحشيته، أفضل من أي بديل شعبي.
إن الثمن الذي يدفعه الغرب لدول الخليج الرئيسية، مقابل دورها كوكلاء عرب عسكريين وماليين ودبلوماسيين وسياسيين، هو التخلي عن كل شي فيما عدا التظاهر بدعم حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي في المنطقة العربية. فالاعتماد على الأنظمة العربية الأقل ديمقراطية والتي تعمد لتضييق الخناق على حرية التعبير أكثر من أي نظام آخر، يستلزم غض الطرف عن الانتهاكات التي تتعرض لها «القيم الغربية». إن النقد في البلدان الغربية لانتهازية الحكومات يكون خافتًا وحين يعلو صوته تتم مواجهته بالإشارة إلى المصالح الوطنية. إذ تتمثل المصلحة الحيوية في أوروبا في ردع الهجرة غير القانونية، بينما تتمثل في الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب والتهديدات التي يتعرض لها الحلفاء الإقليميون، والمثال الرئيسي لذلك هو إسرائيل.
ولكن الغرب يستمر في الادعاء بدعم التحول الديمقراطي وحقوق الإنسان، وذلك إلى حد كبير بهدف إرضاء الرأي العام المحلي. أحد السبل لتنفيذ ذلك أن تبدي الشخصيات السياسية الغربية رفيعة المستوى التعاطف مع الجهود الرامية لإطلاق سراح نشطاء حقوق الإنسان من الاحتجاز، بينما يتجاهلون القضية الأكبر المتمثلة في احتجاز عشرات الآلاف من السجناء السياسيين في مصر على سبيل المثال.
وتوجد طريقة أخرى تتجلى في برامج حقوق الإنسان والتحول الديمقراطي في البلدان العربية، والتي تنفذها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). وتنخرط الوكالة في خداع للذات ومراوغة خارجية. ويظهر خداع الذات في تجاهل قسوة الأنظمة التي تدعمها. ومن الأمثلة على ذلك، استراتيجية التعاون الدولي للتنمية في مصر خلال الفترة 2020-2025،[5] والتي تشير إلى «التزام وقدرة الحكومة المصرية على تعميق الإصلاحات الهيكلية بالإضافة لزيادة فرص إشراك المجتمع المدني، والأوساط الأكاديمية، والقطاع الخاص، والمواطنين في الاقتصاد». وتصف القطاع الخاص بأنه «نابض بالحياة»، وأن الحكومة تعمل على «تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية التحويلية والأكثر شمولًا».
وإذا ما افترضنا اعتقاد معدي تلك الصياغات في صحتها؛ فإنهم وضعوا أسس غير ملائمة لبرمجة ناجحة. الأرجح أنهم يدركون أن تلك مغالطات تقتضيها الضغوط السياسية في القاهرة وواشنطن. وفي كلتا الحالتين فإن المفهوم الشامل للاقتصاد السياسي المصري وقدرته على الإصلاحات الديمقراطية، بما في ذلك احترام أكبر لحقوق الإنسان، مضلل للغاية لدرجة أنه لا يمكن لأي برامج تعتمد عليه أن تمتلك أية فاعلية.
ولا يمكن وصف لغة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، فيما يتعلق بصياغة برامجها في مصر، سوى بكونها فريدة في انحرافها عن الواقع؛ إذ توجد صياغة مماثلة في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2022 وفي استراتيجيات التعاون التنموي القطرية مع البلدان العربية التي تنشط فيها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.[6] هذه وتُشير لتلك البلدان باعتبارها «حلفاء وشركاء» للولايات المتحدة، بما في ذلك في السعي لتحقيق أهداف التنمية والحوكمة. إن الجمع بين توصيف تلك الأنظمة بكونها شديدة القمع وبين الالتزام المعلن لإدارة بايدن بتعزيز الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان يعد أمرًا شديد الالتباس، كما أن نفاقًا بهذه الجسامة من شأنه العمل على تقويض تلك الأهداف بدلًا من تعزيزها.
وتأخذ المراوغة الخارجية شكل إعادة تسمية ومراجعة تصنيف المشاريع والبرامج، كي تبدو داعمة لحقوق الإنسان والتحول الديمقراطي بشكل واسع؛ رغم أنها في واقع الأمر ليست كذلك. إن إعادة تسمية الوكالة للبرنامج الشامل للديمقراطية والحوكمة (DG) ليصبح برنامج الديمقراطية والحقوق والحوكمة (DRG)، فتح الباب أمام هذا التوصيف المضلل. وقد تمكنت المشاريع التي تركز على النوع والشباب من استيعاب حصصًا متزايدة من البرمجة الشاملة للديمقراطية والحقوق والحوكمة. فهي تمثل مواقع احتياطية في غياب مقاربات أخرى ربما تؤدي لتغيير أوسع نطاقًا. إن التهميش السياسي والاقتصادي للشباب والنساء ليس أمرًا فريدًا، وإنما هو نتيجة عوامل منهجية تنطبق على كافة المواطنين وتمنع تنظيمهم المستقل، ومن ثم فإنها تحول بينهم وبين حيازة الوسائل الفعّالة للحصول على الحقوق. علاوة على ذلك، فحسبما اتبعت الأنظمة السلطوية التمويه الأخضر لسياساتها فيما يتعلق بالطاقة، فإنها أيضا قامت بتجميل سياساتها الجندرية. وبينما تقدم نفسها كأنظمة داعمة لحقوق النساء، فإن بلدانها تواصل تسجيل أدنى معدلات تمثيل للنساء في قوة العمل والمؤسسات/المنظمات السياسية. بصياغة أخرى، فإن الدعم الذي تصدح به الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ووكالات التنمية الأخرى لحقوق النساء[7] والشباب يحجب التأثيرات السلبية المتواصلة للأنظمة القمعية على تلك الفئات المحددة من المواطنين، كما لا تنبس ببنت شفة عن شيء يتعلق بتلك التأثيرات على كافة المواطنين. ولا عجب أن الأنظمة العربية المعنية كانت مستعدة للتغاضي عن تلك البرامج، التي تقوم بتجميل صورتها، بينما لا توافق على أنشطة أكثر قوة في مجال دعم حقوق الإنسان.
ومن ثم، يواجه نشطاء حقوق الإنسان العرب طبقات متداخلة تحول بينهم وبين تحقيق أهدافهم. أولئك الذين ينشطون في الدول السلطوية غير الخليجية يواجهون أنظمة سلطوية لكنها أضعف من أن تكون قادرة على الحكم بفاعلية. رغم ذلك، فإن هذا الضعف لا يتيح فرصًا يمكن استغلالها من جانب النشطاء؛ لأن العلاقة المترابطة مع الجهات الفاعلة العالمية والإقليمية تُعزز قدرات تلك الأنظمة لتلافي التحديات. ولدينا مثال على ذلك في خطة الإنقاذ المالي لنظام السيسي الذي شهد ضعفًا في مارس 2024.
أما فيما يتعلق بنشطاء حقوق الإنسان في الدول الرئيسية في مجلس التعاون الخليجي، وفي الدول العربية الثماني التي تخلت عن سيادتها إلى حد كبير، إن لم يكن بشكل كامل، للميلشيات التي يتزعمها أمراء الحرب؛ فإن مهمتهم أكثر صعوبة بكثير. بالنسبة للمجموعة الأولى، فإن النشطاء يواجهون أنظمة تملك إمدادات وفيرة من القوة الناعمة والخشنة وغير مستعدة على الإطلاق للتنازل، ومستمرة في عزمها على تعزيز كلا من قدراتها القمعية وإمكانياتها على استعراض صورتها بالشكل الذي تفضله. أما في الدول الخاضعة لحكم الميليشيات، فإن الوضع أكثر قسوة؛ إذ لا توجد سيادة للقانون في الواقع أو حتى التظاهر بوجودها. إنها عوالم هوبزية.[8] الأنظمة الضعيفة، مثل تلك الموجودة في دمشق وطرابلس وبنغازي والخرطوم ورام الله وصنعاء وبغداد، في صراع حياة أو موت ضد التحديات في داخل وخارج دولهم الواهنة. إنهم لا يستطيعون حماية حقوق الإنسان حتى لو أرادوا ذلك، والحقيقة أنهم لا يرغبون في ذلك. أما الذين يعيشون خارج نطاق تلك الأنظمة المتداعية فإنهم يخضعون لحكم أمراء الحرب بأشكاله الفردية أو الجماعية، بل إن شيوخ القبائل هم أكثر ازدراءً لحقوق الإنسان من نظرائهم فيما تبقى من الدول التي كانت تحظى بالسيادة. باختصار، لا توجد أي مساحة مواتية في المنطقة العربية لتعزيز وممارسة حقوق الإنسان.
ما الذي يمكن فعله؟
طالما يتم قمع حقوق الإنسان العربي عبر أربع طبقات من الحوكمة السيئة، فمن الواجب وضع استراتيجيات متنوعة للتعاطي مع كل طبقة منها. في القمة، حيث المستوى العالمي، تعتبر حرية النشاط هي الأكثر أهمية، على الأقل بين تلك الدول الغربية الأكثر مسئولية عن تعزيز نظام مترينخ العربي. علاوة على ذلك، يمكن أن تغدو المكاسب كبيرة على المستوى العالمي نتيجة التحريض على تغيير السياسات، نظرًا لأهميتها بالنسبة للجهات الفاعلة الوطنية والإقليمية.
توجد العديد من نقاط التفاعل المتاحة لأولئك الساعين للتأثير على سياسات الدول الأوروبية وأمريكا الشمالية ذات الصلة. المفارقة أن هذا يتم توفيره من جانب العدد الكبير والمتنامي للجاليات العربية في جميع تلك البلدان تقريبًا، والتي يشكل نسبة كبيرة منها الأفراد الذين يعيشون فيها في منفاهم السياسي الاختياري أو الإجباري. ومع تمتعهم بقدر من حرية التعبير عن الرأي وتنظيم أنفسهم، أكبر من المتاح لدى الذين يعيشون في المنطقة العربية، فإن مجتمعات المنفى تلك بإمكانها أن تغدو أكثر نشاطًا في العمل، وتوجه جهودها تجاه كلا من بلدانهم الأصلية والبلدان التي احتضنتهم.[9] وتوضح الأدوار النشطة التي مارسها الكثير منهم استجابة لحرب إسرائيل على غزة مدى قدرتهم على التعبئة، وقدراتهم على التحالف مع حركات حقوق الإنسان غير العربية، وتأثيراتها المحتملة على سياسات الدول الغربية. وتتضمن نقاط التفاعل الأخرى منظمات حقوق الإنسان الغربية، والأحزاب السياسية، ومراكز الأبحاث، والمؤسسات الأكاديمية المستعدة لتوسيع دعمها لحقوق الإنسان بشكل أكثر فعالية في المنطقة العربية. إن المجتمع النشط في مجال المساعدة التنموية، والذي تستغله حكومات تخشى المواجهة المباشرة مع السلطوية العربية، يمكن اعتباره عضوًا محتملًا في التحالف الأوسع الداعم لحقوق الإنسان العربي.
على المستوى الإقليمي، فإن التأثير السلبي على حقوق الإنسان لدول مجلس التعاون الخليجي القوية يمكن مواجهته بانتقادات سياساتها سواء في الداخل أو في البلدان التي تمارس فيها نفوذًا قويًا. إن استغلالها لضعف تلك البلدان المجاورة –مثلما يحدث في الاستحواذ على عقارات رئيسية– يوفّر فرصًا لمهاجمة نظام مترينخ، كما شهدنا في مصر في الاحتجاجات ضد استحواذ السعودية على جزيرتي تيران وصنافير بالقرب من مدخل خليج السويس. ويمكن لتنظيمات نشطاء حقوق الإنسان العرب، التي تضم أعضاء من دول مجلس التعاون الخليجي الرئيسية، بالإضافة إلى دول المشرق والمغرب، أن تمارس دورًا جوهريًا في تسليط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان في دول مجلس التعاون الخليجي. ومن خلال ذلك، يمكن لها ممارسة ضغوط على الداعمين الغربيين لدول مجلس التعاون الخليجي.
وفيما باتت الأنشطة المباشرة لحقوق الإنسان في الدول العربية محفوفة بالمخاطر بشكل متزايد؛ يظل هناك مجالًا للمقاربات غير المباشرة. وتقدم لبنان مثالًا جيدًا لكيف يمكن لقضايا معينة أن تصبح مصدر إلهام للتعبئة والحشد وتأخذ شكل جهود مناصرة حقوق الإنسان. وقد ركزت حركتا «طلعت ريحتكم» و«مدينتي» على قضايا السياسة العامة مثل إدارة النفايات الصلبة، وتم تنظيمهما من مختلف الطوائف، وتحولتا لمنظمات سياسية صريحة تتنافس في الانتخابات وتتحدى المؤسسات الطائفية وقمعها لحقوق الإنسان. كما توجد حركات الاحتجاج البيئي في غالبية الدول العربية، وهذه الحركات، جنبًا إلى جنب مع التجمعات الأخرى التي تركز على قضايا محددة، تشترك بشكل موضوعي على الأقل في حاجتها الملحة في كثير من الحالات للالتزام بالدفاع عن حقوق الإنسان، وهو ما يساعدها بشكل أساسي على تحقيق تأثير على السياسات.
وأخيرًا، ففي الدول الخاضعة لحكم الميليشيات فإننا نتذكر القول المأثور بشأن «التوجه محليًا». فإن النشاط على المستوى الوطني في حالات السيادة المجزأة مستحيل عمليًا. وعلى أية حال، لا توجد سلطة سيادية لصياغة أو فرض سيادة القانون الضرورية لحقوق الإنسان. وكما هو الحال في لبنان وليبيا واليمن والعراق كذلك، فإن النشاط المجتمعي المكرّس لقضايا سياسية معينة يوفر نقاط تفاعل لمناصرة حقوق الإنسان. ولأن السلطة السياسية تتم ممارستها بشكل غير رسمي في تلك البيئات، فإنها تفتقر إلى القواعد المؤسسية سوى شبكات المحسوبية التي يستطيع أمراء الحرب تكوينها. ويوفر هذا الضعف فرصة محتملة أخرى لنشاط حقوق الإنسان، سواء من خلال معارضة أمير الحرب المعني أو ربما عبر استراتيجية مساومة تهدف إلى تأمين دعم حقوق الإنسان كمقايضة في مقابل التهدئة السياسية.
رغم ذلك، فإن النجاح على أحد تلك المستويات أو كلها، إن حدث، من المرجح أن يكون هامشيًا ومتقطعًا. أحد الدروس الرئيسية للربيع العربي هو أن تحقيق الاختراقات الجوهرية نادر الحدوث، وإن حدث فمن العسير استمراره. ومن المرجح أن يتم التغيير الفعال والدائم من خلال الإصلاحات التدريجية المدعومة من جانب الجهات الفاعلة في أكثر من مستوى واحد، إذ أن الجهات الفاعلة في كل منها تمتلك القدرة على عرقلة الإصلاحات. خلاصة القول بالنسبة لنشطاء حقوق الإنسان العرب نجدها بشكل جليّ في التعبير العربي «إن الله مع الصابرين»، وهو إيعاز بالتمتع بالصبر.
هذا المقال كتب في الأصل باللغة الانجليزية لرواق عربي.
[2] صايغ، يزيد (2023). تقييم سياسة ملكية الدولة في مصر: بين التحديات والمقتضيات (Assessing Egypt’s State Ownership Policy: Challenges and Requirements). مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، مركز مالكولم كير للشرق الأوسط، 8 مايو. تاريخ الاطلاع 16 مايو 2024، https://carnegieendowment.org/research/2023/05/assessing-egypts-state-ownership-policy-challenges-and-requirements?lang=en.
[3] إيفرينجتون، جون (2024). دعم أبو ظبي وصندوق النقد الدولي يمنح مصر فرصة للتحول الاقتصادي (Abu Dhabi and IMF Backing Gives Egypt a Shot at Economic Turnaround). ذا بانكر، 11 مارس. تاريخ الاطلاع 16 مايو 2024،https://www.thebanker.com/Abu-Dhabi-and-IMF-backing-gives-Egypt-a-shot-at-economic-turnaround-1710154346.
[4] عصر مترنيخ (The Age of Metternich)، 1815-1848، بريتانيكا، https://www.britannica.com/place/Austria/Revolution-and-counterrevolution-1848-59.
[5] الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (2022). استراتيجية التعاون التنموي القطري بين الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ومصر 2020-2025 (USAID/Egypt Country Development Cooperation Strategy (CDCS), 2020-2025). واشنطن العاصمة: الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
[6] البيت الأبيض (2022). استراتيجية الأمن القومي (National Security Strategy)، أكتوبر. واشنطن العاصمة: البيت الأبيض. https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2022/10/Biden-Harris-Administrations-National-Security-Strategy-10.2022.pdf.
[7] دياب، أسامة وهندي، سلمى إيهاب (2022). المرأة والإصلاح الاقتصادي في مصر: تأثير تغيرات أنماط الإنتاج على مشاركة الإناث في القوى العاملة بأجر (Women and Economic Reform in Egypt: Impact of Production Changes on Female Waged Labor Force Participation’). نقد الشرق الأوسط، 31(1)، الصفحات من 61 إلى 79، https://doi.org/10.1080/19436149.2022.2030984.
[8] تتمثل إحدى الأفكار المركزية للفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز في أن «البشر يتنافسون ويقاتلون بشكل طبيعي من أجل مصالحهم الخاصة»، لذا فإن العالم الهوبزي هو عالم تكون فيه الحياة «قاسية، وحشية، وقصيرة»، قاموس كامبريدج. https://dictionary.cambridge.org/us/dictionary/english/hobbesian.
[9] يبلغ عدد المصريين في الشتات قرابة تسعة ملايين، أو ما يقرب من 9% من عدد سكان البلاد، وفقًا للإحصاءات الحكومية. لمناقشة العلاقة بين المصريين في الشتات والحكومة، أنظر: باراك، مايكل (2022). «الشتات المصري واستخدام السيسي للقوة الناعمة» (The Egyptian Diaspora and El-Sisi’s Use of Soft Power). القدس الاستراتيجية، يونيو. https://jstribune.com/barak-the-egyptian-diaspora/#:~:text=The%20Egyptian%20diaspora%20is%20one,is%20about%209%20million%20people.
Read this post in: English