الإشارة المرجعية: مارتينيز، لويس (2022). رؤى: هل انتهى الحراك الجزائري؟. رواق عربي، 27 (3)، 11-16. https://doi.org/10.53833/OFIB2432
بين عامي 2019 و2020، هدفت حركة احتجاجية شعبية غير مسبوقة في الجزائر، عرفت باسم «الحراك»، لتغيير النظام بشكل سلمي وإرساء سيادة القانون.[1] وسعى المتظاهرون –حسبما أعلنت شعاراتهم– إلى تركيز «دولة مدنية غير عسكرية». وعبر إعادة قراءة تاريخ الجزائر ما بعد الاستعمار، اعتبر المتظاهرون أن «العسكر» قد اختطفوا ثورة 1954؛ الأمر لذي دفعهم لإعادة إحياء الشخصيات المنسية من تاريخ الأمة، على غرار رمضان عبان مهندس مؤتمر الصومام الذي اغتيل عام 1957، والعربي بن مهيدي وعلي لابوانت، القادة الثوريون إبان حرب الاستقلال الجزائرية وآخرين مثلهم. ويطرح الحراك مسألة «الاستقلال المُصادَر» التي ذكرها فرحات عباس، الرئيس الأسبق للحكومة المؤقتة.[2]
يوم الخامس من يوليو عام 2019، تناقلت الصحف الناطقة بالفرنسية شعارات الحركة. وذكرت صحيفة الوطن أن المتظاهرين رددوا شعارات «لم يسمع مثلها منذ عام 1962»، بينما قالت صحيفة لو سوار داليجيري أن «الشارع صادر يوم خمسة يوليو». وكتبت ليبرتي أن المتظاهرين غنوا «أعيدوا لنا استقلالنا» فيما هتف الشارع: «نعم، تعيش الجزائر! اطردوهم كلهم!»، «الجزائر حرة وديمقراطية»، و«النظام، اخرج!». إلا أن الشعار الذي كان أكثر انتشارًا هو على الأرجح «الشعب يريد الاستقلال!». كان الحراك وقتها في أسبوعه العشرين.[3] باختصار كان الحراك يزيح الستار عن الدولة الجزائرية، محاولًا محاكمة النخب السياسية والعسكرية للنظام على أنهم «مغتصبون» و«لصوص». وعملت هذه الحركة على إعادة الاستيلاء فعليًا على المجال العام من خلال السياسة عبر الأجيال.
اندلعت الاحتجاجات في العاشر من فبراير عام2019، في أعقاب الإعلان عن ترشح عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة.[4] وكان ترشح بوتفليقة في عام 2014 لولاية رابعة قد أثار انتقادات عدة؛ نظرًا لما يعتريه من ضعف شديد بعد إصابته بجلطة دماغية في عام 2013. ورغم أنه حينها كان مجبرًا على التنقل على كرسي متحرك، وغير قادر على الكلام، ولم يظهر علنًا إلا نادرًا؛ إلّا أن بوتفليقة ظل رئيسًا لست سنوات أخرى.[5] لكن في عام 2019، انفجر الغضب العام وازدراء النظام الذي بدا غير قادر على تقديم رؤية مقبولة لغالبية الشعب، وتحول إلى احتجاجات جماهيرية ضمت مئات الآلاف من الجزائريين من جميع الأطياف؛ للتعبير عن رفضهم لترشيح بوتفليقة.[6] وبعد أسابيع قليلة، أعلن الرئيس أنه لن يترشح لولاية جديدة.
وفي غضون عدة أشهر، غادر العديد من الشخصيات السياسية والعسكرية مناصبهم، التي لم يكن ممكنًا المساس بها من قبل. كما واصل المتظاهرون السلميون المطالبة بإصلاح شامل للنظام السياسي، وتطهير بعيد المدى. وطالب «الحراك» بتغيير شامل للنخبة وإرساء دولة يديرها المجتمع المدني لتفكيك الاقتصاد الريعي، والذي غالبًا ما يوصف بأنه «مافيا».[7]
ونظرًا لاعتماده الفعال على الذاكرة الجماعية والرموز؛ مثَّل الحراك توليفة من تصورات الحركات الاحتجاجية التي سبقته، من «الربيع الأمازيغي» في الثمانينيات إلى الحركة الإسلامية في التسعينيات. وصاغ «الحراك»، مثل هذه الحركات السابقة، برنامجًا ثوريًا لتغيير النظام يتعارض مع المصالح السياسية للجيش وأجنداته. ويلعب الجيش دور الضابط المركزي للسياسة في الجزائر، ويحدد لجميع الأحزاب والحركات السياسية مكانها ووظيفتها في الساحة السياسية.[8] ويثير الجيش مشاعر متناقضة بين الجماهير، فهو مصدر للفخر والإحباط في الآن نفسه.
يمثل ديمقراطيو الحراك، للنظام عامة وللجيش بشكل خاص، الموجة التاريخية الثالثة من المنشقين بعد الاشتراكيين والإسلاميين. في واقع الأمر، وفي أعقاب الاستقلال عام 1962، ناضل الاشتراكيون، بقيادة آيت أحمد، ضد «شمولية النظام» –حسبما أسماها حزبه «جبهة القوى الاشتراكية» والذي تأسس عام 1963– داعين إلى «استعادة الثورة الجزائرية» في إطار «اشتراكية قائمة على الدعم الشعبي»، باعتبارها الضامن الوحيد لـ«العدالة الاجتماعية والحرية». وأصبحت قصة الثورة الوطنية (1954-1962)، التي اختطفت وسُرقت وأسرها «انقلابيو الحدود»، أي جيش التحرير الوطني الذي أصبح الجيش الشعبي الوطني، مصفوفة لمعارضة الحكم العسكري.[9]
ولكن بعد انقلاب عام 1965، تم تحييد جبهة القوى الاشتراكية (تم إطلاق سراح حوالي 3000 مقاتل من جبهة القوى الاشتراكية؛ تعرض بعضهم للتعذيب وعثر على بعضهم ميتًا)،[10] وغرقت الجزائر تحت حكم بومدين (1965-1979) في إجماع سياسي لا يترك مجالًا للمطالب الديمقراطية. وواجه خليفته الشاذلي بن جديد (1980-1991)، أولًا الربيع البربري [الأمازيغي]،[11] ثم الموجة الثانية من الاحتجاج ضد النظام، بقيادة الإسلاميين هذه المرة، في خضم أزمة اجتماعية واقتصادية اندلعت مع انهيار أسعار النفط عام 1986 إلى 10 دولارات للبرميل.
ردًا على أعمال الشغب في أكتوبر 1988، أصلح النظام نفسه، وأنهى حكم الحزب الواحد وتبني نظام التعددية الحزبية. وفاز حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وهو حزب سياسي جديد، بالانتخابات البلدية عام 1989 ثم الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية عام1991.[12] كان هدف الجبهة الإسلامية للإنقاذ هو وضع الإسلام في قلب الدولة، من أجل تصحيح «انحرافات» ثورة 1954. وندّد الحزب بانحدار الدولة بعدما استولى الشيوعيون والعلمانيون والمتحدثون باللغة الفرنسية على السلطة عام 1962 على حساب الملتزمين دينيًا والمتحدثين بالعربية. وسعت جبهة الإنقاذ لتحفيز المجتمع بإحياء الإسلام واستعادة الثقة والتضامن في إطار دولة إسلامية. وخوفًا من أن يكون الضحية «الكافرة» في هذه الدولة الجديدة، علّق الجيش الانتخابات، وحل الجبهة الإسلامية للإنقاذ، واعتقل الآلاف من أعضاء الحزب، وأرسلهم لمعسكرات اعتقال في الصحراء.[13] وانخرط الجيش في «حرب شاملة» ضد إسلاميي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، في نهاية التسعينيات، على حساب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ونجح في «استئصال» تهديد البديل الإسلامي.
على مدى عقدين من الزمن بعد الحرب الأهلية المؤلمة في التسعينيات، نجحت الدولة الجزائرية في النجاة برغم الاضطرابات والثورات والحروب؛ إذ منحت العائدات الوفيرة من تصدير الغاز الطبيعي للرئيس بوتفليقة (1999-2019) الموارد اللازمة لشراء السلم الاجتماعي، واستمالة الهيئات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والحركات الشعبية، مع الاعتماد على الجيش –الذي اكتسبت وحداته القتالية والاستخباراتية الكثير من الخبرة أثناء الحرب الأهلية– لإكراه أو سحق المعارضين السياسيين والاجتماعيين. فيما عجزت النخبة السياسية عن تحدي الرئيس؛ بسبب الخصومات الداخلية العميقة الناشئة عن الائتلاف السياسي الذي ظهر خلال الحرب الأهلية.
لذلك، بينما ظل السخط والاضطرابات الشعبية حاضرًا ومتناميًا طيلة فترة حكم بوتفليقة؛ إلّا أن الدعوات لإجراء تغيير سياسي أساسي كانت نادرة. وبالتالي، حينما ظهر «الحراك»، فإنه كان يواجه نظامًا سياسيًا يمتلك تجربة طويلة في مواجهة أعدائه في الداخل، وهي خبرة لم يستوعبها متظاهرو الحراك على الإطلاق.
لماذا فشل الحراك؟
هناك تفسيرات كثيرة لاختفاء «الحراك». لقد مارس القمع دورًا بالتأكيد؛ إذ ساهمت الاعتقالات، والترهيب، والمضايقات القانونية، وحظر التظاهرات، إلى جانب الاتهامات المتعددة بتقويض أمن الدولة في إضعاف الحركة بشكل كبير. لكن برغم أن القمع كان عاملًا مهمًا، إلّا أنه لم يكن السبب الرئيسي. كذا فإن حالات الطوارئ من قبيل جائحة كوفيد-19، والعوامل التنظيمية مثل رفض التحول إلى قوة سياسية، يوضحان بشكل أفضل فشل الحركة. كما أن النظام سيستغل هاتين الفرصتين بمهارة.[14]
في الواقع، تطلب الأمر وباءً عالميًا لإبطاء تقدم «الحراك» ثم اختفائه. في أوائل مارس 2020، في ظل مخاوف من تفشي وباء كوفيد-19 في جميع أنحاء أوروبا وشمال إفريقيا والشرق الأوسط، رفض متظاهرو الحراك تعليق مظاهرات الجمعة. وخرج المتظاهرون في الثالث عشر من مارس عام 2020 إلى الشوارع، للجمعة السادسة والخمسين على التوالي، مرددين هتافات «لن توقفنا كورونا ولا الاعتقالات!». ولكن بعد أسبوع واحد فقط، في العشرين من مارس، خلت شوارع العاصمة والمدن الكبرى؛ إذ قرر الحراك وقف المظاهرات مؤقتًا، مشجعًا المتظاهرين على محاربة الوباء من خلال تنظيف الشوارع وتعقيمها. بالتالي أنهت الأزمة الصحية لـكوفيد-19 حركة لم يكن من الممكن إيقافها من خلال اعتقال النشطاء أو تكتيكات التخويف. واستغلت السلطات الجزائرية هذا الانقطاع لتكثيف قمعها للحركة، فيما استغل الجيش علاقاته مع الصين لاستيراد الإمدادات التي يحتاجها القطاع الصحي عبر جسر جوي بين الجزائر والصين، حظي بتغطية إعلامية واسعة. في أبريل 2020، على سبيل المثال، كتبت صحيفة الجيش العسكرية، أن «تصميم الدولة الجزائرية سمح للبلاد بتجنب مأساة حقيقية»[15]. وكانت المشاعر نفسها سائدة في وسائل الإعلام الرئيسية عالية الجودة مثل صحيفة الوطن التي كتبت في مقال افتتاحي بتاريخ الخامس عشر من أبريل 2020، «الدولة رفعت التحدي».[16]
السبب الرئيسي الثاني لاختفاء الحراك هو رفض الحركة تحويل نفسها إلى قوة سياسية منظمة،[17] في الواقع، كانت الرغبة في تغيير النظام بالجملة، بدلًا من التغيير من الداخل، قاتلة للحركة. إلى جانب ديناميكية التغيير، اجتاح هذا الموقف الحركة التي كانت واثقة ومقتنعة بقوتها وشرعيتها. ولأنها لا تثق بالأحزاب السياسية، المتهمة بالاستقطاب، فشلت الحركة في بناء روابط هيكلية مع أحزاب المعارضة. وتجدر الإشارة هنا لأن سلوك الطبقة السياسية كان مخيبًا للآمال، وهو ما يفسر كراهية الحراك لها. لكن الخطأ كان يتمثل في وضع الأحزاب والقادة الجزائريين في سلة واحدة ورفضهم جميعًا.
كان رفض «الحراك» للدعم غير المشروط لبوتفليقة من جانب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي مشروعًا، (هتف المتظاهرون «جبهة التحرير الوطني في المتحف، التجمع الوطني الديمقراطي يخرج!»). إذ لم يعد بإمكان متظاهري الحراك تحمل رؤية شخصيات مقربة من الرئيس السابق، مثل عبد المجيد سيدي السعيد، الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين، الذي أعلن في عام 2019: «باسم العمال والعاملات والمتقاعدين، بوتفليقة هو مرشحنا»، أو علي حداد رئيس منتدى رؤساء المؤسسات. وبالمثل، كان رفض عددًا لا يحصى من الأحزاب الصغيرة في التحالف الرئاسي الذي لا يمثلون سوى أنفسهم، أمرًا مفهومًا تمامًا. ولكن لماذا تتبنوا الموقف نفسها من أحزاب المعارضة مثل التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وجبهة القوى الاشتراكية، التي لم تتوقف تاريخيًا عن مقاومة النظام وأعلنت عن مقاطعة «جماعية ونشطة وسلمية» للانتخابات الرئاسية؟ عندما سعت شخصيات مثل لويزة حنون (حزب العمال) وعلي بن فليس (طلائع الحريات) وسعيد السعدي (الرئيس السابق للتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية) للانضمام إلى المتظاهرين، قوبلوا باستهزاء وصيحات استهجان. وينطبق الشيء نفسه على شخصيات مثل عبد الرزاق مقري (حركة مجتمع السلم)، الذي أعلن ترشحه للرئاسة في فبراير 2019، قائلًا إن ترشيح بوتفليقة ليس في مصلحته، ولكن في مصلحة مستغلي الوضع. وأنهم سيتحملون المسئولية الكاملة عن العواقب والتهديدات التي يتعرض لها البلد.
لقد لفظ «الحراك» كل هذه الأحزاب والشخصيات التي حاولت دون جدوى تغيير النظام سلميًا؛ لمجرد مشاركتها في انتخابات رئاسة بوتفليقة. بمعرفتهم الوثيقة بالنظام والجيش وشبكاته، كان بإمكان هؤلاء السياسيين منح الحراك رؤية ثاقبة حول محاربة الديكتاتورية. لكن، لأن الحراك كان مقتنعًا بأنه يمثل «الشعب» ولا يحتاج لأحزاب معارضة؛ فقد أخطأ برفض الانخراط في مجال السياسة القاسي والمتعثر، إما بالتحالف مع قوى سياسية معارضة أو أن يصبح هو نفسه قوة سياسية جديدة.
كان «الحراك» مخمورًا بنقائه وأصالته، معتبرًا كل شيء مرتبط بالعالم السياسي القديم فاسدًا وغير جدير بالاحترام. بدلًا من ذلك، كان ينبغي للحركة أن تكون منفتحة على بناء علاقات مع شخصيات ذات خبرة، أو مع الأحزاب السياسية المعارضة المستضعفة؛ لخلق قوة اجتماعية وسياسية قادرة على تحدي الأجندة السياسية للنظام (الانتخابات الرئاسية، الاستفتاء، الانتخابات التشريعية، الانتخابات المحلية). لم يتمكن «الحراك» من توسيع نطاقه ومضمونه ليبقى قوة نابعة من المجتمع المدني.
في عام 2022، علق مجلس الدولة حزب العمال الاشتراكي، وهدد الاتحاد من أجل التغيير والتقدم، في حين ضايقت وزارة الداخلية قادة الحركة الديمقراطية والاجتماعية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية. لقد أصبحت أحزاب المعارضة التي دعت إلى مقاطعة الانتخابات ورفضها متظاهرو الحراك أهدافًا سهلة للنظام. بالإضافة إلى ذلك، من خلال رفضه المشاركة في السياسة، حُرم «الحراك» نفسه من التمثيل داخل المؤسسات السياسية، مما أدى إلى هيكلية ونهج أفقي داخل الحركة مع غياب القادة الذين يمكنهم تمثيلها. مثل أسلافهم، الاشتراكيين والأمازيغ والإسلاميين، كان الحراك يفتقر للذكاء السياسي؛ للتغلب بشكل أفضل على العقبات التي تعترض طريقه، واصطدمت ديناميكيات التغيير المنهجي مرة أخرى بواقع الجيش.[18]
رفض الحراك الاستثمار في المؤسسات السياسية سهّل نسبيًا قمع النظام. في واقع الأمر، فإن ميثاق البديل الديمقراطي –وهو هيكل تتكون من منظمات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة والنقابيين والمثقفين والمحامين– وقع في 2019 في ميزان قوى سياسي خاسر مقدمًا، ويضر به، بعدما رفض انتخاب عبد المجيد تبون واعتبر جميع المؤسسات السياسية غير شرعي. فبدلًا من تحدي النظام سياسيًا، وبناء منبر، وتقديم المرشحين، واقتراح بديل سياسي في الانتخابات؛ دعا ميثاق البديل الديمقراطي، تحت تأثير فاعلين في المجتمع المدني، لرفض الانتخابات والانغلاق في مقاطعة ستكون قاتلة له.
كانت هذه خطوة صادمة، نظرًا لأن بعض الجمعيات المشاركة تمتلك عشر سنوات من الخبرة في النضال من أجل التغيير السياسي. فجمعية «راج» و «اس او اس المختفين» و«الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان»، إلى جانب النقابات المستقلة والنقابة المستقلة لمستخدمي الإدارة العمومية، يعدون في «طليعة النضالات الديمقراطية في مطلع 2010-2011» بحسب خبيرة الاجتماع سهام بدوبية، والتي تعتبرهم نواة التنسيقية الوطنية للتغيير والديمقراطية في عام 2011. كما اعتقلت السلطات أعضاء ميثاق البديل الديمقراطي وسجنتهم بسبب جرائم التعبير. وتم حل جمعيات المجتمع المدني مثل «راج» في الثالث عشر من أكتوبر عام 2021.
أظهر المجتمع المدني، من خلال «الحراك»، طاقةً وإبداعًا ملحوظين، سواء عبر الإنترنت أو في الشوارع.[19] إذ ألهم العديد من الجهات الفاعلة في المجتمع المدني –القضاة، النسويات، الفنانون، النقابيون المستقلون، الأكاديميون– ديناميكية فشل الفاعلون السياسيون للأسف في توجيهها وتنظيمها. حيوية المجتمع المدني لم يقابلها سياسيين قادرين على تسخير الآمال الكبيرة للتغيير السياسي.
كان من الوهم الاعتقاد بأن المجتمع المدني بإمكانه إسقاط نظام سلطوي يتمتع بخبرة جيدة، مثل النظام الجزائري، والذي كان مستعدًا لاستخدام أي طريقة للإبقاء على السلطة في قبضته. يتمتع الفاعلون في المجتمع المدني باعتراف قوي وشرعية اليوم في الجزائر، ولكن للحصول على نتائج، ينبغي عليهم بذل المزيد من الجهود لجعل نشاطهم مستدامًا على المدى الطويل، من أجل تشجيع التحولات داخل النظام بدلًا من السعي عبثًا لتغيير شامل له. باختصار، يجب عليهم التخلي عن رؤيتهم الطوباوية الثورية للتغيير؛ لتبني استراتيجية تقوم على المشاركة السياسية وتنفيذ الإصلاحات التي بدورها قد تغير النظام بشكل تدريجي.
في الختام، حينما اندلعت الاحتجاجات في عام 2019، استخدم كبار القادة العسكريين بذكاء مطالب الحراك –إطاحة جميع «اللصوص»– لتفكيك الشبكات السياسية والإدارية والمالية والأمنية المرتبطة بالرئيس بوتفليقة. من الناحية التكتيكية، تصرف الجيش كما لو كان الحراك تعبيرًا عن الغضب الشعبي الموجه فقط ضد فساد رئاسة بوتفليقة؛ لذلك كان رد فعله السياسي هو إزاحة مؤيدي بوتفليقة واستبدالهم بحكومة تكنوقراط موالية لمصالحه.
أعلن عبد المجيد تبون، الرئيس الجديد المنتخب في ظروف متنازع عليها للغاية، عن مشروعه لــ«جزائر جديدة». في جزائر تبون، التي كانت على وشك الانهيار المالي في عام 2020 بسبب تراجع أسعار النفط، قال الرئيس إنه لا بد من وضع حد للممارسات السيئة التي انتشرت في فترة الازدهار الاقتصادي، مثل الإسراف وروح الكسل والإفراط في الاستهلاك.[20] وتستجيب خطة عمل الحكومة سياسيًا لمطالب الحراك، فهي تتضمن مراعاة «أخلقة الحياة العامة» كشرط أساسي للإصلاحات المالية والتجديد الاقتصادي.
على المستوى الإقليمي، قد يتسبب قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، المعلن عنه في الرابع والعشرين من أغسطس عام 2021، في إخراج الجماهير من حالة السبات السياسي. فالسلطات الجزائرية تتهم المغرب بدعم حركة ماك، وهي حركة قبائلية تأسست عام 2001 وتطالب بحق تقرير المصير لهذه المنطقة من الجزائر. إلا أن أزمة الطاقة، الناتجة عن الحرب في أوكرانيا، أعادت الجزائر مرة أخرى لمصاف الدول المنتجة للنفط والغاز للاتحاد الأوروبي، وعليه فإن مطالب الحراك لم تعد تجد الدعم الكافي داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
بين عامي 2020 و2022، أعاد النظام الجزائري تشكيل شبكاته وموارده وعمل مؤسساته بسياسيين قادرين على إدارة الدولة، وملء الفراغ الذي خلفه التقاعد الإجباري لبوتفليقة. لقد انتهت حركة «الحراك» الأصلية وتم إحياء النظام السلطوي، تاركةً أملًا ضئيلًا على المدى القصير في رؤية الحركة تعود للظهور في المجال العام. ومع ذلك، نجحت هذه الحركة غير المسبوقة في أقل من عامين في إلهام حماس وأمل لا ينسى. يبقى أن نرى ما إذا كان بإمكان الأحزاب أو القادة السياسيين تحويل الزخم غير العادي للمجتمع المدني إلى قوة سياسية قادرة على دفع النظام لتغيير نفسه.
هذا المقال كتب في الأصل باللغة الفرنسية لرواق عربي
[1] كارلييه، عمر (2020). «الحراك: حركة اجتماعية سياسية مبتكرة غير مسبوقة» ( un mouvement socio-politique inédit et inventif)، دورية انسانيات 87، وأوصديق، فاطمة (2020) «الحراك: بعض الأفكار حول تحديات الحركة الاحتجاجية» ( Le hirak: quelques réflexions sur les enjeux d’un mouvement contestataire)، دورية إنسانيات 88.
[2] عباس، فرحات (1984). الاستقلال المصادر، فلوماريون.
[3] مشعي، حسينة (2020). «انبعاث ذكرى النضال ضد الاستعمار الفرنسي» (La résurgence de la mémoire de la lutte contre le colonialisme français!)، في حراك الجزائر، منشورات لافابريك.
[4] حمادوش، لويزا، وادريس، ايتف (2002). «الحراك الجزائري. الانقسامات المؤكدة والمصالحات غير المتوقعة» (Hirak algérien. Des ruptures confirmées et des réconciliations inattendues)، عام المغرب الكبير 23.
[5] مارتينيز، لويز (2018). «بعد بوتفليقة … بوتفليقة؟» ( Après Bouteflika…Bouteflika)، السياسة الدولية 4.
[6] فابيانو، جوليا (2019). «الاستماع إلى الجزائر المتمردة» (A l’écoute de l’Algérie insurgée)، حياة الأفكار.
[7] أوراس، كريم (2020). «الحراك الجزائري حيث ظهور خطاب القطيعة» (Le Hirak algérien où l’émergence d’une rhétorique de rupture)، حركات 102.
[8] عويصة، رشيد (2019). «الجزائر: ما دور الجيش في التحول الديمقراطي؟» ( Algérie: quel rôle pour l’armée dans la transition démocratique ?)، تيلوس، 6 مايو، ونمار، خديجة (2010). «ما وراء الثكنات. دور الجيش في الجزائر» (Au-delà des casernes. Le rôle de l’armée en Algérie’)، كراس الشرق، 100 (4).
[9] تحولت جبهة القوى الاشتراكية إلى تمرد مسلح في منطقة القبائل. تم اعتقال أيت أحمد في 17 أكتوبر وحكم عليه بالإعدام ومن ثم تم العفو عنه. وقام آيت أحمد بالرحيل إلى المنفى في سويسرا عام 1966.
[10] مونبيج، بيار (1992). ««معارضة سياسية مسدودة». جبهة القوى الاشتراكية لحسين آيت أحمد» (Une opposition politique dans l’impasse. Le FFS de Hocine Aït-Ahmed)، دورية العالم الإسلامي والبحر الأبيض المتوسط.
[11] في أبريل 1980 رفضت السلطات السماح للكاتب مولود معمري بإلقاء محاضرة عن الشعر البربري القديم في جامعة تيزي وزو. ودعماً لقضية الأمازيغ، اندلعت مظاهرات في الجزائر العاصمة ومنطقة القبايل. تم تسليط قمع عنيف على المنطقة ويقدر عدد الضحايا بـ 32 قتيلاً وعدد الاعتقالات بالمئات.
[12] باباجي، رمضان (1992). «الجبهة الإسلامية للإنقاذ وإرث جبهة التحرير الوطني. إدارة البلديات» (‘Le FIS et l’héritage du FLN. La gestio’ des communes)، ملتقيات البحر الأبيض المتوسط 3 (الربيع).
[13] أرزقي، صافية (2019). «معسكرات الاعتقال الجنوبية في الجزائر (1991–1995)» (Les camps d’internement du sud en Algérie (1991-1995))، عام المغرب الكبير.
[14] بلقايد، أكرم (2022). «الجزائر: ترميم عنيف» (Algérie: une restauration musclée)، السياسية الخارجية.
[15] الجيش، (أبريل 2020). «الرئيس – الجيش الوطني: الاتساق الكامل»، 681.
[16] بهمان، على (2020). «ما ينتظرنا غدا»، الوطن. 15 أبريل.
[17] عامر، مهند (2020). «في معارضة الحراك: قراءة تحليلية للخطاب»، إنسانيات 88.
[18] ماسينسن، الشربي (2022). «الجيش الجزائري أمام مطلب دولة مدنية غير عسكرية» (L’armée algérienne face à la revendication d’un ‘État civil, non militaire) ملتقيات البحر الابيض المتوسط، 122.
[19] بلقيدون، سعيد (2021). «الجزائر: سلطة سياسية منهارة، مجتمع متنقل» (Algérie: un pouvoir politique en panne, une société en mouvement)، دورية الفكر، 408.
[20] وكالة فرانس برس (2020). 11 أبريل.
Read this post in: English