رؤى: الإعلان الدستوري السوري بين متطلبات الاستقرار ومبادئ الحكم الرشيد

حمل هذا المقال كبي دي إف

الإشارة المرجعية: عبد الغني، فضل. 2025. «رؤى: الإعلان الدستوري السوري بين متطلبات الاستقرار ومبادئ الحكم الرشيد.» رواق عربي 30 (3): 5-11. https://doi.org/10.53833/ULSG4401.

عقب التحول السياسي الجذري الذي شهدته سوريا إثر انهيار نظام الأسد في الثامن من ديسمبر 2024، دخلت البلاد في مرحلة فراغ دستوري ومؤسسي بالغ التعقيد. فبعد حل حزب البعث وتفكيك الأجهزة الأمنية والعسكرية وإلغاء دستور عام 2012،  باتت البلاد تفتقر إلى أي إطار قانوني حاكم، الأمر الذي أثار مخاوف حقيقية من انزلاق حالة التحرير نحو الفوضى. واستجابةً لهذا الوضع الحرج، أصدرت السلطات الجديدة في الثالث عشر من مارس 2025 إعلانًا دستوريًا،[1] في محاولة ضرورية لترسيخ أسس قانونية وإدارية واضحة لإدارة الفترة الانتقالية.

كان صدور الإعلان الدستوري مدفوعًا بضرورات سياسية وعملية ملحة؛ إذ إن غياب أي مرجعية دستورية وقانونية كان من شأنه إحداث حالة من التخبط السياسي في ظل تعدد مراكز القرار في البنية المؤسسية الناشئة. وقد واجهت قيادة العمليات العسكرية، التي منحت نفسها صلاحيات تصريف الأعمال لمدة ثلاثة أشهر بعد سقوط النظام، ضغوطًا لإقرار ترتيبات قانونية وإدارية واضحة. ويستهدف الإعلان الذي يحتوي على 53 مادة، ومقدمة تستلهم تاريخ الدساتير السورية السابقة، لا سيما دستور عام 1950،[2] وضع إطار انتقالي مع التعهد بالسعي إلى «دولة المواطنة والحرية والكرامة وسيادة القانون». ورغم أهمية هذه الخطوة للحيلولة دون انهيار مؤسسات الدولة؛ إلا أن كيفية صياغته ومحتواه أظهرا تباينات واضحة مع مبادئ الحكم التشاركي التي وعدت بها القيادة الانتقالية في مراحلها الأولى. إذ بدا الإعلان، بسبب آليات صياغته، التي بدأت بمرسوم رئاسي وتمت عبر لجنة قانونية عُينت دون مشاورات مجتمعية موسعة، وكأنه مشروع تقني وليس سياسي وطني تشاركي.

بيد أن الطبيعة المؤقتة لهذا الإعلان، وإمكانية تعديله وفقًا للمادة 50، يمثلان فرصة استثنائية لمعالجة أوجه القصور هذه. وستُظهر الأشهر القادمة ما إذا كانت القيادة السورية الجديدة تمتلك الإرادة السياسية اللازمة لتصويب الخلل في الإعلان الدستوري الحالي، وجعله ركيزةً حقيقية لانتقال ديمقراطي.

معيار الشرعية: عملية دستورية تعددية وتشاركية

تستند شرعية أي وثيقة دستورية انتقالية إلى كونها نتاجًا لعملية تعددية وتشاركية حقيقية،[3] وليست وليدة قرار منفرد يفرضه طرف سياسي أو عسكري منتصر. ومن هذا المنطلق، يُشكّل الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية السياسية مرحلة أساسية في أي تحول ديمقراطي بعد مرحلة استبدادية. ورغم أهمية الشرعية الثورية في منح السلطة الأولية للقوى المنتصرة، إلا أنها بطبيعتها قصيرة المدى وقابلة للتلاشي ما لم تُرسخ عبر إجراءات تشاركية تراعي التنوع السياسي والاجتماعي.[4] لذا، فإن تحقيق الاستقرار المؤسسي بعد مرحلة الحماس الثوري يتطلب خطوات إجرائية مدروسة تؤسس لتوافق وطني وتضمن استمرارية الانتقال السياسي. [5]

ويتمثل الشرط الأساسي لتحقيق هذا الانتقال في تشكيل هيئة حاكمة جامعة تُنشأ بالتوافق الوطني وليس بقرارات عسكرية أو فردية. وتمارس هذه الهيئة أدوارًا حيوية متعددة؛ فهي تمنع احتكار السلطة من قبل جهة واحدة، وتعزز نطاق المشاركة لتتضمن التيارات السياسية والاجتماعية، وتضع قواعد واضحة تحمي استقرار المرحلة الانتقالية الحساسة. لذا يعد ضروريًا أن تضم هذه الهيئة ممثلين عن المجتمع المدني والنقابات ومجموعات النساء والشباب، مع التأكيد على التنوع الجغرافي والديموغرافي والفكري، لضمان عدم تهميش أو إقصاء أي مجموعة من عملية الانتقال.

ويجب على هذا الهيكل الحاكم التوافقي أن يعقد مؤتمرًا حقيقيًا للحوار الوطني، وليس مجرد تجمع شكلي لمشاركين محددين مسبقًا. إذ يتطلب مؤتمر الحوار الوطني الحقيقي مداولات مفتوحة حول مسائل جوهرية تتعلق بطبيعة الدولة وهويتها وبنيتها السياسية والاجتماعية، مع ضرورة اختيار المشاركين بشكل شفاف، وتوفير سلطة اتخاذ قرارات وليست استشارية فقط، مع تخصيص وقت كافٍ للبحث العميق في المسائل الدستورية المعقدة. ولضمان شمولية الحوار، ينبغي أن يشمل أطياف المجتمع السوري من أحزاب سياسية، ومنظمات مجتمع مدني، وقيادات مجتمعية تقليدية، وجمعيات مهنية، إضافةً إلى ممثلي الأقليات والجماعات الإثنية والدينية، وأصوات من داخل سوريا ومن الشتات. كما يجب أن يركز الحوار الوطني على مواضيع مهمة مثل ترتيبات الحكم، والعلاقة بين الدين والدولة، والهياكل الإدارية الإقليمية، وآليات العدالة الانتقالية، وحقوق الأقليات والتنوع الثقافي.

بعد تحقيق توافق سياسي حقيقي من خلال هذه الإجراءات الشاملة، يمكن عندئذ الشروع في تشكيل لجنة صياغة دستورية تمثيلية، لصياغة ما تم التوافق عليه سياسيًا ضمن إطار قانوني ودستوري. وينبغي أن تجمع هذه اللجنة بين الخبراء القانونيين المتخصصين، وممثلي القوى السياسية المشاركة في الحوار، إلى جانب خبراء المجتمع المدني وحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، مع إمكانية الاستفادة من المستشارين الدوليين ذوي الخبرة في صياغة الدساتير.

إن هذه البنية التشاركية المتكاملة –هيئة حاكمة توافقية، وحوار وطني شامل، ولجنة صياغة تمثيلية– هي ما تمنح شرعية مزدوجة: شرعية إجرائية عبر المشاركة الشعبية الواسعة، وشرعية جوهرية من خلال النتائج التوافقية. يجب أن تكون العملية مرنة وتفاعلية، إذ تُعرض مسودات الإعلان الدستوري على هيئات أوسع للمراجعة والتنقيح، مع ضمان شفافية المداولات وإشراك المواطنين في كل مراحل العملية. ويختلف هذا النهج التشاركي، بشكل جذري، عن عمليات الانتقال التي تُفرض من أعلى أو تُدار بواسطة الخبراء دون سند سياسي شعبي؛ إذ إن الشرعية النابعة من المشاركة العامة الواسعة تمثل الضمانة الأساسية للقبول المجتمعي المستدام، وتؤسس لممارسة سياسية ديمقراطية قابلة للاستمرار حتى بعد انتهاء المرحلة الانتقالية.

يتضح من التطبيق العملي للإعلان الدستوري السوري لعام 2025 وجود فجوة كبيرة بين المعايير التي أشرنا إليها، وبين الواقع الإجرائي والهيكلي لهذا الإعلان. ففي تناقض واضح مع المبادئ التشاركية المطلوبة في المراحل الانتقالية، تكشف بنود الإعلان وطرق صياغته عن توجه لتركيز السلطات في يد السلطة التنفيذية،[6] وتهميش الأدوار الفعّالة للمؤسسات التشريعية والقضائية والمجتمع المدني. كذا فإن لجنة الصياغة لم تنبثق عن حوار وطني شامل يضمن الحد الأدنى من التوافق السياسي والمجتمعي؛ وإنما تم  تشكيل اللجنة بموجب قرار صادر عن الرئيس الانتقالي في الثاني من مارس 2025.[7] وكُلفت بصياغة الإعلان ضمن مرجعيات وأطر محددة سلفًا، دون أي نقاش عام أو تشاور سياسي مسبق. في الوقت نفسه، تُبرز تركيبة اللجنة وولايتها حجم الخلل البنيوي في مقاربتها؛ إذ تم اختيار أعضائها بناءً على اعتبارات قانونية وتقنية بحتة، دونما أدنى مراعاة لمبدأ التمثيل السياسي والمجتمعي المتوازن. ونتيجة لذلك، جرى التعامل مع عملية يُفترض أن تكون مشروعًا وطنيًا جامعًا بوصفها مجرد مهمة تكنوقراطية، متجاهلين أن الصياغة الدستورية في جوهرها هي فعلٌ سياسي يتطلب أوسع مشاركة ممكنة من القوى الفاعلة في المجتمع. وتنعكس هذه الإخفاقات الإجرائية بصورة واضحة في الهيكل المؤسسي الذي يفرضه الإعلان، والذي يمنح السلطة التنفيذية صلاحيات واسعة على حساب استقلالية السلطات الأخرى.

فبالنظر إلى أحكام المادة 47، يمكننا ملاحظة تكريسًا للتبعية القضائية، وتقويضًا واضحًا لاستقلال القضاء؛ إذ تمنح الرئيس صلاحية منفردة لتعيين جميع قضاة المحكمة الدستورية العليا، دون اشتراط موافقة السلطة التشريعية أو إشراك الهيئات القضائية ذاتها في الاختيار. الأمر الذي يُحوّل المحكمة الدستورية العليا من هيئة مستقلة معنية بحماية الدستور وضمان تطبيقه، إلى أداة تابعة للسلطة التنفيذية. ويُشكل هذا الإجراء انتهاكًا واضحًا للمعايير الدولية المتعلقة باستقلال القضاء، والتي تؤكد على ضرورة إشراك مؤسسات متعددة في تعيينات القضاة لضمان استقلاليتهم ونزاهتهم. بالإضافة إلى ذلك، يكرّس الإعلان تبعية القضاء من خلال الحفاظ على المرسوم التشريعي رقم 98 لعام 1961، الذي يمنح وزارة العدل –وهي هيئة تنفيذية– سلطات واسعة في تعيين وترقية ونقل وتأديب القضاة.[8]

من ناحية أخرى، يكرس الإعلان للعجز التشريعي، ويحول البرلمان إلى هيئة شكلية تفتقر امتلاك صلاحيات حقيقية. فوفقًا للمادة 24، يمتلك الرئيس حق تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب بشكل مباشر، بالإضافة إلى تعيينه اللجنة المكلفة باختيار الثلثين الباقيين، الأمر الذي يضمن عمليًا تبعية المجلس للسلطة التنفيذية. على جانب أخر، يفتقر مجلس الشعب نفسه إلى صلاحيات الرقابة الفعّالة الأساسية التي تتوفر عادةً في الأنظمة الديمقراطية، مثل تشكيل لجان التحقيق البرلمانية، وسحب الثقة من الوزراء، وإجراءات عزل المسئولين التنفيذيين، أو مراقبة تنفيذ الميزانية بشكل جاد بعد اعتمادها. فالمادة 30 من الإعلان تحصر دور المجلس في «طرح أسئلة على الوزراء»،[9] الأمر الذي يجعله عاجزًا عن ممارسة دوره التشريعي والرقابي الحقيقي، ويحوله لمجرد واجهة شكلية دون مضمون مؤسسي فعّال.

وفي سياق متصل، يمنح الإعلان السلطات التنفيذية صلاحيات واسعة غير مقيدة. على سبيل المثال، تحتكر السلطة التنفيذية حق اقتراح التعديلات الدستورية وفق المادة 50، دون أن يُسمح للمجلس التشريعي بالمبادرة أو حتى اقتراح تعديلات على الدستور. كما تمنح المادة 41 الرئيس صلاحية إعلان الحرب وحالات الطوارئ بعد الحصول على موافقة مجلس الأمن القومي، الذي يعيّن الرئيس أعضاءه بالكامل. وكذلك يمنح الإعلان الرئيس سلطة نهائية للمصادقة على المعاهدات الدولية، حتى بعد إقرارها من مجلس الشعب (المادة 37)، الأمر الذي يشكل «فيتو تنفيذي» إضافي على السلطة التشريعية في تحديد السياسات الخارجية.

في سياق متصل، وفيما يتعلق بضمان الحقوق والحريات، نلاحظ خطوة إيجابية متمثلة في إدراج الإعلان الدستوري السوري لعام 2025 للمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان ضمن إطاره الدستوري وفق المادة 12. [10]مع ذلك نجد بوضوح أن التطبيق العملي لهذا الالتزام يتعرض لتقويض جدي بسبب القيود الموسعة التي تتضمنها المادة 23؛ إذ تتيح هذه المادة فرض قيود واسعة النطاق على الحقوق والحريات الأساسية بذرائع اعتبارات فضفاضة، مثل «الأمن الوطني، والسلامة الإقليمية، والسلامة العامة، أو حماية النظام العام ومنع الجريمة، أو حماية الصحة العامة أو الآداب العامة»، دون تحديد واضح لمعايير الضرورة والتناسب، ودون إرساء آليات واضحة للمراجعة القضائية.

هذا التوسع والغموض في صياغة المادة يعد مخالفًا بشكل مباشر لمبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان، التي تشدد على ضرورة أن تكون أي قيود على الحقوق محددة بدقة في القانون، وأن تكون ضرورية ومتناسبة بشكل صارم في مجتمع ديمقراطي. تزداد خطورة هذا القصور في ظل تاريخ نظام الأسد الاستبدادي من توظيف ذرائع الأمن الوطني بشكل تعسفي لقمع الحقوق والحريات. كما أن غياب أي سلطة قضائية مستقلة قادرة على مراجعة وتقييد استخدام السلطات التنفيذية لهذه المادة يعمق من مخاطر التطبيق التعسفي لهذه القيود.

على جانب أخر، يمكن ملاحظة غياب مفاهيم ومبادئ أساسية عن الإعلان الدستوري، كان من المتوقع حضورها بشكل صريح في وثيقة يُفترض بها توجيه الانتقال الديمقراطي. ومن أبرزها غياب مبدأ «السيادة الشعبية»، وهو مبدأ شكل حجر الزاوية في الدساتير السورية السابقة وأحد الأسس الرئيسية للنظرية الديمقراطية الحديثة.[11] ويمثل غياب هذا المبدأ تعطيلًا للسيادة الشعبية. كذا، يثير الغياب الكامل لكلمة «ديمقراطية» من نص الإعلان تساؤلات حول النية الحقيقية للالتزام بالمبادئ الديمقراطية.[12] يترافق هذا الغياب اللغوي مع تجاهل واضح للعديد من الحقوق الديمقراطية الأساسية، مثل الحق في التجمع والتظاهر السلمي، والحق في الإضراب وتكوين نقابات عمالية مستقلة، والحق في الوصول إلى المعلومات الحكومية، فضلًا عن حق المشاركة السياسية الفاعلة من خلال انتخابات حقيقية. هذه الحقوق تشكل شروطًا لا يمكن تصور وجود نظام ديمقراطي حقيقي بدونها. كما يتجاهل الإعلان ضرورة إرساء آليات تشاركية تضمن مساهمة شعبية حقيقية في صياغة الدستور الدائم، سواء من خلال برامج تثقيف مدني أو استشارات شعبية واسعة أو استفتاءات عامة.

نحو إصلاح دستوري مرحلي

رغم أوجه القصور العديدة التي تعتري الإعلان الدستوري السوري بصيغته الحالية؛ إلا أنه لا يُعد وثيقة مغلقة أو جامدة. إذ تنص المادة 50 منه على إمكانية تعديله عبر آلية واضحة تستند على اقتراح من رئيس الدولة وموافقة ثلثي أعضاء مجلس الشعب. وبناءً على ذلك، فإن توفرت الإرادة السياسية اللازمة، يمكن تفعيل هذه الآلية لتحويل الإعلان الدستوري إلى إطار انتقالي أكثر فاعلية، يستجيب لمتطلبات الاستقرار، ويؤسس في الوقت ذاته لمسار ديمقراطي قابل للاستمرار. وانطلاقًا من هذه الإمكانية، يقترح هذا المقال مجموعة من التعديلات المدروسة.

تتمثل الأولوية الأساسية في إعادة التوازن داخل النظام الدستوري، من خلال الحد من هيمنة السلطة التنفيذية وتعزيز منظومة الضوابط والتوازنات بين السلطات. فالفصل بين السلطات لا ينبغي أن يُفهم كمجرد توزيع وظيفي، بل كآلية تُمكّن كل سلطة من مراقبة ومحاسبة الأخرى ضمن إطار مؤسسي واضح. ويكتسب هذا المبدأ أهمية خاصة في المرحلة الانتقالية، إذ تزداد الحاجة إلى ضمانات تمنع الانفراد بالقرار وتُرسخ آليات الشفافية والمساءلة. وفي هذا السياق، يظهر بوضوح أن المادة 47 من الإعلان، التي تمنح رئيس الدولة سلطة مطلقة في تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، تمثل خللًا بنيويًا يجعل من هذه المؤسسة أداة تابعة للسلطة التنفيذية، بدلًا من كونها جهة رقابية مستقلة. ولتصحيح هذا الخلل، ينبغي تبني نموذج يعزز استقلال القضاء الدستوري عبر تشكيل لجنة ترشيحات مستقلة تضم ممثلين عن مجلس القضاء الأعلى، ومجلس الشعب، ونقابة المحامين، وكليات الحقوق، ومنظمات المجتمع المدني. تتولى هذه اللجنة اختيار المرشحين بطريقة شفافة تتضمن جلسات استماع علنية، مع منح الأولوية لمعياري الكفاءة والنزاهة. ويُنتخب قضاة المحكمة من القائمة المعتمدة للمرشحين من جانب مجلس الشعب بأغلبية الثلثين، بما يضمن عدم خضوع المحكمة لهيمنة أي طرف سياسي. كما يُنص على فترات تعيين متداخلة للقضاة تمتد لتسع سنوات، لتكون فترات سلطة القضاة المنتخبين أطول من فترات الدورات الانتخابية. وتضمن هذه المدة تحرر قضاة المحكمة من ضغوط التغيّرات الحكومية وتقلبات الأغلبية البرلمانية، وفي الوقت ذاته لا تُعد مدة مفرطة الطول تؤدي إلى عزل المؤسسة عن ديناميات المجتمع أو حرمانها من التجديد الدوري. ومن شأن هذه المدة أن تشكل توازنًا دقيقًا بين متطلبات الاستمرارية المؤسسية وضرورات المرونة الديمقراطية، استنادًا إلى تجارب دستورية مقارنة أثبتت نجاعتها في تعزيز استقلال القضاء الدستوري وترسيخ مكانته كجهة رقابية محايدة. بما في ذلك  التجربة الفرنسية والإيطالية اللتين اعتمدتا مدة تسع سنوات كخيار يضمن تجديدًا دوريًا دون الإخلال بالاستقرار، والتجربة الألمانية التي مددت الولاية إلى اثني عشر عامًا لتعزيز الاستقلال على المدى البعيد، في مقابل النموذج الأميركي الذي يمنح القضاة ولاية غير محددة زمنيًا، ما يرسّخ استقلالًا مطلقًا لكنه يثير جدلًا حول محدودية آليات التجديد المؤسسي.

إلى جانب إصلاح القضاء الدستوري، تبرز الحاجة لإعادة هيكلة السلطة التشريعية؛ كي يعكس مجلس الشعب التعددية السياسية والاجتماعية للمجتمع السوري بصورة أكثر واقعية. ويمكن تحقيق ذلك عبر تبني آلية تمثيل متوازنة تجمع بين التمثيل الجغرافي من خلال مجالس المحافظات، والتمثيل الوظيفي عبر النقابات المهنية والاتحادات، إلى جانب تمثيل منظمات المجتمع المدني. ويتطلب هذا النموذج وضع معايير أهلية واضحة للمرشحين، تركز على الكفاءة والنزاهة والالتزام بمبادئ الانتقال الديمقراطي، بدلًا من الولاءات الحزبية أو الفئوية. وينبغي اعتبار هذه الآلية مؤقتة خلال المرحلة الانتقالية، وتُختتم بإجراء انتخابات عامة وفق أسس ديمقراطية دائمة. على أن تُحدد مدتها بما يحقق التوازن بين الحاجة إلى وقت كافٍ لإعادة بناء المؤسسات وترسيخ قواعد المشاركة السياسية، وبين ضرورة تجنّب إطالة المرحلة بما قد يكرّس الهياكل المؤقتة أو يفتح المجال أمام استغلالها. كما يجب أن تُمنح المؤسسة التشريعية صلاحيات رقابية أوسع، تشمل تشكيل لجان تحقيق برلمانية بالأغلبية البسيطة، والموافقة على تعيين كبار المسئولين، واعتماد إجراءات واضحة لسحب الثقة من الوزراء، بالإضافة إلى فرض رقابة فعلية على إعلان حالات الطوارئ، بما يعزز من قدرتها على مساءلة السلطة التنفيذية.

وفيما يتعلق بالحقوق والحريات، فإن المادة 23 من الإعلان الدستوري بصيغتها الراهنة تفتقر للضوابط اللازمة؛ إذ تحتوي على عبارات فضفاضة مثل «الأمن القومي» و«النظام العام» و«الآداب العامة»، الأمر الذي يفتح الباب أمام تفسيرات تعسفية قد تُستخدم لتقييد الحريات الأساسية دون مبرر. ومن ثم، فإن تعديل هذه المادة يجب أن يستند إلى المعايير المعترف بها دوليًا، لا سيما مبادئ سيراكوزا، وهي مجموعة من المبادئ القانونية التي أُقرت عام 1984 لتفسير كيفية تطبيق القيود على الحقوق المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وتؤكد هذه المبادئ على أن أي قيد يجب أن يكون منصوصًا عليه بوضوح في القانون، وأن يكون ضروريًا في مجتمع ديمقراطي، ومتناسبًا مع الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، كما يجب أن يكون قابلًا للمراجعة القضائية، وتخضع الحكومة فيه لمساءلة حقيقية تتحمل من خلالها عبء إثبات الضرورة، فضلًا عن أن تكون القيود مؤقتة وتخضع لمراجعة دورية.

يمكن أن تُعدّل المادة 23 لتكون على الشكل التالي: «لا يجوز فرض قيود على الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان إلا وفق القانون، وعلى نحو ضروري للغاية في مجتمع ديمقراطي لحماية الأمن الوطني من تهديدات حقيقية بالعنف أو القوة، أو لحماية السلامة العامة في حالات وجود خطر واضح وداهم، أو لضمان احترام حقوق وحريات الآخرين. ويجب أن تكون هذه القيود متناسبة مع الغاية المرجوة منها، وألّا تكون تمييزية، وخاضعة دومًا للمراجعة القضائية، مع عدم المساس بجوهر الحق أو الحرية». على الجانب الأخر، يعاني الإعلان الحالي من غياب واضح للحقوق الديمقراطية الأساسية، ما يُفرغ الالتزام بحقوق الإنسان من معناه العملي. ولمعالجة هذا النقص، يُقترح إضافة المواد التالية:

المادة 23 (حرية التجمع والتظاهر السلمي): «للمواطنين الحق في التجمع والتظاهر السلمي دون الحاجة إلى إذن مسبق، مع جواز فرض شروط إخطار مسبق فقط عند التجمع في الأماكن العامة، على ألّا تتحول هذه الشروط إلى نظام ترخيص فعلي. ويُحظر استخدام القوة ضد التجمعات السلمية، وأي قيود تُفرض يجب أن تتوافق مع المعايير الواردة في المادة 23».

المادة 23 ثالثًا (الوصول إلى المعلومات): «لكل شخص الحق في الوصول إلى المعلومات التي تحتفظ بها السلطات العامة. ويحدد القانون بوضوح نطاق الاستثناءات التي يجب أن تكون مقتصرة على حماية مصالح مشروعة ومحددة، مع إتاحة إمكانية التجاوز لصالح المصلحة العامة. وتلتزم السلطات بنشر المعلومات ذات الأهمية العامة بشكل استباقي».

المادة 23 رابعًا (المشاركة السياسية): «لكل مواطن الحق في المشاركة في الشئون العامة مباشرةً أو عبر ممثلين منتخبين انتخابًا حرًا، والحق في التصويت والترشح في انتخابات دورية حرة ونزيهة، تُجرى بالاقتراع العام السري، مع ضمان فرص متساوية في الوصول إلى الوظائف العامة».

إن مجمل هذه التعديلات لا تهدف إلى إعادة صياغة الإعلان الدستوري من أساسه، وإنما تسعى إلى تكييفه ليصبح إطارًا عمليًا لإدارة المرحلة الانتقالية، عبر ضمان الحد الأدنى من التوافق السياسي، وتعزيز ثقة المواطنين بالمؤسسات، وتهيئة الأرضية اللازمة لتأسيس نظام ديمقراطي دائم في سوريا المستقبل.

توضيح المسار الدستوري

إنّ الفترة الانتقالية المحددة بخمس سنوات وفق الإعلان الحالي تفتقر للوضوح بشأن الخطوات المستقبلية لوضع دستور دائم، الأمر الذي يخلق حالة من الغموض وعدم اليقين. وفي هذا الصدد، يُقترح وضع آلية واضحة ومفصلة لتأسيس جمعية تأسيسية تُشرف على صياغة الدستور الدائم وفق جدول زمني وآليات واضحة.

إن الظروف الاستثنائية التي تمر بها سوريا –بما في ذلك استمرار المخاطر الأمنية، وضعف البنية المؤسسية، وحالة التفكك الاجتماعي– تُبرز ضرورة الحاجة إلى تبني نهج متوازن يجمع بين ضرورات استقرار الدولة ومتطلبات التحول الديمقراطي التدريجي.[13] وفي هذا السياق، يبدو من الملائم اعتماد استراتيجية إصلاحية متدرجة تراعي الواقع القائم، وتستهدف في الوقت ذاته إرساء قواعد تحول ديمقراطي مستدام. ويتطلب تحقيق هذا التوازن الشروع في إجراء إصلاحات دستورية وقانونية على مراحل، إذ تُمنح الأولوية لتكريس الحقوق والحريات الأساسية وضمان استقلال السلطة القضائية، بوصفها المرتكز الأول لأي نظام ديمقراطي. ثم يلي ذلك إصلاح تدريجي في البنية التشريعية، يتناسب مع التحسن النسبي في الأوضاع الأمنية. وصولًا إلى إجراء انتخابات عامة شاملة في مرحلة لاحقة، حين تتوفر الشروط السياسية واللوجستية الكفيلة بضمان نزاهتها وشمولها.

ولتفادي استدامة الوضع الاستثنائي، ينبغي أن يتضمن النص الدستوري أحكامًا صريحة تُقيد استخدام التدابير الاستثنائية بزمن محدد، ولا يجوز تمديدها إلا بموافقة أغلبية موسعة داخل مجلس الشعب، ما يضمن وجود رقابة مؤسسية على الحالات الطارئة ويحول دون تحوّل الاستثناء إلى قاعدة دائمة. وفي سبيل دعم هذا المسار، دون الإخلال بالسيادة الوطنية، يُستحسن توفير دعم دولي فني من خلال إنشاء مكتب دستوري دولي مستقل، يقدّم المشورة التقنية والمساعدة المؤسسية وفقًا لاحتياجات المرحلة، بهدف تعزيز قدرة السوريين على صياغة مستقبلهم الدستوري بطريقة مستقلة وشفافة.

وأخيرًا، ينبغي أن يجمع الإطار الدستوري بين المرونة الكافية للاستجابة لتقلبات المشهد السياسي والاجتماعي، وبين ترسيخ المبادئ الديمقراطية الأساسية التي لا يجوز المساس بها، بما يضمن الحفاظ على الاتجاه العام نحو بناء نظام ديمقراطي تعددي، دون الوقوع في فخ الجمود أو الفوضى التفسيرية.

خاتمة: نحو مسار دستوري تشاركي حقيقي

يمثل الإعلان الدستوري السوري لعام 2025 محطة مهمة في مسار التحول السياسي الذي تشهده سوريا بعد انهيار نظام الأسد. وقد جاء هذا الإعلان استجابةً لضرورة موضوعية تمثلت في الحاجة لوجود إطار قانوني ينظم المرحلة الانتقالية ويحول دون حدوث فراغ مؤسسي. ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلى الإعلان باعتباره خطوة أولية نحو بناء نظام دستوري جديد، مع الأخذ في الاعتبار التحديات الاستثنائية التي تجابهها البلاد.

تُظهر القراءة التحليلية للإعلان الدستوري وجود توجهات متباينة في بنيته ومضمونه. فمن جهة، يتضمن عناصر إيجابية مثل الاعتراف بالمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان والتأكيد على مبادئ المواطنة والكرامة الإنسانية. ومن جهة أخرى، تشير بعض الترتيبات المؤسسية لاستمرار أنماط معينة من تركيز السلطات، خاصة فيما يتعلق بصلاحيات السلطة التنفيذية وآليات تعيين المسئولين القضائيين والتشريعيين.

في السياق نفسه، تكتسب آلية التعديل المنصوص عليها في المادة 50 أهمية خاصة؛ إذ توفر مسارًا قانونيًا لتطوير الإطار الدستوري بما يتوافق مع تطور الظروف والاحتياجات الوطنية. وتُعد المقترحات الواردة في هذه الورقة بمثابة إسهام في النقاش الوطني حول كيفية تعزيز الطابع التشاركي والديمقراطي للعملية الدستورية، مع مراعاة الخصوصيات السورية والمعايير الدولية المعترف بها.

إن نجاح المرحلة الانتقالية في سوريا يتوقف، إلى حد كبير، على قدرة مختلف الفاعلين السياسيين والمجتمعيين على الانخراط في حوار بنّاء حول الأسس الدستورية للدولة الجديدة. وهو ما يتطلب توسيع دائرة المشاركة لتشمل مختلف مكونات المجتمع السوري، بما يضمن تمثيلًا حقيقيًا للتنوع الوطني ويعزز من شرعية النتائج المتوصل إليها.

ختامًا، يمكن القول إن الإعلان الدستوري الحالي يمثل نقطة انطلاق قابلة للتطوير والتحسين. وتبقى الفترة المقبلة محورية في تحديد مسار التطور الدستوري في سوريا، إذ بإمكان الإرادة السياسية تحويل التحديات الراهنة إلى فرص لبناء نظام دستوري يحقق تطلعات السوريين في دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية.

[1] الجزيرة، «نص الإعلان الدستوري لسوريا 2025»، 14 مارس 2025، تاريخ الاطلاع 11 أغسطس 2025، https://aja.ws/8qm11f.
[2] محمد أمين، «كل هذا الحضور لدستور 1950 في منعطفات سورية»، العربي الجديد، 15 أبريل 2025، تاريخ الاطلاع 11 أغسطس 2025، https://shorturl.at/JtieQ.
[3] جيسون غليك وميشيل براندت، صنع الدستور بطريقة تشاركية وشاملة: منح صوت لمطالب المواطنين في أعقاب الربيع العربي (Participatory And Inclusive Constitution Making: Giving Voice to the Demands of Citizens in the Wake of the Arab Spring)، معهد الولايات المتحدة للسلام، 2015،https://shorturl.at/fDutn.
[4] هارييت ب. أبلوايت، «الشرعية السياسية في فرنسا الثورية بين عامي 1788-1791» (Political Legitimacy in Revolutionary France, 1788-1791)، مجلة التاريخ البيني، المجلد 9، العدد 2 (1978)، ص 245-273، https://doi.org/10.2307/203227.
[5] تاكاشي إينوغوتشي وبول بيكون، «الحوكمة، والديمقراطية، والتوطيد، ونهاية المرحلة الانتقالية» (Governance, Democracy, Consolidation and the ‘End of Transition)، المجلة اليابانية للعلوم السياسية، المجلد 4، العدد 2، (2003)، ص 169 – 19، https://doi.org/10.1017/S1468109903001117  .
[6] هيومن رايتس ووتش، «سوريا: الإعلان الدستوري يهدد الحقوق»، مارس 2025،https://shorturl.at/tIjtk .
[7] تلفزيون سوريا، «الرئيس السوري يصدر قرارًا بتشكيل لجنة خبراء لصياغة مسودة الإعلان الدستوري»، 2 مارس 2025، تاريخ الاطلاع 11 أغسطس 2025، https://www.syria.tv/305341.
[8]المرسوم رقم 98 لعام 1961: قانون السلطة القضائية وتعديلاته، الجمهورية العربية السورية – مجلس الشعب، (نوفمبر، 1961).
[9] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، «الإعلان الدستوري في سوريا والتحديات الانتقالية»، وحدة الدراسات السياسية، (مايو، 2025)، تاريخ الاطلاع 11 أغسطس 2025،  .https://shorturl.at/tBQGr
[10] الجزيرة، «نص الإعلان الدستوري لسوريا 2025»، 14 مارس 2025، تاريخ الاطلاع 11 أغسطس 2025،https://aja.ws/8qm11f.
[11] دستور سوريا 1950 – النص النهائي للدستور كما أقرته الجمعية التأسيسية 1950، (سبتمبر 1950).
[12] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، «الإعلان الدستوري في سوريا والتحديات الانتقالية»، وحدة الدراسات السياسية، (مايو، 2025)، تاريخ الاطلاع 11 أغسطس 2025، https://shorturl.at/tBQGr.
[13] بلال محلي، «تعافي سوريا بعد الصراع: التحديات وآفاق إعادة الإعمار والاستقرار»، مركز السياسات من أجل الجنوب الجديد، (أبريل، 2025)، https://shorturl.at/VW20U.

Read this post in: English

Exit mobile version